صحيفة المثقف

اريكة من ورق

حمودي الكناني

استيقظ من نومه فزعا يتلمس كلّ مناطق جسمه جزءاً جزءاً، مسح جبهته التي كانت تتصبب عرقا. نبضات قلبه كانت متسارعة كأنما كان يركض في سباق طويل وهو آخر الواصلين . نظر إلى سقف حجرته كانت على عهدها لم يتغير فيها شيء، أحجار غير منتظمة وُضعت فوق بعضها بغير انتظام تأخذ أشكالا هندسية مختلفة فلم يبقَ شكلٌ إلاّ اتخذته. فهناك المستطيل والمربع والمثلث وشبه المنحرف وحتى الدوائر والأشكال الاسطوانية كانت تشكل لحمةَ الحجر الذي بُنيت منه تلك الغرفة. ليس فيها شباك أو حتى فتحةٌ لدخول أشعة الشمس، لا يوجد لها بابٌ عدا فتحةٍ لا يتجاوز عرضُها المتر يستخدمُها للدخولِ والخروج وحينما يخرج يسدها بخرقةٍ وسخةٍ بالية تلاعبُها الريحُ بكل الإتجاهات حينما تشتدُّ . فراشُه عبارة عن كدس من الجرائد والورق القوي الأسمر وضع بعضه فوق بعض، رصفه بشكل منتظم حتى يتمكنَ من الإستلقاءِ والنوم عليه... السقفُ من جريد النخلِ المغطى بأكياس القنب ألبالية وحينما يستلقي على قفاه في الليل يرى برجَه بدونِ عناء . تأبطَّ كلَّ قواه التي كانت قد استرخت هي الأخرى على تلك الاريكة الورقية المتهالكة التي ما زالت في سباتِها لم تتحرشْ فيها اليقظةُ بعدُ وكأنها استمدت كلَّ الفاقةِ من صاحبها الذي كلما يذهب في الصباح الباكر للبحثِ عن عملٍ مع مئات العمال ينتظر رب عمل يستكريه، لم يفلح . يظل يدور في الساحات والأسواق بحثا عن معجزة ولما لم ينجح يذهب إلى مكان مفضل لديه ...... زاوية عند باب أحدِ دور العبادة يتأملُ المتعبدين الداخلين والخارجين ويبدأ يخطُّ علاماتِ الإستفهامِ والتعجب في الهواء وكل من رآه يخاله مجرد مجنونٍ جلس ليستريح من جنونه ويبدأ رحلة جنون جديدة... ولربما هو كذلك بالرغم من أنه يرى أنّه هو العاقلُ الوحيد بين الداخلين والخارجين... وكلما تراقصت أمامه أحلامُه الصغيرة والكبيرة يطلق ضحكةً عالية حتى تجعل احدَهم يتوقف وينظر إليه باستهجان ثم يأخذ طريقَهُ إلى مكانِه المعتاد بين المتعبدين الذين ما انفكوا يتقاطرون على دار العبادة . ويبقى هو في مكانه يضحك ويرسم لوحاته المفضلة في الهواء.......

 أحقا هو أنا الذي يتخد من هذه الزاوية مكانا يلوذ به من تعب النحس؟ ولكن لا اختلف عن باقي التعساء في شيء ربما هم مثلي ايضا جالسين الان منشغلين بتزيين الهواء في لوحاتهم .

لأبدأ أراقب المتعبدين واستمتع بترانيمهم لعل الله يشركني في الاجر . يقولون أن ثلاثة يموتون، ملك علا رأسّه تاجٌ، فقير مثلي يجلس القرفصاء في زاوية ما ورأسه بين ركبتيه وحمارٌ أوجعهُ سوط جلاده، الملك حتما يوارى جسمه الثرى لكن يبقى الفقير والحمار تنهش لحومهما الكلاب !!

 يضحك عالياً من جديد حتى يستعيد ما فاته من ضحكٍ ساعةَ تأملِه واستغراقِه في رسم دوائره بإحكام ويبدأ يهمس :

لا عليك هذه مجرد آهاتٍ وآهات لن تنفعك في الحصول على قُوتِك لهذا اليوم فأنت محكومٌ عليك بالبقاء هنا وتفحُصِ صور الغادين والقادمين . لن يغريني النظرُ إلى أشكالهم فهي كالقحطِ لا تجد فيه غلةً تنفعُ ......

ثم يضع يديه في الأرض محاولاً رفع جسمه الذي تثاقل تماما لطول فترة الجلوس والإنتظار، همَّ بالسير لكنه سمع صوتا تتكسر موجاتُه أثناء عبورها صيوان أذنه . لم يصدق انه سمعها تنادي عليه :

يا ولد تعال احمل هذا الكيس وأوْصله إلى تلك السيارة .

التفت إلى الوراءِ فرأى امرأةً ذات هيبة ووقار وبجانبها كيسٌ لا تقوى على حمله. بكل هدوءٍ مشى إليها .... حمل الكيس على كتفه، فتحت صندوق سيارتها ووضع الكيس فيه . بعد أن شكرته جدا فتحت محفظة نقودها وأعطته ورقة نقدية لم تلمس يدُه مثلَها من قبل . نظر إلى الورقة وظل يقلبُّها مرة ......ومرة يلفُها ويُزَمِّر فيها.... تأمل الورقةَ جيداً قبلها ووضعها في جيبه الوحيد ومشى إلى محلٍ يبيع الفواكه والخضر .... نظر إلى المعروض في الواجهة فاحتار ماذا يشتري.... بهرته ألوانُ الفواكه لكنه في حيرةٍ لا يعرفُ كيف كان أو يكون طعمها: آه..... يَدْعون في صلواتهم اللهم ارزقنا وأطعمنا أطيب ما أنبتت الأرض . لا أظنهم صادقين :أشك فيهم لأنهم همُ انفسهم لا يتبدلون وأصدق نفسي لأنني هو الذي يمضغُ ما بين فكيه من دسومة الجوع

 حالما فرغ من تململهِ ناول البائعَ ورقتَـه النقدية وأشار إلى سلة التمر . وَزَنَ له البائع رطلا من التمر ووضعه في كيس .....شده بإحكام وأعطاه له. استدار ليغادرَ المكان لكن البائع قال له:  مهلا يا رجل خذ ما تبقى من مالك .

 مالي أنا ؟   أنا لي مال..... ؟ ما أجمل هذه الكلمة ! مالي أنا وليس مال غيري......

 تذكر وجوه الداخلين إلى بيت العبادة وتأملَ هيئاتهم ولحاهم الطويلة:

يبدو أنني المؤمن الوحيد بينهم . يتعبدون ويتوسلون ليل نهار ولا يحصلون على مال يشترون به تمرا ويبقى لهم منه أوراقٌ ماليةٌ كثيرة . دعهم يقولون مالا يؤمنون به. يقيناً أني أكثر إيماناً من هؤلاء.آه لو كانوا على صفاء نية وقلوب مؤمنة حقاً...!

كان يمشي وفيه من الهمة والنشاط ما لم تكن موجودة فيه من قبل ولما شارف على الوصول إلى داره فتح الكيس وأخرج حبة تمر، تأملها جيدا ... أدارها بين أصابعه، تذكر عجوزاً كانت تقبُّلُه كلما شعر بضيق وبدأ يحدثُ نفسه:

ليتها كانت هنا تلك التي لم تلد غيري تمضغ معي تمراً من مال حلال!

وضع التمرة في فيه، تباطأ في لوكها، يديرها من فك إلى فك حتى انه بخل جدا في ابتلاعها مما جعلها تتسلل إلى جوفه من غير أن يشعر . وبدأ يهذي:

التمر يُعرف طعمُه والمتعبدون......؟ مالهم لم يتذوقوا طعمَ العبادة مثلما استمرئ طعم التمر الان

وضع التمرة الثانية في فمه .......أزاح الخرقةَ التي كانت تسدُ الباب تسلل إلى أريكتـه الورقية واستلقى على ظهره مستمتعا بلذة حلاوة التمر وعيناه تبصران السماء من بين فتحات سقف غرفته الكثيرة . تذكر المرأة وكيسها نظر إلى متنه حاول أن يقبله لكن شفتيه لم تتمكنا من الوصول إليه:

أيها الكتف الهزيل ما أجملك، ما أبهاك ما أكملك ! أنت وأنا في هذا الجسد نكون وحدة النسيج القوي الذي ننتصر به على صروف الدهر!

 تناول التمرة الثالثة ونهض من مكانه الأثير وراح يرفع حجرا كان قد خبأ تحته أرغفة خبز من يومٍ فات . تناول رغيفا وتلمسه بأنامله فأحسَّ بقرقعة الرغيف بسبب تقرنه غير الاعتيادي :

لا يهم مادام لدي التمر ستكون عملية مضغك سهلة، أيها الرغيف العنيد كم أنت عصي عليَّ ؟ كلما حاولت اللحاق بك تفلت من يدي . أنا احبك كثيرا وأود معاشرتك لكنك تنفر مني . كلما دنوتُ منك لآكلك تزدادُ تقرنا ويبساً لكنك اليوم لن تفلت من القضم .

كسر الرغيف إلى كسرات صغيرة وبدأ يغلفها بالتمر ويلوكها على مهل مستمتعا بصرير أسنانه التي لم تتعود طعم الحلاوة من قبل . تذكر احد المتعبدين حينما رمى عليه بعض المال وكيف رفضه.....

تُرى لماذا يظن هؤلاء أن كل الفقراء يقبلون هبات الآخرين ؟ أ شدةُ تدينِهم تأمرُهم بذلك أم هي عادة اكتسبوها مع الوقت..... لا يهم لا أقبل أن أكون فقيرا يقتات على هبات الآخرين.

مد يده لعله يجد كسرة من الرغيف فلم يفلح..... كان قد قضمه كله . تناول قارورة الماء، شرب حد الارتواء . ألقى بجسمه على أريكته الأثيرة وأخلد إلى نوم عميق .

 أحس بحرارة الشمس تلفح جسده الممتد على أريكته الورقية استيقظ من نومه ..... تمغط .....ضرب على صدره، نط حتى كاد رأسه يخرج من سقف الغرفة . أفاق كلياً من خدر النومِ فتذكر انه هو الذي كان يؤذِّنُ لصلاة الفجر لكنه لم ينتظم في صفوف المتعبدين ..!

 

حمودي الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم