صحيفة المثقف

القوة الضعيفة

الناي الحزين لا يُطرب سوى أهل حزنه، وصراعات النفس الأمارة بالسوء كثيرا ما تتسلط على واقعنا الذي تزيده مرارة، وولادة الضعف من القوة هي فعل إهدار لها، فهناك من ينظم قوته وهناك من يدخرها ويهدرها ببطء. أعتدنا من الأنظمة التي حكمت العراق أن تعزف على نايها حتى تكسب سامعيها أنين الكآبة، أو تشدهم إلى صوت ريفي عادة ما يندب به حظه. بين الصوت، والكتابة، والسلطة خطوط حمراء، كخطوط الطول والعرض في أيام الحرب، فالسلطة تعيش في حالة حرب دائمة، حرب مع نفسها، ومع أهلها، ومع جيرانها، أو حرب طبول ترهب بها من يسمعها من العالمين، بعد ما أصبح العالم قرية صغيرة، وتشعب التواصلات التي بات القول بها كالفعل، لم يعد فيها الكلام كلام ولا الفعل فعل، كلاهما أقترن مع بعضهما في خطاب الأنظمة والدول، وأصبح فيها السلوك سلوك قول وفعل؛ لأن القانون جرم الأثنين معا. وحماية السلطة وعقيدتها تتطلب أن يكون القول البعيد كالفعل القريب أو العكس. وهذا ما يرعب السلطوي الذي يريد أن يحفظ قوته ويكتنزها، ليوم يكون فيه تهديده بالسقوط وشيكاً، وبما أن السقوط أصبح أمرا منتظراً، فهذا يعني أن كل فعل وقول مخل بالشرف والأخلاق من قبل السلطة لم يعد سقوطاً، وهذا ما يضفي الشرعية على السلطة، لكون يوم سقوطها لم يحن بعد، هذا هو المعيار الأبرز الذي يقيس به الحكام شرعيتهم. ومكسبهم الكبير عبر سلطتهم أن يشرعنوا أقوال السقوط وأفعاله، بغض النظر عن المعارضة، وإن كان بالتأييد مرة أو بالأمر مرة أخرى. وكل مرة يأمر بها تجد الساقطون أكثر استجابة لهذا النداء، لكونه يترجم أخلاقهم تارة، وطاعة الحاكم تارة أخرى. وبهذا الأمر تحول السقوط كأمر فعل وقول إلى قوة متبادلة، يمنحها الحاكم مرة، والمحكوم مرة ثانية، بمعنى هناك قوة متبادلة يتقوى بها الطرفين .

أما المراقب فيرى بهذا الأمر ضعفاً، ويرى تلك القوة وهناً ويدرك أن اليوم الذي تتوج به البلدان، والأنظمة، والحكام في بلداننا العربية هو يوم السقوط، اليوم المخصص لكشف حقيقية الفعل والقول، بغض النظر عن مشرعيه والمدافعين عنه ومؤيديه، أما غير المبالون فهم المحتفون بالسقوط في كل زمن والمستفيدون من سقوط كل نظام سياسي قديم وجديد، لا يسعون إلى حمايته ولا الدفاع عنه لا يهمهم وجوده أو سقوطه. ويتطلعون لمجيء من هو أكثر سقوطا ليكون بديلا لهم عن نظام يتهاوى لسقوطه بينما طموحهم به يتزايد.

سقوط شخص مقتول غيلة، أو سقوط شخص منهوك الحال، وهو لا يمتلك لقمة عيشه، أو صحته، أو السقوط في حفرة شارع المسماة "بالطسة " أو منهولة مفتوحة، أو شارع ترابي تحول إلى وحل بفعل مياه الأمطار، أو المجاري، أو سقوطه من درج مرتفع جداً  يخصص للمشاة من على الشوارع العامة، أو سقوطه في حادث سير جراء الرون سايد، أو سقوطه من مكيدة أصدقاء مصلحة تحولوا إلى أعداء .... بكل أنواع السقوط هذه، لم نعد نعرف أي سقوط أدى إلى سقوط كاتب حر أمتهن الكتابة من على دراجته، ليس بسبب كل ما تقدم من سقوط ؛ بل برصاصة قاتليه، برصاصة القوي الضعيف الذي لم يدرك ضعفه بعد، وأعلموا أن قواكم التي تتحول إلى سقوط في يوما ما ليس بقوة بل هي ضعف !!

الرحمة والخلود لمشذوب ورفاق الدرب السابقون واللاحقون ....

  

الدكتور رائد عبيس - أستاذ الفلسفة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم