صحيفة المثقف

ابورجينال

محمود سعيدلم اكن أنوي الكتابة عن هذا البشر المنسي، المحارب، المضطهد، المظلوم في استراليا وأمريكا اللاتينية، إلا أن الحرائق التي انتشرت في القارتين وبلاد آسيوية وأفريقية أخرى، جعلتني أتذكرهم باستمرار، هذه الحرائق الفظيعة اضرت ببيئتهم الطبيعية مع الأسف الشديد، كما أزهقت ارواح بليون طائر ومخلوق نادر في استراليا وحدها، وربما أكثر من ذلك في الأمزون، منها الحيوان المتطور جداً القريب منا، شبيه الإنسان، المدعو "إنسان الغاب".

في آخر يوم لي في العاصمة المكسيكية، رجعت إلى الشقة التي استأجرتها، لأحزم أغراضي، القليلة، فوجدت سيدة ثلاثينية من السكان الأصليين، ومعها ابنتها في الخامسة عشرة تقريباً، تنظفانها، فأدركت من طريقة تنظيهما الدقيق، أنهما لا ينتهيان قبل الخامسة مساءً، فلم أشأ إزعاجهما، وذهبت إلى السوق المجاور، حيث عشرات المطاعم الشعبية، منها ما يقدم الرز وسمكاً مقلياً، ونوعا خفيفا من المرق. لم أدخل، لأني ما كنت في غاية الجوع، بل توجهت إلى دكان صغير، فيه مقعدان في الداخل، و ثلاثة في الخارج، تشغلان نصف العطفة الضيقة. كنت اكتشفته في أول يوم لي في العاصمة، قهوة هذا الدكان شبيهة بالقهوة التركية، طعماً وتتبيلاً، وأظنه يضع فيها قليلاً من القرفة، وحبة مسمار من القرنفل، مع الهيل بالطبع، فتتفجر رائحتها في العطفة عاصفة ذكية مؤججة، وتنتشر مسافة طويلة، لتجذب أمثالي من عشاق القهوة والشاي.

وحين أحسست بقرصات الجوع، ذهبت إلى مطعمي، فوضع لي في كيس ما كنت أريده، ثم وضع طعاماً للعاملتين. قبل أن التقِ المرأتين فكرت أن آخذ قيلولة لنصف ساعة، قبل أن أذهب إلى المطار، لكني بعد إذ رأيتهما قررت أن أذهب بعد الغداء وانتظر الطائرة هناك.

لكني حينما فتحت أكياس الغداء ووضعت الطعام على المنضدة، ودعوتهما رفضتا أن تأكلا معي، بل عانقتني الآم، والبنت، ثم قبلتني غير قبلة، وكادت تبكي، وبعدئذ أخذتا طعامهما إلى المطبخ، وهما منتشيتان تضحكان، غير مصدقتين. الأمر الذي جعلني أفكّر بالبؤس الشديد الذي تعيشان فيه. وبعد ذاك أخذتا تنظمان حقيبتي وحين قررت الذهاب إلى المطار، حملتا كل شيء إلى الشارع، ثم عبرتا الشارع العريض لأن شارعنا وحيد الاتجاه، وتحتاج سيارة الأجرة لكي تصلني إلى دوران بضعة كيلومترات. ثم عانقتاني، وسلمتا علي، مما ترك في داخلي أثراً لا أنساه، مازال يحيى في داخلي حتى هذه اللحظة.

عاش الشعب المكسيكي تحت رحمة الفاتحين الإسبان الجشعين، الذين خلت قلوبهم من الرحمة، ثم جاء الأمريكان البيض القساة الغلاظ، فنهبوا الحي والميت، والثروات العظيمة والتراث الغني، فحطموا البلاد وأفقروا العباد، وعندما قام الحكم الوطني بعد نضال طويل وعنيف ومدمر، قام معه ظلم وظلام دائم مستمر، وسيزداد الفقر والبؤس والظلام بعد الحرائق، وسيفقد ثلاث أرباع الفلاحين الأصليين أراضيهم، ويتخلون عن مزارعهم المقفرة، ومواشيهم، ومراعيهم، وحقولهم مع الأسف، ليعيشوا كالبدو حياة تخلو من الحياة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم