صحيفة المثقف

متاهات العلاقات الأخوية

رشيدة الركيكعادة نتكلم عن الأسر كمجال للتماسك الاجتماعي وعن العلاقة بين الأزواج وما يشوبها من طلاق أو تفكك أو هجران، لكننا اليوم من خلال الواقع اليومي نشعر بضرورة وأهمية إثارة موضوع له وزنه في مجال العلاقات الأسرية قلما ننتبه له وهو العلاقة بين الأخوة، وربما قد يكون سببا أساسيا في انحلال الأسر.

لن نختلف أن الأخوة من أرق العلاقات وأقواها وأقدرها على البقاء ومواجهة الصعاب يدا بيد، هي إذن صمام الأمان الذي  يحمي الأفراد من أي تفكك وتؤمن مصالحهم.

هذا التواجد  أكيد ما يجعل الشخص يشعر بالسند والامتداد الاجتماعي،بحيث أن وجود إخوة معناه وجود عم أو خال لأبنائي.

 أكيد أننا كإخوة  نتشارك الهوية والإنتماء من خلال الإسم العائلي وشجرة العائلة، كما نتشارك الممتلكات وحب الوالدين والأحداث في شكل ذاكرة أسرية . لكنها علاقة لا تخلو من الصراع  والشجار تصل لحد الغيرة  قد يليها التباعد أو الجفاء والنفور. ليتراكم الجليد وتتجمد المشاعر من كثرة البرودة داخل الأسرة  فتختفي معالم الأخوة والتصافي.

فما أساس تفشي ظاهرة الصراع بين الإخوة وانتشار التفكك الأخوي؟ لماذا يهجر الإخوة بعضهم البعض في شكل قطيعة؟

هل الحياة المادية والعلاقات البراغماتية طغت على علاقاتنا الأسرية، وأدت إلى البحث عن أصدقاء بعد هجران الأقرباء؟

إنها المرجعية الأسرية المشتركة والدلالات ومختلف التمثلات. لقد ارتوينا من نفس المياه ونبتنا في نفس التربة، ومع ذلك فهذا لا يعني أننا صورة متكررة لبعضنا.

 وإن كنا نعيش نفس الأحداث فإننا لا نفهمها بنفس الطريقة لأن كل واحد له حساسيته المختلفة تعكس حالاته المزاجية الخاصة وقاموس حياتي متفرد.

الحقيقة أن كل مجال للتشارك هو أكيد مجال خلاف واختلاف، بل هو أيضا مجال أخذ ورد. إنه مجال مشادات يتطور ليصبح مجال صراع، مما يؤدي إلى التباعد بعد كل محاولات تقارب. فكيف تتأسس العلاقات الأخوية منذ الطفولة؟ وهل تتخذ مظاهر أخرى عند الكبر مترجمة خبرة ومرحلة طفولية سابقة؟

حقيقة من المنظور التربوي نقول يكفيني الشعور بالأمان ليكون للأخ وجود ما يبرره، إنه الوجود الذي يخرجني من تمركزي حول ذاتي والخروج من مشاعري الإنعزالية.

من خلاله نتعلم التعاون والتشارك،تدرك الذات أن وجودها يكاد يكون لاغيا بدون هذا الانفتاح.

غير أن هذا الوجود تتخلله أكيد لحظات من المشادات منذ الطفولة المبكرة، وتنمو شخصيتنا في ظل هذا الأخذ والرد ومراجعة للذات بشكل يومي من خلال مواقف مختلفة تعدّهم لتحديات الحياة المستقبلية. إذ لاشك أن كل مشكل يشكل أزمة بالنسبة لكل شخصية. والأكيد أن كل أزمة كما أكد علماء النفس تقتضي وضع تصور لها من أجل حلها، وبالتالي فإن كل صراع سيمنح للفرد  فرصة لإغناء شخصيته، بل إنه يساهم  في تثبيت الأنا بلغة مدرسة التحليل النفسي.

عموما يتمظهر الصراع بين الإخوة في البداية بشكل جسدي بالتطاول على بعضهم بالضرب أو الاتهامات المزعجة،والدعاء بالسوء فتسطر الألقاب داخل الأسرة. ومع ذلك يبقى الشجار ضرورة له ما يبرره في حياة الفرد السيكولوجية.

 فالأسرة من حيث أنها النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية فإنها مجال لتلقين المهارات الحياتية كمهارة التفاوض الناجح، ومهارة التواصل باستعمال اللغة بدل العنف  اللفظي والبدني، بل إن الطفل يتعلم كيف يدافع عن نفسه وعن موقفه. يتعلم أن الوجود الاجتماعي هو مجال الاختلاف الذي لا يعني ضرورة وجود الخلاف.

يتذوق الطفل طعم الشعور بالانتصار ويعرف معنى تقبل الهزيمة وفي ذلك مناعة سيكولوجية على اعتبار أن الإحباط مهم في التوازن النفسي والاجتماعي، بل إنه يدرك ضرورة تغيير أسلوبه في التعامل  والتنازل في بعض الأحيان من أجل التكيف السليم مع العالم الخارجي. وكأن الأخوة مدرسة أو قناة تعبر من خلالها مبادئ التواجد الاجتماعي الإيجابي بالتدرب على مهارة النقد والتقييم الذاتي وفي ذلك تطوير لقدرات الفرد وتنمية لملكاته.

 لكن متى يصبح وجود الأخ يشكل تهديدا لوجودي أنا، ومصدر قهر وتدمر تكون أرضية خصبة لعلاقات مستقبلية متوترة، بل وقطيعة تتفجر في شكل أزمة علائقية عائلية؟

ألا يمكن أن يكون التدخل غير السليم للآباء سببا في حدوث تنافر وجفاء في المستقبل؟

 مما لاشك فيه تلعب الظروف في تحديد أية علاقة سواء بين الأبناء مع بعضهم البعض أو بين الأبناء والآباء، وتتأسس روابط لها ما يبررها: كحالة معاناة الإبن من مرض يكون تعاطف الوالدين معه والاهتمام الزائد به أمرا طبيعيا...وتتعدد القصص بتعدد الحالات.

ويبقى السؤال المشروع: هل يمكن أن نحقق هذا التوازن في التعامل مع الأبناء دائما؟

 ألا يمكن أن نتكلم عن حظ البعض دون الآخر، أو ربما قدرة أحد الأبناء على استمالة الآباء والإستفراد بحبهم الزائد والدفع بالآخر في الهامش، لاغيا وجوده متجاهلا حقوقه وأحاسيسه؟

سننطلق من كون أن كل فئة عمرية أكيد لها متطلباتها وحاجاتها السيكولوجية، ويبقى تباعد السن بين الإخوة قد يشكل أحد أسباب الصراع، فهذا طفل صغير يتم التغاضي عن زلاته وتجاوزها، وفي المقابل التدقيق في كل ما يفعله الكبير، وكأن معايير السلوك تتخذ أشكالا وتزركش بألوان لتبرير السلوك وتقبله.

 ولكن ثم ولكن سيكبر هذا الصغير وستكبر امتيازاته لتصبح حقا مشروعا، فيعتاد كلا الطرفين على هذا الوضع: لقد اعتاد الأول على التضحية بينما اعتاد الآخر على أي الأخذ سواء كان ماديا أو معنويا.

وهكذا فمثلما يتم التمييز بين الإخوة على أساس السن أيضا يتم التمييز بينهم على أساس الجنس أو من هو أكثر جمالا أو ذكاء... والواقع كما أكد فرويد رائد مدرسة التحليل النفسي الأمور لا تنسى ولكن تكبت، ويبقى المكبوت ينتظر الأحداث والأشخاص ليظهر من جديد، ولكن بصورة أقوى من الماضي بفعل التراكمات التي حفرت طريق التذمر وكل المشاعر السلبية منذ الطفولة .

و أمام هذا التفاوت في الإمكانات والمهارات بين الأبناء، قد يتدخل الآباء في الصراع فيرى فيه أحد الطرفين تحيزا والذي يعني الحب الزائد للطرف الآخر، وبفعل التكرار تتولد مشاعر السلبية من بغض وحسد وكراهية كمشاعر مدفونة في أعماق الطفولة، نجد لها صيتا عند الراشد لينطق الطفل بلغة الراشد، فتطفو تلك المشاعر وتظهر العداوة والقطيعة بين أسر الإخوة الذين أصبحوا أباء اليوم، ليمتد الوضع على مستوى الأجيال.

والحاصل أننا نعيش أحاسيس ترسخت بفعل التكرار، لتكرس معانات حقيقية تنتقل لأبناء لا ذنب لهم سوى هذا الإنتماء، وربما عليهم أن يتكلموا باسم ماض لم يعيشوه لتتوتر العلاقات من جديد، فتصبح تاريخا أسريا كل يتكلم عنه من أرشيفه الخاص، ويجتره بأحاسيسه العميقة كجزء منه لا يستطيع نكرانه.

ومهما يكن الحب الذي قد نحاول تقديمه للتعويض فيما بعد، فإنه سيكرس الوضع وسيؤكده، ذلك أنه في  كل إنكار تأكيد وكأن الصلح مع الماضي لن يأخذ طريقه إلا بالتصالح مع الذات من جديد والتخلص من ألم سبب في توتر أو قطع العلاقات وجفائها.

 ولا يمكن وضع الماضي موضع نقاش كل واحد عاشه كواقع صارخ لازال صداه في أذنه وإن تجاهله وحاول تناسيه.

واقع الأسر اليوم يدعونا للتفكير فيه من أجل الحفاظ على التماسك الإجتماعي والدعوة إليه، ربما من خلال الوعي بالوضع والدعوة إلى القيم الإنسانية السامية. ولا شك كل ذلك في مصلحة الجميع، لأن المكون الأسري والعلاقات الإجتماعية الإيجابية مهمة في التوازن النفسي والعيش الأفضل وإلا ستعيش الأسر هذيانا.

هو هذيان من طبيعة  سيكولوجية،يعني نوعا من التفكير الإنساني في صورته المرضية بمعنى صورة الضياع وإعادة تشكيل غير سوي للفكر، فهو عرض أساسي للمرض ومهم في فهم البنية المرضية للشخص.

لكننا حين نتكلم عن هذيان الأخوة فهو أكيد من أجل فهم البنية المرضية للأسرة وبالتالي المجتمع. إنه الفكر الحامل لأحاسيس سلبية تتشكل في سلوكات اجتماعية غير سوية.

وإن استعصى علينا تحقيق السعادة الأسرية والعائلية، فإن المطالبة بها والسعي وراءها أمر مشروعا وضرورة ملحة حتى ولو في حدود المستطاع، وإن كانت العلاقات المادية هي ما يطغى على الجميع رغم تحقيقها لنوع من الرفاهية في العيش دون راحة وهدوء نفسي أكثر ضرورة.

فكم من أخ متسلط عنيف ينفرد باتخاذ القرارات المصيرية، فيتصرف في الأملاك ويستولي على الإرث، متصرفا بشكل أناني مستغلا هذه العلاقة الأخوية ومبتزا لكل ضعيف، وتبقى الأخت هي آخر من يجب المطالبة بحقها في مجتمع ذكوري، لينطبق عليه المثل "حاميها حراميها"، فتدخل لبيت أخيها كأنها غريبة وتعود حزينة باكية متحسرة، تشكي للغريب بغبن عن أخ كان عليه أن يكون مصدر حماية وأمن. بل وبكل وقاحة يلومها وينتقدها عندما تطالب بحقها في المحكمة بعدما يئست من أخوة كاذبة.

عموما نعيش اليوم هذيانا أسريا وتفككا يتوه الفرد في متاهات، مما سيزيد الفرد انفرادية وانعزالا لن يرمي به إلاّ في براثين الضياع والضعف والضغط الإضافي، والذي لن يتجاوزه إلا بالتواجد الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية الإيجابية.

إلا أن الهذيان الأسري قد يكون له وجوها مختلفة غير الصراع،هو تحمٌّل البعض أخطاء البعض الآخر، وتستمر الأخوة على حسابهم، ويفضل الآخرون الإتكالية والكسل دون أية مبادرة لاعبين دور الضحية وقلة الحظ، وباسم الأخوة يفرض مساعدته اللانهائية دون أية محاولة حتى لإنقاذ نفسه، وسيستمر الضحية الحقيقي من ينشد التماسك الإجتماعي الظاهر...

والحقيقة كان على الأخوة أن تبنى على أسس متينة غير ما نراه حاليا من بناء مهدد بالانهيار.بناء أساسه الحب والمودة والرحمة ليقينا من كل تصدع أو تفكك.

 لازلنا نأمل ذلك إيمانا منا بضرورة تأسيس مجتمع متماسك، يشكل فردا متوازنا قادرا على تحقيق سعادة فردية بعلاقات أسرية سليمة.

 

بقلم: رشيدة الركيك

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم