صحيفة المثقف

ما يجري في الجزائر.. القصة كاملة

بكر السباتيندور الجزائريين في إسقاط الأجندات التي تستهدف وحدة البلاد.. وأسئلة أخرى!

قبل الخوض في تفاصيل المشهد الجزائري الراهن، يجب طرح السؤال الأهم عمّن يحكم البلاد في ظل غموض يكتنف المشهد ويعقد الرؤى فيه، فلا بد من جولة سريعة في عمق الدولة الجزائرية العميقة من خلال التداعيات التي رافقت حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في مراحله الأربع.

المشهد السياسي الجزائري متخم بالأسئلة العاصفة التي تدور في حلقة مفرغة.. أسابيع من المظاهرات الحاشدة، كسر من خلالها الجزائريون سلمياً حاجز الخوف والصمت، مطالبين برحيل النظام.

ويتذكر الجزائريون في ذات السياق آخر خطاب وجهه إليهم بوتفليقة بمدينة سطيف في مايو 2012 بمناسبة إحياء ذكرى أحداث 1945، حيث قال بأن الوقت قد حان بالنسبة إلى جيله للتخلي عن السلطة وتسليم مقاليد الحكم. لكنه تراجع عن تصريحاته، ليترشح لولاية رابعة في انتخابات 17 أبريل 2014.

وكان كثيرون اعتبروا يومها الخطاب إشارة واضحة أراد من خلالها بوتفليقة تسريع عملية نقل السلطة من النظام الذي يحكم الجزائر منذ استقلالها في 1962 إلى الجيل الجديد. لكن الأحداث أثبتت العكس بحيث أن الرجل استمر في حكمه حتى أبريل 1999 ليستعد بعد أن هزمته الأمراض لخوض السباق من أجل ولاية خامسة بالرغم من وضعه الصحي، الأمر الذي جعل خصومه يصفونه بالرئيس المختطف.

والجدير بالذكر أن تاريخ الدولة العميقة الفاسدة في الجزائر مرتبط بتاريخ بوتفليقة نفسه الذي لم يكن كله ناصعاً، فقد غادر الجزائر قبل مسيرته الرئاسية عام 1981، على خلفية أتهامه بعدة عمليات اختلاس جرت ما بين عامي 1965 - 1978 وصلت إلى 6 ملايين سنتيم آنذاك (الدينار الجزائري = 100 سنتيم) حيث صدر أمر قضائي بتوقيفه حسب (جريدة المجاهد 1983)، وقد أثيرت حينها قضية ارتباطه بالفساد ثم أسدل الستار على تلك القضية. وفي العام 1986 عفى عنه الرئيس الشاذلي بن جديد آنذاك بضغط من المنظومة الفاسدة التي كما يبدو كانت تهيء بوتفليقة لدور مستقبلي مرموق لربط سلطاته المحتملة بمصالحهم الخاصة، ولم يعد بوتفليقة بعد قرار العفو إلى الجزائر إلا في يناير 1987.

شهدت فترة رئاسته الأولى مشاكل سياسية وقانونية ومشاكل مع الصحافة وخرق حرياتها لصالح الصحفيين والحقوقيين، وفضائح المال العام مع بنك الخليفة وسياسة المحاباة في الحقائب الوزارية والصفقات الدولية المشبوهة حيث التلاعب في المناقصات من أجل شركات الاتصلات للهواتف المحمولة وقد انتعشت الأحوال المالية للبطانة الفاسدة التي هيأته لاستلام الرئاسة ودعمته في كل مراحل حياته.

ولكن يحسب لبوتفليقة وبعد أحداث القبائل باعتبار الأمازيغية لغة وطنية وهو مشروع فرنسي كان يهدف الرئيس الفرنسي ديغول ضرب الوحدة الثقافية الجزائرية ونقل أزمة البربر إلى عمق الجزائ . وفي سياق الإصلاحات الجذرية شرع الرئيس بوتفليقة في برنامج واسع لتعزيز الدولة الجزائرية من خلال إصلاح هياكلها ومهامها ومنظومتها القضائية ومنظومتها التربوية، واتخاذ جملة من الإجراءات الاقتصادية شملت على وجه الخصوص إصلاح المنظومة المصرفية بقصد تحسين أداء الاقتصاد الجزائري مما مكن الجزائر من دخول اقتصاد السوق واستعادة النمو ورفع نسبة النمو الاقتصادي.

وباشر في مسار تشريعي للوئام المدني حرص على تكريسه عن طريق استفتاء شعبي نال فيه أكثر من 98% من أصوات الناخبين.

إذن كيف هبطت مؤشرات التأييد الشعبي لبوتفليقة مؤخراً؟

كان بوتفليقة أحد المترشحين لمنصب رئيس الجمهورية بعد أن قدم ملف ترشحه للمجلس الدستوري رغم تراجع صحته بعد إصابته بعدة جلطات أثرت على مستوى أدائه حتى بات قليل الظهور وصار متوارياً خلف منظومة الفساد التي اتخذته واجهة لحكمها الفعلي إلى درجة أن البعض وصفه بالرئيس المختطف... لذلك قامت المظاهرات العارمة مناهضة لعهدته الخامسة ما جعله يتراجع. في يوم 11 مارس 2019 معلناً عن تأجيل الانتخابات الرئاسية لعام 2019 التي كان من المفترض ان تجرى في شهر أبريل الماضي ليعلن في سياق ذلك إنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وأرغم بوتفليقة حينذاك على الاستقالة يوم الثلاثاء 2 أبريل 2019 وذلك قبل أسابيع قليلة من نهاية عهدته في 28 أبريل؛ بسبب المظاهرات الشعبية التي عُرِفَتْ بـالحراك، حيث خرجت المظاهرات العارمة خلال ستة أسابيع في كل يوم جمعة رافضة لسلطة بوتفليقة ومناهضة لمقترح التمديد أو التأجيل.. لا بل رفع الشعب من سقف مطالبه نحو إسقاط النظام برمته وهو ما جعل أفعى الدولة العميقة لتطل على المشهد الجزائري كي تواجه الموقف حتى تمنع الخطر المحدق من مداهمة الدولة العميقة التي ينخرها الفساد.. لذلك تم التحضير لفترة انتقالية تنتهي بانتخاب رئيس جديد من أجل تخفيف حدة الاحتقانات السياسية والأمنية بين طرفي المعادلة في الأزمة الجزائرية الراهنة، المتمثلة بالاحتجاجات الشعبية في مواجهة الدولة بكل مؤسساتها..

ومنذ 22 فبراير والحركة الاحتجاجية غير المسبوقة في الجزائر مستمرة للمطالبة برحيل "النظام".ورغم تعامل القوات الأمنية مع الموقف بحذر؛ إلا أن مديرة مكتب منظمة حقوق الإنسان في الجزائر حسينة أوصديق نددت بـ"تصعيد" الإجراءات الأمنية في الأسابيع الأخيرة وعدّت ذلك انتهاكاً صارخاً للحقوق التي يكفلها الدستور الجزائري.

وألغيت الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في بداية يوليو الماضي بسبب عدم تقدم مرشحون. فيما حددت السلطات المؤقتة موعداً جديداً للانتخابات كما ذكرنا سالفاً، وذلك طبقاً لما يريده قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح وهو من البربر، الذي بات الرجل القوي بعد استقالة بوتفليقة. فيما عين عبد القادر بن صالح رئيساً مؤقتاً للبلاد إلى حين إجراء الانتخابات القادمة.

وفي سياق متصل، دعا رئيس الجزائر المؤقت، عبد القادر بن صالح، مساء اليوم الثلاثاء، الجزائريين إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد، في الانتخابات الرئاسية المقررة في 12 ديسمبر القادم.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو من يحكم في الجزائر اليوم في ظل غياب الرئيس بوتفليقة؟ فالسلطة غامضة ومعقدة، ولا تقوم على محددات واضحة، حتى يستطيع المحللون تفكيك المشهد السياسي الجزائري وإعادة تجميعه وفق رؤية واضحة، وهذه محاولة لفعل ذلك.

إذن لنستعرض الأطراف المهمة في مؤسسة الحكم الجزائرية، وهي على النحو التالي:

أولاً: مؤسسة الحكم الرئاسية

يمكن أن نختصرها في آل بوتفليقة، الذين يتمتعون بنفوذ اقتصادي وسلطوي كبير جداً، فأحد أشقاء الرئيس تولى منصباً وزارياً مرموقاً، وشقيقه الآخر ومستشاره المقرب سعيد بوتفليقة كان ينظر إليه على أنه الرئيس القادم..كونه كان يتدخل في تعيين المسؤولين في الدولة ولديه علاقات واسعة مع رجال الأعمال المتنفذين.. ولكن لارتباطه بقضايا فساد كبيرة مثل: قضية سوناطراك.. وقضية الطريق السريع (شرق- غرب)، أصبح مرفوضاً من قبل الشعب الجزائري الذي أخذ يمسك بخيوط اللعبة في الجزائر حتى الآن.

ثانياً: مؤسسة الجيش

بدأت سطوة الجيش تظهر جلية حينما قام بإلغاء الانتخابات الجزائرية عام 1991 والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً مؤكداً مما حدا بالجيش الجزائري لمنع الجبهة من الفوز في الانتخابات البرلمانية في البلاد. ما أدى إلى نشوب الحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء بين الجيش الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكار موالية لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ والإسلام السياسي، حيث بدأت الجماعة الإسلامية المسلحة بسلسلة من مذابح تستهدف الأحياء أو القرى بأكملها بلغ ذروته في عام 1997، وتسببت المجازر في إجبار كلا الجانبين إلى وقف إطلاق النار عام 1997. وفي هذه الأثناء فاز الطرف المؤيد للجيش بالانتخابات البرلمانية. ثم استقرت الأحوال في الجزائر عام 1999 بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد، وصدور قانون العفو الجديد.

ويقود هذه المؤسسة الفريق أحمد قايد صالح قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع.. ويرى معارضوه أن حصوله على هذا المنصب جاء من خلال دعم الدولة العميقة التي يعتبر أحمد قايد صالح جزء من منظومتها الفاسد’.. أيضاً لمقايضتة حماية بوتفليقة من أعدائه مقابل حصوله على هذا المنصب المرموق.

ثالثاً: جهاز المخابرات

كان على رأس أعداء بوتلفيقة الذين يتربصون به ، الفريق محمد مدين.. المعروف برئيس جهاز المخابرات (1990- 2015) وهو شخصية خلافية ينتقده الكثير من المعارضين ويرون فيه اليد القمعية للسلطة في الجزائر ويلقبونه برجل السياسات القذرة ويتهمونه إلى جانب الجنرال محمد العماري وخالد نزار بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واغتيال المعارضين والسياسيين والفنانين والكتاب في مرحلة التسعينات.

ولحماية نفسه أمر بوتفليقة بحل جهاز المخابرات، واستبداله بما يعرف بمديرية المصالح الأمنية عام 2016 الملحفة برآسة الجمهورية..

وفي سياق متصل، فإن جهاز المخابرات مع الجيش الجزائري يشكلان الصندوق الأسود الكبير الذي يحفل بأسرار الدولة العميقة بكل تفاصيلها..حيث يتهمان بالهيمنة على السلطة بالتنسيق مع قوى خارجية مثل الإمارات التي تربطها مع الفريق أحمد قايد صالح علاقات وطيدة نجمت عنها مصالح خاصة مشتركة.

رابعاً: رجال الأعمال المعومين إماراتياً

وتضم نخبة من رجال الأعمال المقربين من بطانة الرئيس السابق بوتفليقة، مثل: عائلة بوتفليقة والفريق محمد قايد صالح، بالإضافة إلى قائد المخابرات السابق محمد مدين. ناهيك عن رجال الأعمال: العربي بالخير، خالد نزار، محمد العماري.

وكانت صحيفة "لوموند أفريكا" الفرنسية قد تناولت في عدد الجمعة (22 مارس 2019)، موضوع العلاقات المالية المتشابكة بين أصحاب النفوذ في الجزائر والإمارات، والذي نُشر تحت عنوان "الدبلوماسية العنيفة التي تتبعها الإمارات"، وترجمه "الخليج أونلاين".

وكشفت الصحيفة أن "صالح" هو المتحكم في ميزانية سنوية ضخمة مخصصة للتسلح تقدر بـ11 مليار دولار، وهو مرحَّب به في الإمارات، التي حشرت نفسها ضمن مشروع تعاون بين الجيش ومجموعة "مرسيدس بنز" الألمانية.

كما أن مجموعة "توازُن" الإماراتية وقّعت مؤخراً على اتفاق ضمن المشروع الجزائري-الألماني لدعم الصناعات الميكانيكية داخل وزارة الدفاع الجزائرية التي يشغل "صالح" منصب نائب وزيرها، وفق الصحيفة.

أثرياء الجزائر أودعوا ثروات بمئات الملايين من الدولارات في بنوك الإمارات، فمثلاً الإخوة كونيناف، المخلصون لـ"صالح" والمقربون منه أيضاً، أوجدوا لأنفسهم جذوراً في هذه "الجنة الضريبية الإماراتية".

ويمكن القول إن ما نُسج من روابط مالية مشبوهة في كل من الجزائر وأبوظبي يفسر الحلف الصلب الذي نشأ بين عائلة بوتفليقة وقايد صالح في مواجهة التحركات الشعبية منذ اندلاعها، في فبراير الماضي، بحسب "لوموند أفريكا".

وبحسب الخليج أونلاين.. ف"بالإضافة إلى المعلومات الخاصة بتضمين موريتانيا ميناء نواذيبو للسعودية، فقد تحدثت المصادر "عن مشروع إقامة قاعدة عسكرية سعودية و(إماراتية) في الصحراء" ويفترض أن يقوم المشروع بالقرب من الحدود الليبية الموريتانية الجزائرية المشتركة.. ومن المؤكد أنه مشروع أمريكي إماراتي صهيوني لتكثيف النشاط الإسرائيلي في موريتانيا أسوة بما يحدث من تنسيق بين الأطراف المذكورة، في إقليم كردستان العراق. والمعروف أن دولة الجزائر مستهدفة وثمة نويا صهيونية فرنسية تذهب باتجاه خلط الأوراق وضرب الجزائر في العمق وتقسيمه بين عرب وبربر وإغراق البلاد بالفوضى كما هو الحال عند الجارة لليبية أو سوريا كنموذج يمكن القياس عليه.

وأخيراً لا بد من تصميم الشعب الجزائري على إسقاط الدولة الجزائرة العميقة التي تمتص كل مقدرات الدعم المطلوب لخطط التنمية المستدامة، فبدون ذلك ستظل الجزائر مزرعة خاصة للمتنفذين الفاسدين الواقعين في قبضة الإمارات التي تمثل واجهة العدو الإسرائيلي في المغرب العربي، وإذا لم يتدارك الشعب الجزائري الموقف فإن احتمالية نشوب الحريق في الجزائر واردة.. ما دامت عناصر حدوثه متوفرة في المشهد الجزائري.. فالرهانات على مستقبل الجزائر مقيدة بتقري الشعب الجزائري لمصيره وسحب البساط من تحت أقدام الطغمة الفاسدة التي تقيم شبكاتها في الدولة العميقة.

 

بقلم بكر السباتين

29 أكتوبر 2019

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم