صحيفة المثقف

الأسرار والأوقات

مجدي ابراهيمفي المقال الذي توقفنا عنده "الإشارات والأحوال"، ذكرنا أن المتصوفة إذا كانوا يؤسسون لعلم الإشارة يقوم لديهم على شرعة الحبّ والذوق والتحقيق، ويعتبرون هذا العلم (سرّاً) لا يناله مطلقاً ما ليس من أهله؛ فإنهم إنما يفعلون ذلك، لأن الأسرار مُعتّقة عن رقِّ الأغيار من الآثار والأطلال - حسب عبارة القشيري - وانتهينا إذ ّذاك بتوضيح اصطلاح السّر؛ إذ يطلقونه على ما يكون مكتوماً مصوناً بين العبد والحق سبحانه تحت غشاوة الأحوال. فقد تكشف الإشارة عن حال صاحبها؛ عن تجربته، وقد يتبيّن منها أذواقه العالية فيما عساه يعانيه، وقد لا يتبين منها سوى المواجيد التي يصعب التعبير عنها بلفظ أو بمقولة كما قال النّفَريّ : "المواجيد بالمقولات كفرٌ على حكم التعريف"، ولم يكن قول النفريّ هذا ببعيد عن سلطان "الحال"، لأن الحال هنا لا يحوي التعبير بالمقولة، والمقولة محدودة بحدود القوليّة، والحال محض وجد لا يكيف بلغة عادية إذْ اللغة العادية مجال المعتاد ممّا يكتب أو يفهم في حدود الفكر والنظر لا في مجال المواجد التي تتعامل مع اللامتناهي واللا محدود واللا مرئي.

وإذا كانت الإشارة في ذاتها تقترب من الغموض؛ فلأنها تتصل بالحال وتصدر عنه. والحال وجد يفيض بالمنازلة ويباشر العلاقة مع الله مباشرة؛ فليس من لغة وليس من بيان بل تضيق العبارة لاتساع الشهود، وتحل الإشارة لأن المقام مشهود. ولم يكن من حرف لأن الحرف عاجزٌ عن الإخبار، ليس في الشهود تعبير بحرف، قد يخبر الحرف عن نفسه ولكن للشهود عيان مباشر وتحقيق.

وكما تكون الإشارات صادرة عن تجربة الأحوال، تكون هنالك الصلة الوثقى بين الأسرار والأوقات؛ فالسرّ والوقت والحال اصطلاحات دالة على بطن التجربة الصوفية، مرتبط بعضها مع البعض الآخر في رباط شديد، وليست الفروق بينها قائمة سوى من جهة اعتباريه فقط؛ فالسر له بالوقت وثيق الصلة، والوقت له بمراقبة الأنفاس شديد العلاقة، ويجمع كل سرّ ونَفَس ووقت وحال فيض عارم من التجربة الروحية تتأسس على الإخلاص وتشملها حزمة من الأنوار؛ فالأسرار أنوار تصدر عن الأحوال، والأحوال تجارب تتوارد من عين الجود أفضالاً ومواهب وعطايا ربانيّة، ليس بها من دعوى بل يقين عظيم في جهاد شريف.

ولو إنَّا رسمنا دائرة التصوف الإسلامي بين سُنّي وفلسفي، لوجدنا كلمة "السر" تحتل المركز منها، وتتصدَّر نقطة الانطلاق لهذا العلم على التحقيق، بل إن كلمة (Mysticism) الإنجليزية التي تطلق على التصوف، تترجم إلى السّريَّة على معنى التكتم والخفاء؛ لأن التصوف في مجموعه حسب تعريف سيد الطائفة أبي القاسم الجنيد واصفاً إيّاه إنْ هو إلا :" لحُوق السّر بالحق، ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب لقوة الروح والقيام مع الحق "، وهو بذلك يضع التصوف في موضع المراقبة "للوقت" بمقدار ما يضعه في مواجهة السّر؛ لأن  التصوف كما قال إنْ هو إلا "حفظ الأوقات".

وحفظ الأوقات رعايةً للسر ومراقبةً للسريرة الباطنة في آن واحد، لكن الجنيد مع ذلك يصيب كبد الحقيقة فَيُعْطي إشارة لافتة مُلْغزة فيروح فيقول مبيِّناً معنى حفظ الأوقات هذا بقوله : " وهو أن لا يطالع (العبد) غير حَدِّه، ولا يوافق غير ربه، ولا يقارن غير وقته ".

وربما كانت هذه المرتبة التي أشار إليها الجنيد بقوله إن التصوف إنْ هو إلا "حفظ الأوقات" هى نفسها المرحلة التي سماها الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428 هـ) في مراحل تطور المعرفة الصوفية بمرحلة الحدِّ أو الوقت، لأن المطلوب فيها حفظ الوقت أثناء تلقي العارف أنوار فيوضات القربة؛ فهنالك يطلع الصوفي فيما يشبه الخلسات اللوامع من إطلاع نور الحق عليه، لكن هذه المرتبة تسبقها مراتب من الإرادة والرياضة، وتعقبها مرتبة أخيرة هى مرتبة الوصول؛ فالصوفي في عرفان ابن سينا إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً ما، عَنَتْ له خَلَسَات من اطلاع نور الحق عليه، يصفها ابن سينا بأنها : "لذيذة كأنها برُوق تومض إليه ثم تخمد عنه؛ وهو المسمى عندهم أوْقَاتاً".

ثم لك أن تلاحظ إشارة الجنيد هذه حيث يقول:" ليس شيء أشدَّ على أولياء الله من حفظ الأوقات عند الأنفاس"؛ وتُقَارن بينها وبين قول ابن سينا: "وكل وقت يكتنفه وجدان : وَجْد إليه ووَجْد عليه، ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمْعَنَ في الارتياض "؛ تجد أن أحوال العارفين -  على حد وصف الشيخ الرئيس - الذين يعبدون الله حَق عبادته، فيحبونه حباً روحياً؛ منصرفين إليه بفكرهم، لا يبتغون بذلك غير ذات الحق، لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً، ويمتازون على ما عَاداهم بأن أرواحهم قد انطلقت من القيود؛ هم هم عُبَّاد الوقت على الحقيقة؛ لأنهم تنزّهوا عمّا يشغل أسرارهم عن الحق، فكانت عبادتهم مسالمة للسر الباطن حين ما يستجلي الحق، إذْ تخلص أسرارهم إلى الشروق الساطع، فيصير ذلك ملكة مستقرة، كلما شاء السّر أطلع العارف على نور الحق، فيكون منخرطاً بكليته في سلك القدس.

فإذا العارف هاهنا واقعٌ لا محالة تحت حكم الوقت، مشاهدٌ بالسر لما يبدو عليه من بوادي الأنوار الإلهية؛ فكأنما الوقت حالَ غَشيان الأنوار هو كما وصف الجنيد من الشدة على العارفين بحيث قد يتعذر معه ضبط الأنفاس أو هو كما قال أبو العباس بن عطاء :" ليس شيءُ أشدَّ على أولياء الله من حفظ الأنفاس عند الأوقات ".

فهاهنا يكون الوقت تجلياً من تجليات النور الإلهي الذي لا يضبطه في الغالب نَفَس الولي؛ فيجد في تجلياته سطوة وفي غشيانه شدة. فهذه الأوقات هى من أسرار الله في أهل خصوصيته، ترتبط بمراقبة الأنفاس, بمقدار ما تتصل مباشرة بحكم "الحال" في حكم "الوقت".

من ذلك ترى؛ أن هذه الروحانية القوية القائمة مع الحق إذا هى تَجَرَّدَتْ في صاحبها فَفَنَتْ نفسه عن الأسباب واتصلت بالحق تعالى نالت من فورها لحوق السّر به فيما لو صدقت طريق المعرفة وسَارَرَتْ مَعْرُوفها بدوام المناجاة.

وعليه؛ يجيء معنى التصوف من حيث كونه "لحوق السر بالله" مصروفاً إلى أن الصوفي الحق لا يلتفت إلى شيء سوى الله، ومتى ألتفت إلى حظ نفسه أو أسبابها دَلَّ ذلك على انفصال سره لا اتصاله؛ حتى إذا ما كان سر الصوفي ملحوقاً بالله على الحقيقة دَلَّ هذا أيضاً على فناء نفسه عن الحظوظ والأسباب.

ولكن هذا الفناء نفسه هو أعلى ما يمكن تحققه في مبنى التصوف ومعناه؛ ينطلق مع المجاهدة خُلقاً وفضيلة من القاعدة؛ ليندرج في القمة معرفةً؛ هو ذروة الأمر كله. تترتب هذه الذروة على قواعد أدرجها الجنيد في شَذْرَة له لما أن وضح معنى التصوف فقال في قواعده وأركانه هو:" تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، واستعمال ما هو أولى مع الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، وإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة".

فتلك خصائص تبدو من الوهلة الأولى تتلون بلون المجاهدة في الله؛ من المؤكد تفضي لا محالة فيما لو أحسن العبد القيام بها على أكمل وجه إلى لحوق السر بالله.

ومن المؤكد كذلك أنها لخصائص تجعل التصوف بعلومه وموضوعاته ورياضاته وأسراره وإشاراته، علماً مستقلاً عن أي مؤثر آخر، ينفرد بين سائر العلوم بخصائصه المعروفة، تميزه عن سواه ولا تلحقه إنْ في بناء الشكل وإنْ في بناء المضمون بعلم آخر أو بفن سواه، حتى ولو تشابهت في الظاهر بعض ألفاظ وكلمات من هنا أو من هناك يستخدمها أقطابه؛ بألفاظ وكلمات يستعملها سواهم ممَّن دونهم ولكن لا ينتمون إلى ميدانهم لا من قريب أو من بعيد.

ومن تلك النقطة؛ يفترق الرمز في اللغة الصوفية عن الرمز في اللغة العادية، يفترق ويتباين ويختلف؛ فلغة الإشارة ليست كلغة العبارة. الإشارة - كما قلنا فيما تقدَّم - ألطفُ من العبارة :" لأنها إيماءٌ إلى السِّر وتلويح إليه لا تصريح، وهى التي يستعملها أهل الطريق - رضى الله عنهم - فيما بينهم عند ذكرهم لما يفتح الله به عليهم من الأسرار التوحيدية، والعلوم اللَّدُنيَّة، والمواجيد والأذواق ".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم