صحيفة المثقف

الشاعر العراقي موفق ساوا وثنائية الوطن والغربة

قصي عطية

في قصيدتي:  كوني ما شئتِ وهذا زمن الضوء

من الممتع أن يبحر القارئ في قراءة شعر يتداخل فيه الجانب الفنّي والسياسي والشعري، دون أن تأخذ القصيدة ذاتها طابعاً واحداً، ففيها يتجاور الهاجس الشعريّ مع الهواجس الأخرى. هذا هو حال القصيدة الشعرية التي يبدعها الشاعر العراقيّ المُقيم في استراليا (د.موفق ساوا)، وإن بدا أنّ الهاجس الاغترابيّ في شعره يطغى على الجوانب الأخرى، فقصيدته تطفح بالغربة والحبّ، والحنين إلى الوطن.

وبقراءة متعمّقة للبنية الداخليّة للقصيدة عنده نجد أنّ الهمّ الخاصّ يتوحّد مع الهمّ العامّ، ولا ينفصل عنه، بل يسير بالتوازي معه، إلا فيما يعبّر عنه الشاعر في قصائده الوجدانيّة الرقيقة، التي تطفح بالكثير من الحبّ والرغبة والحنين، ولكنّه الحنين الذي يوحّد ويُماهي بين المحبوبة والوطن، فنداؤه لها أشبه بنداء عاشق إلى تراب وطنه، فنجد في قصيدة (كوني ما شئت) أنّ صورة المرأة التي يُخاطبها تحتوي ضمناً صورة الوطن، فيقول:

(كوني يا سيّدتي ما شئتِ... كوني

خفاشاً أو يمامة.. ما شئتِ كوني

فأنا مُغرمٌ بكِ حدَّ الجنونِ..).

يستخدم الشاعر ثنائية ضدية (الخفاش/ اليمامة) بدلالتيها الترميزيتين (السواد/ البياض)، أو (التشاؤم/ التفاؤل)، ولكنّ الاختيار لن يغيّر شيئاً من النتيجة، فهو مغرم بها حدّ الجنون.

إنّها امرأة ارتدت لبوسَ الوطن، فنحن حين لا نملك أنّ نغيّر من وطننا شيئاً لا يمكننا، في الوقت نفسه، إلا أن نكون عاشقين له، مهما كان جارحاً أو حنوناً. إنّه الوطن الذي حمله الشاعر في حقائب غربته وسفره، الذي يظلّ حاضراً في ذاكرته، ووجدانه، فيحاول أن يبحث عن مساحة أمانٍ يلوذ بها، تأويه، وتحتضنه وتحرسه من جنونه، فيقول في القصيدة نفسها:

(أبحثُ عن غصنٍ يأويني

عن تعويذة وتمائمَ

تحرسها من بعض جنوني).

وتتقاطع هذه القصيدة مع قصيدة أخرى بعنوان (هذا زمن الضوء)، وفيها ما يؤكّد ما قلناه، إذ يقول:

(احرسيني سيّدتي

من طيشي، ومن غضبي

فما عدت أطيق البقاء في شرنقتي).

إنّه اللجوء إلى الآخر بوصفه حارساً، وبوصفه منقذاً من الذات، من الحنين والطيش والغضب، فالشاعر يمدّ يديه إلى أنثى مفترَضة، امرأة متخيَّلة، معشوقة، وقد تكون هي الوطن، فهي الحارسة، وهي الحاضنة، ولكنّه يقرّر أن يشقّ شرنقته التي بها تكوّن، وبها نما، فقد حان وقت الانسلاخ، وقت الخروج من الشرنقة، بعد اكتمال التكوين، فقد أعلن الشاعر أن (هذا زمن الضوء)، فما عاد البقاء في الشرنقة/ الوطن مُجدياً، كما يخرج الجنين من رحم أمّه عند اكتمال نموّه، فلا بدّ من الخروج، ففي البقاء موت، وفي الخروج إلى الضوء ولادة.

إنّه الاكتمال الفكري والنفسي والعاطفي، والقرار بشق الشرنقة هو القرار الطبيعي، ولكن هل ينتهي دور المرأة/ الوطن بعد ذلك؟

من المؤكّد أنّ دورها لا ينتهي، بل تأخذ دوراً آخر، هو دور الحارسة، تماماً كما هو دور الأمّ، التي ترعى مولودها إلى أن يكبر، لذلك يطلب منها (احرسيني من طيشي، ومن غضبي).

هل كانت غربة الشاعر وخروجه من العراق هي المُعادل الموضوعي لشق الشرنقة، والخروج إلى الضوء، وهل كانت (سيدني) هي الضوء الذي سمح للشاعر أن يعبّر عن فكره، وهواجسه الإبداعية والمسرحية، وهل سيقطع الشاعر حبله السري الذي ظلّ يشدّه إلى الوطن، مسقط الرأس، نينوى العراقية؟

إنّها الرغبة في الانعتاق، والتحرّر من ربقة الخرافات والعادات والتقاليد، والانفتاح الإبداعيّ على المُطلَق، فلا قيد على حروفه وقوافيه، إنّه شريان الشعر المُتدفّق نحو الضوء، نحو الحياة الرحيبة، وهو يطلب من تلك الأنثى المتداخلة تارةً مع الوطن الأم، وتارةً مع (سيدني) تلك المدينة التي اختارها مكاناً يُلقي بأوجاعه فيها، يطلب منها أن تكون حارسة على هذا الزخم العاطفيّ الدفّاق، فيقول:

(احرسي بوابة أضلعي

فـسجّانُ حروفي وكلماتي

يـُطبقُ على شطري وعجزي

يحاولُ أن يَـحـشرَ كلّ خرافاتِهِ،

في شريانِ قصائدي).

تنطوي قصيدة (هذا زمن الضوء) على ازدواجيّة، وحالة من اللا توازن، حالة من القلق الوجوديّ، حالة من التأرّجح بين ما يعيشه وما يحلم به، بين ما هو مُجبر أن يكونه، وما يرغب في أن يكونه، هي ثنائية (الواقع/ الحلم)، فالواقع مرير، ينتشر فيه المحتالون والدجّالون، والمشعوذون، والحلم مُزهرٌ مشرق بالضوء، فيحاول أن يكسر من حدة هذا الواقع، ليسمح لشعاع ضوء أن ينفذ إلى هذا الواقع العربيّ، ويحرّره من قيء الشياطين، ويعلن رفضه هذا الواقع، وعدم انتمائه إلى ثوابته العفنة الجامدة، فيقول في هذه القصيدة:

(أتسربلُ بالضوءَ، وكلّ البراهين؛

كيْ أتصدّى لشعوذتهِ "المقدسة"

فهذا زمنُ الضوءِ،

لا زمن المحتالين).

(موفق ساوا)... شاعر من زمن جميل، شاعر اختار أن يشتغل للآخرين، يكرّم المبدعين الآخرين، شاعر احتفى واحتفل بغيره، ومنعه كبرياؤه أن يحتفي بنفسه، ولكنّ الوفاء دفعني أن أسلّط بقعة ضوء على بعضٍ من شعره، بمناسبة كريمة، هي الذكرى الرابعة عشرة لميلاد جريدته (العراقية الاسترالية).

 

قصي عطية

.......................

الدكتور (موفق ساوا):

- فنّان، ومخرج مسرحيّ، وشاعر عراقي، مولود في القوش، نينوى.

- بادر بتأسيس فرقة مسرح (شيرا) في بغداد عام 1993.

- سافر إلى استراليا عام 2002.

- قام بتأسيس فرقة مسرح (ساوا) عام 2003.

- قام بعرض أول مسرحياته (3 لواعيب) عام 2003.

- عرض مسرحيته الثانية (في انتظار الضياء) عام 2004.

- أسّس جريدة (العراقية الاسترالية الأسبوعية) عام 2005.

- عرض مسرحيته الثالثة (انتبهوا... القطار قادم) عام 2015 على مسرح (Powerhouse Arts Centre in Sydney).

- أسّس أكاديمية الفنون العراقية الاسترالية (Australian Iraqi Arts Academy Inc) عام 20016.

- ألّف 20 مسرحية بعضها أخرجها في العراق والأخرى في سيدني الاسترالية.

- ألّف وأخرج فيلماً قصيراً مدّته (12 دقيقة) باللغة الإنكليزيّة بعنوان (Not 4 Sale).

- يقوم الآن بالتدريب على مسرحية (في ظل القمامة) التي سيعرضها بداية العام القادم.

- له 4 دواوين شعرية باللغة السريانية (مخطوطات).

- لديه مجموعة كبيرة من القصائد من بداية العقد السابع من القرن الماضي إلى الآن.

- طبع دراستيه (الماجستير والدكتوراه) حول المسرح السريانيّ.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم