صحيفة المثقف

ضدّ التيار

منير لطفيربّما يكون التقليد الأعمى مقبولا ولا غضاضة فيه إبّان سنّ الطفولة؛ باعتبار أنّ العقل أثناءه يحبو في طور النضوج، وقدرته على التمييز والاختيار مازالت تحت الإنشاء وقيد التكوين؛ ولكنه حتما يُصبح مَسبَّة حين يستوي الإنسان على عوده جسدا وعقلا، إذْ إنّه بذلك التقليد يرفع شعار: "اسبح مع التيار تصل بأمان"، ثمّ يُسْلِم نفسه إلى قطيع من القطعان التى ترعى في أودية الحياة، ليرى بعين هذا القطيع ويفكّر بعقله ويحتكم إلى رأيه، كما يقع أسيرا للعاطفة التي تشتدّ قوّتها ويعظم تأثيرها ضمن الجُموع؛ وبذا يَحرم نفسه من حرية الاختيار وعمق الرؤية واكتشاف الجديد وتنمية الوعي واكتساب التجربة، كما يخرج بهذا المسلك من تصنيف الأبطال الذين يحلو لهم السباحة بوعي ضد التيار؛ فيستشْفون من مرض عضال يُسمَّى ضيق الأفق، ويفوزون بغنيمة كبرى قوامها المتعة والفائدة، ويمهّدون لمَن بعدهم دروبًا بكرا لم تطأها أقدامٌ قبلهم، ويكتشفون بحارًا عذارى لم تقتحم لجّتَها سواعدٌ سواهم.

وفي هذا سألَت سمكةٌ صغيرةٌ من نوع السلمون أمَّها: كيف نتأكّد أنّنا على قيد الحياة؟ فأجابت الأمّ: لأنّنا نسبح ضدّ التيار.. ومعلوم أنّ أسماك السلمون تشدّ الرحال في هجرة جماعية عكس التيار، من المياه الباردة إلى الدافئة، لتقيم هناك أعراس الزواج والإنجاب. كما أذكر أنّني وأثناء فترة التدريب الأولى في الخدمة العسكرية، ونظرا للأوامر الصارمة التي تقضي بترتيب الأَسِرّة يوميا بطريقة متقَنة تبدو فيها المُلاءة مشدودة وكأنها خرجت لتوّها من فم المكواة، والذي يستغرق بدوره وقتا ثمينا كنّا في مسيس الحاجة إليه، ويحتاج إلى فرديْن منّا لإتمام هذه العملية الجراحية الدقيقة؛ فقد اتخذتُ لنومي بطّانية فرشْتُها على الأرض بعد أن جعلْتها طيّات بعضها فوق بعض، موفِّرا بذلك وقتي وجهدي، ومحتفظا بشَّدّة السرير طول الوقت كما هي، خاصة أنّ هذا السرير –ذا الدوريْن- لم يكن وثيرا بما فيه الكفاية ولا ليّنا إلى الدرجة التي يُبكى عليه، وهو ما قُوبل بالاستهجان من زملائي في العنبر وعددهم عشرة أشخاص، وكأنّي جحا الذي نزل من حماره وسار بجانبه، وفي هذا لم أبال وثَبتُّ على صنيعي، وإذْ بهم واحد تلو الآخر يصنع ما صنعْت ويفترش الأرض على نحو ما فعلْت!

وبالتفاتة بسيطة إلى المنجَزات الحضارية والابتكارات التي غزت شتى مناحي الحياة حولنا، نجد أنها جاءت على يد جموع من المبدعين الذين سبحوا ضد التيار وفكّروا خارج الصندوق وغرّدوا بمنأى عن السرب، ثمّ خاضوا غمار التحدّي وضحّوا بالأمان الكاذب. ورغم ما نالهم من اعتراض وتخذيل بلغ حدّ السخرية والاستهزاء، وشابه ما تَعرّض له نبيّ الله نوح إبّان تشييده لسفينة النجاة من الطوفان؛ إلّا أنهم انتصروا في نهاية المطاف ووصلوا إلى شاطئ الإنجاز وقطفوا زهور الربيع من قلب أعاصير الشتاء، فأذعن لهم مُخذِّلوهم وصفقوا لهم طويلا وتوَّجوا رؤوسهم بأكاليل الغار! إذْ لولا هذا المركب الصعب من التفكير الخلّاق؛ لما سبح الإنسان ضد الجاذبية الأرضية ووطأ بقدمه عتبات الفضاء، ولما غاص عميقا في البحار ووصل إلى اللؤلؤ متغلِّبا على طبيعته البشرية التي تأبى أن تتنفس الأوكسجين المسال كالأسماك، بل ولَما كانت السيارة والطائرة  والتلفاز والحاسوب وأجهزة التبريد، وغيرها. 

والواقع أنّ السباحة ضد التيار، تستلزم المشروعية والوعي والمنطقية، وإلّا كان المصير غرقا كغرق فرعون وجنوده في البحر الأحمر، أو سقوطا كسقوط أعجوبة السفن (تيتانك) في أقصى قاع المحيط الأطلسي؛ بما يعني أنّ التَّعرِّي ليس سباحة ضدّ التيار ولكنه خروج على العفاف الذي أمر به الدّين، والإلحاد ليس سباحة ضد التيار بل فسوق عن حقيقة الوجود، والتنكّر للقيم التي استقرّ عليها العقل والنقل ليس سباحة ضد التيار بل نقض لعُرَى الحياة. وبما يعني أيضا أنّ الغاية ليست الخروج عن النسق والسياق، ولا ازدراء كلّ مألوف معتاد،  ولا البصق على ما هو طبيعي وصحيح؛ فالسباحة مع التيار الصحيح تضيف قوّة إلى قوتنا، وتصل بنا إلى الهدف من أقصر طريق وبأقل مجهود ودونما مخاطر وخسائر، وهو ما تفعله الأغلبية من الأسماك التي تسبح مع التيار والأكثرية من الطيور التي تطير في أسراب، ويؤازره ما رواه الحَبر ابن عباس عن نبيّ الهدى والرحمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة".

كما تقتضي –أي السباحة ضد التيّار- الصبر والثبات، بحسبانهما سفينة النجاة وطوق الإنقاذ، وانظر في ذلك السّندان الذي يدوم –كما قال المثل- أكثر من المطرقة. ولعلّ أهم ثمرة أثمرتْها الشجرة المَكِّية والتي استغرق بذرها وريّها وحصادها ثلاثة عشر عاما، كانت الثبات على المبدأ، وتطليق الحلول الجزئية، ورفْض المساومة على الكلّ بالنصف ثمّ الربع ثمّ لا شيء، إذْ "من العبث أن تسبح مع التيار إذا كان الهدف يقع في الاتجاه الذي يأتي منه هذا التيار".  وهو ثبات ينبع من الإيمان بالمبدأ والإخلاص له، لا من ثقة عمياء وتعصّب أجوف وعناد بالباطل؛ إذْ ما أسهل أن يتلاشى كلّ هذا أمام تهديد ووعيد، أو إغراء من أي نوع حتى لو كان جزرة تلوح أو برقا يومض أو وعدا بليل يمحوه النهار.

وتشتدّ الحاجة إلى هذا النوع من السباحة في الأوقات العصيبة التي يعلو فيها الزبَد ويتكثّف الضباب ويملأ الأفقَ الدخان؛ كتلك الموجة العلمانية التي اجتاحت تركيا إبان سقوط الخلافة العثمانية وسبح ضدّها سعيد النورسي فلاقى ما لاقى من التشريد والتنكيل، وتلك الحقبة الاستعمارية التي اجتاحت المشرق واستكان لها الناس وحسبوا أن لا خلاص حتى برز لها ثائر الشرق جمال الدين الأفغاني، وتلك اللوثة التي مارس فيها البِيض عنصريتهم البغيضة ضدّ السُّود في أمريكا فوقف في وجهها مالكوم إكس. وقِس على ذلك الكثير من صفحات التاريخ التي اجتاحتها رياح التخلّف والجهل والاستبداد، فأبى السابحون ضد التيار إلّا أن يسطّروا في متْنها وحواشيها حروفا من ضياء وأعمالا من قيم ومبادئ.

ومع الصعوبات الجمّة التي يلاقيها السابحون ضد التيار، ومنها نظرة الدهماء لهم على أنهم مارقون، ووصْفهم بالشريك المخالِف الذي يتنكّب عن طريق السلامة إلى طريق الندامة، وتبكيتهم بأمثال بالية من نوع (الموت مع الجماعة راحة) و(ضع رأسك بين الرؤوس وقُل يا قَطّاع الرؤوس)، واحتجاجهم بقول الشاعر: "كُن في الجماعات حيث كانوا،،،فالموت مع الجمع عُرس".. أقول رغم هذه الصعوبات الجمّة، إلّا أنّ التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات وقفت في صف هؤلاء السابحين وانحازت لفعلهم؛ فلم يعودوا جزرا منعزلة يصعب التواصل بينها، ولم تعد أصواتهم مكتومة دون مُتنفّس لها، وهذا ما خفّض الضريبة التي توجَّب عليهم دفعها طواعية بحسبانهم استشهاديِّين يعيشون لغيرهم، وقادة مغاوير كُتب عليهم السيرُ في الخطوط الأمامية بصدر عار وعزم واثق وإرادة من فولاذ.

***

بقلم: د. منير لطفي - طبيب وكاتب / مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم