صحيفة المثقف

سُر من رأى

كانت اللقيا اشبه بالكنز المطمور أو كما سُمّيت الاندلس "الفردوس المفقود" بعد الهزيمة،وتسليم مفاتيح الفردوس الى ملكة وملك اسبانيا والكنز مخطط مدينة سامراء وقصر العامّة أو الخلافة في سُر من رأى التي تعد قصور الاندلس وعمرانها، نسخة أو صورة ثانية من قصور سامراء والمتوكلية المطلّة على مسافة 30 كيلومتراً على ساحل دجلة شمالي بغداد، بناها المتوكل هرباً من المؤمرات التي كانت تحاك ضد الخلافة أو خلافته في بغداد.

لا نعلم لما يدعوننا للبكاء على الاندلس، ولايدعونا للبكاء على نسختها الأصلية في سامراء! وعندما نقارن بين قصور وحدائق وأسواق وجوامع ومكتبات الاندلس، نجدها عامرة، تؤشر لهويتها العربية والإسلامية من بعيد، ويؤمها ملايين السواح من مختلف دول العالم،ويقفوا مبهورين لجمال وعمارة الحضارة العربية والإسلامية في الاندلس أو "الفردوس المفقود" وهذه تسمية مجازية مضللة، لأنها موجودة وشاخصة ومزدهرة، ومن اكثر المناطق السياحية في العالم استقطاباً للسياح .

أمّا نسختها الأصلية في سامراء، فهي حقاً تدعو للرثاء والبكاء، لتحولها الى انقاض وخرائب ممتدة على طول 30 كليومتراً على شواطىء دجلة، فيها مدينة الخلافة وفيها قصر الحكم أو الخلافة، ويسمى قصر العامّة ومدينة الى جانبها، يشقها شارع وأسواق والدكاكين والصناعات الحرفية، وكلّ ما تحتاجه الاسواق العامرة بالبضائع والنشاطات المالية والتجارية، وبعد توسع المدينة الجديدة، بُنيت الى الشمال منها مدينة ثانية، سمّيت بأسم مؤسسها "المتوكلية"، تصفها مصادر التاريخ كالتالي : « كان يمتد في وسط المدينة من الشمال الى الجنوب شارع عظيم " شارع السريجة" وعلى امتداد هذا الشارع مواضع الرطابين .. فيها طرق متشعبة فيها الغرف والحوانيت للرقيق، ثم مجلس الشرطة والحبس، ومنازل الناس والأسواق وسائر البياعات والصناعات" .

: ويصفها البحتري لجمالها ونورها

أرى المتوكلية وقد تعالت

محاسنها واكملت التماما

قصور كالكواكب لامعات

يكدن يضئن للساري الظلاما

وتعد مساحة دار العامة من المعجزات المعمارية، حيثُ يصل والمدينة الى نحو مليون متر مربع،وتشير التنقيبات الى إن القصر بُني على هضبة ارتفاعها 17 متراً عن مستوى السهل،وواجهة القصر مطلة على دجلة، ما يذكّرنا بقصر الزهراء في الاندلس الذي بُني هو الآخر على مساحة شاسعة خضراء ورابية ترتفع على مستوى السهول الخضراء المحيطه به، وتوجد تفاصيل وافية عن العمران بهذه المدينة من ضمنها مساحات الشوارع طولاً وعرضاً الى الابعاد القياسية لجدران القصور والأسواق والمكتبات وقاعات الاحتفالات، ومراكز الحكم وسواها، بحيث يمكن عمل مخططات كاملة عن المدينة والعمران فيها، إضافة الى مساحتها الحقيقية، خاصة بعد توسعها، وبدء بناء المتوكلية الى جانب قصر الحكم أو قصر العامّة كما يطلق عليه، قبل أن تهمل المتوكلية، ويعود مركز الخلافة من سامراء الى بغداد مجدداً

هذا العمران يمثلُ قمة ما وصلت أليه العمارة المدنية العربية والإسلامية أيام المتوكل، ومن قبله أبوجعفر المنصور الذي بنى بغداد وجعلها عاصمة للخلافة،وتدرّس العمارة والاركولوجيا العربية اليوم في معهديّ غرناطة ومدريد في اسبانيا باللغة العربية الى الآن، وتشير أو تؤكد الوقائع سرقة بريطانيا إبان احتلالها للعراق حتى الآجر الذي بُني فيه مدخل بيت العامّة وهو عباره عن ثلاثة أبواب  اثنان جانبيتان ووسطى أكبر حجماً منهما.

كانت البعثة البريطانية أول بعثة اجنبية تبدأ باستكشاف الموقع العام 1921 في سامراء، تلتها بعام بعثة المانية، وقد يكون من حسن دوافع السرقات الآثارية مفيدة احيانا، خاصة في بلدان تكثر فيها الاضطرابات السياسية كالعراق، منذ ما قبل الخلافة العباسية الى الآن، وتحفظ في دول اكثر استقراراً كبريطانيا والمانيا، وهذا لا يعني التنازل عنها، فبامكان العراق المطالبة باسترجاعها متى شاء، باعتبارها جزءا من تاريخة وحضاراته القديمة .

مثل هذه الدعوات للبكاء على الفردوس المفقود «الاندلس» باطلة لآن الفردوس الأصلي بسامراء عبارة عن اطلالٍ وخرائب، لا يلتفت اليها احد عدا بعثات التنقيب الاجنبية، ولم يدر بخلد احد من الحكّام أن يعيد بناء المتوكلية في سامراء وقصورها وحدائقها وأسواقها ومكتباتها، لتكون شاهداً على ما وصلت ألية العمارة العربية والاسلامية كالاندلس الآن التي يؤمها ملايين السياح سنوياً من محتلف دول العالم.

 فأيهما نبكي؟ الاندلس المزدهرة أم اطلال وخرائب سامراء أو سُر من رأى أو الفردوس الأصل الذي بُنيت الاندلس على صورته ؟أننا مولعون بالبكاء على الاطلال منذ العصر الجاهلي،والمعلّقات التي تبدأ بالبكاء على الاطلال بدلاً عن إعادة بنائها، كشواخصٍ تاريخية عن حضارة أو حضارات ممتدة في ازمان سحيقة، تستحق التوقف عندها وتأملها بفرح وتباهٍ، لأنها تدل على ماض عريق، يستحق ان يفخر به أي عربي، لا أن يبكي على اطلاله وخرائبه، كما نفعل اليوم، كلما مرّ ذكر الاندلس والحضارة الاندلسية التي بناها العرب والمسلمون، وشكّلت الأساس المتين للحضارة الاسبانية بشكلٍ خاص، والاوروبية عموماً .

وما زالت الاندلس حاضرة تبعث البهجة في قلوب السكان والسياح، إمّا سُر من رأى فأنها تبعث على الحزن والحسرة لما لحقها من خرابٍ، دون ان تمتد أليها يد العناية، لتعيد لها رونقها وحدائقها وقصورها ومكتباتها وأسواقها كالاندلس الآن التي تعد من اكثر مدن العالم جذباً للسياح من مختلف دول العالم، ومن المفيد ان نقرأ ما قاله احد المنقبين عن سامراء والمتوكلية وتعليقه على الموقع وخرائبه بالقول : " إنّ الأسباب الدفينة التي حملتني على التأثر الى هذا الحد بآثار سامراء ومبانيها، هي تلك السنوات القليلة التي قضيتها بين اطلالها ساعياً في الكشف عن تلك الكنوز الثمينة لتلك المباني الخالدة، ورسم مخططاتها، فكان اعجابي بها وتفهمي لها يزداد كلما زاد ترددي عليها.. ففي كل مرة كنت اكتشف فيها جمالاً مدهشاً، وعظمة عالية "،ويعقب بصدق على ما رأه من سرقات وتخريب طال هذه الآثار القيمة والتاريخية الخالدة : " قاتل الله الجهل والايدي الاثيمة التي امتدت الى هذه الكنوز وحرمتنا بل حرمت العالم من التمتع بها والابتهاج بمنظرها"

 وهذه الحضارة بطبيعة الحال غير خاصة بالعرب، فقد ساهم فيها المسلمون شرقاً وغرباً،وتعد جزءاً من تاريخهم وحضارتهم التي يحق لهم ان يفخروا بها على الدوام،لا أن يبكوا على خرائبها بعد أن اهملوها منذ ذلك الحين الى الآن،

ولكن هل إن أسم عصر "الانوار" الاوروبي اخذ اسمه من قصيدة البحتري الشهيرة عن المتوكلية أو سُر من رأى أو من الحضارة الاندلسية  التي دائماً ما تقرن بالأقمار والأنوار  في الاشعار والمرويات، والأخيرة منها شفاهية ومنها مدونة .. لا نعلم؟! ولكن احياء التاريخ الحضاري والعمراني بعيد ومنزه عن السياسة والمذهبية أو الطائفية، أو حتى التعصب،لانهُ تاريخ مشترك لجميع العرب والمسلمين .

 

قيس العذاري

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم