صحيفة المثقف

حرية الفكر المعرفي بمواجهة التجهيل الممنهج

ريبر هبونليس الغوص في الحلم وحده، الهاجس العام للكتابة، ولا يذهب التخييل لأبعد من نشدان الحقيقة بلبوس فني، فلابد أن نذهب بالبعيد صوب تأكيد الأفكار الحاملة لتكامل وحدة العقل والوجدان، لبيان قيم الإنسان المعرفي، وتصوراته لحياة أفضل تتحقق فيها أدنى درجات المساواة، لإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان الشرق أوسطي، التي لا تزال تعيش التهميش وغلالة القيد، ولا شك أن صوت الكلمة أكثر حدة في بروز المغزى من هذا التصاعد الوجداني الذي ينهض بمسؤوليات المعرفيين ويؤكد دوام حضورهم في ظل العسف والجور القائم، ولا تنحاز الكتابة الواقعية للذاتية الوجدانية الحاملة معها شعرية الألفاط والعبارات، بقدر ما تمارس هيئة المرأة الحامل للجنين المكتمل، أو تمثل الوعاء الكبير الذي يحتوي كم الماء، حيث تمضي في رحاب الشمول في الأخذ بالأدوات للحديث عن أكثر من قضية، وتسليط الضوء على أكثر من زواية على نحو مركب ودائري،ولعل جلد الذات بتعبيرية صاخبة هو دعوة للإحاطة بالنقاء المتخيل والعناية به في ذائقة الإنسان الخائف والجائع معاً، إذ ننظر إلى العمل الفني بكونه القالب الأشمل والأكثر مرونة لبحث الإنسان من زاوية الوجدان الجمعي،

فطبيعة الفكر الجامد يتحلى بنمط من الخمول الذهني والإذعان لسلطة الأقوى المتسلح بالتأثير الديني والخرافي، حيث أننا نستخلص من خلال هذه المتلازمة التي تجمع بين قسوة الخطاب السلطوي وكوميديا القهر الذي يمتهنه المجتمع بسذاجة وطبيعية لتعطيان لنا قدراً من الأفكار الفلسفية المفيدة عن طبيعة هذه المعاناة المقدرة على أن يحملها أفراد البيئة منذ طفولتهم على نحو القدر الذي جعل من سيزيف حاملاً للصخرة، فالتعبير عن مراحل البؤس والمشقة التي يلاقيها الإنسان منذ طفولته في ظل منظومة شاملة من القمع تمارسها المدرسة إلى جانب العائلة بالتواطؤ مع رجال الدين، جعل المجتمعات تنتقل من موت إلى موت، في دوامة من العزلة والاغتراب الكلي، هو انتقال سلس وسريع من قضية لقضية ومن ألم إلى ألم، ولاشيء يلغي الوداعة وشفافية الحلم بالرغم من محاولات الوأد المتكررة والتي تخوضها منظومة السلطة القمعية والأبوية الاجتماعية في جعل المجتمع يلفظ أنفاسه ويتهالك باستمرار، إزاء حالة الاضطراب التي يشهدها الأفراد، المتشردون منذ طفولتهم، إن في الشارع أو في المدرسة، أو على صعيد فساد السلطة السياسية والتنظيمية بصورة خاصة، حيث أن كل شيء محكوم بالطغيان، حيث الإله الطاغية والسلطة القامعة، والأب الذكوري، تشاؤم هادف ويتجه نحو توصيف فاجعة الحدث، ومخلفاته التدميرية، فبحسب أرسطو فإن "هيكل العمل التراجيدي لا ينبغي أن يكون بسيطاً بل معقداً وأن يمثل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة"

تماماً يقف القاسي في تناوله كمادة للحديث أمام رهبة المشاعر ولوعتها، كأن المرء على قدر مع التفاهة في كل مكان، حيث يصعب على الملتاع وجدانياً تصديق نفسه قائماً في أمكنة الخشونة حيث تسقط جميع الألوان، وتتداعى صروح الحلم أمام قدر من السذاجة والأنانية البارزة الخادشة لكل مظاهر التواصل المنمة على قدر من الفكر والتوازن،

لذلك نجد أن المسعى الحيوي للكتابة يتجلى في تحقيق الأثر في النفس، ربما نقلاً لحصيلة تجارب متعددة، وفتح قنوات للتحاور الأكثر إثارة، ليس ببروز الذات المنفعلة، بل بإيجاد ذوات متفاعلة، تستطيع أن تهب روح الدلالة، وكذلك الخوض في الأغوار

فطبيعة التغييرات الاجتماعية التي كانت لمنظومة الدولة القمعية اليد الطولى في بناءه حالت دون مواجهة الانحلال الأخلاقي، الذي جعل المجتمعات تعيش في دوامة الفقر والجهل، حيث أن طمس الثقافات لصالح بروز ثقافة واحدة، وفئة حاكمة فارضة لهيمنتها، جعل مجتمع القاع يبرز أكثر فأكثر، حيث تذهب معالم التماسك والحضارة، لصالح نشوب الفساد بأشكاله في كل مكان، حيث تبقى القيم هنا أسيرة العبث به، ويبقى صراع الإنسان الفعلي قائماً وفي أوج احتقانه للحفاظ على القيم الأخلاقية الطبيعية، المرتبطة بالتكوين الذاتي للإنسان ومدى قدرته على المواجهة الفعلية ضد قوى الانحلال والتبعية والمرض،حيث أن سقوط الحضارة مرده تفشي التحلل في أوساط المجتمع، وداخل مختلف فئاتها وشرائحها بفعل استبداد السلطة الشمولية وتفسخ مؤسساتها بشكل هرمي، ولعل ذلك يؤدي بنا للحديث عن كوراث القمع والترهيب الذي تمارسه السلطة الفردية لدوام مكوثها فالصراع القائم ما يلبث أن يودي بصحة المجتمع وسلامة أفراده، ويشير كذلك إلى عجز المؤسسة عن الوقوف بوجه المفاسد التي تنخر داخلها شيئاً فشيئاً، مما يعطي نتيجة مفادها أن الاختبار قادم في شأن إعادة تصحيح المسار السياسي والاجتماعي الذي يوحي بالنتيجة لحقيقة مفادها ان التغيير لابد وأن يسبب الفوضى في بداياته، لكنه في النهاية ينتصر للمجتمع ومصالحه، ولمجموع القيم الطبيعية التي تعد عماد تشكيل الحضارات، ولاشك أن التركيز على الفساد الاجتماعي، يرجح في الآن ذاته الاستبداد السياسي الذي جعل المجتمعات تعيش في تخبط وفشل تربوي فظيع، مما يجعلها عاجزة على استيعاب مضامين الحداثة الكلية التي تشمل الفكر والسياسة والمجتمع، كما أن الحديث عن التحلل وغياب الحياة الطبيعية يشير إلى تفاقم الفساد الإداري وكذلك عجز الجهات المسؤولة على تفادي ذلك ومع الوقت يفشل الجهاز المؤسساتي من أداء وظيفته الموكلة على عاتقه ويصاب بالشلل والعجز التام الذي يقودها إلى التشظي والفناء كنتيجة حتمية، فالانهيار يقودنا إلى التنازع والتقاتل، وكذلك لتفكك البنى الرئيسية للمجتمع، وتصبح تلك الأقاويل والشعارات مجرد كلام في الهواء إزاء الخوف من الحاكم وأتباعه، الذين همهم الأول ترسيخ سلطتهم عبر قمعهم اللا محدود، ولاسيما أن ظاهرة التطرف هو نتيجة سلبية كارثية عن هذا الاستبداد والفساد، حيث يقف المرتدون عباءة التحزب، والمشغولون بتلفيق المفاهيم التبريرية لصالح الحزب الشمولي، الذي يلتف حوله عادة، طغمة من المريدين الحمقى، ممن شربوا من آبار الوهم والانقياد والاصطفاف التبعي إلى جانب المصالح والمناصب، أمام الحب ورغبة التغيير في التصدي للتطرف العقائدي البغيض، الذي يعد جهة قمع أكثر فساداً، وتعد بمثابة الدولة التي توجد داخل الدولة القمعية الشاملة، فبدلاً من أن تؤدي وظيفتها المفترضة، الدقيقة والموضوعية في تنظيم الجماهير والنخب الشابة، تقف عائقاً خشناً إزاء عواطف الأفراد وشؤونهم، باسم الشعارات الجوفاء التي لا تمت بصلة للواقع المعاش، مستخدمة -التهويم النفسي- وهو ضربٌ من ضروب العبث والتأثير بالشباب غير الناضج، ليكون آلة تلقائية تتلقى الأوامر على نحو غرائزي تعويدي، مستخدمة الشعارات والخطابات، المليئة بالوعود والآمال، وذلك بزجهم في أتون أحلام طوباوية تعمل على إماتة التفكير النقدي الحر في أرواح مريديها وتلامذتها، للحيلولة دون تجاوزهم لذلك القالب.

وبذلك نجد التهويم، النسيج الأكثر متانة الذي يلتف حول جماهير مسحوقة، تعيش بين مطرقة السلطة الشمولية القامعة، وسندان الأحزاب الشمولية المرتدية عباءتي الموالاة والمعارضة،فهنا كشف صريح لإشكالية التنظيم وسلبيات الفكر الإيديولوجي الذي يتعمد بهالة الشعارات، ودغدغة مشاعر الجماهير البسيطة، والتي تغذت تاريخياً من طقوس الأديان في تقديس نصوصها وتقاليدها والخضوع لزعماءها وشيوخها، الأمر الذي لا يستسيغه الفكر الحر، ويعتبره من أهم المعوقات التي تقف في طريق النهضة المعرفية والفكر الحر في كافة أنحاء الوجود الهندسي، كونه يعمد أبداً إلى قولبة كل ماهو غير قابل للتحنط والجمود ومثالاً الحب والعلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، كل ذلك انتصاراً لنرجسية فكر الزعيم الملهم، حيث تقف إرادة الفرد المعرفي ضد بواعث الخطر والدمار الذي من الممكن أن ينجم عن التنظيم السلبي وعدم استيعاب طاقات الشباب الذهنية، عبر الاكتفاء بزجهم في صراعات داخلية تفرغ الطاقة الإبداعية منهم وتسلبهم طمأنينة الحياة الأفضل،وكذلك فإن بحث تجارب المجتمعات في مواجهتها لقوى التهويم والجشع الربحي يعطي حقيقة مفادها، أن ثمة ذلك الصراع الرهيب بين قوى المعرفة التي تصون القيم مقابل قيم تعتاش على زوال تلك القيم التي تشكل عماد بقاء تماسك المجتمعات ورقيها باتجاه المزيد من التقدم والحضارة، فخروج الأفراد أو المجموعات داخل حزب معين وتشكيل حزب آخر، أربك من فعالية الثقة والانجاز، حيث جعلت الفئات النزيهة تلجأ إلى الاعتزال السياسي، الذي يسهم في طبيعة الحال إلى نشوب حالة أشبه بالجنون والزهد، فبروز الصراع الداخلي خنق في الفئة الشابة أسمى مواهبها، في إدارة مناحي الحياة، فبرزت معالم الاغتراب بقوة، وجرى الانقسام في بنى المجتمع وترهل فئاته وشرائحة الشابة نحو كواليس الانزواء والتحلل والضياع، حيث الاغتراب الفردي، ومرد تلك الانشقاقات هي تقليدية الفكر، وجفاف الروح الابداعية، وتسلط المتنفذين والانتهازيين وتوغلهم في كل تنظيم، يحاول القيام بأداء المهام الموكلة على عاتقها، هذا ما جعلها في النهاية، أسيرة الفوضى والتبعية، وجعلت الشباب من أبرز ضحايا الانقسام الدائم،ناهيك عن الديكتاتورية والتفرد في الحكم، أي الزعاماتية في منطق المجتمع الأبوي الذي تجلى في بنية الحزب الشمولي، وغياب أدوار الشباب المعرفي في التغيير والعمل عليه، كل ذلك قاد المجتمع إلى الفوضى، وانسداد آفاق الحل، إزاء عجز النظم الشمولية، عن تقديم الحلول والبدائل العملية،

فالأنشطة السياسية، باتت مشاريعاً ربحية، تصب في خدمة الفئة الخفية المتحكمة في بنية وقرارات الحزب، وغياب الديمقراطية الجوهرية، جعل فئات الجماهير تسير دون وعي بحقيقة مسعاها، ومبتغاها الأصلي، غير دارية بحقيقة الفئات التي تقودها، حيث تتجلى الفوقية والاتكالية، وبروز الأنانية والتجهيل الكلي، والتجاهل لرغبات الشباب وهممهم، وعدم احتواءهم لطاقات الشباب، أو مراعاة طموحاتهم وأفكارهم الجديدة في التغيير والبناء، إلى جانب تفكك الأصدقاء وكذلك الأسر نتيجة طغيان الجهل والفقر، إلى جانب التنقل بحكم الظروف، فمن آخر يغيبه الأمن إلى آخرين يعيشون حالة الاغتراب التي عمت في النفس وتأصلت في ظل انعدام الحرية، والاختيار،وكذلك فإن ابتعاد الفرد عن طبيعته، ونكران رغباته، هو مواكب في الآن ذاته إلى سعي التنظيمات الشمولية لتفريغ محتوى وطاقات أفرادها من أي إرادة في الاختيار أو النقد الحقيقي، وكذاك ابتعاد التنظيم عن غاياته التي جاء من أجلها، حيث نشأ ذلك التباعد فيما بين الأجيال، وهذا أربك من فعالية التفكير النقدي وشتت الإبداعات، واحتمالية ظهورها، الأمر الذي جعل الأفراد في حالات نفور وعدم التقاء فيما بينهم، وعم الاغتراب كافة الأوساط، وبات الناس أشبه بفوارغ رصاص متناثرة على الأرض، فالحديث عن ذلك التناقض في الشخصية والعدول عن المبادئ والمثل في لحظة سلوك تكشف عن طبيعة ذلك العقل الرافض لاستقبال الأفكار الجيدة، بل ويصر على تمثل تلك الأفكار على نحو مزاعم بائسة مزيفة، جعلت المجتمع يعيش في أسر القوالب أو المتاهات الموغلة بالضبابية.

تلعب الأحزاب الطفيلية، دورها في تخريب كل صميم وحي في المجتمع، ليصبح ذلك التهافت على الثروة والنهب هماً شاغلاً، للرؤوساء والمرؤوسين وما بينهما، حيث يعم ذلك الانحلال، ويتفشى مع استيطان وترسخ منظومة السلطة الشمولية، وقمعها المستمر، للشباب عن طريق أحزاب انتهازية، ومجتمع بائس محاط بالقيود، ومؤسسة تربوية تفرِّخ الجهل تلو الجهل، وإزاء هذا الدمار، يحاول القلم الإبداعي تصوير ما يجري عن معاناة المعرفيين في بيئاتهم، التي تطفح بمعاناة لا تكاد تنتهي، لإيجاد بدائل وحلول نهضوية لا تبور.

فالحدث يتناول ترجيح المجتمع للمادة، اعتبارها أولوية على كل شيء، إذ يمكن من خلال المال تكميم الأفواه، وإلزامها على سلوك الضعف، وتحوير المواقف الهشة والتحكم بها، لصالح من يملك الثروة، ووفقه يمكن شراء الذمم، واللعب على كل شيء، على مبادئ الأحزاب، وكذلك التحكم بمسار كفاحها وإيديولوجياتها، وكذلك تكريس الحرب في أوساطها، ونشر الفوضى في المجتمع، حيث يمكن للمرء تبرير كل شيء، ليخفي من خلالها تعلقه بالمال، وضعفه إزاءها،فتجسيد الإخفاق في صيانة الحب، هو إبراز لحصار المجتمع، وإحكام قيود التجهيل حوله، ليسهم هذا التباعد الأسري بمزيد من الانحلال وضياع الروابط الطبيعية بين فئاته وشرائحه، وكذلك إشارة إلى إفلاس مؤسساته وتنظيماته في ظل ذلك الخراب، وغياب مشروعها القائم على التغيير المزعوم، والذود عن أهدافها، لتصبح المنفعة المادية، الغاية التي تبرر وجودها، بل ولعلها تستفيد من تهويمها النفسي للمجتمع وتغييب معرفييها، على الدوام، عبر محاربتهم وتهميشهم،كما تفعل المنظومة القمعية الحاكمة، حيث يتعاظم هذا الوباء والاستمرار في الأخطاء، لدرجة يعم الاغتراب بصوره الفردية والجمعية الفرد والمجتمع ككل، حيث أن ربط: ضياع الحب بضياع الحقوق السياسية هو لإيصال رسائل مفادها ما يلي:

- بيان أن التحرر الاجتماعي متوقف على ضمان الحقوق السياسية وتجسيد الهوية القومية الغائصة في أوحال الاغتراب والتبعية والانطماس

- تجسيد أساليب السلطة القامعة، الحريصة على إذكاء مظاهر الكراهية داخل المجتمع، عبر زجها في بوتقة الجهل والخرافة والفقر

- مكافحة النخبة المعرفية الشابة، وتقويضها، عبر دفعها لصدامات نفسية بينها وبين العائلة، وتصفيتهم روحياً وفكرياً، واستنزافهم عبر الحفاظ على التقاليد القائمة على أساس المنفعة والأنانية والاستبداد

- إظهار بؤس الجانب التربوي، وانعدام وجود آليات إصلاحية جديدة، تحد من التجاوزات التي يتعرض لها الأطفال، إن في المدرسة، أو خارجها.

- فساد التنظيمات الحاملة في ذهنيتها روح الانشقاق والعجز عن مواكبة تطلعات الشعب، في نهضته وحريته، وسلوكها مسلكاً منسجماً مع السلطة التي تعارضها، عبر إقصاءها للشباب الساعي إلى التغيير الجوهري.

- تجسيد طبيعة المجتمع الذكوري، والنظام الأبوي، الذي اعتمدته قيادات الأحزاب الكوردستانية في سوريا، ومالها من رواسب ونتائج على شريحة الشباب، وقدراتهم على التغيير وصعوبه انقيادهم وتبعيتهم لإملاءات حزبية لا تتناسب وطموحاتهم، وفضح ممارساتهم في الدخول لحياتهم الشخصية، ومحاكمتهم بالإباحية والانحلال، استناداً لشعارات واهية يطلقها رواد نظرية المؤامرة، بين حين وآخر لتغطية إفلاسهم الفكري وجهالتهم الواضحة.

حيث لا شك أنه في إيغالات لدلالات وسياقات اللغة الطافحة بالتأويل والإسقاطات الفكرية والسياسية والغائصة أيضاً في روح الفلسفة يمكن أن نوغل أكثر للحديث عن مستويات الخطاب الوجداني، وعن تلك النزعة الذاتية التي تقوم بمحاورة الذات وتعبئتها بحس الإنتماء لجوهر التراجيديا، وهولها، وآثارها على الحالة العامة للناس، وكذلك سلوكياتها، وكذلك فإن غياب العقل النقدي الشاب، هو من أفسح المجال أمام الفوضى القيمية، وجعل الأفراد ينتقلون من انحطاط لآخر، حيث أن التركيز وراء مظاهر الاستغلال والنفاق الاجتماعي، هو تسليط في الآن ذاته، على حقيقة هذا الضعف المزري الذي يعكس بطبيعة الحال، غياب الشعور بالطمأنينة والثقة بالمستقبل، ومما لاشك فيه فإن الثقة هو أساس كل عمل جماعي، وغيابها يعني غياب الفعل الصحيح، والعمل المثمر، وانقياد تعسفي لمفاهيم السلطة الأمنية الرقابية، التي اكتفت بتأمين أسباب بقاءها، وتثبيت نفوذها، عبر دوام قمعها واستبدادها،فهما اشتدت الرغبة في التحليل، تسارعت وتيرة الانقياد لأكثر المعاني غموضاً وانقياداً، بغية كشف الغطاء عنها، وإبرازها لتكون بمستوى الفهم والإدراك السلس والجيد، وهكذا نجد انعدام الروابط القائمة على الحب والاحترام،داخل العائلة، ونجد سيطرة العلاقات الانتفاعية إلى جانب الحاجة المتراكمة، والألم العميق، حيث صعوبة الحياة، والفقر، وفساد المؤسسات، وطغيان الاستبداد، في العائلة والمدرسة، جعل المجتمعات تعيش في حالة اغتراب مزمنة عن الوعي، والتحضر والحياة الإيجابية، إثر استبداد الخطاب الذكوري الاستعلائي، الخالي من أي مظهر حضاري، وكذلك تحطم تلك البنى الأخلاقية الطبيعية بل وانعدام تأثيرها داخل مجتمعات تعيش في سباق صعب لنيل معقولية الحياة الطبيعية، حيث يحارب أفرادها على حدة قسوة الحياة الناتجة عن الفقر والمعاناة، إلى جانب ضعف الشعور بالمسؤولية، حيث أن فساد المؤسسة التربوية، بشقها المتعلق بالتأهيل والتعليم، جعل الأفراد في حالة تشرذم، والعائلة في حالة تمزق، كل ذلك حال بين رؤية تلك الحرية في الواقع،

حيث يخبرنا التأويل بوجوب الوقوف عند العبارات، وجس مواضع التأثير فيها، فالنظم القمعية حددت نمط وآليات التربية الفاسدة لدى المجتمع الذي تتحكم بمسارات عيشه، حيث ينجم عن ذلك، تعمد تكرار الإساءة، ونبذ الإفراد، لبعضهم البعض، حيث يعم التخويف والتسلط والاستبداد بين الأفراد، ويسهم العنف في تفكك المنظومة الأسرية، وتباعدها، الأمر الذي يصل بهذه المجتمعات إلى سلوك نوع من الإجرام الذاتي أو الموجه للآخر، فالحديث عن مسار العنف ومآلاته في واقع الشرق الأوسط، يقودنا إلى تنقيب عميق السبر لتلك الظاهرة، التي خلّفت أضراراً وخيمة، على المجتمعات، حيث يُعتبر العنف خبزها وملاذها، ويعتبر الدين بمثابة دستور يشرعن ذلك العنف، ويعطيه مسوغات مقدسة، للتباهي به عبر مفهومي الشرف والفضيلة، ومما لاشك فيه، فإن للعنف تفرعات تاريخية، اجتماعية، نفسية وسلطوية، تجعل المجتمع، أفراداً وتنظيمات، يمارسون هذا العنف، حيث يلعب التصادم والتنازع دوراً كبيراً في تمزيق العائلة وتفككها، ويؤصل من السلطة القامعة في دوام تسلطها، وتحكمها بالعقول، عبر زرع الخوف وتربيته في الأجيال عن طريق المدرسة، حيث كانت ظاهرة العنف تجاه الأطفال شائعة، في كل مؤسسة تربوية، حتى أن قوانين منع العنف تجاه الأطفال، ظلت شكلية، فلم يتوقف استغلالهم بمختلف الأشكال، فجملة الاضطرابات النفسية، لعبت دورها في تحوير سلوك الفرد، ليمارس دوراً سلبياً في مناحي حياته، فإبقاء المؤسسة التربوية في فشل ذريع، هو من مهام النظم الشمولية المستبدة، حيث أن العائلة كإطار مصغر، يمثل مخفر أمني، مصغر للتحكم بالأطفال منذ نشأتهم، زيادة نسبة التجهيل والأمية، توريط الشرائح المعدمة، بداء العنف والتسلط، يوقع المجتمع في ظل أسر وعزلة خانقة، لهذا بتنا نجد التطرف الديني والقومي بوجهه الشوفيني، قد حقق نتائج كارثية في صناعة العقل المعتقل، حيث جعلت الناس تعيش في متلازمة السادية والمازوشية في آن معاً، ونجد بالمقابل منها سلطة تستميت وتحرق الأخضر واليابس، لأجل بقاءها في الحكم، وما الإشارة إلى العنف الأسري، الفشل المتخمض عنه، إلا شكلاً صارخاً من أشكال نقد السلطة القامعة، حيث انعدام المساواة والضوابط التربوية التي تحدد نمط تنشئة الإنسان منذ طفولته، وكذلك ضياع المرأة بين فكي كماشة العزلة والشعور الدائم بالعوز، وهذا ما ينجم عنه ذلك السبات القهري الذي تعاني منه الأمومة، في مراحل تربيتها للأطفال،حيث تفوق الرجل البدني، جعل منه فيلاً ثملاً، وجعل من قرينه المثقف، ذئباً ساحراً،، حيث نجد المرأة دمية لا قوة لها على دفع الرذيلة باسم الشرع، حيث يغدو الزواج الاستهلاكي بغاء مقدساً تجيزه الأديان، وتفرضه العوامل المادية، والتجهيل المركز، فنحن أمام أورام وعيوب تاريخية طالت المجتمع بمؤسساته الفاسدة، جعلت المرأة مدجنة، بأشكال جديدة، اتخذت تغييراً بوضع عبوديتها، بلبوس ناعم يشي بتحرر شكلي، لا يتعدى من كونها بشكل أو بآخر مستعبدة للذكورة الانتفاعية، إنه ذلك التفوق المكتسب بالسطوة والانتفاخ السلطوي المعزز بطبقة سميكة من المصالح السلطوية، المبقية على الأمية، والسطحية، والاحتقان إلى إشعار آخر، حيث أن تغير النظرة ليس إلا رهين تغيير يصل مراكز السلطة من أعلاها لأدناها، حيث لا يمكن فسخ هذا التعاقد السلطوي الجائر ما بين أعلى الهرم وأسفله، بمجرد وضع نظرية طوباوية، بادعاء أنه يمكن إشادة عقد إجتماعي مبني على سلطة ذاتية منطلقة من الشعب، وليست مفروضة فرضاً عليه من الأعلى، حسب التسلسل التنظيمي، حيث أن العقد هو بذرة يمكن أن نساعد على تفتحها برعايتها فكرياً، وليس بإيهام الجماهير، أنها ممكن أن تكون نظاماً من وحي القائد الملهم، بل إنها في الحقيقة تبنى بناء على إيحاء عام تشترك فيه فئات الجماهير قاطبة، عبر مراحل، وسياقات فكرية، متنوعة، تستمد متانتها من التلاقح بين الألوان والأطياف الاجتماعية، على اختلاف وعيها وموقعها الطبقي، بعد إزالة قيود الذكورة المتأصلة في النفوس، والتي تشي بالمزيد من المعضلات السلطوية الاجتماعية على نحو مركب، إنها ليست آفة اجتماعية ، إنما هي مرتكز يمهد لتغيير طبيعة النظام السياسي، المسؤول عن كل فوضى روحية، تعم في أوساط مجتمعاتها، فهو ردة فعل مركزة على طبيعة العقلية السائدة لدى المجتمع والسلطة، في إيجاد تلك القرائن الأولية التي تدين إخفاق المجتمع في إيجاد ملاذ آمن لأفراده ـ يقيهم من العسف والجور، وكذلك ممارسات تلك السلطة التي رسخت الفساد والعنف الأسري كراع يلجم من أي محاولة باتجاه التغيير والتقدم، فما الكتابة إلا شكل من أشكال التحدي ـ ورغبة في تناسي الموت، للمسير قدماً في سبر أغوار الحياة، وتنظيم طاقة الإنسان العقلية والوجدانية على معايشة أكثر تفاءل، للعالم المعاش، فهنا نجد النقد اللاذع كامناً في داخل رواية تتحدث على نحو متسلسل عن طاقة التغيير والطموح التي يحاول الآخرون كبح لجامها، فالفرد يتعرض لتعذيب وتعنيف كامنين في ممارسات خاطئة ومضطربة، تسود المجتمع، حيث تجبره على الفشل وتقبله بطريقة ما، حيث أن تلك المحاولات الجمة في الرغبة في صنع عالم بديل عن عسف وجور الأقوياء، هو ما يلاقي هجوماً وازدراء كبيرين، حيث يُنظر للفرد على أنه كتلة من الانطواء والاضطراب، نظراً لخضوعه لعنف ممنهج منذ تنشئته، ولاشك أن هذه الحالة رافقت الكثيرين من تلك الشرائح الفقيرة والعاملة، حيث ثمة ذلك الإهمال بسبب الضغط الاقتصادي، الذي شكل بطبيعة الحال ذلك التباعد الأسري والفظاظة في التعامل

فكيف يمكن أن نرى تغييراً جوهرياً للسلطة، والمجتمع مستعبد، فحري بنا تغيير تلك التقاليد القائمة على الجور والعسف، قبل أن نفكر بتغيير البنية العليا الحاكمة، حيث البعض يرى بأن أسبقية التحرر السياسي تسهم بالتغيير الاجتماعي، ولكن الحقيقة، أنه بانعدام الروابط الأسرية الحقيقية، لا يمكن الوصول للتحرر السياسي، حيث خلو العلائق الطبيعية بين أفراد العائلة الواحدة، يسهم في ضعفها الاقتصادي وتخلفها الاجتماعي الذي يعتاش على مبدأ إقصاء المرأة، تحويلها إلى آلة مطيعة وأليفة، وتحويل الأبناء إلى صعاليك متفرقين في كل صوب وحدب، هل بتلك الحالة يمكن تغيير السلطة أو الثورة عليها؟!!، إن ذلك تساؤل مشروع وطبيعي، حيث يمر النقد على أكثر الجوانب النفسية السلوكية استعصاء، حيث يتحرى وينقب ويدخل في دلالة الحدث، ليسدي عملياً جملة توجهات وإرشادات، يمكنها أن تساهم في تحسين فهم المعاني والدلالات، وتقديم أجوبة أكثر منطقية حولها، فهي ليست ممارسة عمومية تتسم بالشمول، إنما تمتاز بالتنقيب حول الغوامض العالقة في السلوك الباطن، حيث يسعى النقد إلى تفكيك الحدث، والتعامل معه كجزئيات تستخلص المرامي من وراء هذا الفعل أو الحدث، فهي ممارسة تأويلية تفكك المعنى، لتستخلص الخلاصة من وراء طريقة المبدع في رسم الصورة المركبة من هيئة تعانق الموجود مع الوجود، بالاستفادة الحثيثة من مسعى المعرفيين في الوجود، ضمن حلقة الصراع اللا نهائية فيما بين قوى الإبداع وقوى الجمود، فهي تأكيد على عظم هذه المواجهة، وامتداداتها في ميادين الحياة المتقابلة،فهي ليست مجرد ممارسة تعتمد أحياناً على التأويل وربما تندرج في إطار سوء الفهم، إنها ألمام بالموضوع، وإيضاح لجوانبه المبهمة والمهملة، لتكون بمثابة إبداع ذكي يتغدى من إبداع جاهز موضوع على طاولة التنقيب والكشف، إلى جانب مناقشة القضايا المتعلقة بطبيعة المجتمع ودراسة السلوك بالتزامن مع الظواهر الناجمة عن الصراع الدائر، ما بين السلطة القائمة والبديلة، التي تزعم بأهدافها النظرية الدفاع عن المسلوب والمنتهك في المجتمع، والتي تجسد عبر ممارستها، سعيها لتكون الحالة البديلة عن السلطة القائمة، نجد أن المسافة ما بين الحب والفقر يتم ملئها بالحديث عن الفساد وسوء التنظيم، وكذلك افتقاد الحياة لمنهجية معيارية تصون الأفراد وتمنع تفككهم، إثر تفشي العنف الذي أخذ أشكال شتى، عدا أن وصف الحدث انتصر للفن، وكشف عن جودة تناوله وتعدد أساليب طرحه، حيث يصعب الإجابة على كل ما ينجم عن تأويل أو تساؤل بشكل وافٍ، ولكن الواقعية تكشف النقاب بنفسها عن ضغوطات الحاجة التي تضطر الأفراد إلى الانكماش حيناً والتوتر حيناً آخر، فعقد المقاربات يعتبر أمراً متجلياً في فهم النص، واستكشافه، حيث يسهم ذلك بطبيعة الحال، إلى إعطاء التأملات الفلسفية حيزاً أكبر في تناول الحدث بشقه الوجداني والواقعي، حيث يبرز دور المعرفة برسمها لسياقات متعددة ومناهج متباينة، حيث أن طبيعة الحياة القائمة سيطرة الفقر وسوء التدبير المتأت عن إهمال وفظاظة تربوية كانت وراء حقيقة التنشأة، أثبتت أن ضعف الروابط الأسرية ناتجة عن فشل المنظومة الأسرية، إنه الصراع الجوهري ما بين الرذيلة والفضيلة، وسط حياة صعبة، وسلوكيات تنم عن خلل نفسي

- إن التنقيب عن القيمة المستنبطة من إرث العلاقة بين الإنسان والمكان، فحواها أنه ما من قوة يمكنها قطع تلك الصلات الخفية بين الذات وجذوره، بسبب وجود تلك الإرادة المنحازة بطبيعتها الأولية لمن يحمل عنها عبء الاغتراب، وهي بمثابة تطلع حكيم لحياة أبهى، ففي معيار الفن والعمل المبدع، تتغير كلياً النظرة نحو الزمان والمكان، منها إلى الواقع، فهي تجسد طرق الصراع بين البشر في إطار المنافع والمفاهيم على نحو متزامن،حيث يتردد في ذهن الفرد تحقق إرادته التي يعتبرها انتصاراً لجزئية بسيطة من العدالة، في حين يجد المقابل، أن الإنصاف لم يتحقق، بسبب لهث المقابل لتحقيق هذه الجزئية على حساب تعاسته، وهكذا نجد أن الحوار يلتف حول نفسه، ليصف بطريقة ما، حالة العبث، لطالما أن مشكلة الوجود عصية الفهم، وفقاً لغريزة الموت والبقاء التي تحفل بها كل الفلسفات التأملية، وتحاول فهمها، حيث يشعر الفرد بفرديته من خلال تفكيره التأملي المفضي إلى التحليق أكثر، بمعنى أن المعاني المترسخة في الذهن ما تلبث أن تتحول لسلطة تفرض نفسها على الكينونة وتلزمها على خوض المعترك إلى النهاية، والنهاية هنا هي النتيجة البعيدة، المستقاة من تجارب تمارس في الذهن، للدفع بالأفكار للترسل أكثر، وهذا ما نعنيه بالفن، الذي يتماهى مع الوجود والنفس، من خلال الآخرين وسكناتهم، ويذهب للبعيد للتخلص من كل قيد أو قانون يقيد من حرية الحركة العقلية داخل الذهن المتوقد معرفة، لهذا نجد أن تلك الطاقة، يستمدها المعرفي من تعلقه بالوجود، عبر أطواره الأولى ومنها إلى النضج المستدام، ومع بروز هذا التفكير وصعوده، يكمن ذلك التساؤل الرامي لممارسة فنون الحياة المتوارية، والتي يسعى المعرفي المبدع لكشفها، من خلال أدواته الخامة، يمكن القول أنها أولى محاولات المرء للانعتاق من تلك القيود المنفعية التي تحصل نتيجة تعاقد حتمي ما بين السلطة والمجتمع الأبوي،حيث نتفاجئ بهذا الوضوح المفعم بالكشف عن ماهية التأمل وقدرته على اقتحام الذهن وتطويقه بكل شحنات الدفق المستمر بالتفكير غير الخاضع لكل الأحكام المسبقة التي من صنعها تعطيل هذا التوقد، نحن أمام ذاتية تتماهى أمام حقيقةالفناء الواضحة وهي أن الجسد يترهل وينخره الدود، وبذلك فخيار المرء المتبصر كامن في انتقاء المعنى الذي من أجله يعيش بجمالية منتقاة وحدس فني، ومعايير قائمة على الحب ومتانة التعلق ما بين الإنسان والمكان، التي عبرها يتشكل الوعي المعرفي ويتم صقله،فكل الجهود التي يبذلها الإنسان على مسرح المكان، تنتهي بهذا الفناء الذي يتحدث عنه سلو حين تأمله لجسده، ولعله منطق أخير يتوصل إليه بشكل منطقي، يحاول من خلالها إدراك الكون، إشارة إلى الصعوبة التي يمكن أن يواجهها المرء في فهمه لأشياء تتعدى حدود إدراكه كعقل ووجدان، وبذلك فهو يرى أن كل تلك الجهود ينتج عنها المزيد من الضحك والغموض، حيث أن إدراك جوهر الفناء أمر عصي على الفهم، بل سيقود لأبواب مسدودة حتماً، وهكذا فإن المرء في سباق مع الزمن، في حراك دائم للسعي إلى الأفضل، في ظل ذلك الزمن القصير الذي يحظى به، والخيارات المحدودة التي في حوزته، ففهم الجسد، والوقت، وفقاً للوجود، يتطلب إلى جانب الرغبة وعياً وزمناً، وكذلك إيغالاً عميقاً في كنه المعاني والإصطلاحات، لمناقشة كل غامض والكشف عن المكنون المخبأ والذي يقودنا إلى تفسير معاني مفتوحة التآويل حول الحرية فمهما كان الاعتقاد أن بناء أي معنى منطقي أو هرم معرفي ليس أمراً مجدياً، تبقى للمرء شهية مفتوحة للتجريب وممارسة الوقت المتاح، لهذا كان الوجود بمثابة المساحة المطلقة ليمارس الإنسان فيه فناءه الخاص به، بقدر كبير من ابتهالات تنشد للبقاء والخلود زعماً، حيث أن الرغبة في الضحك والفن، والكشف عن الرؤى والدلالات، أمراً ممتعاً بالنسبة للمعرفيين، فإن غمارهم وكدحهم في سبيل الخلاص كهاجس افتراضي هو أيضاً رحلة ممتعة ومهمة في غمار التاريخ الحافل بالموت والصراع، وثنائية الهزيمة والنصر، فلا انحياز مسبق للعدمية، أو التشاؤم، لقد وضع الإنسان ما يسمى بمفهوم العدالة الإلهية كبديل عن الهوس التشاؤمي الدائر حول ماهية الفناء ومشكلة الموت الأزلية، الأمر الذي برر للإنسان سلوك العنف، كما برر له في الآن ذاته سلوك الفعل الإبداعي، وهما في تصارع مستمر، إن ابتكار المأساة، قاد المرء لسباق الموت المجنون في سبيل انتصار العقائد، وذلك شكل خطراً، لكنه في الآن ذاته مارس عبادة الجمال في الموجودات، ليمثل نوعاً من الخلاص الذهني الواقف بوجه الموت بماهيته الغامضة، وعلى نحو ذلك

برهن الإنسان المعرفي صدقية كفاحه من أجل الخلاص بمفهوم العقل والوجدان الذكي حيث يبين النص المنتقى، ذلك الغموض الذي يحيط سلوك الإنسان وتصرفاته، وتلك المسافة الرفيعة الفاصلة ما بينه وبين الموت، أو القبح، إن ولع الإنسان بالنظام بقدر ولعه بالتدمير أيضاً، وكأن البناء والهدم عمليتان متقابلتان متوازيتان، فلا هدم إن لم تكن النية معقودة على بناء بديل، حيث يستخدم الإنسان كل أدواته، لإيجاد موطأ قدم له إلى جانب العديد الساعي إلى استلام الدفة، فالعالم الخاضع لتغييرات جمة، وتعقيدات متشعبة، أمسى بمنظور المدرك، عبارة عن كتلة هواجس وأفكار تتناطح فيما بينها، فعملية نقل النص من حالته الإبداعية المعروضة، إلى حقيقته المتجلية بالنقد، جعل منها المساحة القابلة لكل تأويل أو معنى، يراه المدرك بطريقته، مبرزاً في نظرته، طريقة الفهم والإدراك اللذين يعمدان على فحص الجودة الفنية، وكيفية عرض المأساة، ابتغاء للفكرة التي تلبس الفن في مدى قربه من النفس وأثره عليه،حيث تعمد العلوم الإنسانية، إلى إيضاح التقابلات المحكمة ما بين الإنسان والعالم، عبر كشف العلاقة ما بين العلم والفن، التاريخ المغاير لما دونته السلطات، في تجميل انتصاراتها، وزخرفة مفاهيمها، بما يتناسب ومصالحها في كل زمان ومكان، حيث أن تجسيد التاريخ من سياق الإبداع الإنساني، لأمر من شأنه أن يضع النقد في اختبار حقيقي، من حيث إلزامه بالتأويل المبني على كشف المزيد من الرؤى والأفكار الإيجابية، العامدة إلى تحريك الأدمغة ومحو ثقافة التلقي المفرط، دون السبر والتنقيب ومعرفة ما هو قابل للحياة مما هو غير صالح للبقاء والديمومة مع الزمن، ولا يسعنا في هذا الصدد سوى التأمل والتمييز بين غث الكلام وهزيله، وبين جودته المبنية على حسن الإسلوب وطريقة عرضه، ومن خلال نافذة الكشف لمستويات اللغة، وترفعها عن الكلام العادي غير الهادف، يمكن تقديم سياقات بنائية تتسم بالجدة والواقعية أكثر، حيث يرى هيدجر7 في كتابه كينونة وزمن "بأن ما نفهمه أولاً في خطاب ما ليس شخصاً آخر، بل تطلُّع ما، أي مجمل عالم معيش جديد، والكتابة وحدها، بتحررها فقط من مؤلفها بل من ضيق

" الحالة الحوارية أيضاً، تكشف عن توجه الخطاب الذي هو تطلع إلى عالم ما، فتأكيداً على حقيقة التطلع نحو مستويات أرقى من الخطاب العفوي المدرك لقنوات التواصل ما بين الذات والأشياء، لهذا يعمد النقد الجاد والنوعي، على تقديم طرائق أكثر إثارة وتأثير لفهم طبيعة النص، استناداً لمتناقضاته، ومؤولاته المتعددة، عبر تجسيد مستويات التخاطب وفهم إشاراته، فتناول الحدث من سياق عرض الأفكار وكذلك تطرقها الدائم لقضية العلاقة ما بين المجتمع والسلطة، وأثر ذلك منظومة الفكر الجمعي المتضمن خليط العادات والتقاليد هو ما يعرض لنا تلك الجودة ومدى قدرتها على تحقيق الأثر البعيد والرؤية الثاقبة لطبيعة الزمن القائم على حالة التبدلات والتغييرات الكثيرة

نظرة المعرفيين حول الجنس والحب

فالبحث عن الفضائل يبدأ بعد تحقيق الاتحاد الجنسوي ما بين الرجل والمرأة على صعيد القيم الأصل، البعيدة عن الذكورية الدينية، أو الفلسفات التشاؤمية التي نسجت على منوال الأديان قالباً حاد من خلاله الرجل عن المرأة والعكس، والجنس يمثل أصدق حقيقة عن تعانق المادة مع الروح، أو عودة الروح لقالبها المادي، فتجسيد التلاحم العضوي هو في أصله تشبه بالاتحاد الطبيعي المفتقد في عالم غزته التقاليد والأعراف، وداهمته أشباح الأساطير والتابوهات، حيث تأخذ منحى إيجابياً على صعيد ترميم ما تحطم على صعيد الواقع المضطرب، حيث أن الحب الذي يشكل في أبعاده المبررات الحتمية للإبداع ووحدة الدماغ الكلي للبشرية، يضع الجانب البيولوجي في صميم معادلته المحتكمة لتداعيات الاحتكاك بين الموجودات البشرية والطبيعية، الأمر الذي أعطى النسل، والامتداد والتوالد الدائم، من خلال السمو بالجنس لمراتب اللذة والكمال المعتمد على النظر لجمالية ذلك الفعل المتحد ما بين الثنائيات المختلفة،، والتي من خلالها أمكن أن نسهب في الحديث عن الطاقة الإبداعية، فذلك الحب هو ذلك الفعل، من لم يتحرك في سبيل أن يعي الحب، لا يمكنه فهم كنه الوجود، الحركة تمثل السعي للقيمة، والقيمة تتمثل بالمنتوج الحركي المتفاعل في هيئته الكلية، وما الجنس سوى منطوق الحب المتجلي في الحركة المعتمدة على السعي نحو الأفضل من خلال مضاعفة الجهد،حيث ان تلك الجهود والمدارك متأتية من حاجة الإنسان إلى التزواج مع الوجود من خلال احتكاكه واتحاده مع نصفه الآخر، وهنا أمكن أن نعطي الجنس ذلك الوعاء المتسع لقيم العلاقة المتبادلة والهادفة إلى الإعمار والحضارة، حيث نجد أن المعرفي هو الجدير بتسيد الوجود، لأنه لا يخجل من أن يكون خادماً له، عبر إعمال الوجدان والعقل على نحو منتظم ومتزامن، إن أعداء الوجود هم الذين شوهوا قيمة الجنس بعد أن قصموا ظهر منظومة الاتحاد الجنسي القائمة منذ أزل التاريخ إبان عصر الألهة، لهذا نجد الكواليس هو الفعل الذي يلجأ إليه عشاق زمن الظلام، زمن تعسف قبضة الذكورة التي باركتها الأديان السماوية وبخاصة الإسلامية، حيث بات المكان الذي يتم ممارسة الطقس الطبيعي الاتحادي بين الرجل والمرأة، مما بات الجنس في الوجه المقابل وسيلة للتسليع والترويج الإعلاني، وتم تحريف مساره مع تقادم عصر الإعلام وترويج السلع التجارية، وكذلك التأثير السلبي على العقول، حيث يمر المعرفي من بوابات الحس لينقل لنا ما يجري في عوالمها التي يطلق عليها منتشياً بالروح، فما تفرزه تلك الغريزة ليست بمعزل عن الوعي الأسمى الذي يربط الموجودات بوجودها، لهذا فإن الإبتكار والبناء، والطاقة كلها من مصادر ذلك التشارك، الذي يربط الكائنات بعضها ببعض، لهذا ينحو التحليل منحى إيجابياً في اكتشاف الأثر الكامن في تفاصيل العلاقات الحميمة التي يهبها الجنس من خلال كونه مصدراً للتناسل ومتمماً لنضارة الحياة وبهاءها، وهاجساً لدى الفلاسفة في تنازعهم الجدلي حول ماهيته، وطبيعته، فذلك الترابط المنطقي ما بين المادة وابنها الروح، يعتبر منطقياً خالياً من أي أوهام قد تفرزها أقاصيص ما وراء الطبيعة وتلك الروحانيات الغارقة في أخطاء الميثولوجيا، التي تشي عن رهبة الإنسان وخوفه من التجرد والركون لمنطق المعرفة المتمثلة بديمومة الارتقاء للأفضل، وفهم الوجود عبر تطوراته وتغيراته، وما الجهل إلا تلك العقبة الكبرى الواقفة بالمرصاد لصلابة ومتانة ذلك البناء الهندسي المحكم المتمثل بالعمران والفكر، والتي يترصدها صناع الحروب في كل زمان ومكان، والتي يقع العاشقون ضحاياها عبر الحقب المتزامنة، فهنا تنتصر الرواية لرواد الكواليس، ممن هم عازمون على الانتصار لذواتهم المنتهكة في مسرح الحياة والأحداث بكل تعقيداتها ومصاعبها، ولذلك فلا نجد سوى تلك المواءمة المعبرة عن وحدة الحب والجنس المحفزين على الإبداع والحرية في بيئة سحقت فيها الأحلام وتجمدت، حيث تعمل الانفعالات وردات الفعل المتمخضة عن التجاذب والتوق إلا إطالة أمد المعركة من أجل تحقيق المثل الأسمى الراكن في الأذهان المرهفة، والتي يتلبسها شبح المأساة العارمة والتي لا تقتصر على إتمام مراسيم وطقوس الوله الجسدي فحسب وإنما تتخطاها لتعبر عن هواجس مجتمع يعاني بكافة ميادينه واتجاهاته، لقد تضمنت العلاقات الحميمية التي تمتاز بالصدق والجمال الحي بمدى قدرتها على أن تتجسد بأساليب راقية لا تعادي الفهم في محاولة لإلباسها ثوب التماثل الفني القائم على الوعي وتحقيق رسالة المادة في معاكسة الكون وكائناته المتوالدة جيلاً بعد جيل، فلا تخلف الحميمية الطبيعية، شعوراً بالندم والعار، بقدر ما تعطي شعوراً مميزاً بالتفوق والراحة النفسية،، فبخلو الحب وبهجته، يقدم المرء على ارتكاب النزوة دون وعي، وإنما محاولة منه لسد منافذ الوحدة والشعور بكراهية الذات، حيث تغترب النفس عن ما يكتنز الطبيعة من بهجة ونضارة، يصبح الانقياد للغرائز الوسيلة الأسهل لدرء الخوف من المجهول، ففي ظل المشاعر الآنية، والرغبة في التعويض عن الحرمان، تصبح الرغبة في التحرر والانعتاق من الأسر مضطربة، متأرجحة تحت سلطان الهوى الزائف، ونيران الغرائز المعقوفة، ما بين ضغط الثوابت والجوع الجنسي، حيث تتجلى الطاقة هنا لتعبر عن رغبة في تحقيق حلم تأخر تحقيقه، ولكن نظراً لسواءات الأنانية وأوبئة الأنانيين، حيث يتدخل الجنس في فكرنا ونظرتنا للأشياء على نحو غير مباشر،لتعبر في أحد فصوله الجميلة عن رغبة عارمة بتحقيق السلام الداخلي المفقود، في حين تبدو في أحد صورها تعبيراً عن الأنانية التي لها أفرع تمتد إلى الجشع والكراهية، لكنها في عرف العاشقين شكل من أشكال تفعيل الطاقة الإنسانية لحب الوجود برمته، لهذا يعد المظهر الجميل للسمو بكل تعابير النفس المبصرة للجمال، وموقف ما في حضرة العوائق التي لا تتغلب بقسوتها على طبع الوفاء والتشبث بالأحلام لحين تحقيقها، فهنا يتحول الفعل الحركي بين ذاتين عاشقتين ملتحمتين، إلى تحوير لفهم الحياة ومعاني الاتحاد بين الرجل والمرأة، إخلاصاُ لحقيقة المثل ودورها في صناعة فكر الفرد وقدرته على إيجاد مناخات أفضل للإبداع المستمر، حيث يعتبر الجنس توقاً للحياة الأفضل، وإنعاشاً للجمال المتجسد في حقيقة الوجود الهندسي.

حيث لا يمكن فصل الحياة العاطفية من منظور الفلسفة التي تعمل لإعادة كشفها وفهمها بطرائق أرحب وأشمل، فغياب الألفة يعني بالضرورة غياب العقل، فحقيقة الضعف البشري كامنة في إبتعادها عن الحب الذي يمثل العاطفة الأرقى التي تجيش بالمدركات العقلية المفيدة، والتي بدورها تؤسس لمعرفة قويمة، في مواجهة تقاليد الموت المتمثلة بالتطرف والكراهية، وبذلك ترتقي الذات المعرفية عن مفاهيم التشاؤم وصناعته باتجاه تمجيد الموت وتقديس الرب والشخص خدمة للمنافع وتهديداً للرابطة الطبيعية بين المجتمعات، فالحب يوقظ في داخل النفوس العقل الباطن الذي بدوره يهدف لصون الوجود أبداً، من مخاطر الإنسان الأناني الساعية إلى تهديد مكتسبات الإنسان المعرفي عبر العصور، فاستمرارية الحياة على نحو مزيف يقود العالم اليوم إلى سباق التسلح وصنع الأزمات والحروب لما لانهاية وذلك في مجتمعات لا تترابط ولا تتآلف، بل تتنافر وتتنابذ، الأمر الذي جعلها فرائس سهلة للأنظمة الساعية إلى تفتيتها وطمس معالمها، وقتل عشاقها، وتشريد معرفييها على الدوام، بمقدار حرصها على زيادة عبيدها ومرتهنيها، وكثرة تنظيماتها ومريديها، فنحن نشير إلى بواعث من شأنها أن تسهم في إذكاء شرارة الوعي بين المجتمعات، الأمر الذي يساهم تدريجياً في نهضتها وإنعاشها، لمزيد من الرضا والاطمئنان

الجنس والسياسة حسب نظرية الحب وجود والوجود معرفة:

حيث تسهم غريزة الجنس في بيانها لعجز الإنسان على العيش بتوازن، إثر تقاليد أربكت فعالية العقل الناجح، وجعلت الأذهان تتجه لتأمين قوتها اليومي، وتنشغل في فقرها، وحرمانها واغترابها الذي يزداد سوء وفظاعة يوماً بعد يوم، وعلاقة الجنس بالمجتمع، هو ما يتعلق بقضية وجودية تتعلق بدافع البقاء، والصراع من أجله، ولعل عزم المجتمعات باتجاه الحرية والرفاهية، يتعلق بمدى قدرتها على تحقيق التماسك، وهذا لا يتم في ظل تباعد الرجل عن أنثاه، وعدم استقرار الحياة الجنسية في أوساط شرائحه وفئاته، مما يباعد في آن ذاته بين المجتمعات وتقدمها وكذلك عزمها لتغيير نخبتها الحاكمة، لهذا فالتعبير عن جوانب النقص مسألة هامة، فتعاون المرأة والرجل يتم بعد ديمومة اتحادهما، والنظم القمعية تحارب ذلك الاتحاد من خلال الفقر وسيادة الأعراف والتقاليد انطلاقاً من خرافة القضاء والقدر، التي تسهم من خلالها في تخدير المجتمعات وتكبيلها أكثر، منعاً من أن تكون قوة مربكة لها، تساهم في زلزلتها، بلقيس احتاجت الطمأنينة، في عصر رأت فيه أنها لوحدها، هذا ما جعلها تعود لجذورها، لتقتات ذلك السلام المفقود، لهذا نجد الجنس والوصال معبرين عن حقيقة التطلع للأمان والحماية، وكذلك رغبة في الاستمرارية والبقاء في ظل توازن حقيقي، يرحب به العقل الباطن وترتاح له النفس بشكل كامل، حيث يعمل الدافع الجنسي المغلف بحب عميق على تقديم رسائل تتمثل بقدرة المرء على صناعة العائلة الحقيقية التي عمادها الأساس الحب والانسجام الفكري الروحي الموحد.

حيث نجد أن عبء المجتمعات أكبر في عدم قدرتها على معرفة ما يعتريها من جوع ورغبة في تذويب الهوة بين الرجل والمرأة، لخلو ذهن أفرادها من ثقافة الجنس، التي حرمتها الأديان الذكورية التي استخدمت الإله الذكر لإرضاء فئة السلطة ونسف رغبات العامةمن الشعب، وذلك بتكبيله على مدى قرون عبر قيود الأعراف والتقاليد التي أسبغ عليها المقدس فيما بعد، لقد تم استخدام الأخلاق بوصفها شماعة يتبجح بها أرباب السلطة والمال، التي هرطقت العقل المبدع بل وسخرت منه، وأدانته، بيد أن الحقيقة المعرفية تنتصر على الدوام في كل موقف، ولا يعلوها أي علو، وبذلك تشكل العبارات المجسدة اتحاد الرجل والمرأة في ظل الحب، بمثابة النصر المعرفي التي تزهو عبره قامات الوجود، فغياب مظاهر التقديس السائدة قديماً عبر تقديس الثقافة الشرقية واليونانية لأعضاء الرجل والمرأة التناسلية لصالح سيادة اتخاذ المرأة وسيلة خدمة وإمتاع وكذلك شيطنتها وجعلها أشبه بمسخ، جعل الحياة الطبيعية في تدهور مستمر، وقاد البشرية إلى مزيد من الحروب التي تدفع المرأة ضريبتها في كل عصر،

إن تناول الغموض في الطبيعة البشرية، هو ما يجعل الفكر هائماً في خياراته المتشعبة لسبره بصورة جيدة، يمعن فيها الكشف عن علل الإنسان وسلوكيات الجماعة المعبرة عن حصيلة تلك الأفكار والعوائد المشتقة من المعتقدات الروحانية منها وكذلك المقتبسة من حالة الانتفاع العامة، ولعل علاقة الرجل والمرأة تتأثر تبعاً لذلك،  حيث لم يعد ثمة من وحدة إنسانية معبرة عن دواعي رقي وانفتاح، وإنما ثمة ضياع مطبق ومستقبل غامض، فتلك العلاقات القائمة خارج دائرة الانفتاح على الآخر، تسودها الاضطرابات النفسية والمزاجية التي تؤثر على القيم التي يؤمن بها الفرد، ويضعها وسيلة للمحافظة على الروابط الإنسانية مع أقرانه، وبضياع ذلك التعاقد الطبيعي، يستفيق المجتمع على كارثة قيمية، تلغي أدواره شيئاً فشيئاً،حيث يتوج الحب بالسخف والخوف والنفاق، وتنقلب اللحظة الهادئة، إلى فخاخ من الحيل تنشد المزيد من الزيف والتسطح، فهذا الفشل الذريع في العلاقات الإنسانية هو انعكاس لمنظومة السلطة الفاسدة في هيمنتها على عقول المجتمع، وذلك من خلال إبعادها عن عملية البناءوالتحول الديمقراطي، وجعلها مكبلة بأغلال المفاهيم وضغط الفقر، وسيادة المفاهيم النفعية الأنانية، الأمر الذي أدى إلى ذلك التحلل وفقدان الارتباط الحقيقي بين أفراد المجتمع ولاسيما نخبته الشابة، حيث تغدو الغرائز أقل من أن ننعتها بالحيوانية لبراءة الحيوان منها، وكذلك خالية من أي معنى يشير إلى الشفافية والصدق، حيث تمارس النشوة بطرق مبتذلة، تكشف عن علل الذات وتشوهاتها، حيث يتشارك الرجال والنساء أدوار الاتجار بالقيم وخيانة الجمال، فهذا الواقع الذي أفرز عن علل جمة قاد المجتمع إلى مطبات متعددة، وعرقل أدوار الفئة الشابة في صنع حياة واضحة المعالم، حياة عمادها التشاركية والتطلع لمستقبل أفضل، بعيد عن التحقق بسبب سيادة روح الاغتراب،وتفشي الاستبداد الذي باعد بين الفرد والآخر، وجعل كل الرغبات الإنسانية الطبيعية مغلفة بغلاف الاضطراب والرداءة والتحلل الخلقي، فلم يعد ثمة من بوادر عن علاقة أفضل على صعيد الميدان العاطفي، فالشهوة رديفة السلطة، وهي بالتالي تبرر لديمومة الاستبداد، فما من ثورة ضد هذا الواقع الذي تتنازعه الأنانية بين أفراد تلبسوا الشعارات،وزيفوا من خلالها كل جميل، حيث تأتي رداءة الطباع البشرية إلى طبيعة نظام الحكم المستندة على تعبئة الجماهير بالأوهام عبر تشويه الجنس والحب، والزواج، عبر عريضة الوعظ الساذج يتم تلقيها، كبديل عن منهجية النظام التربوي، إن انعدامه هو بمثابة انعدام الأوكسجين عن الرئتين، مما يفسر تفشي العلاقات ماوراء الكواليس، والفشل المتكرر في إقامة علاقة طبيعية مثمرة، إزاء إفلاس الدولة، عجزها عن حماية أفرادها، واستبدال النظام التربوي بنظام يرتكز على تجديد الأساطير والمعتقدات الشعبية والعقائد الدينية التي تحض على طاعة الحاكم، وتبين ألوهيته، وكذلك تحويل المساواة بين الرجل والمرأة إلى حلم إبليس بالجنة، مقابل إقامة معادلة السيد والعبد

حيث تم المحافظة على هذا الموروث بطريقة تدعو للتساؤل، ما علاقة قيم الذكورة بمبدأ المحافظة على قيم السلطة الاستبدادية!؟، بالطبع نجد العلاقة الحميمة والمتممة بين تلك المفاهيم والقيم التي تبني السلطات الأمنية عليه أسس بقاءها، تفخيخ المجتمع بأحزمة العهر وعبواته، مبدأ فعال في حماية موروث السلطة الديكتاتورية، وجعل الأساطير والمعتقدات الشعبية وسيلة لاستيطان العنف في أروقة المجتمع الذي يعاني من العنف الأسري والحزبي والتعليمي، عبر قنوات تواصله مع المساجد والمدارس، والاجتماعات الحزبية، والإعلام، وهكذا لم يبقى مكان إلا وتشرّب فيه المجتمع كل ما يكبل فكره وفكر نخبته الشابة على وجه الخصوص، حيث يتم تكبيل الأفراد بمفاهيم قامعة لكل مسعى من شأنه خلق بذور الاتحاد بين الرجل والمرأة، إذ ثمة ما يستدعي الغرابة من طبائع النفس البشرية وذئبيتها، وأصالة التدمير التي تنتابه في لحظات الجنون كردة فعل عن التشويه الحاصل في الحياة، فالحرب جاءت بعد صراعات اجتماعية عززت مفهوم العنف وجسدته، فالعهر والفساد، والخوف عزز من بوادر قيام فوضى كالتي يشهدها الشرق الأوسط والعالم العربي تحت يافطة الربيع العربي، لم تسلم المجتمعات منها، ومن نارها المتلظية في كل مكان، وبات الخيار محصوراً في الفرار أو الموت، حيث تم إطلاق العنان لهذا الجنون الذي أحال الأخضر إلى هشيم ورماد، وأعاد العالم إلى عهود الغطرسة والوحشية، عبر سباق بيع الأسلحة وتدمير موارد الشعوب وتشريدها فلم يستطع مطلب الحوار أن يزيل هذا الاستشراس، ولم تستطع الحلول الموضوعة على الطاولة، في استمالة الإنسان للهدوء وتسيد الوجود بالحب والفن والسلام، حيث تخلى المرء عن ذاته، وتحولت معارفه إلى وحش رابض في كل ركن وميدان، مما أخذ ببث السم في شرايين الطبيعة التي دبت فيها أصوات الفناء والانهيار، وكأن الإنسان مجبول على أن يكره ويمقت ويحقد على من حوله، فلم يسلم الحب من الأذى، والعلاقة الحميمة، لتصبح فيما بعد طريقاً إلى بث الاضطراب والمرض، فالحديث عن البشاعة والألم هو الأكثر واقعية ومصداقية من تخيل إمكانية خلق الأمان والوئام الإنساني، فدعاته في الآن ذاته يميلون لإظهار كراهيتهم لفئة ما بعينها بين فينة وأخرى، لهذا تستمر تلك المعركة ما بين الأخلاق والانحلال، والتي يصر الفكر على الانتصار بها، كون ذلك يشير إلى قوة الطبيعة في تشبثها الخارق بمدلولات الجمال المترامي بأبعاده،

لهذا وجدنا الدخول للمعنى والتأويل على ضوءه مجدياً في سياق بحثنا عن ما يجول في دواخل الأفراد في محاولة ما لعقد قرائن ومقاربات فلسفية نفسية، من خلال ذلك يمكن معرفة التاريخ المرتكز على حماقات البشر وصولاتهم في عالم السلطة والاقتصاد وإدارة المنافع وما يطرأ على ذلك من تحول في مسيرة القيم والتعايش بين البشر، الأمر الذي يسهم في زلزلة الأخلاق واتخاذ الغايات المادية مطلباً رحباً في الولوج لحياة المجتمعات البسيطة، حيث يتجلى البؤس الاجتماعي كرمز للفساد السياسي، وكذلك يتجلى اضطراب الحياة الجنسية للأطفال، كرمز عن تشوه الأخلاق وبقاءها مجرد ضريح مهتز،

فالحائل الواقف أمام سعادة الإنسان وأداءه الجيد، هو الجهل المتفشي في مدارك ووعي المجموع المنقاد للعادات البائدة والسلوكيات المتوحشة، المتوالدة عن الاعتقاد بأن أصول هذه العوائد مشتقة عن المقدس، ولعل التنظيمات حافظت على الموجود كما هو،كونه تمثيل لذائقة الناس المتمثلة بعبادة القوة، والبطش، فلا شيئ يروضهم إلا الخوف من الأقوى والامتثال لطاعته مادام على السلطة جالساً، وهكذا دأبت في المحافظة على سنن الخضوع، لأنها كفيلة بدوام البقاء، إن قطع الصلات مع الحاضر وتغييراته، يمثل ديدن تلك السلطات والأحزاب، إنها تعمل على محاربة العقل المعرفي، ومحاصرة المعرفيين، أصحاب الملكات الإبداعية، والأعين الفاحصة للمجتمع والمتكلمة عن عيوبه وعلله

المعرفيون بمواجهة الفساد السياسي

لهذا برز الخداع كمذهب فردي وتنظيمي، وشاع ليغطي على أكثر الأعمال مثالية، إلا أن الهدف منه هو تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة والوصول إلى السلطة،فلن يتم التخلص من طور الأمية السياسية والدهاء الذي يهدف للتلاعب بالعقول، إلا عبر سلوك الوصف وإبعاث النفور والإزدراء من تلك الطبائع السلبية، لهذا يبرز الانتقاد هنا بمظهر الوصف الفني، ليخاطب الوجدان والذائقة معاً، للتعامل مع الواقع السياسي على نحو أكثر عملية وفهم لمقتضياته، حيث يمارس التحايل على حساب القيم المزمع الدفاع عنها، فالتلاعب لا يتوقف في ظل دوام غفلة الناس وتجويعها، ومحاصرتها فكرياً، وإشغالها بتقديم طقوس الطاعة والولاء للأشخاص المرؤوسين، لهذا فحتى صياغة القوانين المدنية لا تشفع لمجتمعات اعتادت على الخضوع والولاء للأقوى الباطش، حيث يخفت العمل من أجل المبدأ حباً، لصالح المتاجر بها بغية المنفعة، كتخدير الفئات المسحوقة بحقن الشعارات أو القضاء والقدر، لإدامة الجهل والتجهيل، ونشر الاحتقان الإيديولوجي القائم على المعاداة والاحتقان،وحروب السلطة لا حصر لها، فيما لو واكبنا حقيقة الصراعات بين البشر، تحت مسميات بريئة، تقود لأفعال غير بريئة، لهذا يتجلى الكذب والخداع كمبدأين أساسيين لاستمرار السلطة في ابتزازها وتأليب الناس بعضها ببعض، على هذا المبدأ تتعدد الذرائع التي تشن لأجلها حروب العصر، ويبقى العنف بأشكاله شعاراً للمرحلة، حيث يبقى على الطرف الآخر من الصراع القديم الجديد، المعرفيين، أصحاب الملكات العقلية والتفكير النقدي، غير المرتهنين والمنقادين لمكائد السلطة، والذين يغدو غالبهم ضحية مواقفه، ليكونوا إما في السجن، أو في القبر، أو ما بينهما صامدين لا يئنون، والقسم الضعيف المنغر ببهرج السلطة يسير لخدمتها، ليزيل عن ذاته مواهبه ومدركاته لصالح الذين يعتاشون على مبدأ الكذب وعزلة الأفراد، حيث لا ثوابت في الممارسة الشمولية للسياسة، سوى بدوام الارتزاق، ولا حرية في ظل القيود، ثمة دائماً تآمر يتم بمعزل عن الآخرين الذين يعملون وفق قناعاتهم الطبيعية التي جاؤوا لممارستها، حيث يتحرك أي نظام بفاعلية بسبب وجود الغافلين عن مكر ودهاء الساسة المتصدرين المراكز العليا، كونهم يتحركون حسب اعتقادهم بأهداف ما جاؤوا لأجله، ويموتون في سبيله، لكنهم بطبيعة الحال يخدمون الفئة المتحكمة في كل شيء، لهذا فوقود كل الحروب عبر التاريخ،هم تلك الفئات الغافلة التي تقاتل لأهداف معينة انقادت إليها على نحو عاطفي ووفق إطار ضيق، فيه من الخيال الذاتي ما جعل غالبية الناس تموت لأجل ولاءها التصوفي لقادة رموز،لم يجالسوهم بتاتاً، وتحت يافطة الدفاع عن الغايات السامية، لهذا أضحت تلك الحروب تقاليداً تزعم الخلاص، باتت تحتفل بالموت وصخب الزغاريد المواكبة لمشي الجنائز، وهكذا نجد أن حقيقة التنازع تتصدر نمط عيش الفئات المعانية من رداءة المنهج والمسار، وانعدام المنطق والاجتهاد، فالله وفق جدلية الفساد هو المال المقترن بالعهر الأخلاقي،والجهل المفضي للمزيد من الاغتراب والفوضى والاحتقان بين شرائح وفئات المجتمع المسحوق، حيث القمع ومحاكمة الآراء وفبركة التآمر ضد أصحاب العقول الحرة والأفكار الجديدة، ليكون الديدن والمذهب الشائع في إدارة الحياة، فالمستقبل محكوم بفشل أجياله، إثر فساد نظرية الإدارة، فالواقع الاجتماعي والسياسي على مستوى السلطة والعائلة والحزب، متصدع البنيان، لذا وجب الكشف عن تلك العلل والمفاسد التي قوضت القيم الأخلاقية وزعزعت إيمان الأفراد بعضهم ببعض، إنه العنف المركز الذي يسلط قيوده على كافة مراكز الحياة والعمل، حتى تربية الأطفال، افتقاد المنهجية الصحيحة لتربيتهم وتعليمهم سواء في البيت أو المدرسة، الأمر الذي ربى البؤس والقسوة في حياتهم منذ البداية، حيث نرى أفراداً عنيفين، متطرفين في الرأي والسلوك، وأفكارهم تؤولها روحهم المتشاءمةوالتي ولدت إيماناً متزعزعاً بالذات والآخر،

فتناول الفساد بات عبئاً نفسياً مدرجاً، والعزم في خوضه متأتي عن خطورته على مختلف الجوانب الحياتية، حيث هبت نيرانه لتصل إلى العلاقات البريئة الحالمة، ولعل ذلك الميل للسلطة المطلقة، هو ما جعل الفساد السلطوي أصلاً لأي فساد اجتماعي أو أخلاقي أو ثقافي، ولاسبيل لتجاوز ذلك إلا عبر الاعتراف به، والعمل على درءه، فالسلوك الأناني ما يلبث أن يسيطر على تصرفات الأفراد من خلال السلطة المنحازة للثروة وتحصيلها من قوت المجموع البائس، ففي ظل غياب الفكر المنظم، والمعرفة الخلاقة، تتجلى العقبات الواضحة في طريق نهضة المعرفيين وتطلعاتهم نحو الغد، الأمر الذي يجعل مستقبل الأجيال على المحك، حيث لا يمكن انهاء الفساد من جذوره، ولكن يمكن الحد من مخاطره ما أمكن، لقد بات الفساد عاملاً لقتل الأحلام والتطلعات الفتية،ولعل الفساد هو رب التنظيمات والسلطات في الشرق الأوسط والعالم العربي، ومرد ذلك يعود لطغيان القمع بشكل ممنهج عبر تطعيمه بمبررات دينية، قومية، مذهبية، الأمر الذي جعل من الصعب إنقاذ المجتمع من هذه الفوضى، وحتى تلك الحركات المضادة لتلك السلطات الفاسدة عاجزة عن إسقاطه، لارتهانها لقوى خارجية ذات أجندات معينة، وتجربة الربيع العربي خير شاهد على ذلك، فكانت بمثابة جرس الإنذار الذي لا يتوقف عن إصدار الرنين، بين شعوب صمّت آذانها عن سماعه، وسلطات غيبت السمع عن جماهيرها المعلقة في الهواء، فالسعي إلى السيطرة والتفرد هو جزء من آفة التفكير الشرق أوسطي،ولعل ذلك يعتبر المعطل الحقيقي لبروز أي نهضة تنويرية ذات فاعلية وتأثير، ولعل القمع والاعتقال والإبعاد هو من نصيب المعرفيين الذين لا يكفون عن بيان عيوب السلطة ودورها السلبي على الحياة والمستقبل، إن افتقار السلطة لروح الفلسفة وفهم الحياة برقي وانفتاح، يسهم في استمرار المظالم الاجتماعية والتي يتقاسم عبئها الرجل والمرأة على حد سواء،وتلاعب السلطوي بعواطف المجتمع من خلال ترديده لنظرية المؤامرة والاتجار بمفهوم الثورة والتضحية بالأفراد، هو ما يجعل أي مسعى وراء رد الظلم والحرب الخارجية هو بمثابة الجلوس طويل الأمد على كرسي السلطة وتحويل الشعوب لعبيد وخدم، والمعرفيين إلى مرتهنين أو معتقلين، لهذا لن يجدي الحديث عن تضحية فردية يقوم بها ثائر يسعى بعد ثورته ليكون سلطوياً رديئاً يتاجر بمبادئ ثورته، ليبرر عبرها استبداده واحتكاره العائلي لمقدرات البلد الذي ينتمي إليه..، هكذا يتم سلب الأمان والصفاء عن الفئة الشابة، لتكون إما نازحة أو وقوداً لمعارك سلطوية لا علاقة لها بمسوغات الدفاع عن البلد وأمنه من المخربين،حيث يسعى الفكر السلطوي والإيديولوجي لاختزال العالم على هيئة منتجعات وفق تعبير حليم يوسف، إلا أنه يفشل مراراً في هذا المسعى حينما يصطدم بوعي وليد مناهض لهذا التشويه الممنهج، حيث أن التصورات الحقة لا يمكنها أن تستسلم لسبات الوأد، وتثبت فعاليتها في صورة الصدام السافر الذي يأخذ شكل محاكمات وتساؤلات تعزز من مفهوم صراع الأضداد القائم، لهذا نجد الحديث عن العنف والغرائز هو ديدن المجتمعات المقموعة من قبل السلطة وعبيدها السعداء، وباتت خبزاً طازجاً يتم تناوله في كل وقت، حيث يكتسب المجتمع العنف، عبر ظروف الحصار الاقتصادي والتشتت الأسري الناجم عنه، وهي بذلك تصبح عاجزة مع الوقت عن مكافحته، فما بين وجوده كدافع باطني لدى الفرد وما بين اكتسابه كعرف وتقليد ناجم عن أطوار العزلة والتقوقع في مناخ من الرهبة والقلق النفسي، يكمن ذلك الجهل المحاصر شرائح المجتمع وفئاتها الشابة التي تعاني وتستغيث، وتنادي بالإنصاف على كل الصعد والميادين الحياتية، فيتحول الأفراد إلى ساديين ومازوشيين، إثر طفولة قاسية وحياة اقتصادية رديئة، تولد عند المرء شعوراً ممنهجاً بالتشاؤم والإحباط، ولعل رواية سوبارتو تزخر بذلك، حيث أن ترسخ العدائية على نحو قاتم يعطي شعوراً فظيعاً بالضياع، ولعل أنماط السذاجة والبدائية المتجلية تكشف عن تبلور العنف في تلك البيئة التي يعمد أفرادها إلى التوحش والتطبع بالقسوة والرغبة بالانفجار، حيث يستمتع المرء الأرعن بالقتل، وما أكثر مسوغاته إذ تتجلى دينياً وقومياً في كامل رقعة العالم النامي، والتي تتفشى فيها البطالة ونقص الغذاء والخدمات، وسوء التربية، الأمر الذي يجعل من العداء والانتقام قانوناً وعرفاً، على الرغم من أن المرء تخطى أطوار التوحش القديمة، إلا أنه ما يلبث أن يحافظ عليها لمزيد من السيطرة وتفخيخ العقول وتدمير الوجود، لأسباب تتعلق بالموارد الباطنية، فذاك الميل لتدمير الحياة، بات يهدد المستقبل البشري برمته، فما عمل عليه المعرفيين في كل أنحاء الوجود هو وقوفهم ضد الجهالة والخرافة وغريزة السلطويين في تدمير المكتسبات الفكرية والجمالية القائمة في روعة الكون الهندسي، فلا حاجة للحب في ظل منظومة تعج بالفوضى وتعاني ذلك الاستلاب والعجز المحاط بهالة الشعارات المتناقضة مع الفعل والسلوك، حيث يسود الكذب في كافة الميادين الحياتية، وتغدو العلاقات البشرية زائفة ومضللة، فكما يمس الكذب عالم الساسة المشبعين بالكلام والوعود،

حيث ينشغل الحالمون في ترتيب أرواحهم المنتهكة جراء تلك التشوهات التي تحاول النيل من انشغالهم بالصفاء، حيث ثمة خوف على النفس ومنها، ومن ذلك الآخر الذي يضمر بعكس ما يعلن، وعلى ذلك الآخر الذي لا يملك الوسيلة لحماية ذاته من هذا العالم، وهكذا فالخائف يحلم، ولا يملك وسائل قوية تجعله بمأمن من الغد، حيث تنشطر الأحلام على مسرح ضياع الحقوق، في ظل ذلك الاغتراب الكبير بين المرء وواقعه، ولعل المكر الايديولوجي المرتدي شعائر الاشتراكية والمساواة، بات ضلعاً في الجريمة المنظمة بحق المجتمع وفئته الشابة، فأن تتحول القناعات الطبيعية إلى مجرد أقاويل وخطابات رنانة، معناه أن الإنسان لا يملك سوى أن ينساق للاكتئاب والعزلة، مما يجعل من نفسه أسير حلقة مغلقة، وما حوله يعمدون إلى البطش والترهيب والتخوين، ليتسع الشرخ بين العائلة وبين الرجل والمرأة أكثر فأكثر، حيث لا تعاطف ولا وئام، إنما تأجيج مستدام، للعنف والتباعد الإنساني، وهذا يفسر الفساد والضياع بين الأفراد عبر مراحل نموهم وتطورهم، مما يكشف عن آثار العنف الديني تاريخياً على المجتمعات عبر تحكم السلطة بها، وبتأثيراتها على الفرد منذ ولادته وحتى فناءه، حيث يعمل الدين على مبدأ الوعد والوعيد، كما لعبت لاحقاً الأحزاب الشمولية على مبدأ الإستقامة أو الخيانة، وهكذا رعت على ذات النسق منظومة التجهيل والتلاعب بالحقوق والواجبات، من خلال التمسك بتقديس التعاليم والموت لأجلها، وكذلك حالة العداء المعلنة ضد الأفكار والمساعي الجديدة، كما هو الحال في الشرق الأوسط، كل منظومة سياسية وليدة، تهدم منجزات ما سبقتها في عقول مريديها وتلامذتها، بينما تقوم المنظومة المحافظة باتهام كل حركة وليدة خارج سياقها، بالخيانة والاتجار بالمبادئ، ولن نذكر أمثلة معينة بهذا الصدد، حرصاً على الفكرة التي نقوم بطرحها، والتي تبدو بالفعل رسائل لكل ذي فكر ناشئ، يبحث عن الموضوعية الحرة، إنما الأجدى هنا أن نربط ذلك الفساد والتحايل الإيديولوجي بالتربية والظروف التي طرأت على أنماطها، حيث يسقط مفهوم الطاعة والولاء الصوفي الأعمى، أمام سلوك تفجر كنتيجة عن ممارسة قمعية رافقت الأفراد منذ نشوئهم، إنه نمط الحياة القائم على الاستبداد والقسوة والتعسف، حيث نلحظ ميل الفئة الشابة لعوالم مضطربة تحرض فيهم الانفعال والكآبة والكبت، فما إشارة الجوع للجسد إلا تعبيراً عن إيجاد العزاء فيه كتعويض عن خيبة الأمل في الحب أو في الوصول لمجتمع أفضل ومستقبل واضح المعالم، فالخوف مهيمن في ذاكرة المجتمع، والعاطفة تتعرض للانتهاك على نحو مرعب، يشي بالمزيد من الألم والمأساة، ولا ينفصل التعبير عن التشاؤم إزاء الحالة السياسية عن غلالة الكآبة المنبعثة عن سذاجة الأفكار التي تتحكم بمصائر الشبان وتدفعهم دفعاً لمزالق اليأس والجنون، حيث للعنف صلة بمفهوم القضاء والقدر، والتسليم الأعمى بالخرافات الناجمة عن العوائد الدينية المتخمة بالعرف التقليدي، وكذلك تتحول المدارس إلى ساحات اعتقال، لا يتعلم منها الأطفال سوى المزيد من العنف والتجهيل، من خلال تدجينهم، وجعلهم مجرد آلات مبرمجة على تلاوة النشيد الوطني والحزبي كل صباح، ناهيك عن الخروقات التي يتعرض لها الأطفال في مدارس السلطة، من خلال تمجيد القائد واعتباه شبه إله على الأرض، كل ذلك جعل العقل أضحوكة، والفكر ألعوبة، والمستقبل سجناً دائري الشكل يفضي إلى العتمة حتى إشعار مجهول، فالعقل التلقيني الذي يجد في جسد الأنثى عزاء، حينما تصدمه خيبات الذات أمام يافطة التقاليد النفعية، دائماً يعبر عن سوادوية الحال وقتامة المشهد اليومي، وكذلك يبرر بؤس الحب والفلسفة عن تحقيقها للتمرد والانتفاضة المنظمة، مما تتعمق الغربة أكثر فأكثر،حيث يتغدى المجتمع من أقاويل الماضي المشحون بالخيبة والقصص الغريبة، ويغدو التعليم في جوهره تحايلاً على الوقت والذهن، فحين يغدو العنف خبزاً وشراباً للمجتمع، تصبح كل قناعاته مع الوقت أحزمة ناسفة بوجه التغيير والدمقرطة، نجد مجتمعاً جائعاً فلا يتردد عن خلق الفوضى أو السرقة بمبررات القيم الدينية وتحت مسماها، ليبرر جوعه من خلال شتى الوسائل، حيث أن تعابير الاحتقان والاستعداد الغريزي للعداء جعل من مجتمعات الشرق الأوسط بصورة خاصة فريسة سهلة لأي أجندة يتم استخدامها بهدف جني الموارد،  حيث القانون يستخدم ضد أمن المجتمع وليس لأجل تنظيمه، ليكون بمثابة الساحة الرحبة لممارسة الحقوق والواجبات، حيث ينمو التعصب إثر التشبث البغيض بمفهوم المقدس الغيبي، ليغدو السباق الأعمى لنيل وسام أفضل مرتهن، أو أفضل من يضاهي ثغاء الأغنام، نتيجة طبيعية عن ذلك الانغلاق الاجتماعي، حيث ذلك القهر المتصاعد في حياة المجتمع يحاكي في جوانبه ذلك التباعد الأسري، والانتماء لحامي حمى الجماعة، والمفكر نيابة عن قطيع كامل استغنى عن روح التفكر والتدبر لشؤونه،هنا تنشأ لدى المجتمع سلوكيات متصلبة تميل إلى الانفعال ومواجهة الفعل أو التحدي بردة فعل أكبر، حيث أن العقل المبرمج على مواكبة الفعل وردة الفعل، لا يجيد التفكير بمسائل أخرى، تتطلب تفرغاً ذهنياً مشبع بالصفاء والهدوء، لهذا نجد العنف قد تأصل في ذوات الأفراد، إثر خيباتهم المتلاحقة، ومعاناتهم التي تزداد، إثر ثقة متزعزعة بالنفس وبالقدرة على التغيير، في ظل التقاليد، الأسرة، العشيرة، الحزب، السلطة الحاكمة، فجميعها تضافرت كعوامل لبناء شخصية مغتربة منفعلة تعيش ليومها ومستقبلها الغامض، إذاً في ظل تلك العلائق المشوهة، التي تتخللها مشاعر اليأس والإحباط، لهذا نجد حتى مدعي العلمانية قد حافظوا على هذه الطقوس جزئياً، لتثبيت حكمهم للمجتمع وتحكمهم بذائقته وأسلوب حياته، حيث لم تعد المشكلة هي مسألة فصل الدين عن الدولة، بقدر ما هي تمثيل جوهري لها على أرض الواقع، وليس أي تبجح يخفي نقيضه، فالشعائر والإيديولوجيات التنويرية أضحت حبيسة صفحات الكتب، ومحاولة فهمها وتطبيقها على الأرض أضحى بمثابة الهدف الضائع، لهذا نجد الألم هنا مؤسساً على سلسلة العلاقات النفعية الغرائزية المتنافرة مع الحب والعيش الطبيعي، هكذا يتم عيش الأحاسيس في ظل منظومة تكافح التعددية لصالح بروز منهج الإبادة الثقافية وطمس الهويات، ويفسر ميل الشباب للجنس كتعبير عن سطوة المنظومة النفعية، وكذلك تمثل شكلاً من أشكال جلد الذات، وتفشي المراهقة السياسية، والأمية الإيديولوجية، والتي تعني بطبيعة الحال: سلوك الإيديولوجي منهجاً نفعياً يربي من خلالها ذائقته التقليدية المبنية على التقاليد الاستهلاكية، وولاءه المبطن لها، رغم ترفعه المزعوم عنها، بغية استمرار الفساد القيمي الذي تغلفه مصالح الآخرين الذين وجدوا في الحزب ميداناً يكفل الحفاظ على الامتيازات من منصب ووجاهة واعتبار.

إن شيوع الهوس بالجنس في المجتمعات المكبوتة،هو نتيجة طبيعية عن تلك العادات والتقاليد المبنية على الإجحاف بالرغبات الطبيعية والدوافع التي أهمل تنظيمها بسبب سلوك المؤسسات الاجتماعية المرتبطة بالسلطة، مذهباً رجعياً فاسداً، وكذلك تجاهلها لحاجات الشباب للعمل وتحقيق المستقبل المبني على الطموحات الفكرية والمهنية، مما جعل الميدان المعرفي ساحة للأمية والخواء، لهذا نعتقد أن التجديف في خضم أمواج الطبائع البشرية يعتبر أمراً مجدياً،فهناك صراع مستميت بين الذين يقومون بإعادة إنتاج المفاهيم التقليدية وضخها على نحو شاذ في روح المجتمع وبين آخرين بؤساء يحاولون ما أمكن الصمود في وجههم، وهؤلاء يعيشون حالة من التذبذب ورد الفعل، قياساً بمدى قدرتهم أم عدمها على المواجهة والتأثير، فحالات الخضوع والضعف البشري للمال واللهث وراء الانتفاع، أربك كل فعالية متوقدة تحاول الصمود بوجه الأزمات المتلاحقة، أبرز ذلك البون الشاسع بين المرأة وذاتها، كما الرجل وذاته، وقاد الفئة الشابة للمزيد من التخبط والانفعال، فالتقاليد الشمولية قادت القيم الطبيعية إلى استنزاف كامل، وجعل الفوضى هو المآل الخطر، حيث قادت ذكورية الرجل وتباهيه بفحولته العضوية إلى تحلل على صعيد المرأة، حيث يتمترس الرجل وراء حصن التقاليد والأعراف الماضوية، وتنغمس المرأة في عبادة الأقوى على نحو مرضي، مخلفة حالة من الانغلاق والاغتراب،فهنا نجد الشقاء والأسى كقدر ناتج عن طريقة التفكير، وسوء الأدوات، والمزاج المهيأ لاحتضان كل تربية خشنة وروح مزاجية تفتقر للتهذيب والتروي، وهذا نتاج مجتمع مستعد للعداء تلقائياً، نال قسطاً وفيراً من الضغط الاقتصادي والإبادة الثقافية، والانصهار على مدار عقود، لهذا نجد أن التغيير يمثل أهم تحدي بوجه تلك المفاهيم الضارة بالمجتمع وسلمه، نجد الغرق في الضياع والإحباط، وابتذال الحياة السياسية كما الاجتماعية،وكذلك فإن تصوير المعاناة واعتبارها محط إيحاء بالأفكار المتآخمة قرب بعضها البعض، حيث يمكننا على ضوء المأساة فهم التراجيديا الطبيعية التي يعيشها الإنسان في كل محطات حياته في ظل الجهل المغلف بالأصالة حيناً وبالعصرنة حيناً آخر، فعرض مظاهر الحياة البائسة وكذلك بؤس الفكر وتفكك الحياة الأسرية هو تجسيد دقيق لأزمات المجتمع ومؤسساته المتردية، حيث نكران الإنسان للآخر لأجل لأنانيته الهدامة، وكذلك انزواء المعايير الجمالية والأخلاقية في ركن قصي ومهمل، إلى جانب ترهل الفكر وتسطحه، حيث ركز الكاتب على النمط الدرامي المفعم بالمأساة ليعالج بذلك طرائق التفكير والمزاج العام للأفراد، وحالة التجهيل المتبعة والمغلفة بالقسوة التي يتلقاها الفرد إن في البيت أو في المدرسة أو مكان العمل، وكذلك يبين الالتزام الواقعي بمعضلات المجتمع الجانب الأكثر دلالة في خضم الواقع المعاش، فضياع الحقوق الإنسانية يمثل النقطة الأكثر احتجاجاً في مسار الرواية العام، وكذلك غرق الفئات الفقيرة بمستنقعات الجهالة وعطالة الفكر، والتباعد الأسري، إثر هذا الضغط الهائل على موارد الكسب والعمل، حيث أن بنية المجتمع تبدو هزيلة ومعرضة لأقصى درجات الفوضى والتبعية والانحلال، حيث تؤثر أساليب السلطة القمعية على نمط حياة المجتمع وتمهد لمرحلة ما إلى حدوث أزمات داخلية في أوساطه، لهذا فغياب التنمية والعدالة، هو مؤشر خطير لبروز أزمات تودي بالمجتمعات إلى نفق مظلم، إنها الفوضى بكل أشكالها ونتائجها وتشعباتها، إثر غياب الحريات، وتفشي الفساد، ومحاصرة الإنسان في كل مناحي حياته ومحاربته في قوته ولقمة عيشه، كل ذلك سبب التباعد الأسري، والتفكك الاجتماعي، وأعطى بوادر للانقسام والفوضى والحرب الأهلية، حيث قادت المصالح الفئوية الناس كعبيد في ميادين الحياة، وجعلت الحركة الفكرية تتعطل، لتصبح الحياة ضرباً من الرغب والخشية المستمرة من المستقبل، حيث بغياب الإصلاح والفكر والمعرفيين الساعين لتنظيم حركة الحياة وإعادتها لطبيعتها، تنعدم أفق الحل، وتتلاشى المكتسبات الطبيعية، ويصبح الإنقسام على أشده، لاغياً حالة التآلف الطبيعي، إثر ضرب منظومة القوانين التي تكفل للإنسان حياة أفضل، وأكثر أماناً وديمقراطية،وبهذا نبين مغزى كفاح المعرفيين الشاق في ظل مطارق الفساد والقمع الذي هوت على رؤوس يقظة، تعمل على إذابة الجهل عبر إصرارها على الحياة الطبيعية والحب الحقيقي، لم يكن التداوي بالجنس هو الحل الأمثل، بل كان سبيلاً لمعرفة حجم هالة الاغتراب والضياع.

 

ريبر هبون

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم