صحيفة المثقف

رسالة الفكر في زمن العدوان (3)

مجدي ابراهيملم تكن التصورات المادية التي تقيّم الإنسان والأشياء كلها بالقيمة المادية وتقيس الحقائق الكبرى جميعها قياساً مادياً سوى صورة قبيحة لعصر مظلم يكاد يقضي على الإنسان، وينسف آخر ما تبقَّى فيه من قيم وأخلاق وحكمة، ومن حق وخير وجمال. لقد كانت هنالك نغمة سائدة ولا زالت مع شديد الأسف تسود، وكان لها في كل زمن وفي كل عصر أنصارٌ وذيولٌ وأتباعٌ، كانوا ولا يزالون أبواقاً منفِّرة لهذه المادية الكريهة التي يتفجَّر منها العنف وتطويها دعائم الإرهاب، ولا تعرف الرحمة لغيرها فضلاً عن أنفسها، وتقترن فيها القوة بالعتاد المادي، ولا ترى على الإطلاق وجهاً للقوة غير ما تراه فيما تمسَّه الأيدي وتدركه الأبصار ويقع تحت طائلة المحسوس والملموس، فإذا الشراهة المادية أثرُ من آثار تلك النزعة البهيمية، وإذا الطفاسة الحيوانية غاية المرام من وراء كل تقدّم يراه الواقعيون علامة على السيادة والقوة والإيمان بالغايات الترابية.

لقد كانت تلك النزعة نغمة سائدة في الفلسفة التي ترفض كل شيء إلا ما هو واقع تحت طائلة المحسوس، لا يعنيها أن تكون هناك روح تميزها أو توصف بها خارج الأوضاع القائمة بالفعل، وتسمِّي هذا كله نظرة علمية تقتضي من صاحبها ألا يتجاوز الأمور الواقعة .. في ماذا؟ في تصوراته وأحكامه، وفي تقيمه وتقويمه، وفي بواعثه ومناشطه، وفي إيمانه وضلاله، وفي مداركه الظاهرة وغير الظاهرة، الأمر الذي أضحت معه تصورات التفكير كلها لديها وضعية ومادية. وما على الإنسان الحق القادر على التقدُّم في مجالات العلم في عصر العلم إلا أن يسلك طريقه بمقتضى الواقع المشهود لا بمقتضى "الفكرة" فيما سواه، ولو كانت علوية؛ لتكون - من ثمَّ - نزعته في المقام الأول نزعة علمية مقبولة في العقل والمنطق، أو إنْ شئت الدقة هى بالحق نزعة مقبولة، لكنها في مدارك المحجوبين.

إنها لتبدو مفارقة غربية أن يعلم الإنسان كثيراً عن المادة، ويجهل كثيراً عن نفسه! وهل يُعقل أن يتقدَّم الإنسان في إدراك قوانين المادة وتسخيرها، ويتأخر، عمداً أو جهلاً، في معرفته بحقيقة نفسه ومسائل مصيره؟ إن طرح السؤال بهذه الكيفية والبحث عن إجابة له مقبولة ومحددة لهو من أشق الصعوبات التي تمَّ منذ القدم "تجهيل" الإنسان من أجلها : تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف سرَّ الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري. إن علم الإنسان بالإنسان متأخرُ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النووية والبيولوجية. صحيحُ أن هنالك محاولات شاقة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكاد يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه - فيما يقول برْجُسون - يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه، فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي. إنه العلامة الدكتور "ألكسيس كاريل" صاحب كتاب "الإنسان ذلك المجهول"؛ هو الذي قرَّر تلك الحقيقة الساطعة في مجال المقابلة بين تقدّم الإنسان في علم المادة وتأخره في علمه بنفسه؛ فقال في الطبعة الرابعة المُعَرَّبة من الكتاب، والتي ترجمها الأستاذ شفيق أسعد فريد، وصدرت عن مكتبة المعارف؛ بيروت سنة 1405هـ - 1985م :" إن معرفة أنفسنا لن تصل أبداً إلى تلك المرتبة من البساطة المعبِّرة؛ والتَّجرُّد، والجمال، التي بلغها علم المادة؛ إذْ ليس من المحتمل أن تختفي العناصر التي أخَّرَتْ تقدّم علم الإنسان، فعلينا أن ندرك بوضوح : أن علم الإنسان هو من أصعب العلوم جميعاً" (ص :23). ولما كان العصر الذي نعيش فيه هو عصر يسوده العلم بمعنى تنامي المعرفة العلمية واستخدام العلم والمنجزات العلمية في شتي مناحي الحياة الإنسانية وتسخيرها مؤخراً في قتل هذه الحياة وتسميمها؛ فإنّ الفلسفة المُحقة في نظر أصحابها لابد أن تضع العلم الذي لا يتجاوز "الواقع" مطلقاً في مقدمة أولوياتها، وبالتالي إذا تقدَّم العلم؛ فليس شرطاً ضرورياً أن يجيء تقدُّمه مرهوناً بتقدّم الإنسان، ليس شرطاً أن يجيء تقدم العلم على وفاق بفاعلية القيم الخُلقية وتقدّمها، بل الأخلاق كلها على الجملة نسبية متغيرة باختلاف الأفراد والجماعات وعادات الشعوب والرؤى والتصورات.

ثم زكَّت هذه الفلسفة عِوج تلك النظرة التي أنفصل فيها العلم عن الأخلاق، حتى في النظام العالمي الذي أسهمت فيه الصناعة إسهامات وصفت العصر كله في القرن الماضي بأنه عصر الصناعة فيما سبق، وعصر القنوات المفتوحة فيما هو عليه الحال الآن كنظام اتَّسَمَت به الحياة العصرية الجديدة بميسم العلم والكشوفات العلمية.

أقول؛ حتى في نظام العالم الصناعي سابقاً أو نظام القنوات المفتوحة والعقول الكونيَّة لاحقاً، استخدم العلم لا ليكون في الغالب مبعث حياة عقلية وموطن انطلاق بل ليكون وسيلة للسُّخْرية من الفكر والأدب والفن، ومدرسة لنشر الغفلة والحماقة ! الأمر الذي يدل من الوهلة الأولى على أن العلم قد اتخذ لنفسه طريقاً معوجاً عن طريقه. يُروَى أن الأديب الكبير"أناتول فرانس"، كان قد زَاَرَ ذات يوم مطبعة كبيرة، فحييّ تلك الحروف الرصاصية التي ستحمل العدالة والحق في أرجاء العالم. ووا أسفاه ..! فلقد صارت تلك الحروف الرصاصية نفسها على وجه العموم تحمل الكذب والغباء وروح البغضاء وروح الحرب، وكل هذه المادية الكثيفة التي تخنق أنفاس العالم !

لقد آن الأوان لرسالة الفكر أن تنهض من كبوتها، آن لها أن تستيقظ من غفوتها لتنشر في أرجاء هذا العالم الحيران قيمها الأصيلة وثوابتها الباقية، تعيد للعلم أشرف غايته، وتقيمه على أنبل المقاصد السامية، كما هو الأصل في ذاته : مقصدُ سامي ومطلبُ نبيل.

وإذا كان من شأن العلم أن يُسَلِّح الشعوب القوية لتفعل أفاعيل الفتك بالأمم الضعيفة، ففي مقدور الذين يطبقون إنجازات العلم أن يتسلحوا لمواجهة طغيان المادة الجارف، وأن يستخدموا التطورات العلمية استخداماً يقف حائلاً أمام الأطماع والأهواء والشهوات والفتن وجرائم الحروب. وفي منطق الضمير الإنساني - لا منطق الناس جميعاً - إنّ العالم الذي يقف ثابتاً لا يبالي أمام الجثث والأشلاء ولا يُحرِّك ساكناً إزاء التشوِّهات والجراح يبدو مشاركاً بوجه أو بآخر في عمليات القتل والدمار، بل هو أطوع خدَّام الجرائم الحربية والخلقية على الإطلاق؛ رضى بذلك أم لم يرضى.

ينبغي في منطق الرسالة الفكرية التي تعيد للعلم غاياته الأخلاقية، ألاَّ تنشر الثقافة العلمية إلا وهى مقرونة بثقافة القيمة ومطالب الأخلاق، وإلا فثورة العلم إذا هى مضت تحقق طموحها بغير ضابط، فلن تكون أولاً وآخراً إلاِّ ضد الأخلاق، وإذا هى كانت ضد الأخلاق فقد كانت كذلك ضد الإنسان.

ولك أن تتخيل إنساناً يهدم بالمعول الذي يظن فيه أنه ممسكاً به على قوة، وهو يبني ..! لك أن تتخيل ..!

 

 بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم