آراء

الطيب النقر: سرف المداد.. تاريخ السودان ما بين الحقيقة والافتئات

يجب أن أعترف بأني لا أعرف كيف أبين في عدة أوراق تاريخاً حافلاً لا يبلغ مداه إطناب، ولا يستغرقه إسهاب، تاريخ انتظمت حقبه هالات المجد التليد من كل نوع، وأحاطت به ضروب العز الباذخ من كل ناحية، ولعل اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن هذا التاريخ الذي عاش على أسلات الأقلام، وفي بطون المجلدات والدواوين، قد حجبه ظلامٌ قاتم فاحم في كثير من عصوره، فما سبب هذا الاحتجاب؟ وما باعث هذه الدهمة التي اكتنفت تاريخ هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات؟ وما هو السر في انقطاع وتيرة التواصل بينه وبين دول تربطه بها آصِرة رحم، ونسب شابك، باعث هذا الأمر يتمثل في كيد الشقيق، وتدليس العدو، فتاريخ السودان في وجهة نظري القاصرة قد تعرض لمراقبة دنيئة، وإفتئات مرذول، ولم يقتصر الأمر على السودان، بل تعداه ليشمل القارة برمتها، فقد روجت مجموعة من المستشرقين حتى بداية الستينات من القرن الماضي لمقولة مفادها أن التاريخ نتاج الكلمة المكتوبة فقط، وبناء على هذا الفهم القاصر، ولما حسبوه ندرة بل انعدام للمصادر المكتوبة فيما سمّوه إفريقيا جنوب الصحراء، فقد زعم أولئك المستشرقون بأن ذلك الجزء من العالم لم يكن له تاريخ يستحق المعرفة أو الدراسة قبل اتصاله باوربا في أواخر القرن التاسع عشر. ولعل أهم ما تبنّى هذا الموقف الفيلسوف الألماني هيجل 1770-18031م الذي أطلق زعمه المشهور بأن إفريقيا قارة غير تاريخية وأن سكانها الزنوج غير قادرين على التطور والتعلم. وسار لاحقاً في الاتجاه نفسه المؤرخ البريطاني هوك تريفور روبر الذي زعم في سلسلة محاضرات ألقاها عام 1961م بجامعة أكسفورد بأن تاريخ أوربا هو التاريخ العالمي الوحيد المفيد والذي يستحق الإشادة والاعتبار.

ومن هنا شاع الزعم بأن إفريقيا السوداء عاشت في عزلة تامة وظلام دامس، وبالتالي لم تسهم البتة في إثراء الحضارة الإنسانية، بل ومثلت هذه القارة في الخرائط القديمة بفضاء واسع كتب عليه هنا مرتع السود رمزاً للهمجية والتوحش، وحتى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي عُرِف بموضوعيته، لم يضمّن في موسوعاته التسع المشهورة عن تاريخ وإسهامات الحضارات العالمية أي ذكر لإفريقيا السوداء في هذا المجال.

غير أنّ دراسات علمية أخرى تبنتها مجموعة مرموقة من العلماء الأفارقة  خاصة منظمات اليونسكو الثمانية بعنوان: تاريخ إفريقيا العام  دحضت هذه المزاعم مبينة أنها نتاج للغرض والجهل، فبها أراد أولئك المستشرقون الترويج لما سمّوه  مسئولية الرجل الأبيض  نحو الشعوب المتخلفة، وبذلك تبرير الهيمنة والسيطرة الأوربية على شعوب العالم الثالث عامة والأفارقة خاصة الذين قسمت قارتهم عَقِبَ مؤتمر برلين 1884-1885م تقسيماً عشوائياً بين الدول الاستعمارية، وأهم من ذلك جهلهم التام بأفريقيا حتى القرن السادس عشر، وحتى عندما اتصلوا بها حينئذٍ فقد اقتصر ذلك على سواحلها ولم يتعداه إلى معرفة المجتمعات في دواخل القارة.

أما الجناية على تاريخ هذه الديار التي كل شيء فيها الآن معتل يفتقر إلى علاج، فيتمثل في السعي لطمس عظمة هذا التاريخ، والحرص على إخفاء صداه، فدأبت هذه الأقلام التي لم يدركها قط شيء من الخمول، طاغية باغية، موفقة أو غير موفقة، على اختلاق الكثير من الزيف والبهتان وإلصاقه بتاريخ حاز من الرتب أعلاها، ومن المعالي منتهاها، ذلك التاريخ الذي أوجد حضارة لم تألفها الأمم في ذلك العهد البعيد، ولعل من أهم الحضارات السودانية التي أدت أدواراً متميزة في مسار الحضارة الإنسانية كما يرى البروفيسور عبدالرحيم محمد خبير الحضارة الكوشية المروية 900 ق.م – 350م،  والتي عرف فيها السودان وأفريقيا جنوب الصحراء الكبري ولأول مرة ظاهرة الدولة  State كبنية سياسية مؤسسية ومشروعية سلطة منذ ما يربو عن أربعة آلاف عام بظهور دولة كوش الأولى كرمة والتي بسطت ظل سلطتها على شمال السودان الحالي وكل منطقة النوبة 2500 – 1500 ق.م ودولة كوش الثانية مملكة مروي 900 ق.م – 350م. وبلغت الدولة السودانية أقصى اتساع لها في التاريخ في العهد الكوشي المروي حيث كانت تمتد في أوج ازدهارها من شواطئ البحر الأبيض المتوسط مصر شمالاً إلى ضفاف النيل الأبيض الكوة والنيل الأزرق جبل موية جنوبا. ولعل من المدهش أن هذا الاعتراف العالمي بتفوق الشخصية السودانية وتبوأها مكاناً علياً في سلم الحضارة الإنسانية لم يصل إليه رواد علم الآثار الأوائل الذين عملوا في هذا القطر. وقد كان هؤلاء وكلهم من الأوربيين قد أنجزوا أعمالاً متنوعة في المسح والتنقيب الآثاري وبخاصة في شمال البلاد منذ فواتيح القرن العشرين، وفيما يلي الحضارة الكوشية المروية فثمة افتراضات ونظريات أثارها نفر من العلماء الغربيين حول أصل هذه الحضارة والجذور الإثنية للأسرة الحاكمة الكوشية التي يرجع إليها الفضل في بزوغ فجرها في فترة باكرة من تاريخ أفريقيا والشرق الأدنى القديم.

ومما شحذ همتي لتسطير هذا الموجز عن أصل الحضارة السودانية كوشمقال نشر باللغة الإنجليزية في مجلة “ناشونال جوغرافيك National Geographic  عدد فبراير 2008م للكاتب روبرت داربر – R. Draper  موسوم بالفراعنة السود: فصل مجهول من التاريخ يحكي عن ملوك من أدغال أفريقيا فتحوا مصر القديمة. وتنبه الكاتب إلى حقيقة هامة وهي أن مملكة كوش الثانية مروي لم تظهر بصورة فجائية على مسرح الأحداث في التاريخ إنما كانت امتداداً لدولة أفريقية قوية هي مملكة كرمةوحاضرتها كرمة عند الشلال الثالث في أقصى شمال السودان. ونوه درابر إلى آراء بعض الرحالة الأوائل من المكتشفين للآثار السودانية في القرن التاسع عشر والذين أثار انتباههم المنشآت المعمارية الرائعة المعابد والأهرامات التي تمثل أطلال حضارة كوش العتيقة أمثال الإيطالي الدكتور ج. فرليني 1834م الذي نهب العديد من الأهرامات المروية والألماني رتشارد لبسيوس 1842- 1844م الذي زعم أن الكوشيين الذين أنجزوا هذه الحضارة الراقية ينتمون إلى الجنس القوقازي شعوب البحر الأبيض المتوسط ولا صلة لهم البتة بشعوب أفريقيا الحامية. ومن الملفت للانتباه أن فرية الأصل القوقازي للحضارة الكوشية وجذورها الوافدة من السواحل البحرسطية لشمال أفريقيا ناجم من التفسير العرقي والنظرية العنصرية للفكر الأوربي في القرن التاسع عشر والذي دون شك أثرَ كثيراً في التحليلات التاريخية والسياسية والاجتماعية وتلك التي تتناول التوجه القومي لعدد غير قليل من الكتاب والمفكرين الذين درسوا السجل الآثاري للسودان خلال أحقاب التاريخ المختلفة. ومما جعل الأوربيين الذين كانوا يسيئون الظن بأفريقيا وبدولها ويستخفون بمن فيها أشد الاستخفاف، يقفون حيال هذا الاعتقاد موقفاً صريحاً واضحاً يزيل الشك، ويجلي الريب، اكتشافهم وجود تطور حضاري سابق للعصور اليونانية الرومانية التي ملأوا العالم بها تشدقاً وضجيجا، فكانوا  كلما ازدادوا قربا وبحثاً عن ذلك التراث تأكد لهم أن أوربا ليست سيدة العالم في التراث القديم، وأن تلك السيادة ربما بل وكل الأدلة تشير إلى أنها تمت على أيدي شعب وادي النيل القديم، فمن هو ذلك الشعب العظيم الذي خلف كل ذلك التراث؟ المشكلة التي واجهتهم هو المفهوم القديم الذي كان سائداً في الأوساط العلمية عن شعوب أفريقيا والذي يقسم سكانها إلى ساميين وحاميين وزنوج.

وقد ارتبط تصنيف الحاميين في ذلك الوقت باللون الأسود، وكان المصريون وقفاً لتلك التقسيمات أبناء كوش التي ينتمي إليها كل السود في أفريقيا، فكيف يعقل أن يرتبط هذا الجنس الأسود بهذا التراث الحضاري؟ وبدأت الفرضيات والتفاسير التي جعل بعضها الشعب المصري شعباً سامياً لا صلة له بالسود، ….ويبدو أن البعض الآخر لاحظ سمات العنصر الزنجي واضحة في بعض الآثار المصرية وبخاصة العناصر السوداء التي تقطن جنوب مصر، فتطورت النظرية التي فصلت الجنس الحامي من الجنس الزنجي، وأصبح سكان أفريقيا في نظر الأوربيين ثلاث سلالات رئيسة هي السلالة السامية والسلالة الحامية ونُسِبَ إليهما كل التطور والإنجاز الحضاري الذي عثروا عليه في القارة، ثم السلالة الثالثة وهم السود باقي سكان أفريقيا الذين ظلوا في المفهوم الأوربي يعيشون في مراحل التخلف وفي حاجة إلى خدمة الرجل الأبيض ينتشلهم من دنيا الظلام والهمجية إلى عالم النور والحضارة، ويرى المؤرخ السوداني الذي قرّب البعيد، وأظهر الخفي، وبيّن المُلتبس من تاريخ أرض النيلين البروفيسور يوسف فضل أنّ هذه النظرية أو التقسيم الذي جرد الزنوج من كل مكرمة لم ينضجه بحث، أو تصاحبه روية، وأن طبقة الزنوج أو الجنس الأسود أو الأفارقة تعبير فضاض يستعمل في غير دقة في هذا البحث للدلالة على السكان الوطنيين الأصلاء السود الذين ربما وضعوا اللبنة الأساسية في تاريخ هذه البلاد وتطور ثقافتها، ومن المرجح أن ذلك الشعب الأسود ظل يعمر السودان في الأجزاء الجنوبية والجنوبية الغربية كما أن مجموعات منه قد تفاعلت مع سكان المنطقة الشمالية والمنطقة الشرقية. ومن الممثلين لهذا الشعب الأسود القبائل التي تسكن دارفور وجنوب السودان والنوبة في كردفان، والنيليون الحاميون في جنوب السودان، وكان رواد هذا الجنس الأسود من سكان منطقة الخرطوم وأنهم بصناعتهم الفخار قد وضعوا اللبنة الأولى للحضارة السودانية”.

ويرى العلامة البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله أن الشيء الذي دلّ عليه البيان، واتسق به البرهان، أن خصيصة اللون هي التي جعلت أخياف من البشر تقطب لتاريخ هذه البلاد، وتعرض عنه، وتتآبى عليه، ويرى الراحل عبد الله الطيب أن مرد ذلك نوعاً من العنصرية جعل يحول بين العلم والعلماء وبين تتبع تاريخ هذه البلاد، وهذا أمر رغب العلامة في الوقوف عنده، ولكنه يحتاج إلى من هو أدرى مني، حسب تعبيره، يقول البروفيسور عبدالله الطيب أن هذه البلاد ابتدأت تهمش كما يقال في اللغة العصرية من حوالي القرن السادس قبل الميلاد، قبل ذلك كانت مهمة، وابتدأت تهمش ويهمش معها لون الناس، السواد يعتبر متأخراً، وأهله يعتبرون متأخرين، وهذه البلاد على حضارتها أخذوا ينكرون وجود حضارتها، وانتقلت هذه العدوى إلى المسلمين، فالصلة كانت قوية جداً بين هذه البلاد وبين الشاطئ الشرقي والتبادل كان مستمراً واستمر حتى بعد الإسلام لمدة طويلة، لأن ابن بطوطة عندما جاء في شاطئ البحر الأحمر وجد بني كاهل ووجد قبائل البجة متصاهرين مع أهل مكة وبينهم صلات واشجة.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم