صحيفة المثقف

مِنْ أبراجٍ عالية

شوقي مسلمانيصوتُه مِنَ البعيد، صوتُه مِنَ القريب

مِنَ الحركةِ الظاهرة والحركةِ الباطنة

لا يأتي مِنْ فراغ، يأتي مِنَ الإحتراس

مِنْ أبراجٍ عالية

مِنْ مستوصفات ومستشفيات

مِنْ جنائن، مِنْ سفنٍ شراعيّة

مِنْ أجنحة، مِنْ ببّغاء ينطق

مِنَ الصباح، مِنَ الظهيرة، مِنَ الحيّزِ المرجاني

مِنْ جزيرةٍ يستريحُ فيها "ألباتروس" 

صوتُه مِنَ اللقالق، مِنَ الحراذين

مِنَ الجراد، مِنْ عواصف رمليّة تهبُّ كثيراً

مِنْ حفيفِ أوراقِ الشجر

مِنْ زغاريد فرَح ينكمش

مِنْ عِزّةِ النفسِ التي تنكمش

مِنَ الأسرار، مِنْ جَرَسٍ، من فوضى

مِنْ كأس، مِنْ شَقاء، مِنْ نقاء، مِنْ أصدقاء

مِنْ كراهيّةٍ في كلِّ إتّجاه

ورخيمٌ، جهوريٌّ

مِنْ فوّهةِ بركان

مِنَ الشلاّلاتِ

مِنْ لحيةٍ تصلُ إلى الأرض

مِنْ فجوةٍ تتّسع

مِنْ منفضةٍ طافحةٍ بأعقابِ السجائر

مِنْ دخانٍ كثيف

مِنْ سريرِ النوم

مِنَ التلفاز، مِنْ بساطِ الريح

مِنْ صدى

من ألعابِ الأطفال

مِنْ بئرٍ في صحراء

مِنْ مَسَاكن تليقُ بابنِ آدم

مِنَ الفصولِ المتعاقبة

مِنْ حركةِ المدِّ والجزْر

صوتُه مِنَ الدموع. 

**

يغرقُ، يتلاشى

ينبثق، بلادٌ كلُّها ثائرة

بلادٌ كلُّها تخمد

بلادٌ كلّها طبقة فوق وطبقة تحت

بلادٌ أكثرُها فاسد

بلادٌ بين جبٍّ ودبّ

عيونٌ حزينة، عيونٌ غاضبة

عيونٌ مِنْ زجاج 

عيونٌ ذئبيّة، عيونٌ كسولة

عيونُ كناغر، عيونُ تماسيح

عيونُ أشرار، عيونُ غافلين

عنِ الخطرِ المحدِقِ بهم

عيونُ تائهين لا يعرفون المكان

قفزاتٌ مرّاتٍ عالية

قفزاتٌ مرّاتٍ متثاقلة

قفزاتٌ تأملُ أكثر ممّا تعمل

تدمِّرُ أكثر ممّا تعمِّر.   

**

لا نهضة ولا مَنْ ينهضون

لا عِلم ولا مَنْ يتعلّمون

مدارس كلاسيكيّة، مدارس رومنطيقيّة

مدارس رمزيّة، مدارس غنائيّة

مدارس سورياليّة، مدارس تكعيبيّة

مدارس تجريديّة، مدارس تشكيليّة

مدارس حداثويّة أو ما بعد حداثيّة

وجميعُها لم تستطع أن تغلق نافذة واحدة

في مدرسةٍ خبْط عشوائيّة

هل يروقكم ألاّ يكفّ الدجاجُ عن نقدِنا؟

أن ينكسرَ الموجُ

والقصد أن يصيبنا بالرذاذِ

علَّه يزيلُ بعضَ الأدران عنّا؟

هل يروقكم أن تكركرَ العصافيرُ بالزقزقةِ

والأنهارُ والسواقي بالخريرِ

والأشجارُ بالحفيف، والأبقارُ بالخوارِ

والأغنامُ بالثغاءِ، والحميرُ بالنهيقِ

والخيولُ بالصهيلِ

والذئابُ بالعواءِ، والكلابُ بالنباحِ

والأفاعي بالفحيحِ 

ضحكاً منّا أو علينا؟

هل يرضيكم ألاّ تكفّ الضفادعُ

عنِ النقيقِ

لتحرمَنا النومَ الهانئَ العميق؟

أن نغدو لقمةً سائغةً

يعلكُها الأسدُ أو الفهدُ أو النمِرُ  أو الضبعُ

أو إبنُ آوى أو كلُّ إبنِ عرس؟ 

أن تجترَّنا الأبقارُ والأغنامُ؟

أن تتهامسَ الفراشاتُ مع الزهورِ

أنّنا أجلافٌ أو علوج؟ 

.. وفيما أنا في سبيلي إليكم

لكي أكون في حضرتِكم

عندَ بعضِ الماءِ 

حظيَ بي فيل وقال لي بالنّهيم أوبالهدير:

"ألا يوجد دمٌّ أيّها الحقيرُ في جنسِكم؟

ما أنتم إلاّ في ضلالٍ مبين 

أليست فيكم كلمةٌ طيّبة؟

ألا تصنعون صنيعاً طيّباً؟

ألا تشربون فراتاً طيِّباً؟

ألا تسلكون مسلكاً طيِّباً؟

ألا تقلعون عن الخزي والعارِ

الذي أنتم فيه؟

الكبيرُ والصغيرُ

مِنَ القطبِ وإلى القطب

يبلغُه خبرُكم المشين

النارُ تأكلُهم منكم

مثلما تأكلُ النارُ في الهشيم

قلْ لقومِك الأشرارِ مثلك

أنّي وكما نفى أفلاطون

قوماً مِنْ جمهوريّتِه

سأنفيكم مِنْ مملكتي"

.. ولكَشَني بخرطومِه، وقذفني في الهواء

وأنا أنهضُ قالَ لي غرابٌ

مِنْ غصنٍ يابسٍ في شجرةٍ خضراء

وهو ذاته الغراب الذي أضرمَ النيران

في بيتٍ فقيرٍ كان يؤويه: 

"أيّها النكِرة

قلْ لأهلك النكرات مثلك

أنّ كلامَ الفيل هو فيل الكلام" 

وقالَ آخر: "كيف أغار لِمَنْ لا يغار لي؟

كيف أفرح بِمَنْ لا يفرح بي؟

كيف أشتاق للذي لا يشتاق لي؟

ماذا أصنع مع مَنْ يُدافعني ويُزاحمني

على التبنِ والأتن"؟ 

وقالَ ثالث:

"لماذا كلُّ ذي أنفٍ أو منقار

أو خرطوم

يريد أن يدسَّ أنفَه أو منقارَه

أو خرطومَه

بشأنِنا؟

اسمعوني يا قومي 

بعد كدْحي كدْحَ حميرٍ مجتمعة 

رجعتُ إلى مرقدي ليلاً كي أنام

هبطا إليّ مِنْ طاقةٍ صغيرة قريبة مِنَ السقف

خفّاشان ضئيلان حقيران

مِنْ جنسِ الخفافيش مصّاصةِ الدماء

ومِنْ فورِهما جرحا عقباً لي بمباضع لهما

خدّراني موضعيّاً

تناوبا على اللعقِ مِنْ دمّي وشتمِ أبي وأمّي

حتى قال أحدهما للآخر: "التافهون

سأكرعُ مِنْ دمِهم ما حييت"

وامتلآ، وطارا عبْرَ الطاقةِ ذاتها إلى شأنيهما

وأنا طوالَ الوقت لم أفعل أيّ شيئ 

آملاً أن أتعلّم عليهما لغتهما الوطواطيّة فأفهمُ عنّا

ولئن رجعا سأدوسُهما، سأمعسُهما، سأفعسُهما، سأهرسُهما"

وقالَ رابع: "كان نسرُ الجيف، لمّا أنبأه الهواءُ

ماذا في المسافة، عندَ كتفِ جبل

أفردَ جناحيه وطار

وبعدَ وقت رأى النارَ السعيرَ

لم تغادر شيئاً إلاّ وقد سوّتْه رماداً

وظلَّ في السماواتِ العلى يلفُّ ويدور حولَ ذاتِه قهراً

لحقَ به أهلُه، شرعوا يلفّون ويدورون معه

وهم يطيّبون خاطره لكي يرجع معهم إلى عشِّه ويرتاح

قبلَ أن تخورَ قواه ويسقطَ ويفكَّ رقبتَه

فجأةً انتهى الفيلمُ وظهرتْ على الشاشةِ كلمةُ: "يتبع" 

وفي فيلمٍ قرّرَ أخٌ لنا أن يثأرَ ممّن أخذوه لحماً ورموه عظماً

خرجَ إلى البريّة، تثاءبَ وتمطّى

اعتبرَ ذلك تسخيناً وتدريباً كافيين

كشّرَ مثل كلبِ دوبرمان

ركضَ وطارَ في الهواءِ مثل سوبّرمان

صاحَ عندَ سحابةٍ عابرةٍ مثل طرزان حي بن يقظان

رفسَها، شرقطتْ، زمجرتْ، وهبطَ وهو يرفسُ كأنّه في مسّ

وقعتْ لبطةٌ في أمِّه، وقعتْ لبطةٌ في أبيه

وقعتْ لبطةٌ في جدّته لأمِّه فاستعجلتْ وقضتْ

وقعتْ لبطةٌ في حمَل لا ناقةٌ له بعدُ في الدنيا ولا جمل

وقعتْ لبطةٌ في حائط

هو كلّ ما تبقّى لعجوز ليس لها معيل

مِنْ بيت قديم

بعدَ غارة ربطةِ العنقِ، الشوكةِ والسكّين، هدّتْهُ

رفعتِ العجوزُ يديها إلى السماء

تمنّتْ لو تأخذ السماءُ بخناقِ القومِ الظالمين

وقعتْ لبطةٌ في بطّيخةٍ انفجرتْ

طارتْ شظايا، واصطبغتْ حجرانٌ بدمِها الأحمر الورديّ

والكلبُ ينبحُ ويقول له: "يا حمارَ الحمير

إنّك تؤذي أهلك المقهورين مثلك"

ولا يسمع 

يتسلّلُ التعبُ إلى بدَنِه

يطلبُ الراحةَ بظلِّ شجرة

تشتدُّ شمسُ الظهيرة

يُشرقطُ

تضيئُ في رأسِه فكرة 

ينهضُ، يزفرُ ويشهق

مصدراً صوتاً ولا أنكر

قولوا: زمّور خطر

ينادي على أشباهِه

في الخُلقِ

ليهبّوا إليه

ويهبّون إليه مِنْ كلِّ فجٍّ عميق

وجلّهم تيوس وثيران

قال خطيباً: "سلاحُ اللبيطِ سلاحُ العبيطِ

مثل سلاحِ العضّ الذي يتباهى به أخونا الكلب 

الذي يعمل نبّاحاً بأَجرٍ قدره عظمة، وغالباً جرداءَ

قرّرتُ أن أفني الأعداءَ بضربةٍ واحدة"

وحثّهم أن ينتشروا في البلاد

بحثاً عن كلِّ جهبذٍ بعلومِ الغازات

التي تمتلئُ بها بطونٌ لعملِ قنبلة

حثَّهم ألاّ يعودوا قرناً مِنْ أمام وقرناً مِنْ وراء

صاحَ تيسٌ: "بالأمس قطّع ساطورٌ منهم ساعوراً منّا، الموتُ لهم"

وخرجوا ورجعوا بحزمةٍ مِنَ الجهابذة الذين بعضهم صناعة أجنبيّة

وبعضهم صناعة وطنيّة

قالَ الجهبذُ جحْششْتاين بعدما سمع:

"ولكن بشرطِ أن نمحو أيضاً العصافير والفراشات

والزهورَ وحفيفَ أوراقِ الشجر وحكايات المطر" 

وحقّاً لا يليقُ أن أستفيضَ

وفي الختامِ مِنْ هذا الفيلمِ الرائعِ في قصّتِه

في إخراجِه وفي موسيقاه التصويريّة

التي أين منها موسيقى فيلم "سايكو" 

خصوصاً في مشهد الحمّام الذي يُجهِضُ الحامل البكر

ويصيبُ بالشيبِ رأسَ الوليد

وحدِّثوا ولا حرج عنِ المونتاج والإنتاج

والمؤثِّرات الصوتيّة وغير ذلك ممّا في صناعةِ السينما

ونرى مِنْ بعيدٍ نيراناً في أبنيةٍ معزولةٍ في عمقِ الصحراء

ونرى الدخانَ الكثيفَ على ألوان

ونرى الكاميرا تصوِّرُ مستعجلةً

ونرى أكداسَ النافقين

ثمّ الكاميرا تصوِّرُ مختبرَاً محطّماً

ونرى جحْششْتاين نافقاً

وكأنّما حركةٌ تسرعُ الكاميرا إلى تحت مكتب

فإذْ أخونا كلّ شيئ فيه هامد

سوى بطنه الذي كأنّما لا يريد أن يهمد

قبل أن يهضم بعدُ لقمةً أخيرة 

أو بسببٍ مِنْ قوّةٍ عجيبةٍ غريبةٍ

تصرُّ أن تنبض في هذا الكونِ العجيبِ الغريب. 

***

محور مائل: (4)

شوقي مسلماني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم