صحيفة المثقف

التفكيكية وسطوة تقويض النص

علي محمد اليوسففي الفلسفة التفكيكية التي أعتمدت ما سمّي بالقراءة الجديدة المستمدة من الفلسفة البنيوية، أو القراءات التأويلية الاختلافية الأرجائية المتعددة للنص، نجد أنه جرى تداول تلك الطروحات اللغوية و الفلسفية عندنا، كما هو الشأن في جميع الصرعات الفكرية التي ظهرت في فرنسا على وجه الخصوص، ومن ضمن تلك التيارات الفكرية ما جاء به تروبتسكي وجاكوبسن ودي سوسير وفنجشتين وآخرين في مجال اللغة واللسانيات.

أن أنزياح وأستبعاد النص الاصل يكون من خلال توالي القراءة التقويضية أو القراءات التفكيكية المتتالية التي تختلف عن أصل النص في متابعة الجوانب أو الهوامش دونما المركز في متوالية لا نهائية من الهوس التفكيكي، الذي يصبح فيه أصل النص ميّتا أو ملغيا مندثرا بعد موت المؤلف حسب مقولة رولان بارت، الذي لا يشاطر التفكيكية تقويض النص.

والأهم رجوعنا في لمحة سريعة الى البنيوية التي أعتمدت لغة النص مرجعية قارة تحت شعار(لا شيء خارج النص) على خلاف التفكيكية التي جاءت في مقولات دريدا العبثية في فوضوية بناء اللغة وفي أعدام النص تفكيكيا لا يداخله هدف ولا نتيجة منتظرة فأوقعت نفسها في وحل العدمية واللامعنى الفلسفي وأصبحت التفكيكية اليوم محل أدانة وتندر لدى أغلب علماء وفلاسفة اللغة يتقدمهم جومسكي وفلاسفة لغة أميركان معاصرين غيره... رغم أحتضان الامريكان لتفكيكية دريدا من منطلق أنها صرعة فلسفية أستهلاكية جديدة عابرة لا تأثير كبير لها على الفلسفة البراجماتية، وتبّني فلاسفة أميركان بما سمّي التحليلية النقدية الجديدة التي مرتكزها أيضا علوم اللسانيات وفلسفة اللغة منهم جون سيرل وريتشارد رورتي..ونعوم جومسكي في توليديته المتفردة والتحليلية الامريكية أمتداد للتحليلية الانكليزية التي تزعمها جورج مور ،وبراتراندرسل، ووايتهيد وانظم لهم في وقت لاحق فينجشتين...

أعتمد الشكلانيون الروس في مؤتمر لاهاي عام 1929 مصطلح البنيوية الذي وضعه جاكوبسون، وقد رفضت هذه المدرسة التي أسست البنيوية الفرنسية على منطلقاتها التي جاء بها ليفي شتراوس وآخرين دوسيسير ولاكان وفوكو والتوسير فيما بعد فكرة عدم توظيف النص الادبي لنصرة معتقدات فلسفية معينة، ونادى الشكلانيون ضرورة ووجوب أعتماد النظر على الشكل الجمالي للادب بما هو تجنيس ثقافي أدبي لا تجنيس فلسفي معرفي ، أي في أعتبار الادب أدبا صرفا يتميز بعدة دلالات تعبيرية لغوية جمالية تجعله جنسا تعبيريا مستقلا مفارقا لنصوص ما سمي السرديات الكبرى الفلسفة والدين والايديولوجيا وغيرها...أن من أكبر الاخطاء هي التي تساوي بين عبثية التفكيكية على صعيد تقويض نص اللغة، وبين الفلسفة البنيوية التي لم تقف مباحثها الفلسفية عند مبحث اللغة فقط بل حملت تياراتها أبداعات لا حصر لها في مجال اللغة وعلم النفس والايديولوجيا والفلسفة والانثروبولوجيا وغيرها يأتي توضيحه لا حقا..

والى هذا الحد من الممكن أعتبار البنيوية من خلال تعدد أهتماماتها ومباحثها الفلسفية خارج بدعة الرقص التفكيكي في مخاتلات متن اللغة الفكري على هوامش الاختلاف والارجاء كما فعل دريدا، أن البنيوية تعنى بالانثروبولوجيا والاثنولوجيا(تاريخ الاقوام البدائية ما قبل التاريخ ) تحديدا عند شتراوس، وفي علم النفس لدى جان لاكان، وجان بياجيه في الفلسفة النقدية للماركسية ،وعلى نقد السرديات الكبرى كما هي عند التوسير، والجنسانية والجنون لدى فوكو. فالبنيوية على عكس من فقر التفكيكية الفلسفي في محدودية مجالات مباحثها التي أوقفتها على موضعة التحول اللغوي وتأثير ذلك على الادب والنقد منه تحديدا، كانت البنيوية  تيارا تجديديا في مباحث الفلسفة غير محدود له أنصار مررنا على أسمائهم قبل أسطر، على العكس من التفكيكية التي أرادت التعكّز على البنيوية اللغوية فوقعت في حضن الابتذال المعرفي التجريدي في محاولتها تفسيرمنطوق اللغة بعبث تدميري وهدم لا منطقي ولا فلسفي للنص أو الخطاب كما يفاخر به دريدا، الذي أصبح التنّدر به على لسان  العديد من علماء اللغة والمشتغلين في مباحث الفلسفة المعاصرة.

ولنقرأ النص التالي من كتاب علي  حرب (نقد الحقيقة) ألمتأثر جدا في تفكيكية دريدا في مقاربته المتعكزة على التفكيك كمرجعية (أن كل قراءة تختلف لامحالة عن النص الذي تقرأه أو تقرأ فيه، سواء أكانت القراءة شرحا وتفسيرا ، أو أستنباطا وتأويلا. وهي تنزع من ثمّ، وبحكم أختلاف ما تقرأه، الحلول محله، ولما كانت كل قراءة تأويلاوحمل لمعنى ما على المقروء، وترجيح لمعنى آخر، أي هي تأوّل، ومآل التأويل أن يحل محل التنزيل) ص 96من الكتاب..

أن الانزياحات التأويلية لأصل النص في تعدد القراءات وأختلافها ، يعطينا بحسب أحكام المفكر علي حرب، أن فكرة أو محتوى أو مضمون النص ، يمنحنا ترجيحا الى أن جميعها أفكار أو مرموزات لغوية أشارية متعالقة بما يتعّلق بأصل شكلانية النص بما هو شكل مجردا من مضمونه، وبعد أجراء القراءات التأويلية والتفكيكية عليه يكون لا معنى لنص الاصل ولوجوده أيضا كمرجعية ليست ثابتة، ولا يعد النص يمتلك حضورا حقيقيا بعد تعدد قراءآته التداولية المختلفة في تغييب مقصود لأصل ومركزية النص في ترجيح أعتماد الهامش القرائي...وبعد أن أخرجت التفكيكية تعدد الاهتمام بالهامش على حساب المتن المركزي في النص التداولي المقروء من خانة المرجعية في أحتكام الهامش القرائي الجديد له..

وبذا بدلا أن يكون أصل النص مرجعية ثابتة تحاكم بها وعلى ضوئها ، صحة قراءات الهوامش التجديدية على النص الاصل والتأويلات المتعددة له،يقوم التفكيك بأعدام أصل النص تفكيكا تحليليا الذي هو أساس ومرجعية جميع القراءات بتعدد وأختلاف أشكالها له، الذي تريد تفكيكية دريدا أغتيال أصل النص علانية كونه يحمل معان غير متاحة لقراءة أو عدة قراءات وفي أعتبارها كل ماهو باق يتوجب تفكيكه لاحقا الى ما لا نهاية.

والسؤال الجوهري هو كيف يمكننا البرهنة أن التأويلات القرائية في الهوامش وفي محاولة أستحضار الغائب المضمر في فائض المعنى على حساب المعطى الماثل في أصل النص على أنها وسيلة واسلوب الاختلاف في أستحضار فائض المعنى الذي تدخّره (تدميريا) القراءات التفكيكية في أعدام أصل النص لغويا قبل أعدامها أصل النص فكريا.(يلاحظ أن دريدا يستعير لفظة الهدم والتدمير من نيتشة وغاديمير وفي هذا تكمن نزعة العبث اللغوي فلسفيا الذي لا يقول شيئا ولا يضيف جديدا وليس بمستطاع دريدا أن يجيد غير الهدم والتدمير تنفيذه على صعيد بنية اللغة فقط.)..

لا توجد أية قناعة أو أستدلال معرفي أو لغوي علمي أو فلسفي يقودنا التسليم الى أن الرقص اللغوي المخاتل على الهامش القرائي الاختلافي هو أكثر مقبولية وحكمة وصواب من محتوى النص الاصل الذي قامت القراءات التأويلية التفكيكية بأعدامه تقويضا والغاء قيمته لأنه لم يف بالتزامه في كشفه المسكوت عنه وفائض المعنى المدّخر.

وكيف لنا أن نعرف أن المسكوت عنه هو الصحيح وليس ما يبوح به أصل النص وليس ما يذهب له وتدّعيه الهوامش من صدقية أفتراضية.؟ في بحثها الدؤوب عن فائض المعنى الذي تخلفّه اللغة وراءها في تعدد القراءات والاجتهادات والتأويلات.

التفكيكية تنسب لنفسها الرقص على الهامش والجانب في المواربة اللغوية الاختلافية مع أصل االنص البؤرية لتجعل من طروحاتها النظرية البائسة تجديدا شبحيا في الفكر الفلسفي...ولا نستبق التعليق أن جاك دريدا في التفكيكية يلغي تماما أية مرجعية ثابتة يمكن الاحتكام لها، ويعتبر دريدا أنه حتى العقل لايمثّل مرجعية ،لأن هذه المرجعيات التي أعتمدتها مباحث الفلسفة قبل التفكيكية ، طالما أعتبرتها مباحث الفلسفة مرتكزات محورية شبه ثابتة فهي أصبحت ميتافيزيقا يتوجب مجاوزتها، كما أن دريدا يرفض (المنهج) بأعتبار أن التفكيك لايحتاج المنهج لأنه (استراتيجية) آلية تفكيكية تطال كل شيء، وحتى التفكيك يعقبه تفكيك الى ما لا نهاية له أو توقّف عنده...كما أن دريدا هاجم هيدجر وأعتبره ميتافيزيقيا كونه يؤمن بمرجعية العقل الذي هو ثبات لا يعتّد الاخذ به.

وأذا نحن سّلّمنا بهذا التحليل القرائي التفكيكي للنص الاصل، فسنكون في حالة ضياع وتيه في أستقصائنا أين يكمن المعنى الصحيح وفي أي من القراءات التأويلية التي طالت النص الاصل وغيّبته قسرا نعتمد في الوصول الى الحقيقة؟.

ويصبح التشتت القرائي الاختلافي هو سيد التيه والضياع، نتيجة منطقية لما يتوجب علينا معايشته في تعدد الانزياحات المتناوبة في أستهدافها أصل النص بالتغييب العمد كهدف مطلوب في ذاته ولذاته فقط في أشباع هوس التفكيك اللغوي في الهدم والتقويض.

نعتقد أن أصل النص هو حقيقة مرجعية ليس سهلا الاستغناء عنها أو تغييبها، وأنه أيضا خلفية أسترجاعية ثابتة لمعرفة ماذا أضافت القراءات التأويلية الشارحة عليه، وأين أصبح موقع أصل النص بعد تناوب القراءات الالغائية له وماذا بقي منه؟ وأين أوجه القصور والخطأ به.؟ والنص منتج عقلي، والعقل والنص مرجعيات نحتكم لها ليس لحقيقة وجودها وثباتها، بل لأنها من الضرورات البدهية التي بضوئها نستطيع الحكم على مدى أهمية قراءاتنا اللانهائية الافتراضية لأصل النص.

من المهم التذكير بأن رولان بارت على أختلاف مع التفكيكية التي تذهب الى أعدام أصل النص تفكيكا أختلافيا تداوليا، فهو أكتفى بألغاء هيمنة المؤلف على النص ووصايته على القاريء، وأوصى أن يكون حضور النص مرجعيا أستدلاليا في تعدد وأختلاف القراءات هو فقط دون غيره.، ولا شيء خارج النص.

أننا نفهم أن كل نص هو كيان مادي قائم بذاته، والافكار قوة مادية تأخذ أنسنتها الطبيعية من المتلقي به واليه،ويتوجّب علينا أن ننطلق من أن كل قراءة او عدّة قراءات لأصل النص مهما أوتيت من قدرة تأويلية ذكيّة فهي ليس بأمكانها ولا بمستطاعها الغاء حضور محورية ومرجعية (أصل النص) حتى لو تعاملنا مع الغائه مجازّيا وليس حقيقيا، ثم والأهم لماذا نحن نعامل القراءات الهامشية الدائرة حول مركزية النص الاصل انّها هي مايمّثل الحقيقة المطلوبة المؤقتة التي سينالها التقويض التفكيكي لاحقا، وليس العكس في عدم أعتمادنا مركزية أصل النص أنها هي الحقيقة التي على ضوئها نحكم على صحة منطلقات الهوامش القرائية التي تدور حول اصل النص وتستهدفه بالالغاء؟ من جهة أخرى أننا سنضع أنفسنا بهذه الحالة أمام سلسلة لا تنتهي من الالغاءات المتناوبة على أستهداف أصل النص في أعدامه وأخراجه من دائرة التلقي في تعدد وتنوع القراءات له .وهذا هوما تنادي به التفكيكية وتعتمده بالصميم. /

 

علي محمد اليوسف / الموصل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم