صحيفة المثقف

أطبّاء فوق العادة.. مهاتير محمّد نموذجا

منير لطفيمهما كانت التحدِّيات والعراقيل التي تقف حجر عثرةٍ أمام تقدُّم الدول ورِفعتها، فإنّ بعض التجارب الواقعية والحديثة تُبرْهن على أنّ الفارق بين الخيال والواقع وبين الحلم والحقيقة، ليس سوى قيادة تتَّصِف بالمسئولية وتتحلَّى بالصدق وتتّسِم بالإخلاص وتَتبنّى  شعار "القيادة بالقدوة"..فما أرخص القيادة إذا كانت شعارات، وما أغلاها إذا كانت عملًا بالغَدَوات والعَشِيّات.

في الجنوب الشرقي الآسيوي، وفي مدينة ألور سِتار عاصمة ولاية قِدَح الواقعة على الحدود الماليزية التايلاندية، وُلِد مهاتير محمد في عام 1925م لأبَويْن مُسْلمَيْن متوسِّطِي الحال، وبعد إتمام دراسته الأوَّلية وبموجب منحة دراسية، التحق بكلية الملك إدوارد السابع الطبيّة في سنغافورة، مخالِفا بذلك نصيحة أمِّه الحنون في أن لا يكون شُرطيا أو طبيبا حتى لا يَعتاد السَّهر ويُحرَم النّوم، ومخالفا أيضا لعزمه على دراسة الحقوق التي يجيد لها مهارة النقاش والحوار، وهو ما علّق عليه قائلا: لم أفكّر جديًّا من قبل في دراسة الطب، لكنّ قدري قرّر مصيري، وقد سعدتُ بقدَري كثيرا، لأنه تبيَّن أنّ الطبّ مجال تعليميّ مناسب على نحو غريب لمسيرة سياسية.

 وبعد تخرّجه، مارس مهنة الطبّ عبر المستشفيات الحكوميّة، وأجرى بها العديد من المهام الطبية في تخصّص الجراحة الذي شُغِف به أيَّما شَغف، وذلك قبل أن يستقيل ويفتتح بمسقط رأسه (ألور ستار) عيادة خاصة ذاع صيتُها وعمّ نفعُها وامتدّ عطاؤُها، إلى أنْ اختِير وزيرا وشُغِل عن علاج المواطن بمداواة الوطن. والواقع أنّه كان سياسيا منذ نعومة أظفاره، حتى ذَكر أنّه سياسيٌّ تحوَّل إلى طبيب، وكأنّ الطبّ كان جسرًا أطلّ منه على أعالي السياسة، ومنبرا بسط له الطريق لمخاطبة عموم الناس والوقوف على همومهم وطموحاتهم.

أربعين عاما أمضاها الرجل في دهاليز السياسة؛ بدَأها بالانضمام إلى حزب منظمة الملايو الوطنية المتحدة (أمْنو) الذي تأسَّس في أواخر الأربعينيات، وتبوّأ الصدارة كحزب حاكم منذ الاستقلال حتى قبل سنوات. ثمَّ خاض غمارها وامتطى صهوتها وسط حلبة مليئة بالأشواك، فكان عضوا برلمانيا، ووزيرا للتعليم، ووزيرا للتجارة والصناعة، ونائبا لرئيس الوزراء. وذلك قبل أن يتقلَّد في عام 1981م رئاسة الوزراء، ويصبح رابع رئيس وزراءٍ لماليزيا بعد استقلالها في عام 1957م وتأسيس الدولة المَلَكيّة الدستوريّة التي يملِك فيها الملِك ولا يَحكُم.

 وبهذا التكليف والتشريف، كان قدَرُه أن يحمِل على عاتقِه إشكالية أمَّةٍ تتعدَّد في ربوعها العِرْقيَّات المَلَوية (61%) والصينية (24%) والهندية (7%)، وتتجاور فيها الديانات الإسلامية (61%) والبوذية (19%) والمسيحية (9%) والهندوسية (6%) والكونفوشية (3%)، ويستشري في جنَباتها رثاثة الفقر وآفة البطالة. إضافة إلى معضلة السكّان الأصليين التي سطّر فيها عام 1970م كتابا بعنوان (معضلة الملايو) أغضب به السلطات الحاكمة آنذاك وتمّ مصادرته، حيث حمَل فيه بشدّة على الكسل الذي انتاب هؤلاء السكّان الأصليين ومهّدَ لسيطرة الصينيين والهنود على مفاصل النشاط الاقتصادي، وانتقد السلطةَ الحاكمة جرّاء تخلِّيها عن دعمهم ومساهمتها في تهميشهم حتى باتوا مواطنين من الدرجة الثانية، وهو ما عمل بجدّ على معالجته عندما دانت له السلطة على اعتبار أنّ وعدَ الحُرّ ديْن وكلمة الصادق سيف، فانتهج حيالهم سياسة التمييز الإيجابي المقنَّن دستوريا.

وعلى مدار الاثنين والعشرين عاما التى تقلّد فيها رئاسة الوزراء، عكَف علَى بناء النهضة الماليزية الحديثة، مِن خلال رؤية مدروسة وخطّة طَموحة وإدارة رشيدة، تحوّلتْ بموجبِها ماليزيا من حَمَلٍ إلى نَمِر، ومِن اقتصادٍ زراعيّ إلى اقتصادٍ صناعيّ يدعمه نهضةٌ معرِفيّة قائمة على تعليمٍ حديث وصناعةٍ تكنولوجيةٍ متطوِّرة، بالإضافة إلى بُنية تحتيَّة شاملة. فكان أن تدفَّقتْ الاستثمارات كالشلّال في شرايين الاقتصاد، وتوافَد السيّاح للتنزّه وحدانا وزرافات، وتقاطَر الطُلّاب للدراسة من كلّ حدب وصوب، فارتفع الناتج القومي وتضاعَفَ الدّخل الفردي وانخفضتْ البطالة وانتحر الفقر، كما وُلِدت (بوتراجايا) كعاصمة إدارية جديدة، وحلَّق برجا (بتروناس) في سماء العاصمة كوالا لامبور كأطول ناطحة سحاب في العالم آنئذ. وكأنه بذلك يعيد إنتاج التجربة اليابانية المعجِزة، ولكن بمرجعية ثقافية إسلامية.

ومن مواقفه التي تُكتب بماء العين وتُنقش على جدار القلب، ذلك الموقف الذي  حدث في العام الثامن من تولّيه رئاسة الوزراء، حين داهمته أزمة قلبية بعد تناوله لوجبة دسمة، نُقل جرّاءها على عجل إلى المستشفى، وتقرّر إجراء عملية قلب مفتوح يتمّ فيها استبدال شرايين القلب التاجية المعطوبة بأوردة مِن الساق، وخُيِّر في السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء الجراحة هناك على عادة الوزراء والحكام، ولكنّه قرّر بلا تردّد إجراء الجراحة في كوالالمبور، مبرّرا ذلك بقوله: كان عليّ الوثوق بأطبائنا الماليزيين، وعرفت أنّه إذا لم أجعل من نفسي قدوة في ذلك، فلن يثق أحدٌ بخدماتنا الطبية.

لم يكن غريبًا إذنْ بعد كلّ هذه الإنجازات أن يُوصف مهاتير محمد بأنّه أبو النهضة الماليزية، كما لم يكن عجيبا أن يبكيه الماليزيون عندما قرَّر التقاعد واعتزال السياسة طوْعِيًّا في عام 2003م بعد أطول فترة حكمٍ لرئيس وزراءٍ ماليزي، ولم يكن كثيرا عليه أن يمنحه المَلِك أعلى تكريم لشخصيّة مدَنيَّة فينال لقب (تون)، وذلك بعد أن كرَّمته المحافل الدولية وأهدتْه العديد من الأوسمة والجوائز، كجائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 1997م، وجائزة جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي عام 1994م. ولكن العجيب والغريب أن لا يحذو حذْوَه مَنْ تقلَّدوا السُّلْطة في دول أخرى مماثلة للظرف الماليزي، فكانوا وبالا على شعوبهم، وما زادوا الزّبَدَ إلَّا زَبَدا ولا الغَثَّ إلّا غثّا ولا الخَبَثَ إلّا خبَثا.

 وقد تنادَى السياسيّون وهرول الاقتصاديون ليغرِفوا مِن معِين الدَّرْس الماليزي، وجَدَّ الباحثون فألَّفوا  وكتَبوا عن إنجازات الرجل الفريدة، ولكنَّه بتواضع الطبيب وخبرة السياسي  وحكمة الإنسان، يرى ما لا يراه الكثيرون مِن القادة فيقول: "أعظمُ ثروةٍ في أيّة دولة هي شعبُها". وهو ما باح به للدكتور أحمد زويل فضمّنه كتابه (عصر العلم)، وذلك عندما استفسر منه عن سرّ نجاحه في النهضة الماليزية فأجاب: "جعلتُ الشعبَ كلّه يفكّر في المستقبل".

ولأنّه من طراز فريد لا يسلِّم سلاحَ العمل إلّا لمَلَك الموت؛ فقد واصل عطاءه بعد الاعتزال، فأسّس في عام 2005م منظمة بيردانا للسلام العالمي التي كرَّست رسالتَه في نبذ الحروب والانحياز لخيار السلام، وقام بدورٍ بارز في إعادة إعمار البوسنة والهرسك التي أنهكتها الحرب الطائفية حتى تسامعَت بجهوده إدارة جائزة نوبل فرشّحتْه لنيل الجائزة عام 2007م. ثمّ حبّرتْ أناملُه في عام 2011م مذكّراتِه التي قارَبت الألف صفحة في نسختها العربية، فضمَّنها وجبة دسمة في السياسة والإدارة والاقتصاد والتاريخ، وأثنى فيها على الطبّ الذي أفاده في ممارسة السياسة؛ وذلك حين أَكسَبه فضيلة الإنصات، وميزة القرب من الناس وتحسُّس معاناتهم، وفرصة معايشة الموت الذي تراءى له دوما كسوْطٍ يَردعه وزاجرٍ يَعصمه من إساءة استعمال السُّلْطة.

وكالبدر الذي يُفتقد في الليلة الظلماء، وعلى خلفيّة ما رآه من انحراف حزب (أمنو) عن الجادّة، وما لمسه من تباطؤ القطار الماليزي في مسار الحداثة والتنمية التي كرّس حياتَه من أجلها؛ أنشأ حزبا جديدا خاض به الانتخابات البرلمانية، ففاز بأغلبية المقاعد وتقلَّد رئاسة الوزراء في عمر الثانية والتسعين، ليصبح بذلك سابع رئيس وزراءٍ لماليزيا وعميدًا لحكّام العالم باعتباره الأقدم سنًّا بينهم، وليصحّح ما اعتبره خطأ جسيما حين اعتزل السياسة وترك مقدّرات البلد في يدٍ لم تكن جديرة بها.

ورغم الهدوء الذي يبدو على محيّاه، وابتسامته الودودة التي تجد طريقها ممهَّدا إلى القلوب، وقيمة التسامح التي تسلَّح بها واعتبرها أكبر قيمة إسلامية؛ إلّا أنّ مواقفه تنمّ عن أسدٍ هصورٍ في مواجهة ما أسماء بالنفاق الغربي، فناصر القضية الفلسطينية بحزم، وأدان احتلال أفغانستان بأعلى صوت، وشدّ على يد المقاومة العراقية في مواجهة جنود الاحتلال الأمريكي البريطاني قائلا: "أعيدوهم بالأكفان"، بل طالب بمحاكمة بوش وبلير كمجرمي حرب ومسعِّري نار. كما أبى الانصياع لعصا العولمة وذراعها الطويلة المسمَّاة صندوق النقد الدولي، وذلك حين رفض تعويم العملة الماليزية إبّان الأزمة المالية التي عصفَت بجنوب شرق آسيا عام 1997م، وخرج منها سالما دون تنفيذ روشتة البنك التي طالما أغرقت دولًا في بحر من القروض والديون.

***

بقلم: د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم