صحيفة المثقف

الحروب الوقحة في الألفية الثالثة

عبير خالد يحيىدراسة ذرائعية مستقطعة لرواية  قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية) للأديب السوري زياد كمال حمامي

إغناء: اخترت أن أبدأ دراستي  بمقدمة لبحث منشور في موقع maaber.org  بعنوان (باراديغم[11] الحرب العالمية الثالثة محاولة في تحديد مفهوم الإرهاب) كتبه /الفاهم محمد/، وهو باحث في قضايا الفكر الفلسفي من المغرب، في مقدّمة مقاله يستعرض القوانين  والقيم الأخلاقية التي كانت تحكم الحرب الكلاسيكية:

....ورغم أن الحرب كانت دومًا تمثل الخطر الأقصى الذي ينبغي دفعه واستبعاده عن الأمة، إلا أنها مع ذلك وفي حالة قيامها فهي تنبني على أخلاقيات صارمة، تتعلق مثلاً في حالة الإسلام باحترام العدو وعدم التنكيل بأطفاله ونسائه، كما تفرض أيضًا قيودًا صارمة بضرورة احترام الطبيعة  وعدم تسميمها، فالحرب ينبغي أن تتمَّ في نوع من الممارسة الفروسية النبيلة، والانتصار غير المستحق ليس انتصارًا شريفًا وإنما هو هزيمة مقنَّعة. إن المبدأ العام الذي كانت تقوم عليه معارك الماضي هو أن الهزيمة بشرف خير من الانتصار الغادر. كانت الحرب حتى في أبشع صورها أخلاقية لأنها لم تكن هدفًا في حد ذاتها، بل هي وسيلة من أجل وضع القانون وخلق نظام اجتماعي ما. غير أن المنعطف الذي تعرفه الألفية الثالثة بعيد كليًا عن هذا الأفق، فنحن لأول مرة في تاريخ البشرية نتجه نحو تأبيد الحرب وجعلها علامة مميزة للحضارة المعاصرة.

التبئير الفكري:

المتتبع لأعمال الأديب السوري زياد حمامي يجد أنه كاتب وطني، تعتصره آلام الوطن، وتتحشرج في   حنجرة قلمه غصّة قهر وهو يرى وطنه عرضة للسلب والنهب، يعيث فيه الفساد والفاسدون، يتآمر على حريته وكرامته كلّ من هبّ ودبّ، من الخارج والداخل، وطن كان حضنًا آمنًا لكلّ من وفد إليه، عدا عن أبنائه الذين نبتوا فيه، ولم يكن له نصيب كبير من الوفاء  لدى العديد منهم، خانه الكثيرون، وباعه العديدون بأبخس الأثمان، مقابل عرض دنيوي، وسرقه الطامعون.

 وعلى هؤلاء (السارقين والخونة) يركّز الكاتب عدسة قلمه،  ليكشف سرقاتهم وخياناتهم، على الذين يسرقون تاريخه وحضارته، ويزيّفون هويّته الثقافية والفنيّة، يسرقون آثاره، ويشير صراحة إليهم، في داخل الوطن وخارجه، ويكشف الستر عن منظمات عالمية ماسونية تخطط وتنفذ عبر أذرعها المشبوهة وهي عبارة عن تنظيمات سرية شاذّة داخل الوطن، لا تنفصل بالمعتقد الفكري والديانة عن القاعدة الماسونية، يهودٌ اختاروا البقاء في هذا الوطن الخيّر، فلم يلفظهم حين حاولت الوكالة الصهيونية استقطابهم  للقدوم إلى فلسطين في العام 1948، بل أمّنهم فيه وترك لهم حرية الاختيار، فكان جزاؤه منهم أنهم سرقوه بخديعة، وما كان بقاؤهم إلّا لهدف سرقته بطريقة ممنهجة، يعاونهم في ذلك الفاسدون المرتزقة من أهل البلد الجهلاء، الذين استباحوه حدّ الاغتصاب، تحجب جرائمَهم حربٌ عبثية لم ينتصر فيها أحد، ولم يكسب فيها إلّا تجّار الحروب من أهل النذالة والدونية. عالج الكاتب هذه الفكرة الخطيرة باستراتيجية قلقلة، فقد أعطى عنوانَين للرواية، فسار بطريق الإيهام، وبما أنّ روايته هي عمل واقعي فإن الإيهام كان سدًّا أمام المتلقي لإدراك بؤرة الكاتب وبؤرة النص عن طريق عتبة النص الأولى (العنوان)، فالعنوان الجيّد يجب أن يتّصف بصفتين، الأولى  قصر العنوان، والثانية: تركيز المحتوى في تكوينه، ليقود المتلقي نحو بؤرة النص الأساسية بشكل مباشر لا لفٌّ فيه ولا دوران، كما كانت ديباجة الرواية مبعثرة- وهذا أمر معذور فيه الكاتب- تعجّ بالمشاهد الباعثة على الشَّدَة والذهول من هول الواقع الذي فاق الخيال فعلًا، وذريعتي في ذلك اعتراف الكاتب نفسه، والذي قدّم به العمل، فقد دخل في منطقة كانت -وما تزال -  تُعدّ محظورة، خطيرة كحقل ألغام وأكثر، فكان شجاعًا يبتغي التحرّر، لكن أيضًا كان مضطربًا ويائسًا، استنجد بالخيال للتخفيف من حدّة الواقع، فخلط بين الواقع والخيال والتبس عليه الأمر بين صحوة الجرأة والإقدام وخَدَر التشاؤم واليأس. يقول في مقدمة الكتاب:

اعتراف

قد يكون الواقع أغرب من الخيال، وأشد وطأة، وقد يكون اللامعقول في غرائبيته هو الواقع نفسه، أو هو الحقبقة المخفية، وأعرف إذ ذاك، إن ما نخشى منه لا بدّ من الولوج فيه، والمغامرة من أجله، ولهذا، أردت أن يدرك المرء ما يخفى في نفسه، وفي محيطه، وما يصاغ في الأقبية السرية، وفي الحارات، والأزقة الشرقية، ويحاكيه، أو يحاكمه، بلا توجّس أو خوف أو خجل.....

الخلفية الأخلاقية للعمل:

 وهي جزء متمّم  من المستوى الأخلاقي، الذي يضم التبئير الفكري والخلفية الأخلاقية، مقدّم على شكل  صورة بهيئة مخطوط قديم، خُطّ ّعليها جزء من رسالة الإله بعل: إله البرق والعواصف والأمطار 5000 عام  قبل الميلاد.

"سورية بلدكم، أينما

كنتم. وهذا حقكم.

فحطّم سيفك، وتناول

معولك.

واتبعني لنزرع السلام

والمحبة:

أنت مركز الأرض"

وهي رسالة محبة وسلام واحتواء، اختارها الكاتب لتكون رسالته الإنسانية والأخلاقية والوجدانية، ترفد خلفيته الأخلاقية، وأيديولوجيته الوطنية والإنسانية، وفيها رفض واضح لكل الأيديولوجيات والنزعات الطائفية والعنصرية والعرقية، ودعوة للبناء والسمو بعيدًا عن الصراعات والحروب والنزاعات الطائفية والعقائدية التي لا تخلّف إلا الدمار والخراب والفناء للإنسانية.

 المستوى البصري:

العنوان كمكوّن نصي موازي:

لاحظت في البداية أن للعمل عنوانين، ولا يمكن أن يكون عنوانًا واحدًا طويلًا هكذا، أو عنوانًا رئيسيًّا وآخر فرعيًّا، حتى ولو كان  العنوان الثاني موضوعًا ضمن قوسين، وحسبت أن الكاتب لا يمكن أن يفعل ذلك غافلًا، وإنمّا عامدًا، فالعمل ليس أول عمل له، وله باع طويل في الأدب السردي والقصصي، وله خبراته ومهاراته ومعرفته الأدبية الكبيرة في هذا المضمار، فلابدّ أنه فعل ذلك قاصدًا، وفعلًا  كان ما حسبته صحيحًا، فالكاتب يضمّن عمله الروائي موضوعَين هامَّين، أحدهما ديباجة للآخر، لذلك وضع عنوانين، ولكني لم أجد ذريعة لتصرّفه الإجرائي هذا، فلا يوجد عنوانان لعمل أدبي، كما لا يوجد اسمَان لشخص واحد، وإنّما هناك اسم ولقب، سيّما وأن الكاتب قد استند على الواقع الإنساني والعلوم المرافقة، وهو يوجّه عمله نحو متلقٍّ يهمّه أن تكون اللغة أداة توصيل، طالما أن العمل مكتوبٌ وليس منطوقًا، فلو كان منطوقًا لتحقق التواصل عبر اللغة المحكية وليس المكتوبة، ولو أنّ الكاتب عطف العنوان الثاني على العنوان الأول بحرف العطف ( الواو) لكان أفضل، ولأعطى مدخلًا واسعًا يعبّد الطريق نحو فهم إنساني وعلمي للمحتويات السردية والبؤرة الأساسية للكاتب والنص، مع ملاحظة أن العنوان الطويل ليس محبّذا في أي عمل أدبي. 

 المستوى المتحرك والتجربة الأدبية الإبداعية للكاتب: 

اختار الكاتب أن يشيد بناء عمله فنيّا على الثنائيات، توحّدت في:

 الزمكانية:  فالزمان: زمن الحرب القائمة في سوريا وإلى الآن، وتحديدًا من العام 2013 حين انتقل أوار الحرب إلى حلب، هذا هو الزمن العام، أمّا زمن الحدث فهو خلال فترة هدنة بين الأطراف المتصارعة (الجيش النظامي والمعارضة المسلحة) مدّتها  48 ساعة، وما بعدها بقليل.  

والمكان: حارة اليهود أو حي البندرة.

الموضوع:

موضوعان، أحدهما مضمونه الحرب القائمة في سوريا، والثاني مضمونه سرقة التراث الثقافي والحضاري بمؤامرات سرية من منظمات ماسونية.

 الموضوع الأول:

يبدأ بحدث اغتصاب البتول مرارًا وتكرارًا على يد همجيين فاسدين طرحتهم الحرب في بدايتها، قتلوا والدها وتداولوا اغتصابها، والبتول هي أجمل بنات حارة اليهود: البندرة، شهد كل أهل الحي منظرها المريع بعد الاغتصاب، ولم تحتمل عار الاغتصاب، فألقت بنفسها من سطح البيت، لكن لم يُعثر على جثتها، فلم يجزم أحد بموتها، وجعلوا لها في مكان سقوطها المحتمل مقامًا، كانت هذه بداية الأحداث في هذا الموضوع.

ولقد صنع الكاتب من هذا الموضوع( الأول) ديباجةً لروايته الأصلية (الموضوع الثاني)، ليجذب القارئ،  وكأننا أمام شاشة عرض بانورامية شكّلت أرضية معقولة وبيئة منطقية للرواية، وهذا تكنيك يحسب للكاتب، حيث جعل الحبك الفرعية تصبّ في المجرى العام للحبكة الأصلية بذريعة التشويق، كمن يقدم طبقًا من طعام مع مقبلات ليداعب شهية الزبون، داعب الكاتب شهية المتلقي بتلك الديباجة.

التشابك السردي في الموضوع الثاني:

 شهدنا فيه مثلث صراع ومثلث انفراج ونهاية محسومة، البداية كانت من علاقة الحب التي بدأت قديمة بين عبد السلام الشاب المسلم والنحات، وبين ليزا الشابة اليهودية ابنة أبراهام فراحي الحارس السري للمعبد اليهودي في حي البندرة، قد تكون قصة الحبّ صادقة، لكن هناك إشارات يلقيها الكاتب من خلال تدفق تيار الوعي والذكريات عند عبد السلام تشكّك بذلك، لنجد أن كل الأمور حتى الحرب التي أرعبت كلّ أهل الحي، جاءت في مصلحة المهمة والمؤامرة التي كان أبراهام يخطط لها مع الوكالة الماسونية (أبناء الحليب) - والتي كانت ليزا من أهم أعضائها وتستعد لتتويجها ملكة فيها-  لسرقة تمثال (الإله حدد) من المتحف الوطني، تستخدم الوكالة بعض المرتزقة مثل أبو جمرة وجماعته، فيسرقون التمثال من المتحف مستغلين فوضى الحرب، بعد قتل الحارس، يستغل ابراهام حب عبد السلام لابنته ليزا، ويفاوضه على صور تظهره بأوضاع جنسية مع السائحة اليهودية سوزان، السائحة الكندية من أصول حلبية، والتي قضى معها ليلة في فندق البارون، وأرسلت له بعد سنوات صورة طفل ادعت أنه منه وعندما قامت الحرب أرسلت تطلب منه اعترافًا بنسب الطفل له، فاوض ابراهام عبد السلام على إخفاء هذا السر عن ليزا مقابل أن ينضم عبد السلام إلى جماعة أبناء الحليب التي رفض في السابق الانتماء لها رغم كل محاولات ليزا لإقناعه بها قائلة قولتها الشهيرة:

"إذا لم تستطع أن تغيّر العالم، غيّر نفسك، وكن من النخبة التي لا تستطيع أن تفعل ذلك"

ويكون أول مهامه أن ينقل التمثال المسروق من قبو منزل أبراهام إلى خارج المدينة، مستغلًا أيضًا الفوضى  الخلاقة بعد توقف الاشتباك بين المتحاربين، جيش النظام والجماعات القتالية المعارضة، على اعتبار أن عبد السلام نحّات معروف، وجود التمثال بحوزته أمر طبيعي، تمثال يدّعي أنه نحته، معتمدين على جهل العناصر الموضوعة على الحواجز، يتم إخراج التمثال في تابوت كان من المفترض أن يحوي جثمان (روز) زوجة أبراهام التي ماتت إثر نوبة اختناق بأزمة تنفسية، عندما أجبرها أبراهام هي وليزا على الاختباء في القبو الرطب العفن، يخرج عبد السلام بالتمثال، كما هو مخطّط، لكنه لا يتجه إلى خارج المدينة، وإنما يتجه إلى المتحف الوطني، يقتحمه وسط مخاطر إطلاق الرصاص عليه، وإصابته فعلًا، لكنه يصل المتحف ويعيد التمثال إلى مكانه محبطًا مؤامرة السرقة، ومغيّرًا نفسه، يستشهد، ليكون من النخبة التي استطاعت أن تغيّر نفسها، وتهب حياتها لفنّها ووطنها، طالما أن تغيير العالم غير ممكن، لأنه إنجاز فوق قدراتها.

استخدم الكاتب الطريقة الحديثة ببناء الحدث في موضوعه الأول (الحرب):  والتي تبدأ من التأزّم وعاد إلى الماضي flashback مستخدمًا التقنيات السردية الراجعة:

كتيار الوعي Stream of consciousness، والذكريات Memories.

ومن خلال تلك التقنيات، وبالإضافة إلى السرد الحدثي المباشر، عرّج الكاتب على الكثير من القضايا، أبرزها قضايا الفساد المجتمعي، والطغيان السلطوي الذي جعل للكثير من أصحاب السلطات أياد طويلة، تسرق وتنهب وتستولي، وتبطش وتروّع وتعتقل، وتكمّمم الأفواه، وتوزّع المناصب على غير الجديرين، قضية اغتصاب الفتيات الأحياء والأموات، وتزويج القاصرات، وحرق الدور وقصفها بالقذائف، وقتل الشرفاء، وكانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوّة، والتغريبة والتهجير حكاية يرويها أبو الرمز، وكذلك القضية العراقية، أمّا قيام الكيان الصهيوني في فلسطين وبروتوكولات الماسونية العالمية لتجريد العالم العربي من جذوره التاريخية والحضارية، وطمس هويته الثقافية، وسرقة آثاره أو تقليدها- وهنا تأتي ثنائية تمثال الحرية الأموري السوري ونسخته المقلدة تمثال الحرية المريكي- فكانت موثّقة توثيقًا معلوماتيًّا في هذا العمل.

واستخدم الطريقة التقليدية التي تعتمد على التطور السببي المنطقي من البداية إلى العقدة ثم النهاية في موضوعه الرئيسي (سرقة التراث).

المكان السردي:

إن الحيّز المكاني في النصّ السّردي هو الفضاء الذي تتحدّد داخله مختلف المشاهد، والصور والمناظر، الدلالات والرموز، التي تشكّل العمود له، إذ يُعـــدّ الخلفية المشهدية للشخصية القصصية،  فهو مسرح الأحداث، والهواجس التي تصنعها الذاكرة التاريخية برموزها المتنوعة، مادامت  صيرورة النص ليست سوى جزء من صيرورة الواقع، وآليات المكان، ما هي إلاّ وسيلة من الوسائل الرئيسة لرصد الواقع على مستوى السرد، وما بعده أي على مستوى الموقف والرؤية.

 فالمكان يسم الأشخاص، والأحداث الروائية في العمق، وعلى حدّ قول /غالب هلسا/[22]: "فالمكان هو الذي يلد الأحداث قبل أن تلده، فيعطينا تصوّرًا لها وللأشخاص وللزمان".

هذا العنصر الفنّي الهام ( المكان)، وطريقة بنائه من قبل الكاتب، يضيف إلى تجربته الإبداعية نقاطًا مرتفعة، وكأنّه هندس المكان بخبرة مهندس ديكور بارع يعمل في استديوهات شهيرة، وأعود لأؤكد أن مهنته كسيناريست جعلته يهتم بذلك.  

المكان العام: كان حارة البندرة، مسرح الأحداث الرئيسي، وصفها بجماداتها وشخوصها وزمانها الحاضر كما يلي:

هذا الحي الذي نسيه الزمن، وأهملته الحكومات المتعاقبة، تقطنه مجموعة من من مختلف الطوائف والمذاهب والأديان...

 والمكان أيضًا في ذات الوقت يخطع لقانون الثنائيات البارادوكسية، وهي استراتيجية اعتمدها الكاتب، فهناك القبو والفناء، وهناك الفيللا والخرابة.

 وهناك القلعة وسورها وفندق البارون، والمعبد والمتحف، وحمّام الحارة الشعبي، ودور خاتون والخوجة عيشة وأبو النصر والهلالي وعبد السلام وأبو الرمز الفلسطيني وأكوب الأرمني،

ودكاكين مسماة بأسماء أصحابها،  والمستوصف،  وهي أماكن خاصة مغلقة جرت فيها أحداث الرواية.

استخدم الكاتب تقنية التخييل السردي على نطاق واسع، ما أدخله في المعاصرة من باب واسع، فأنسن الحيوانات، وجعلها من ضمن الشخصيات الفاعلة في مجرى الأحداث، مثال ذلك قطط "أم القطط" والتي بثّ من خلالها الكاتب العديد من الرسائل والمقاربات الساخرة، والكلب المخلص "ميمو"،  الذي بث الكاتب من خلاله العديد من الرسائل الوجدانية:

كما أنسن الجماد، فجعل القلعة أمّ المدينة، تسمع تنهدات سورها العظيم.

استخدم الكاتب أيضًا تقنية سردية يتقنها فقط النصّاص البارع، وهي:

 تقنية التدوير:

وهي تقنية مشهدية، يقوم فيها النصّاص باستهلال عمله بمشهد وصفي، يعود إليه في نهاية، وكأنه يدوّر النهاية على البداية. لنلاحظ بيان ذلك:

استهلال الرواية كان كما يلي:

ضربات إزميل ناعمة تتنزّل على الرأس..

تفتح حدودًا ضيقة، ومتاهات متشابكة، تتشكّل على جسد الكتلة الصخرية الصمّاء، تلك القطعة التي تشبه في أخاديدها وجه زهرة اللوتس التي تعيد تشكيل نفسها بنفسها، وتنبض بكلّ ما هو مدهش ومختلف ومذهل. تتوالى الضربات المتتالية من يد" عبد السلام" الرشيقة......

ثم في مثلث الانفراج، نجد عبد السلام يستمر في النحت فوق الحجر، يخبر أمه أن ما يحدث معه أقوى منه، ولم يكن أمامه إلّا أن ينحت، وها هو قد انتهى من نحت جناح تمثال حرّيته وانعتاقه:

يطرقب بإزميله على خطوط الجناح المتبقّي بغضب ظاهر، تتسارع لمساته، تتهافت. تدخل الثريا العمياء صامتة، تتلمّس ذاك الكرسي الخشبي العتيق، تجلس، تتابع الاستماع إلى صوت الإزميل وأنذاة الحجر، بينما تدور الأمّ مذهولة حول وحيدها.. تدور حول التمثال.. يستمر بمعزوفته على الحجر..

الأسلوب Style:

أسلوب أدبي سردي انزياحي خفيف، يشبه أسلوب السهل الممتنع في الشعر، اللمسة النزارية التي قلّما نفقدها عند الأدباء السوريين.  

المستوى النفسي  السلوكي:

 كان هناك تساؤلات سياسية مرمّزة  في حادثة اختفاء البتول، ساقها الكاتب برشاقة عبر أسلوب الكوميديا السوداء: 

.... جثة البتول " فص ملح وذاب" اختفت بلا أثر، بلا قبر، أو شاهدة، ولم يستطع أحد أن يؤكد أنها فارقت الحياة لعدم وجود الدليل القاطع، والإثبات بالبيّنة كحدّ السيف.

أين السيف؟! أوووه عفوًا: أين الجثة  والأرض الخراب؟! أين الدليل والمكان ليس هو المكان؟! والزمان هو كلّ الزمان؟! أين؟! وأين؟!

أسئلة فيها إشارات مضمرة إلى من يتحمّل المسؤولية عن الجرائم المرتكبة في مكان (البلد) أضحى خرابًا عبر كل أزمنة الطغيان السلطوي، لا يكاد ينهض ويزدهر حتى تدكّه مدكّات الظلم والفساد، فلماذا نبحث عن السيف؟! سؤال تهكمي يائس، ممنوع ومحظور من التداول، لكن السؤال الأكثر سخرية ويأسًا هو من يهتم بالبحث عن حامل السيف الجاني ؟! الجواب لا أحد ! فالكل مهتم بالبحث عن مكان الجثة، لأنه الممكن، أمّا البحث عن الجناة فرعب لا يجرؤ أحد من أفراد المجتمع على تحمّل نتائجه، لذلك ستضيع كل الحقوق في بلد ضاعت فيه القوانين إلا قانون الغاب:

كلّ الأسئلة متاحة ولكن لا أحد اهتمّ بسؤال واحد: من سيبحث عن السيّاف الجاني؟! أو عن الجناة ؟! أو عن الذي .. الذين قاموا باغتصابها؟!

سؤال آخر حائر يطرحه الكاتب حول ماهية هذه الحرب، ويضع فيه كل الأجوبة المقترحة التي تتبنّاها جهات عدّة من وجهات نظر مختلفة، وكلها تتفق على أنها حرب مؤلمة:

ماهذه الحرب المؤلمة؟ ! طرف يقول إنها ثورة، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهادًا، وآخر يعدّها احتلالًا، وأطراف أخرى تؤكّد أنها فوضى!

 

بقلم الناقدة الذرائعية د.عبير خالد يحيي

...........................

[1] Paradigm: النموذج الفكري أو النموذج الإدراكي أو الإطار النظري، ظهرت هذه الكلمة في أواخر الستينات من القرن العشرين بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكيرضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة " الإبستيمولوجيا"  

[2] غالب هلسا: أديب ومفكر وناقد أردني، من  كتاب (المكان في الرواية العربية) صادر عن دار رشد بيروت العام 1981

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم