صحيفة المثقف

في سجن المدينة

ياسين الخراسانيأحملُ النّفسَ للسّجنِ،

كان الولوجُ كرَفْعِ الغِطاءِ عنِ النّعْشِ،

قال النّزيلُ:

أقُلتَ كلامَ الحرامِ عن الحاملينَ

ملاعقَ صفراءَ في الفمِ؟

كان اقْترافي صغيرٌ. أنا لِصُّ كِسْرةِ خُبْزٍ

ويأكلُ طيرٌ من الرأسِ. لا أصرفُ الطّيرَ،

أُصغي لقَشْرِ الحبوبِ ... أُخَمِّنُ:

يُشبهُ نَقْرَ المياهِ لأنّ السحابَ كثيفٌ ... ويدخلُ

سِرْبُ حمامٍ إلى الجوفِ. أعلو طليقًا

كأنّي أُحلّقُ فوق الغمام،

أرى حاملا للحجارةِ في طَرَفِ اليومِ

أكْرهُ جبْذَ الجيوب مع الفقْرِ

لكن أغالبُ نفسي وأفعلُ

قِرْشٌ مريرٌ وأفعلُ

أسرقُ مِلحًا من العرقِ المُتصبِّبِ

في وضحِ الخوفِ،

ثم أُخاتلُ نفسي:

أَكُلُّ الدموعِ تئِنُّ إذا جفَّ ماءُ الغديرْ؟

هل جميع النّسائمِ تعوي إذا شُرِّدتْ ذَرَّةٌ في الأثيرْ؟

لستُ وحلَ البلادِ، أنا عالقٌ بينَ ماءٍ وطينْ

وسؤالٌ عريضٌ يَدِبُّ على الرأسِ

مثلَ العُقابِ يُمزِّقُ جلدَ الحمامْ

هل سيأكلني الجوعُ أم آكلُ ابن الحرامْ؟

 

في ضُلوعي اشتياقٌ إليكِ. أنا في غياهبِ

سجنِ المدينةِ: "مَغْشُوش*" عندَ الضِّفافِ وأقصدُ

مجرى الغُبارِ وما تحتَ وطأةِ ريحِ الجنوب

وأكتبُ في ورقٍ: أقصدُ الروح

[لستُ قريبًا من الحرفِ منذُ عثوري على مِشرطِ الوجهِ]

"أنتِ حبيبةُ نفسي". وأصمتُ.

لا أعرفُ الحبَّ، في داخلي بعضُ خوفٍ.

أنا سَيّدٌ في عريني، يُوَسَّعُ لي حينَ مشْيِي

على جنباتِ الطّريقِ، ولكنَّ يومي

البعيدَ يُوَلِّدُ خوفا غريبا عن الذاتِ

حين أرى طيفَ ذكراكِ

هذا إذنْ ما يُسَمّونه الحبَّ: ضعفُ الفؤادْ؟

هل أنا عاشقٌ يا إلهي؟

أنا عاشقٌ في غياهبِ جُبِّ البلادْ ...

 

ساعةُ السّجنِ تُعلنُ مُنتصفَ العمرِ

أسمعُ صوتَ النّبيّ:

"تُصاحبُني إن سَلَلْتَ الظّلامَ كما شعرةٌ من عجينٍ و نارْ … "

يدُ أمّي تُشيرُ إلى موضعِ الصّدرِ:

"إبدأ زيارةَ قبري هنا، في منامكَ أو بالنّهارْ … "

أتذكّرُ صوتَ الصغير الذّي كان يُشبهني:

"لا تُعدني إليكَ ... أنا أوّلُ الإنكسارْ"

 

مرّ يومٌ ثقيلٌ وعدُّ السنين يُخففُ من سَأَمِ الحبسِ

فأرُ المجاري طليقٌ وإن كان في فِعله أكبرُ الجرمِ.

لا أشتهي نَفَقَ الأرضِ. أُمسكُ خيطَ السّماءِ

لأني قريبٌ من الوحيِ إذ ينبضُ الفجرُ في القلبِ.

هل في الهواء النّقيّ نصيبٌ لصدري الحزينْ؟

ولأنّي بعيدٌ عن الفهمِ أسأل طيْفَ الأمينْ

هل سمائي كجُحرِ الثّعابين،

أم آكل الخبزَ مثل الحفاةِ إذا كان

فرنُ الملائكةِ الطيبين

شهيٌ كتنّورِ أمّي

لأني بعيدُ عن الفهمِ ...

أكمل عدّ السنينْ ...

***

(ياسين الخراساني)

....................

* مغشوش: إسم قرية وسجن بالمغرب.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم