صحيفة المثقف

الأصولية الإسلامية والتجديد

عصمت نصارلقد تحدّثنا في المقالات السابقة عن أهم ملامح البنية المنهجية لمشروع الشيخ عبد المتعال الصعيدي، وبينا مصادر أفكاره والسمات العامة لأسلوبه ومنهجه ونهجه في تناول المصطلحات واجتهاداته في التأليف بين المتقابلات من المفاهيم كما وضحنا ضربه في الرد على ادعاءات غلاة المستشرقين، أمّا في هذا المقال فسوف نكشف عن أحد أعمدة منهجه في التجديد المتمثل في تعويله في الاجتهاد وتفسير النصوص (القرآن والسنة) واستنباطه الأحكام الفقهية على علم المقاصد الشرعية، فهي عنده آلية التجديد التي لا غنى عنها لنقد وتقويم الفكر الموروث من جهة، والمصباح المنير الذي يمكن المجددين من الاستدلال على سبل تحديث الفكر الإسلامي وتجديد العلوم الأصولية من جهة أخرى.

فقد تناول الشيخ "عبد المتعال الصعيدي" بقلمه النقدي الموضوعات التي أثيِرَت من قبله حول مفهوم التجديد ومعوقاته وسمات المجددين؛ فذهب إلى أن التجديد في الإسلام له ثوابت تليدة مستمدة من القرآن والسنة النبوية، ومن ثم فهو بريء من التعصب والجمود والرجعية والاستبداد، وغير ذلك من التهم التي ألصقها به غلاة المستشرقين وأذنابهم، بل إن الأصول الإسلامية مرادفة للحركة والنهوض والمدنية والتسامح العقدّي وحرية الفكر، ويقول "الحمد لله الذي له كل يوم شأن، وسن بهذا سنة التجديد في خلقه، ووضع أصل الترقي في هذا العالم ليسير في طريق التجديد خطوة بعد خطوة، ومن أكمل إلى أكمل منه، دلالة على عظيم قدرته، وإنها لا تقف في الكمال عند حد محدود، ولا تنتهي فيه عند نهاية من النهايات، والصلاة والسلام على محمد خاتم المجددين من الأنبياء والرسل، وقدوة المجددين لخلفائه من بعده من أتباعه وأتباعهم، إذ بُعثَ لتجديد الشرائع بعد ما أصابها من البلى ولفتح باب الترقي فيها بترقي البشرية، فوضع أصول التجديد في شريعته وفتح طريقه لكل من يحاول بعده، وجعل من أتباعه مجددين يُبَعثًون في كل جيل، يجتهدون على نحو ما أتُي به من التجديد في الشرائع، ويسيرون على وفق ما وضعه في ذلك من الأصول".

ويتضح من الكلمات السابقة أن شيخنا الجليل يستمد بذور التجديد من الأصول الإسلامية الثابتة التي دعت للاجتهاد في أمور الدين والدنيا، ووصفت العلماء بأنهم أكثر خلائق الله خشية، موضحًاً أن أمور السياسة وليس الشرع هي التي أدانت المجددين من الفلاسفة والعلماء والمصلحين، ولذا درج شيخنا العديد من الفلاسفة والمفكرين المصلحين وبعض من أتُهمُوا بالتجديف ضمن قائمة المجددين في الإسلام، ولا يؤخذ عليه هذا الموقف لأنه عُني بتبريره فهو لا يرى غضاضة في أن نتعلم من المخالفين قبل الموافقين في الملة أو الرأي "عدو عاقل، خير من صديق جاهل"، "مالا يقتلني يزيدني قوة"، مستندًاً في موقفه هذا بما فعله الرسول (صلي الله عليه وسلم) إذ جعل فدية الأسير الكافر في غزوة بدر تعليم عشرة فتيان مسلمين (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها).

ويقول :"وقد ذكرت فيما سبق أساس التجديد، فمن تحقق فيه فهو مجدد سواء كان سنيًا أم شيعيًا أم غيرهما من الفرق الإسلامية، ولا شك أن خلاف ذلك أثر من آثار التعصب الممقوت بين الفرق الإسلامية، وأنه يجب القضاء عليه الآن لتعود للمسلمين وحدتهم وألفتهم، على أنه لا محل لهذا التعصب في باب التجديد والمجددين، لأن فكرة التجديد أسمى من أن ينظر فيها إلى ذلك، وأكبر من أن يكون للتعصب أدنى أثر فيها، لأن المجدد يجب أن يتعالى على ذلك التعصب الممقوت فلا يصح أن يكون لمذهبه في الدين أثر في غايته من التجديد ولا فيما يرمي إليه من النهوض بالمسلمين، بل يجب أن ينظر في دعوته إلى المسلمين جميعًا، ويقصد أن ينهض بهم جميعًا، وأن يجدد فيهم جميعًا ليجمع بينهم على غايته من التجديد، ويجعل كلمتهم واحدة فيما يقصده من النهوض". ويعني ذلك أن هدفه من غربلة الآراء المطروحة من كل صوب ودرب هو البحث عن أفضل الدروب لحل مشكلات الواقع من جهة وتحقيق المقصد الشرعي من جهة أخرى.

وقد أجاب بذلك عن أحد الأسئلة المطروحة حيال قضايا التجديد ألا وهو: هل يحصر المجددون في دائرة الإسلام دون غيرها (أمة الإجابة أم أمة الدعوة؟) وقد جوّز الثانية مستندًا على عالمية الإسلام، وقد خالف بذلك سابقيه من الذين أرخوّا لحركة التجديد في الإسلام، الذين تناولوا المجددين في دائرة المجتمع الإسلامي دون غيرهم، غير آخذين بالمتغيرات الحضارية التي كانت تدور من حولهم في الأمم الأخرى، ويقول "إن المراد من الأمة فيه (الحديث الشريف) أمة الإجابة وهم المسلمون ويجَوز أن يُرَاد أمة الدعوة، وإرادة هذا ظاهرة على الأساس الذي قدمته في فهم التجديد في الإسلام، لأنه كما سبق يُرَاد منه النهوض الديني والمدني، وهو يتعدى من المسلمين إلى من يعاصرهم كما حصل في قيام النهضة الأوروبية بتأثير النهضة الإسلامية".

وتبدو ملامح الطرافة عند "عبد المتعال الصعيدي"، ليس في درجِه الفلاسفة ضمن المجددين في الإسلام فحسب، بل تخطت ذلك إلى عنايته بدراسة تطور الفكر الإنساني من علم وسياسة وفلسفة أثناء حديثه عن المجددين المسلمين عبر القرون المتتابعة، متسقًاً في ذلك مع المقدمات التي وضعها في مفهوم التجديد. فالأصولي عنده هو المستحكم والجاد والراسخ، والأصيل من الرجال هو المتمكن، والأصالة في الفكر جودته، وفي الأسلوب ابتكاره، والأصولي هو الذي يقف على مبادئ العلوم وقواعدها. أضف إلى ذلك الدلالات الإجرائية للأصول الإسلامية المستنبطة من القرآن وصحيح السنة، تلك التي أثبتها الشيخ الإمام "محمد عبده" وتلاميذه، فجميعها يبرهن على أنه ليس هناك أدنى تعارض بينها وبين الدعوة للتجديد (أي الأخذ في المتغيرات بنظم الأغيار وعلومهم وحلولهم، للكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية شريطة عدم تعارضها مع قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من الأصول الشرعية).

إذا ما انتقلنا إلى مسألة تجديد الأصول في الثقافة الإسلامية، فإننا سوف نجدها أصيلة بأصالة الإسلام، وطيعة بطبيعتها ومؤهلة في بنيتها للتطوير والتحديث. وذلك لأنها وثيقة الصلة بالمقاصد الشرعية؛ فالتجديد في اللغة : إعادة الشيء جديدًا، وفي الفكر إثبات جدّة وطرافة الأصول والثوابت بعد إحيائها وتخليصها ممّا أعاق فاعليتها وأثرها.

وينتقل "عبد المتعال الصعيدي" إلى مناقشة الأسباب التي أدّت إلى إخفاق المجددين، وحصرها في:

(1) استبداد الحكومات الإسلامية، ممّا يباعد بين الحاكم ورعيته وينَفِرهم من مساعيه ويقعدهم عن تحقيق أهدافه، وبالتالي عدم استجابة الحكام للمصلحين من الرعية, والناصحين من ذوي الرأي. ويؤكد الصعيدي أن الصراع بين أفراد الأمة أو طبقاتها يعد من أقوى معاول الهدم لأي مشروع تجديدي.

(2) عدم وجود خطة إصلاحية شاملة، بل نجد خطط جزئية تهتم بأمور دون الأخرى، مثل الدعوى الوهابية (التي عولت على النص والتراث الفقهي في فهم الدين وتوجيه المسلمين واهملت في الوقت نفسه العلوم المدنية) أو نهضة الكماليين (تلك التي ألغت نظام الخلافة وفصلت بين الدين والحياة وعولت على العلم وحده في التربية والأخلاق وتسيير أمور المعيشة، ظنًاً من دعاتها أن هذا السبيل سوف يوصلها إلى الرقي والتقدم) أو إصلاحات العلمانيين المحدثين التي اتخذت من الفلسفات المعاصرة سبيلًا لنقد الثوابت العقدية والأخلاقية باسم الحداثة وما بعدها وحرية البوح والاعتقاد واختراع دين إنساني عالمي يتغير تبعًا للحاجة والثقافة السائدة.

(3) جمود بعض علماء الدين وعجزهم عن إقناع الجمهور بسلامة موقفهم المحافظ وإصلاح أحوالهم والاستجابة لمشروعاتهم، مع عدم تقديم حلول ناجعة للقضايا المعيشة، الأمر الذي ترتب عليه فقدان الثقة من قبل الجمهور بالمنابر الدينية والسير في ركاب المحافل الماسونية، ولاسيما بعد ظهور القوى الرجعية التكفيرية والجماعات الدينية المسايسة مثل الإخوان المسلمين التي اتخذت من العنف سبيلًا للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(4) خوف الحكام من الحركات التجديدية ومحاربتها، وذلك بإيعاز من الدوائر المحيطة بكرسي السلطان أو الحاكم بحجة أن مسايرة المألوف أسلم من دروب المجهول وغير المعروف، وأن التقليد راسخ بالعادة، أمّا التطوير والتحديث والتجديد يحتاج إلى قيادة وجهد للسيادة، وظهور أنداد وخصوم لا يؤمن شرهم ولا يرُجى منهم إفادة.

(5) تآمر الدول الغربية على الحركات التجديدية والإصلاحية الإسلامية وإضعافها والتشكيك في أغراضها. ويبدو ذلك بوضوح في عمل دوائر الاستشراق العقدي والسياسي على تشكيل جماعات من بين المسلمين لمناوئة ومعاداة والحط من شأن أرباب التجديد وتحريض الجامدين على تكفيرهم وتدعيم العلمانيين للتسفيه من خطاباتهم وتيئيسهم واضطهادهم. ذلك كله فضلاً عن تأسيسهم وتشجيعهم للفرق والجماعات الجامحة والجانحة والضالة والإرهابية لتشويه صورة الإسلام، وإجهاض الحركات الإصلاحية. بالإضافة إلى عجز أرباب الاتجاه المحافظ في ظل المناهج الأزهرية العقيمة عن الرد على أكاذيب المستشرقين ودعاة الالحاد والجماعات المتشددة الجانحة بأسلوب يقبله العقل وتؤكده المقاصد الشرعية.

وقد اتضح ذلك خلال المساجلات والمناظرات والردود التي أدلى بها أعضاء لجنة كبار العلماء بالأزهر ومن سار في ركابهم. ويقول في ذلك "وهذه هي أهم الأسباب التي كان لها أثرها في عدم وصولنا إلى التجديد الحديث في هذه القرون، فإذا أردنا أن نسير بعد هذا في التجديد عرفنا ما أعاق منها نجاحه، واتقينّا في المستقيل أخطاء الماضي لنسلك في الإصلاح وسائله الصحيحة، ونأخذ في التجديد بالأسباب الموصلة إلى النجاح، ولا يمكن هذا إلا إذا علم ملوكنا وأمرائنا وأولياء الأمر فينا أنه لا بقاء لنا ولهم إلا بالتجديد والإصلاح، وإلا إذا علم الجامدون منا أن المنادين بالتجديد مخلصون للدين مثلهم ولا يريدون إلا النهوض به بين الأمم، فإذا علم هؤلاء وأولئك ذلك خلصت النيات وأمكن الاتفاق على الوسائل التي تؤدي بنا إلى مالم نصل إليه من التجديد الحديث".

أمّا عن سمات المجدد، فقد لخصها الصعيدي في:

(1) العزوف عن الملك ومطامع الجاه والسلطان.

(2) ضرورة الابتعاد عن الادعاء بأن من يتصدى للتجديد أنه ملهم أو يأتيه الخبر من السماء - شأن أئمة الشيعة المحدثين وأرباب الفرق المحدثة -

(3) الاعتماد على العقل والنقل معًا في إصدار الفتاوي والأحكام.

(4) فتح باب الاجتهاد والاحتكام إلى الحجة والبرهان في الأمور التي لم يرد فيها نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة.

(5) أن يكون غرض المجدد هو الإصلاح الشامل لحال المسلمين - دينهم ودنياهم- عقائدهم وعاداتهم، وذلك لتفعيل المقاصد الشرعية.

ويقول "وطالب الإصلاح والتجديد ليس إلا عالماً من علماء المسلمين لا يملك من دنياه إلا علمه، ولا يعتمد في تأييد دعوته إلا على دليله وبرهانه، فمن آمن بدعوته كان له أجر هدايته، ومن لم يؤمن بها لم يحمل شيئًاً من وزره، ومع هذا لا يكون هناك ما يُضغِن قلبه حتى يثير بضغنه فتنة أو يقيم به حربًاً وإنما يهمه أن تنتصر دعوته بالسلم لترتفع أعلام الإصلاح وتظهر آثار التجديد، وينهض المسلمون في دينهم ودنياهم، ويكون له بهذا فضل هدايتهم وشرف الجهاد في الإصلاح والتجديد بينهم".

وانتهي "الصعيدي" إلى أن التجديد يجب أن يكون وليد ثورة عامة شاملة ضد الجمود والتبديد في الأمور الدينية والأمور المدنية سواء بسواء، على أن يقوم بها ثوار مخلصون لرسالتهم غير متفرقين في وجهتهم حتى لا تتبدد قواهم ويستحيل اجتماعهم على الإصلاح إلى فُرقة وشقاق لا يؤدي إلا للتعصب وتحزب ممقوت وتفكك في الرأي الجمعي وتقاعس الجمهور، بل وانصرافه عن الاستجابة لتوجهات المصلحين، ويؤكد أن ذلك لن يتأتى إلا بوجود تواصل فكري بين إمام المدرسة الفكرية التي تسعى للتجديد وبين أعضائها الذين يضطلعون من بعده بحمل الراية وتنفيذ الخطة الموضوعة، على أن يكون تباينهم في الآراء محصورًاً في الفروع وليس في الأصول، ويقول :" نعم على من يدعي الإصلاح بعدهما - أي "جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) " و" محمد عبده (1849-1905م)"- أن يكون صريحًاً فيه مثلهما، وأن يترك دعوى أخذ الإصلاح بالحكمة والهدوء، فإنما يفعل هذا من يؤثر الوظيفة ومغانمها على الإصلاح ومغارمه، ويؤثر السلامة في مداراة الرجعيين على الخطر في منابذتهم، ومثل هذا التردد لا يتم به إصلاح ولا يقضى به على الجمود، وإنما هي الثورة ولا شيء غير الثورة ولا يقتصر أمر الانحراف في دعوة الإصلاح الآن على هذا التردد بل يتجاوزه إلى صميم الدعوة الإصلاحية فقد كانت عامة شاملة على عهد (جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده) أما الأن فقد تفرق دعاة الإصلاح فيما يدعون إليه، وصار لكل واحد منهم غاية من الإصلاح يتجه إليها وحدها ويرى أنها هي الإصلاح لا غيرها، وقد يحمله التعصب لها أن يعادي من يدعو إلى غيرها من وجوه الإصلاح وتقوم بهذا حرب بين أولئك المصلحين وقد تكون أشدّ ممّا تقوم بينهم وبين الجامدين، وقد نشأ هذا مع غيبة المصلح الثائر الذي يجمع الإصلاح كله في ثورته ويضم أنصاره كلهم تحت لوائه، فلا يسمع لغيره كلمة في الإصلاح وإنما تكون هناك زعامة واحدة, لذلك المصلح الثائر".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم