قضايا

عدنان عويّد: الشريعة بين النص الديني المقدس والتاريخ

(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)

الشريعة والمنهاج مصطلحان متمايزان في دلالاتهما وطريقة عملهما، فـ (الشريعة) في سياقها القيمي ذات نزعة أخلاقيّة شاملة تعمل على ضبط مجمل ما يطالب به الدين ذاك المتبع لعقيد هذا الدين أو ذاك، من سلوكيات تتعلق بحياة الإنسان. أما (المنهاج ) فهو طريقة أو أسلوب في التفكير والممارسة بشكل عام، أو في تطبيق الشريعة بشكل خاص، وفقاً لمعطيات الواقع وتغير الظروف في الزمان والمكان. أي هو تاريخي قابل للتطور والتبدل.

إن متابعة أوليّة لما تناوله مؤسسو الخطاب الفقهي الإسلامي على سبيل المثال في القرون الهجريّة الأولى عند السنة والشيعة، سنجد مبالغة واضحة في مسألة اعتبار الشريعة الإسلاميّة القائمة على النص المقدس القرآن والحديث الشريف، مسألة شموليّة صالحة لكل زمان ومكان، ضُبطت ويجب أن تُضبط دائماً وفقاً لمواقف منهجيّة حددها أصحاب تلك المذاهب، إن كان باعتماد القرآن والحديث والاجماع والقياس عند السنة، أو اعتماد القرآن والعقل والحديث الذي يتعلق منه بآل البيت، أي ما قاله أو حدث به آل البيت من الأئمة المعصومين عند الشيع، وخاصة ما يتعلق بالأحكام (القانونيّة). أي ما أمر به الله من تطبيق للجزاءات على المعاملات والأحوال الشخصية، على من التزم بحقوق الله أو أساء إليها. وهذه المسألة إذا ما قرأنا النص المقدس قراءة متبصرة، نجدها تتناقض أو لا تتفق وروح الشريعة الإسلاميّة في جوهرها العام، الداعي إلى المحبة والعدالة والمساواة والعدل بين الناس ومراعاة ظروف حياتهم، انطلاقاً من  أن هذه الشريعة في سماحتها تدعوا إلى ضرورة مراعاة روح العصر الذي نزل فيه النص المقدس من جهة، والروح العامة لهذا النص القابل لفتح دلالاته تفسيراً وتأويلاً بما يتفق وتطور حياة الإنسان نفس. وقد كان عمر بن الخطاب رائداً في مسألة هذا التطبيق للنص المقدس بعد فتح دلالاته التاريخيّة على الواقع المعيوش بعد وفاة الرسول، وخاصة موقفه من السرقة في عام الرمادة، ثم موقفه من المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغير ذلك.

نقول: إذا أخذنا كتاب الله بآياته الـ (6000) لوجدنا أن هناك (80) آية فقط هي ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة بالنسبة للمعاملات أو الأحوال الشخصيّة بما فيها الجزاءات والإرث والزواج والطلاق والعدة.. الخ. وما تبقي من آياته كلها تصب في قضايا الإيمان والأخلاق. فالدين الإسلامي في عمومه دين إيمان وأخلاق.

أما المنهاج في هذا السياق فهو يستخدم في تطبيق هذه الشريعة. أي هو الأسلوب الذي يستخدمه الفقيه في قراءات النص الديني وتفسيره وتأويله وفتح دلالاته، بما يخدم مصالح الناس المتغيرة والمتطورة دائماً وفقاً لمقاصد الدين في خطوطها الإنسانيّة المراعية لمصالح الناس في الزمان والمكان المحددين.

إن القرآن دعوة دينيّة عقيديّة وأخلاقيّة في أساسه، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،  وليس قوانين فقهية وحقوقيّة أو علميّاً، وإذا اعتقد بعضهم أنه كتاباً علميّاً وحقوقيّاً، يشرع لمجمل الحياة الاجتماعيّة بدءاً من كيفيّة خلق الكون والإنسان وصولاً إلى تنظيم الحياة الأسريّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة  والسياسيّة... إلخ. فهذا يتنافى مع جوهر الدين الأساس.

إن الإسلام في خطوطه العامة كما أشرنا، يقدم جوهراً أخلاقيّاً لحياة الناس في كل عصر بما يلبي حاجاتهم ومصالحهم، حيث نجد أن الكثير من الجزاءات للمخطئ والمصيب، لا تطبق في الحياة الدنيا، فعقابها مؤجل إلى يوم العودة، عدا بعض حالات القصاص كالسرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من القضايا التي ورد فيها نص ديني ثابت مثلاً. فالقرآن يشدّد كثيراً على الأخلاق ويعتبرها فوق القانون، وأن المحبة والعفو عنده يجبان القانون إذا ما جاء لفرض العقوبة المستحقة. فلننظر في نص الآية القرآنيّة التالية ونرى كيف أن القيم الأخلاقيّة في الإسلام تتقدم على قانون العقوبات: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة - 45). أو قوله تعلى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى - 40).

إن حالة القصاص بموجب النص الديني المقدس تعتبر ضرورة قانونيّة/ حقوقيّة تمثل روح العدالة والمساواة بالنسبة للدين، وهي ضرورة اجتماعيّة أيضاً، ولكن العفو بموجب المحبة والبعد الإنساني المطلق لمقاصد النص المقدس، تظل في المقابل واجباً أخلاقيّاً ومعنويّاً في العلاقات الشخصيّة أو الاجتماعيّة. فالمسألة الأخلاقيّة ممثلة في العفو، تعادل الحق على المستوى القانوني وهو القصاص هنا.

أما بالنسبة للمسألة (السياسيّة) كما حددها النص المقدم في الإسلام، فهناك آيتان بينتا موقف الدين من السياسة وهما : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). (الشورى - 38). (وشاورهم في الأمر) (آل عمران – 159). دون تحديد لآليّة عمل أو تطبيق مضمون هاتين الآيتين، حيث ترك منهاج ممارستهما للإنسان نفسه ووفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة. وهذا الأمر المتعلق في ترك طرق تقدير  الإنسان لمصالحه، نجدها أيضاً في النصوص التي تناولت مسائل الزكاة والصدقات والربا، وهذه كلها تحتاج في الحقيقة لتعريف قانوني لها وهي ذات توجه أخلاقي.

انطلاقاً من هذا المنهج أو الأسلوب الذي يتعامل مع النص الديني حقوقيّاً، يأتي دور الفقه كصياغة حقوقيّة بشريّة محض، وهو وفقاً لذلك تاريخي، أي عليه أن يعمل على البحث الدائم في مقاصد النص الديني، من داخله، أو من خارجه عن حلول لمشاكل الإنسان بكل مستجداتها، أي البحث عن حلول لقضايا الواقع المتطور والمتبدل أو المتحول وفقاً لروح الشريعة أولاً، ووفقاً لمصالح الإنسان التي لا تخرج أصلا في بعدها الأخلاقي والقانوني عن مقاصد هذا النص الديني المقدس أو روحه، وفقاً للحالة التاريخيّة المعيوشة. ومن هنا جاء في أصول الفقه الإسلامي الفرعيّة ما سمي بالمصالح المرسلة، وتغير الأحكام بتغير لأحوال، والاستحسان، والعادة والعرف، وسد الذرائع، واعتبار المصلحة وتقديمها.. الخ.

إن مشكلتنا مع فهم وتطبيق النص الديني فيما يتعلق بـ (الشريعة)، تكمن في تلك العقليّة الجموديّة التي تتعامل مع النص المقدس فقهيّاً من قبل مشايخ الدين والسياسة والسلطان، فهم من ساهم كثيراً في جمود حركة المجتمع وتقديس التراث، الأمر الذي أدى إلى تقديس الفقه ذاته وما تناوله فقهاء العصر الوسيط من شروح وتأويل وتفسير لهذا النص، حيث تحولت شروحاتهم وتأويلاتهم وتفسيراتهم ذاتها إلى نصوص مقدسة أخرى يعتبر الخروج عنها كفراً وزندقةً، بل وخروج عن الدين الصحيح.

ملاك القول: أمام كل هذه الإشكاليات التي نعيشها في مسائل الخطاب الديني الإسلامي، وما تركته هذه الإشكاليات من مواقف عمليّة متطرفة لمتبني الإسلام السياسي الجهادي بشكل خاص التي أساءت للدين والإنسان معاً، لا بد لنا من التأكيد هنا على بعض المعطيات التي يمكن لها أن تساهم في إخراجنا من ذاك الفهم الجمودي الوثوقي الاستسلامي للنص المقدس وهي:

1- لا بد من إعادة النظر في مسألة شموليّة النص الديني المقدس بما تمثله هذه الشموليّة من فهم لروح الشريعة وأخلاقياتها وإمكانيّة تطبيق هذه الروح على قضايا العصر، وذلك يتأتى من خلال اعتمادنا على القرآن كمرجع أساس للنظر في مقاصده.

2- ضرورة التأكيد دائماً على تاريخيّة النص من خلال فهمنا لجوهر وأهداف مسألة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه في النص الديني نفسه. وهذا يدفعنا للنظر في قضايا الواقع عند قراءتنا للنص الديني بمنظار الحاضر وليس الماضي، وبذلك نفتح باب الاجتهاد بعد أن أغلق مئات السنين.

3- لا بد من إعادة النص الديني تفسيراً وتأويلاً إلى حوامله الاجتماعيين الحقيقين المعبرين عن مصالح (المجتمع)، انطلاقاً من النص المقدس الذي يقر بأن كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته. وبذلك نكون قد خلصنا النص الديني تفسيراً وتأويلا وتوظيفاً من قبضة المرجعيات التقليديّة من رجال الدين الذين ملأ الزيغ قلوبهم، ومن رجال السياسية المستبدين الذين يعملون على توظيف هذا النص لمصالحهم. أو بتعبير آخر تخليص الدين من العمامة والعمرة معاً.

***

د.عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

في المثقف اليوم