صحيفة المثقف

قراءة في المجموعة الشعرية (ثمة ما يجري دائما)

محمدـحسينـ الداغستانيتوق التغيير في مجابهة تحديات المكان

يشكل هاجس الاغتراب دافعاً مهماً للتغيير لدى شعراء العرب قديماً وحديثا ً، فالواقع المشحون  بالإحباط والفساد والإقصاء وما يجري حول الشاعر من أحداث يعمّق فيه الاحساس بالغربة والقلق وكان ولا يزال يحثه الى التطلع للبديل المثالي الذي يوفر له البيئة الضامنة للتعبير عن معاناته وبحثه المشروع عن الامان والسكينة .

وفي الغور في إنثاليات الإرث الشعري الحافل بمعطيات الحزن والعزلة والوحشة وبالمعاناة والرغبة العارمة في التغيير بل وفي كثير من الأحيان لتلبية حاجة نفسية تمور في اللاوعي، كانت تجليات ثيمة الرحيل بوصفها قيمة إنسانية تتبلور في الكثير من نماذج شعر المتنبي و مالك بن الريب التميمي وابن زريق البغدادي والبحتري والبارودي وفي اندلسيات احمد شوقي. وصولا الى بدر شاكر السياب و أدونيس والعشرات غيرهم الذين كانت قصائدهم تعزز هذه الرؤية 

ونتيجة الكوارث و المحن والويلات التي تعصف بإنساننا، فقد شكل الاغتراب في الشعرالعراقي المعاصر ولدى شعراء كركوك أيضاً والشباب منهم على وجه التحديد محطة فارقة في نتاجهم الشعري الذي ضجّ بالرغبة في الانعتاق من استبداد المكان وبؤسه وآلامه، ولم يكن الشاعر هشام القيسي استثناءً من هذا التوصيف فتوق السفر نحو المجهول بحثاً عن الخلاص بات سمة بارزة تبصم نصوص مجموعته الشعرية الموسومة ( ثمة ما يجري دائماً):

أوقات دائمة التنقل

تدعوني الى العزف

كي يهطل الضوء

وفي مهد السفر

أحدق في المرآة

من أجل ليلة تشهد نفسها

بوثيقة الشعر

هناك أطل على أقاصي الحكمة

هناك أستيقظ ثانية، وأغني !

ولا شك أن الإنتقال المادي الفردي من المكان بمعناه التقليدي والمألوف لم يكن مبعث هذه التداعيات في تركيبة البناء الشعري للمجموعة، وإنما شكل حافزاً معنوياً حاداَ لمغادرة السكون والبحث عن السعادة المفقودة لكل من في حوله، لهذا فإن متواليات مفردات اللغة عززت هي الاخرى شحن الفكرة، فكان (الآخر) الذي إستعان الشاعر بأسماء الإشارة للتدليل على حضوره في سويداء الحدث، فمثلما سبق له ووظف (هناك) للتأكيد على المكان / الحلم فإنه يكررإستخدام (هذا) لتصعيد وتيرة الفعل بتناسق مبهر للفظ بقصد إضفاء إيقاع شعري يكون بديلاً عن القافية والوزن في مسعى لتعميق تجربته والتأثير في المتلقي بأسلوب يتجاوز تحدي المكان الى حيث الاسفار الطويلة:

أصعد في هذا المكان

أهبط في هذا المكان

تحت كل أسطوانة

جذور في طريقها

إلى كلمة مفتوحة

والى شرارة

طيلة الوقت

والى أسفار طويلة . 

ويبدو واضحاً إسراف الشاعر بوعي في المضي بإستنباط أسلوب التكرار، فهو يعمل على تطويع إسم الإشارة (هذا) مرة تلو الأخرى في خلق نمط غنائي يؤلف بين علاقاته عن طريق التكرار مع النسق الصوتي النابع عن فضاءات إسلوبه اللغوي المباشر والمضي قدماً لمغادرة تجربة مرارة المكان والزمان معاً، ليتفاعل مع دفقه الإنساني ورغبته الدفينة في رؤوية الصباح لكن بعد أن تغسل الايام محنة الفراق الموجوع:

هذا الشاعر لا يتوقف عن الحديث ..

هذه الكؤوس لا تنس المدينة ..

وهذا البستان لا تختفي أوراقه ..

وعندما تغسل الأيام فراقها

يتذكر الصباح ينابيعه

وبلغة شعرية طرية مترعة بالنداوة يؤدي الخيال الابتكاري لدى القيسي إضافة نوعية لتشكيل الرؤية المستقبلية في تطلعاته، فالبناء الشعري الذي أسسه بمفرادته منح البيئة السايكولوجية لإصرار فارسه على نيل فرصة السفر الى مدن جديدة بُعداً آسراً تنبض بالفرح، وهي معادلة منصفة ذلك لأن الأسفارالموحية بالإنجاز تستحق من الشاعر أن يقايضها بما تبقى من العمر:

انت الآن تكتب أسفار المدن الجديدة

وأنت الفرح الذي يجدد بناء البيت

أغنياتي إليك

وفي موجك

أمنحك أنفاسي الأخيرة . 

ويتناغم هاجس السفر والبعد الروحي مع الصورة الشعرية التي يرسمها القيسي بكلماته الموحية، ويتشظى المعنى على أديم النص لخلق الدلالة النفسية في القارئ وهي إحدى مكونات النص الاساسية في نصوص مجموعته، فيغدو التشبيه في (تدمع الجهات..) ترجمة لما يقوله الجاحظ على وصفه للشعر (بأنه فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير) فالصورة فجرت الطاقة الفنية للمفردة وزاد في اندفاعاتها الدلالية:

في كل مساء

فيما تدمع الجهات

وحيثما تشهر قلقاً

يقدم الأحياء

تذاكر المحطات البعيدة !

وفي مسعاه لإضفاء الغموض على بعض مضامين نصوصه والذي هو من أبرز سمات الحداثة في الشعر العربي المعاصر، فقد أثار القيسي صوراً وعناصر متنافرة لا رابط لها في الواقع ودون أي توضيح ليلهب بذلك خيال القارئ تاركاً له المجال واسعاً للتحليق في المعاني بعد أن حقن الصور التي ابتدعها بطاقة لغوية أعانته على التعبيرعن مقاصده المبهمة في غربته ورحلته الطويلة وبشكل يخالف الصيغ المألوفة والتقليدية للقصيدة، لذلك فإنه عمل على تفكيك الألفاظ والتراكيب من مدلولاتها وأعطاها معان ٍجديدة للتفسير والتحليل:

إنه إبتداءٌ ... إنه رغبة

إنه وصول الى رحلة هاوية

يدخن في كل الساعات المتأخرة !

 

ولا يكتف القيسي بالتدخين في ساعات الليل المتأخرة مخترقاً ضباب وحدة الروح وغربتها فهو حريص أيضاً على الإطلالة من خلال النوافذ البعيدة، يدعو الغربة تنهل من نبع مبارك وهدنة مع المسافات الممتدة على مدى البصر لكن اليأس ينتابه من ومضة ٍ لقادم يجيد الصمت ويتآلف مع العتمة ..

كلم الأيام الى النوافذ البعيدة

ودع السفر الطويل يبارك البئر

فلم يعد حكم الهمس

يومض في الطرقات .

هكذا إذاً يدرك القيسي إن الرحيل الى المجهول له وجهه الآخر فيمضي في سعيه المحموم بلغته الغامضة ليطرح الواقع الاليم الذي يطفح بالاحساس بالقلق والإختناق إلا أن المعضلة تكمن في النهار الذي يشبث بالموجودات من حوله والذي لا يمضي باليسر المرتقب:

مرة أخرى

ليس الهواء أبداً

لم يعد يصلح الآن للإقامة

إنه لا يغادر ظله

حتى يسعل النهار

آخر مديحه !

إن الإحساس بوطئة التفرد والانقطاع عما يجري خارج الذات من مرارة وبؤس وخلل إجتماعي بيّن، يحث الشاعر على الرفض وإعلاء صوته وإعلان مشاركته الوجدانية والنفسية مع من يعاني من الحنين فينغمس في شواهد إستدعاءاته ويلوذ برمزية عناصر الطبيعة لكي يجسد طموحه الدؤوب نحو حل معضلة إغترابه الروحي وتجفيف وطأته:

وها أنا الباقي

أرفع صوتي شموعاَ

تطلع منها علاماتي

وتطلع مائدة بين المحطات

ترسل أشجان الكأس

إلى من يشكو الحنين

والى حلم.. والى أغنيات

لم أزل، أيتها الحديقة الفواحة

لا يلزمني غير غيمة وأمل.

لقد بدا واضحاً أن الشاعر تصدى لمعاناة الإنسان في مجتمعه وهو يجابه تحديات الواقع وأزمة الهوية وما يجري من حوله دائماً، وأدرك تماماً أن عليه إنتهاج فعل إرادي لتحقيق الحلم الآسر والتوق الى غدٍ يمور بالأمل وغيمة تبشر بيُمن وفير .

 

محمد حسين الداغستاني - كركوك

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم