صحيفة المثقف

خفة المناحات العراقية الكبرى التي لا تُحتمل.. نقد المثقف الرث (1-2)

يوسف محسنالان خبت المناحات العراقية الكبرى بعد ان استنفد العصابيون الفيسبوكيون طاقاتهم القصوى، كانت حفلة جماعية باذخة لتكشف لنا ان المثقف  العراقي عاريا من شروطه التاريخية، ندب وقصائد وصور مشتركة وحكايات ومفارقات وذكريات اخذها البعض مع الشاعر الشعبي عريان السيد خلف او عاشها معه فضلا عن ذلك تم استخدام قاموس الشتائم والبذاءة العراقية (تعد أسوأ بذاءة في العالم العربي ككل) بكامل عدتها ضد الشاعر سعدي يوسف من الغالبية الذي  نطلق عليهم بالاستعارة (مثقفين) شعراء وروائيون وصحفيون وكتاب عرائض وتقارير حزبية ورجال امن وبقايا شرطة صدام الثقافية، ومثقفون طائفون.

هكذا نحن متطرفون في كل شيء (الحزن  والبذاءة)  ونشترك في القتل الرمزي للحدث لا نخرج عن النسق الاجتماعي- السياسي في طبقاته السفلى وفي اي منعطف نكون (اولاد شوارع) ألفاظ القذف والسب والشتم والتحقير الفردي تعد سلوك غير أخلاقياً وتنمر ودعشنة ونتاج المكر والخضوع والضغينة  والاحقاد والوشاية والنميمة وهو نمط من الذهان الهستيري، ذلك أنَّ صناعة الأبطال وإسقاطهم (مرض عراقي بامتياز) وقد اصبح جزءاً من اللاوعي الجمعي لفئة المثقفين العراقيين، حيث يغلّب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في السلوك الفردي والجماعي، ويعطّل العقل المنطقي، ويستقطب الناس في مجموعتين متضادتين يطلق عليها (العقل الاحول) كما يقول ذلك قاسم حسين صالح.

العصاب الهستيري الفيسبوكي

شبكات التواصل الاجتماعي وبالذات شبكة (فيسبوك) اتاحت للمؤسسات والافراد وعصابات القتل والمثقفين والشعراء المنتحلين حرية الانفلات من قيود الرقابة الرسمية، وأسست بحكم تقنيتها مقدمةً لحرية التعبير والمناقشة لقضايا دينية وايديولوجية وسياسية والنشر المجاني واصبح الفيسبوك مخزناً تكنلوجياً ضخماً وفضاء لغويا وبالتاكيد ان هناك  هوية فيسبوكية لاي مجتمع بسبب التشكل الثقافي والبنيات الاخلاقية التي تحدد طبيعة التفاعل والتواصل والتعبير في عالم الفيسبوك، اذن هناك (فيس عراقي) يحمل ملامح المجتمع العراقي وتناقضاته وأليات التعبير والتعامل بين الافراد ويعكس المستوى الثقافي والاخلاقي للمجتمع، حيث تم استغلال هذه المساحة الكبيرة لممارسة العنف الرمزي وتقزيم الآخر  واصبح (الفيس العراقي) مكاناً للعنف والعنف المضاد عبر التعبئة الاجتماعية والحث واستنفار الجموع وليس وظيفته ترميم الذاكرة في حقول الدين، والآيديولوجيا، والثقافة وفضح القبح السياسي العراقي .

في كتاب (سيكولوجية الجماهير) يقدم لوبون تبصرات اخاذة، حيث يرى أن الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح كائناً همجياً، هناك آليات نفسية تتحكم بسلوك الفرد حين يكون بين الجموع، هذه الفكرة توضح  أن الافراد المتحزبين او الطائفيين او القوميين  تنصهر فرديتهم داخل الجماعة لتصبح روحاً واحدة وتخفض الملكات العقلية والتمايزات الشخصية والاختلاف في ما بينها، فيسهل عليهم القيام  بتصرفات جماعية وهذا ظهر في حدث الشاعر سعدي يوسف، هناك وباء اجتماعي تستثار الجموع لتفرّغ انفعالاتها، وهذا يعود الى تعرض ذات الفرد العراقي الى سلسلة من الهزات والصدمات والأدوار العنيفة، المتعددة، المختلفة الاتجاه، يجمعها رابط واحد هو القسوة والعنف وكسر شوكة الخصم وإذلاله والاستحواذ عليه وهذا نجده حتى في النقاشات العمومية سواء كان ذلك في المؤسسات الثقافية او المؤسسات الاكاديمية وحتى في النقاشات الفردية  .

تفجير خزان الكراهية

في يوم الأربعاء ٥ كانون الاول  ٢٠١٨ نشر الشاعر سعدي يوسف بوست على صفحته في الفيسبوك تحت عنوان (تدمير المذاق الفني في العراق) كان محتواه (إثنان أساءا إلى المذاق الفنيّ في العراق : عريان السيّد خلف الذي دمّر المأثُرة الجميلة لمظفّر النوّاب  ...والفنان الفطري التافه فيصل لعَيبي ساهي الذي دمّر المأثرة الجميلة لجواد سليم !) جاء ذلك متزامناً مع اعلان وفاة الشاعر الشعبي عريان السيد خلف، هذا المنشور فجر اكبر خزان من العنف اللفظي والكراهية والبذاءات الشخصية ومن فئة اجتماعية (مثقفين) وظيفتها الاساسية بيداغوجية وتقنية.ولها وظيفة اجتماعية ووظيفة أخلاقية فسواء كان ملاحظاً أم عنصراً فعالاً أو مجرد ناشر للمعرفة فان المثقف يقوم بدور تنمية الفكر،لكون  المثقف في جميع المجتمعات يلعب دور الوسيط، وعمله الأصلي يكمن في تشريح المجتمع إلا في  إدارة المجتمع  وسواء كان معاصراً للعقل المطلق، أو للكلمة في خدمة الإنسان ام كان مناصراً لقضية أو المثل الأعلى فهو مطالب أن يتكيف باستمرار مع المبادئ والقيم التي يدافع عنها. ولكن  (القطيع) عفوا بعض المثقفين استطاعوا في خطاباتهم السيطرة على اللغة التي يتكلّموها  فاعلين بها ما يريدو وفق شروطهم الخاصة الذاتية بدون نزعة اخلاقية  مشكّلين إياها وفق تصوراتهم المسبقة، وقد أظهرت منشوراتهم في الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي،كيف أن اللغة يمكن أن تستخدم لتنجز وعداً أو وعيداً أو تصريحاً أو تهديداً أو توبيخاً أو ترهيباً أو ترغيباً، حيث سادت  في شبكات التواصل لغة العنف الرمزي والتسقيط والتعريض بالشاعر  بسبب الاختلاف في الرأي حول قضية عمومية من الممكن ان  يختلف فيها الناس، ولم يتم نقل منشور سعدي يوسف الى (حقل الرأي) ليناقش بهدوء ويفكك تاريخيا ومعرفيا لنعرف احجام الفاعلين الثقافيين، وحتى لو كان المنشور (شتيمة اقدم عليها سعدي يوسف هل تردها بشتيمة)، ما حدث يعود الى حد ما للأزمات التي يعانيها هولاء الأفراد، على مستوى الهوية الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، وامام هذا التنكيل  بالشاعر سعدي يوسف اتخم الفيسبوك ببكائيات شعرية ونثرية وجنائزية عن الشاعر عريان السيد خلف، انفعالات معقدة وساذجة، تفتقد للعقل المركب الذي يربط العلة بالمعلول حيث يتأطر السلوك الانساني حتى اذا ما كان عاطفيا منه في اطار الحساب الهندسي، حيث ان مقياس النضوج الانفعالي لدى اي فرد هو مقدار التنبؤ بردود افعاله اتجاه الوقائع البشرية (بصدد موت كائن انساني وصل الى حده الاقصى في عراق اليوم) ويمكننا ان نفهم هذا الاكتئاب الجماعي الذي انتشر في شبكات التواصل الاجتماعي وبالذات الفيس بوك كـ عدوى بالارتباط مع حياة البؤس الثقافي والاقتصادي والاجتماعي العراقي والتقويض المستمر للذات وهدم البنى الاجتماعية والتمزق السياسي والانهيارات واستفحال ظاهرة العنف الطائفي والإرهاب والولادة العسيرة للدولة الطائفية وعجز هذه الفئة الاجتماعية الدائم (التي تسمى مثقفين) في  إظهار او طرح  مشروع أو نسق ثقافي أو سياسي للخروج من هذه الأزمات الدورية للمجتمع العراقي. وتماهيهم مع الآيديولوجيات القومية والطائفية والاثنية والتركيبات الاجتماعية السفلى من المجتمع العراقي وهو انعكاس للخطابات السياسية التي  تشكل الفضاء العام للمجتمع العراقي، اعني تماثلهم مع أصالة المجتمع العراقي (المخترع سياسيا) من قبل هذه الجماعات و هيكلة المجتمع عبر آليات الهوية والأصالة والتفرد في المخيلة الآيديولوجية والتمركز حول الذات. انتج هذه اللحظة (عصر البذاءة العراقية) والرثاثة والانحطاط الفكري الذي تميزت  به فئة المثقفين العراقيين .او قد نجد الإجابة بشأن هذه الأسئلة ضمن سيرورات تكوين فئة المثقفين العراقيين والمرتبطة بشكل ما بأزمة تكوين البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهشاشة الدولة العراقية منذ التأسيس الأول وعدم تبلور الطبقات الاجتماعية والبنى المؤسساتية، فقد استقر تاريخ المثقفين العراقيين منذ وقت مبكر على تقريظ الدولة او الحزب او الطائفة او القومية، قانعين بتحمل السلطة الاستبدادية أو الفاشية باسم الضرورات التاريخية أو باسم الهوية أو باسم الأعداء المفترضين للدولة، وأخذت هذه الفئة الاجتماعية تردد الكلام الأسطوري للسياسي العراقي او الحزب او الطائفة المتخيلة،وهذا مرتبط بوظيفتها التبريرية فمن العسير الاعتقاد بان تاريخ المثقفين العراقيين، يتعارض جذرياً مع السلطة السياسية التي عرفها تاريخ العراق، إنما كانوا يتماهون معها مشكلين قوتها الآيديولوجية المسلحة، (منذ عصر القائد الضرورة حتى عصر الطوائف) ولم تجر حتى الآن عملية تدوين أو جرد حساب أولي للتاريخ الحقيقي لهذه الفئة التي هي عملية مزدوجة تأخذ مسارين، المسار الأول: قراءة البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع العراقي، والمسار الثاني: نقد الأوهام، والأساطير التي قامت هذه الفئة بصناعتها، وأدت إلى تزوير واختلاق وتحريف تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي للمكونات العراقية التي لا يمكن تبريرها طوال عقود وعلى المدى القصير في الحكايات التاريخية والجغرافية والسياسية والشعرية والقصصية والروائية والمسرحية والاجتماعية ونقد الجذور النظرية والمعرفية لهذه الكتابات ذات الأبعاد الفاشية وتم إنتاجها داخل تمثلات النظام الثقافي العراقي، واكتشفنا ان الوظيفة الفعلية  لهذه الفئة العراقية أنها تعبئة الجموع وهندستها لإحكام السيطرة على المجتمع المستنزف بقوة.

 

يوسف محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم