صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي بين احتلالين (7)

الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم: اسباب ونتائج الخلاف والصراع

لقد استفز مطلب مشاركة الحزب الشيوعي بالحكم عبد الكريم قاسم. وهو مطلب مشروع بحد ذاته. وبالتالي، كيف كان يمكن توقع موقفه من شعار إسقاطه؟ فقد كان لهذه القضية أبعادا ومداخلات عديدة متشابكة تتعلق بموقف التيار القاسمي من السلطة والجماهير، وموقف التيار القومي وإمكانية تحالفه مع التيار القاسمي، وموقف مرجعية النجف من استلام الحزب الشيوعي للحكم في العراق، وموقف إيران وتركيا والسعودية والأردن، وموقف القوى الإمبريالية وشركات النفط.

بعبارة اخرى، لقد كان لهذه اللقضية أبعاد عديدة. غير أن الأمور قد جرت بطريقة أخرى. وإذا كان بإمكان زمرة مغامرة من القضاء على الحكم الوطني المتذبذب والتحكم بالسلطة من خلال انقلابات عديدة داخلها لعقود طويلة من الزمن، فإن الحلول كانت فيما يبدو أسهل بكثير بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي لو أن قادته كانت تتمتع بإرادة مستقلة وحازمة ومتنورة بمشروع وطني يتخطى خلل ونواقص الحكم القاسمي.

لقد تخوف قادة الحزب بعد الهزيمة التاريخية عام 1963، وبالأخص بعد عام 1967، مما اسموه بالحرب الأهلية المحتملة. وهو تخوف يعكس خوف القادة من مواجهة التحديات المصيرية آنذاك وليس مخاوف الواقع كما هو. فقيمة الحزب الثوري، بل كل حزب سياسي، تقوم أولا وقبل كل شيئ في شكيمة الإرادة والعمل بمعاييرها من أجل تحقيق مشروعه السياسي التاريخي. فحتى في حال احتمال نشوب حرب أهلية، فإن من المتوقع أيضا أن تكون نتائجها لصالح الحزب والشعب. فهي أفضل من مجزرة شباط لعام 1963 التي اختارت فيها قوى الردة تفجيرها في وقت وظرف ملائم لها. فقد كان بإمكان الحزب الشيوعي أن يطالب بإنهاء المرحلة الانتقالية وكتابة الدستور الدائم، وكذلك الاستعداد لكل التطورات والاحتمالات. إلا أن إرادة الحزب نتيجة وضعه القيادي والموقف السوفيتي حالت دون ذلك. مما أدى إلى أن يدفع الحزب والعراق ثمناً باهضاً. فعندما نتأمل الواقع وأحداثه ومجرياته وقواه الفاعلة نتوصل إلى أن تلك الفترة كانت من أفضل الفترات في تاريخ الحزب لاستلام الحكم. وعند تحليلها بعمق نجد فيها أيضا الكثير من المخاطر. كما أن فيها الكثير من الإمكانيات الناجحة. وفن وعلم اختيار القرار الذي يراعي مختلف الأطراف والظروف والأسباب والنتائج والاحتمالات ضروري جداً.

فما هو يا ترى موقف مختلف القوى الداخلية والخارجية في حال استلام الشيوعيين للحكم في العراق خلال أعوام 1959-1960؟ وما هي خطط الشيوعيين في مواجهة مختلف المؤامرات ضد الجمهورية؟ وما هي مواقفهم وآرائهم تجاه مختلف احتمالات التطورات العراقية؟

كان الوضع العراقي آنذاك يفرض ويتطلب من الحزب اليقظة والحذر والاستعداد لمختلف الاحتمالات. بمعنى انه كان يتطلب الحصول على معلومات أمنية واستخبارية. وكان الحزب قادرا آنذاك بالفعل على توفيرها. كما كانت تتوفر إمكانية وجود قوة حزبية مسلحة على الأقل في بغداد لمواجهة مختلف الاحتمالات ولصيانة إمكانيات الحزب الهائلة. إضافة إلى الاستعداد الحزبي في مختلف المحافظات العراقية تجاه مختلف التطورات والاحتمالات التي كان يحملها الوضع العراقي. بينما جرى إهمال إمكانيات الحزب الهائلة التي كانت حصيلتها الكارثة الكبرى لعام 1963. لم تكن هذه النتيجة الكارثية معزولة عن تأثر الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي حول خططه في مواجهة مختلف تطورات الوضع العراقي.

إن ما حدث في العراق من سقوط مريع للجمهورية يتحمله بصورة كبيرة موقف عبد الكريم قاسم. إضافة إلى الحالة السياسية القانونية والدستورية. ففي حال إرساء أسس الدولة الدستورية القانونية كان بإمكان الانتخابات أن تؤدي لحالة ووضع دستوري قانوني للحزب الشيوعي في الحكم والدولة. ومن ثم ينهي فردية عبد الكريم قاسم في الحكم.

وفي كلتا الحالتين اليمينية واليسارية في الحزب الشيوعي كانت هناك خلفية فكرية سياسية خاصة بكل منهما. فقد كانت قيادات الحزب في مختلف المراحل تفتقد للخلفية الفكرية النظرية والعملية التاريخية الواسعة. وهذا ما ينعكس في فهمها ومواقفها. لقد اخفقت قيادة الحزب الشيوعي في تنظيم أمكانياتها الكبيرة لمواجهة مختلف التطورات والاحتمالات العديدة في مسار العملية السياسية في العراق. وكان أحد اكثر الشعارات دويا في سماء العراق السياسية يقول "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" (أي لا يمكن لمؤامرة أن تنجح وحبال المشانق بيد الشعب). لكن الأحداث أظهرت انه لا حبال ولا خطة لمواجهة أية مؤامرة. وبالتالي لم يكن هذا الشعار أكثر من عبارة مخدّرة للوعي الاجتماعي السياسي. إذ كشفت الأحداث انه لا وجود لأية خطة في مواجهة المؤامرات.

فمنذ أواخر شهر أيار عام 1959 أخذ الحزب يتخذ مواقف لينة تجاه عبد الكريم قاسم. في حين كان عبد الكريم قاسم يرسم خطته للمستقبل. في حين اخذت إمكانيات الردة بالنمو، بينما كان الحزب يفقد الجرأة على المواجهة. وهي مقدمات الهزيمة. فوفقاً لحنا بطاطو كان عبد الكريم قاسم يعتقد أن تصفية الشيوعيين هي مقدمة تصفيته من قبل "القوميين". وإن دفع الشيوعيين نحو التشدد يمكن أن يؤدي إلى إسقاطه. وكانت أحداث كركوك ايام الرابع عشر- السادس عشر من تموز عام 1959 جريمة كردية ضد التركمان باسم الشيوعيين. وقد كان ذلك اول استغلال كردي للحزب الشيوعي العراقي لأهداف قومية ضيقة. كما أنها أول جريمة يقترفها الأكراد تحت واجهة الحزب الشيوعي العراقي. في حين تخاذلت قيادة الحزب وانقسمت في مواقفها من جريمة الأكراد بحق التركمان تحت عباءة الحزب الشيوعي العراقي.

ووجد المسار الجديد في تطور الأحداث في العراق آنذاك انعكاسه في نتائج الاجتماع الكامل للجنة المركزية في تموز عام 1959. ويمكن تلخيص نتائج هذا الاجتماع بما يلي:

- تشجع عبد الكريم قاسم في الاستمرار في نهجه المعادي للحزب الشيوعي، اعتقادا منه بأن ضغطه على الحزب له جدواه. ومن ثم لابد من الاستمرار في هذا النهج وتوسيعه.

- قتل روح الجرأة عند الرفاق وأنصارهم في مواجهة معاداة الشيوعيين.

- إصابة الحزب بالتردد. ومن ثم كان خطوة في مسار التراجع الذي انتهى بانكساره وهزيمته التاريخية عام 1963.

وفيما يبدو أن سلام عادل أصيب بالتردد نتيجة الصراع مع التكتل الرباعي. فبعد رفض عبد الكريم قاسم مشاركة الحزب في الحكم كان يجب طرح مسالة ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية والدستور المؤقت. بمعنى العمل من اجل تنظيم الحياة السياسية الحزبية تحضيراً لانتخاب جمعية تأسيسية تسن دستور دائم للبلاد. بينما كان عبد الكريم قاسم يرفض مشاركة الحزب في الحكم، كما رفض إنهاء المرحلة الانتقالية وتنظيم الحياة السياسية الحزبية الديمقراطية بإجازة الأحزاب السياسية. وعندما تكلم عن هذه القضايا في وقت لاحق، فقد تبين انه لم يكن جاداً. وأنه كان يهدف لكسب الوقت والتحضير لخطوات لاحقة.

وقد تناول كل من عزيز سباهي وجاسم الحلواني في دراستهما عن (عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) إشكالية العوائق الأيديولوجية القائمة أمام إمكانية البديل السياسي في تلك المرحلة. حيث نراهما يعتبران المواقف الأيديولوجية للحركة الشيوعية العالمية المعارضة لتلك البدائل الممكنة والضرورية هي نتاج فهم قاصر، أو أنها نتيجة تعميمات غير صحيحة. أما في الواقع، فإن ضعف الإمكانيات الفكرية والسياسية لدى قيادات الحزب إلى جانب التكتل الرباعي هي الأسباب الأساسية التي عرقلت وأعاقت وحطمت إمكانية البديل آنذاك.

وليس مصادفة أن يقول دالاس عن زمن 1959، بأن العراق أخطر ما في عالم اليوم وذلك بسبب النفوذ الهائل للحزب الشيوعي. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن نجاح اغتيال عبد الكريم قاسم كان يمكن أن يؤدي إلى تسلم الحزب الشيوعي العراقي للسلطة. الأمر الذي يشير إلى غباء من خطط لاغتياله الفاشل. فقد كان الحزب الشيوعي قوة ضاربة في الجيش وبالأخص في الفرقة الأولى المسئولة عن البصرة والناصرية والديوانية. وكذلك في الفرقة الثانية والثالثة والرابعة. كما انه كان يتمتع بهيمنة شبه تامة في القوة الجوية، إضافة إلى قوته الحاسمة بين الجماهير وفي المقاومة الشعبية وفي قاعدته الحزبية. وضمن هذا السياق يمكننا الوصول إلى استنتاج دقيق يقول، بأن كفّ القوى الداخلية والخارجية المعادية للجمهورية والثورة عن اغتيال عبد الكريم قاسم والانتقال الى أسلوب المؤامرة الانقلابية يعكس حنكة القوى الامبريالية (الأمريكية بشكل خاص). فعندما يصرح رئيس المخابرات الأمريكية عن أن العراق هو البلد الأخطر آنذاك، فذلك يعني بأن الانقلاب الذي جرى عام 1963 بمخطط امريكي وبريطاني (شركات النفط البريطانية بشكل خاص) كان يدرك خطورة الاغتيال الفردي للزعيم عبد الكريم. وذلك لأن قتله الفردي سيؤدي بالضرورة، كما أشرت أعلاه، إلى انتقال الحكم للشيوعيين. من هنا أصبح الانقلاب الكامل بقتل شخصيات الجمهورية والثورة والشيوعيين هو الأسلوب الوحيد للقضاء على النظام الجمهوري وقواه الحية آنذاك.

لهذا يمكن فهم قول آلن دالاس مدير المخابرات المركزية الأمريكية في وصفه للوضع في العراق في منتصف عام 1959 بأنه أخطر ما في عالم اليوم. كما يشير حنا بطاطو في كتابه إلى أن عبد الكريم قاسم قد شاهد وتوصل إلى أن الحزب الشيوعي هو بديله الفعلي والجاهز في حال نجاح محاولة اغتياله. وهذا كان واضحاً بالنسبة للجميع. وكان هذا أيضا سبباً في تأجيل محاولة اغتيال قاسم أكثر من مرة. وذلك لأن من كان يخطط لاغتياله توصل إلى تقدير دقيق عن أن مقتل الزعيم يصب في مصلحة الحزب الشيوعي.

أما عبد الكريم قاسم فقد اخذ بمواجهة الحزب الشيوعي بصورة واضحة عندما رفض طلب إجازة الحزب الشيوعي. ففي كانون الثاني عام 1960 جرى رفض إجازة الحزب الشيوعي ضمن خطة شخصية لعبد الكريم قاسم نفسه. انه بدأ يلعب بالنار في ظل وقت كانت ملامح الموت البطيء تختبئ في كل جوانح قادة الحزب الشيوعي. بينما كانت إجازته وإجازة كل الأحزاب السياسية مهمة وطنية خالصة من اجل تأسيس حياة سياسية ديمقراطية. ومن ثم انتخاب جمعية تأسيسية لسن دستور دائم للبلاد. مع ما كان يترتب عليها من صنع دولة دستورية قانونية تصون الجمهورية وعبد الكريم قاسم نفسه والحزب الشيوعي والشعب العراقي. وبالتالي كان بإمكانها اختصار أو شبه إلغاء لمآسي العراق اللاحقة. كما كان بإمكانها تقديم نموذج متميز في العالم العربي آنذاك. إلا أن عبد الكريم قاسم لم يكن جاداً في ذلك. وإنما كان يهدف لكسب مزيد من الوقت لإيجاد مخرج ما. لكنه اخطأ في ذلك ففشل. إذ لا وقت كان يمكن توفيره آنذاك. فعدم إجازة الأحزاب السياسية والقيام بانتخابات لجمعية تأسيسية تؤسس لدولة دستورية قانونية قد أدى إلى استمرار الوضع المتأزم كما هو حتى انهيار وهزيمة عبد الكريم قاسم والجمهورية. وبذلك ذهب هدراً الوقت الذي أراد عبد الكريم قاسم كسبه. مما يظهر عجزه عن إيجاد مخرج وفقاً لرؤيته وأهدافه الشخصية. ففضل الاستسلام لعبد السلام عارف على المقاومة وتسليح الشعب. لكن الغريب كيف طاوعه في ذلك عباس المهداوي وطه الشيخ احمد وغيرهم من الضباط الشجعان في ذلك الوقت؟ وانتهت مسيرة عبد الكريم قاسم بهذا الصدد بمسرحية سمجة أجاز فيها بعض الأحزاب السياسية، بينما منع منها أهم وأكبر حزب سياسي عراقي وهو الحزب الشيوعي. وهي مفارقة عجيبة وغريبة. لكنها واقعية ومخزية! إنها تعكس عنجهية عبد الكريم قاسم وتنكره للواقع وإنكاره إياه. الأمر الذي يشير إلى أن عبد الكريم قاسم لم يكن يفكر بإنهاء المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة للشعب. لأن ذلك كان يؤدي بالضرورة حينذاك إلى فوز الحزب الشيوعي ومن ثم وصوله إلى الحكم بطريقة شرعية وديمقراطية.(يتبع....)

***

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم