صحيفة المثقف

"شـــيء مـــن الذاكــرة" للشاعرة ابتسام الخميري

1083 الشاعرةالشعر هذي الأكوان الضاجة بما هي ألوان الذكرى.. أو بشيء منها..

الشعر.. هذا الآخذ بالدواخل والشواسع يقتحم الوجود بالأمكنة والتفاصيل والعناصر وهي تنحت ظلالها قولا بالكينونة وتقصدا لرسم ذات كما بدت لتصير كما يرام لها.. الشعر في هذا المعترك يبتكر ازميله ومعاوله وخيال كائناته في هذا الكمال  مفتوح والمتراكم من المعاني والكلمات متعددة الدلالات والمرامي..

  ثمة نهر من الحنين.. ثمة أمنيات جمة.. ثمة ذاكرة تملي كنهها على الشاعر تدعوه للأخذ بناصيتها طوها وكرها.. كتابة ومحوا.. ونظرا ونسيانا..

الذاكرة من الألوان المؤثرة في الشهر .. في الكتابة عموما باعتبار ما تحمله في كونها الجزء الهام في مكونات الذات في علاقاتها بالآخرين .. ومنهم حضرة السيد الزمن..

زمن وأزمنة تنحت أفعالها في اليومي المتراكم الذي تتغذى منه اللحظة الابداعية.. ومنها لحظة الكتابة..

ماذا تفعل الذات الشاعرة تجاه الذاكرة كمعطى ثقافي شعري بالأساس.. كيف تقيم القصيدة علاقاتها مع السيدة الذاكرة وهي تنكتب ..

الشعر والذاكرة.. هذا ما يقودنا الى طرحه وتذكر أسئلته الديوان الشعري الصادر مؤخرا بالقاهرة ..في هذه الرحلة المفتوحة على الكتابة والمفتونة بها منذ كتابها الأول " غواية السكين "..

هذا الديوان هو للشاعرة المجتهدة والاعلامية وعنوانه " شيء من الذاكرة " وفي حوالي 95 صفحة من القطع المتوسط وعن دار الأديب للنشر والتوزيع بالقاهرة.. الشاعرة ابتسام الخميري ضمنت في عملها الشعري هذا أكثر من ثلاثين قصيدة بين النثري والحر والعمودي ومن القصائد نذكر " شيء من الذاكرة " و" ارهاصات الزمن الآفل " و" لذة الاشتهاء " و" الأفعى الغربة " و" تراتيل الوجد الآبق " و" حديث إلى والدي" و" ربما " و" على سطر الحياة " و" على قارعة المصير " و" لست أغار" / و" ولي صور أخرى " و" اجهاض على رخام العشق " و" المساء الأخير " و" إلى عليسه " و" انبهار الأريج و" و" بوابات أخرى.. للحياة و" عبق الحياة " و" فلنغني للحياة " و" همس الاشتياق " و" مرافئ الوجد " و" نداء وعوي " و" إلى درة في الوجود " و" أهيم بوجدي " ..

قصائد تمضي الى الحال فيحلها وترحالها.. في تشظيها الراهن تقول بالذاكرة على سبيل السلوى وهنا تتداخل تلوينات الشجن بالحلم والرومانطيقية والألم المعطر بالأمل .. وهكذا.. هي فوضى العوالم تبتكر كلماتها في شيئ من هدوء القصائد الضاجة بالذات الشاعرة وهي تنشد خلاصها الشعري وبالكتابة وشؤونها وشجونها..

في هذا السياق نذكر قولة "بورخيس" في كون (الذاكرة ليست مجموعا، إنها فوضى بإمكانات لا نهائية).. وفي حيز من هذه العلاقة بين الشعر والذاكرة يقول الشاعر المغربي رشيد المومني في مداخلة له عن "الشعر والذاكرة في تفكيك الملتبس " والتي نشرت بصحيفة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 06 - 06 – 2014 " .. اشتغال كل من الشعر والذاكرة على أرضية استراتيجية مشتركة، تهدف إلى التخفيف من حدة العنف الوجودي والميتولوجي الناتج عن ذلك المحو المادي والرمزي الذي تمارسه وبإتقان تام آلة الزمن على الكائن، من خلال ميلهما معا -كل بطريقته الخاصة-إلى إنتاج زمن مغاير، معزز بديناميته وحركيته، ومهيإ للديمومة، بفعل قابليته للاستعادة والمعايشة المتجددة، والمستندة على تملكه المضاعف لسلطتي التذكر والتخييل، بخلاف الزمن الطبيعي المتسم بصيرورة منذورة إلى زوالها في قلب منافي اللاعودة، التي هي المقابل الموضوعي لمدافن الماضي ، الشيء الذي يمنحنا الحق في القول إن زمن الذاكرة المستعاد، ومعه زمن الشعر، هما السكن الرمزي الذي تطمئن إليه الذات، كشكل من أشكال تسييج كينونتها وحمايتها من الفقد الجارف الذي يهدر به مجرى الزمن الطبيعي. وهي شبه قناعة تجعلنا نحسم باستحالة مقاربة كل من الشعر والذاكرة خارج مقولات الزمن ومنظوماته المتعددة.. في السياق ذاته ، تجب الإشارة إلى حضور مسارين متقابلين، يمتد أحدهما من الشعر إلى الذاكرة التي تتكفل بضمان بقائه واستمراريته استنادا على عامل التجميع والتوثيق والتأريخ والتصنيف والتقييم، فيما يمتد المسار الثاني من الذاكرة إلى الشعر، حيث تتحقق عبره لعبة الإبداع الشعري التي تعتبر الذاكرة إحدى مصادرها الملتبسة، وإحدى أهم روافدها الأساسية المؤثرة في توفير إواليات وجودها وكينونتها. وفي كلا المسارين، تأخذ الذاكرة شكل وسيط يقود الشعر إلى تلك الإقامة الآمنة التي تضمن له إمكانية حفظ ما تراكم لديه من ودائع قد تكون عرضة لضياعها، سواء في حالة غياب الدليل، أو في حالة ضياع المكان ذاته. كما تكون الذاكرة ذاتها، دليلَ كل شعر متوجس من قلق التيه إلى بوابة نجاته المحتجبة في مكان ما بخلفية ليل الغابة. في ضوء هذه الاحتمالات ربما، يكون استدعاء الذاكرة مطلبا حتميا، ( ....) ذاكرة تجدد ذاتها بفتنة النسيان والفراغ والمحو والصمت أيضا. وليس ذاكرة معلبة مغلقة مستبدة بشلل الكائنات المتراكمة في دهاليزها القوطية البناء. أيضا يمكن القول، في لحظة الكتابة، تختفي الذات دون أن تنمحي طبعا ، كما تختفي الذاكرة، الجسد والزمن، ولا يبقى هناك سوى تلك اليد الثالثة، التي تتخبط على بياض صفحة ممسوسة، بقسوة النسيان ولذته، أو هكذا يخيل لي..."

من هنا نجد هذه الخصوصيات في العلاقة بين الشعر والذاكرة والتي يهم كل شاعر النظر اليها من زاويته الكتابية الخاصة حيث ذهبت الشاعرة ابتسام الخميري في هذه المجموهة التي نحن يصددها الى قول الذات وهي تفيد من ذاكرتها وفق كتابة شعرية تتنفس الحاضر بتفاصيله تبتكر له ذاكرته الآنية..هموم الكائن وأوجاع الوطن والحلم المتعثر الآن وهنا ..

من ذاكرة السنين الى راهن الذاكرة حيث البحث في الدروب بين العناصر والتفاصيل

في قصيدة "شيء من الذاكرة "تقول:

 " انتظرت ..

منذ آلاف السنين

والعمر يمضي

كسحابة وقت الهجير

هي

غيمة كانت هنا..

منذ آلاف السنين

...

و بحثت ..

بين أعشاش الطيور

بين أشجار الرياحين

وبين الجبال والسدود..

وصرخت

من رأى حلمي الوحيد

ها هنا.. كان يغني للحياة

ها هنا.. كان يرقص... "

في هذا العنفوان من الألم الكوني والقلق الانساني في كون متحول وعولمة شرسة تتهدد الالكائن في ألفته وهدوئه وألوان خصوصباته وصوره الأخرى تمضي الشاعرة في قصائدها ديدنها نحت هيئات أخرى للأمل والحرية وممكنات المجد الانساني الوجداني لتنبثق الأغنيات من دروب القلق .. تقول الشاعرة الخميري في قصيدة "و لي صور أخرى"

".. كلما رقصت

أنبش جراحي

و تضيع أعنياتي..

.....

كلما أمطرت

تساقطت آلامي

وارتسمت آهاتي..

على ثوب القلق.."

هي الشاعرة تنبش في ذاكرة الوقت تعلن مسراتها ة آلامها وفي هذا الراهن تستعيد شيئا من الأمنية والأغنية بين ثنايا الجمال والرقص والحلم..تبتكر أسماء دروبها وهي تخاطب عليسة.. في قصيدة " الى عليسة" تقول الشاعرة ابتسام الخميري

"...أنت

جمال البقاء.. ورقص الخواء

وبرد ينز بحلمي..بدربي

وأنت الغناء.."

" شيء من الذاكرة "..القصائد بعين القلب ووجدان الحال.. فنحن ازاء عمل هو بمثابة الكون الشعري لذات شاعرة تسافر في الدواخل والشواسع بالكلمات تبتكر وفقها ايقاعها لتأخذنا طوعا وكرها الى شجنها ونواحها الخافت وهي تواصل طريقها المحفوفة بالشعر وقلقه الدائم حيث لا يقنع الشاعر بغير البحث ونشدان التجدد تقصدا لحياة تتجدد.. مع كل صباح..

كلما أمطرت / تساقطت آلامي / وارتسمت آهاتي / على ثوب القلق.. فعلا هي صور أخرى من الشعر المسكون بالشجن والذكرى.. الشعر هذي الأكوان الضاجة بما هي ألوان الذكرى .. أو بشيء منها..من الذكرى.. تجربة صادقة مميزة حيث الشعر هذا الترجمان النادر تجاه العناصر والأشياء يحاورها الشاعر ويحاولها نحتا للهبوب والخلاص في كون مربك يطلب فيما يطلب شيئا من الذاكرة على سبيل العزاء والسلوى... الحلم.. نعم الحلم ديدن الشاعر في حله وترحاله الملونين بالىه والشجن المبين.. مرحى للقصائد تكتب الذات بل تدعوها للأمل والانطلاق الجديد ولا مجال لغير الحلم الدفين المتجدد وللذكرى..

 

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم