صحيفة المثقف

الأبجدية الثقافية للثورة

علي اسعد وطفة"يدرك بالرفق ما لا يدرك بالعنف ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدته" . حكمة إنسانية

في تراجيديا العنف الدموي الدائرة رحاه على في البلدان العربية المنكوبة بالحروب الأهلية، يواجه الإنسان مأساته الخاصة التي تتعلق بالوجود والعدم، فكل فرد في هذه البلدان المنكوبة - أكان طفلا أو امرأة أو شيخا كبيرا أم صغيرا - يشكل مشروع ضحية على مذبح العنف الرهيب الذي حلّ بالبلاد ونزل بالعباد. فكثير من المواطنين في سوريا واليمن وليبيا والصومال والعراق اليوم يقفون مشدوهين مذهولين أمام ما يجري من صور مأساوية لمجازر دموية لم نعرفها إلا في الحكايات والأساطير الغابرة. فنحن اليوم - وكنتيجة طبيعية للعنف الرهيب الذي تمارسه قوى وأحزاب وميلشيات متنوعة - نشهد ونعاني دوامة عنف يختلط فيها العنف السياسي بالعنف الطائفي كما يتماهى عنف التمرد بعنف الثورة وتتضافر كل من اشكال العنف والحرب، إذ تحول العنف في أوطاننا إلى منهجية في السياسة ومنطلق في العمل والتفكير والتأمل والنظر.

ولم يقف هذا العنف في محرابه السياسي والميداني في الساحات بل تجاوز حدود السياسي فاستغرق في مواطن العنف الفكري، حيث نجد هذه اللهجة التي تدعو إلى العنف وتبرره في الآن الواحد في الخطاب الثقافي للقوى المتصارعة على الأرض فيما يسمى معارضة وموالاة.

وعلى هذه الصورة تدور اليوم الدوائر وتقع جرائم القتل وتسفك الدماء في دورة دموية مرعبة لا حدود لفتكها وقدرتها على التدمير. إذ أصبح القتل في هذه البلدان عادة والذبح عبادة، وبين هذا وذاك تسفك الدماء ادون رحمة أو هوادة وكأنه الجحيم والبلاء العظيم قد حلّ بهذا البلدان التي كانت آمنة حتى وقت قريب..

 مشروعية الغابة:

ينطلق عنف الأنظمة السياسية المستبدة من مقولة العنف الطبيعي ومشروعيته في عالم الغابة. لأن الأنظمة جاءت بمشروعية القوة فرسخها مشروعية سياسية تتعارض مع كل القيم الديمقراطية للمجتمعات الحديثة. ومن أجل الإيضاح نعود إلى مفهوم العنف في الطبيعة الوحشية. فالعنف في الطبيعة يرتكز إلى منطق القوة، فالأقوى هو الذي يسود ويهيمن في الطبيعة، والأقوى هو الذي يسود ويهيمن على الأضعف.

وعلى مبدأ التماثل مع صورة العنف في الطبيعة نجد تجليات هذه التصور في دائرة الحياة في أغلب البلدان المحكومة بالطغاة. فالأقوى - النظام السياسي - هو الذي يسود ويهيمن ومن ثم هو الذي يمتلك زمام الأمور. وعلى هذا النحو يصبح الحاكم طاغية جبارا يسود في المجتمع بوصفه الأقوى. والرجل الأقوى لن يقع فريسة الخطاب المخادع للأضعف بما ينطوي عليه خطابه من مزاعم أخلاقية وديمقراطية. ولأن نظام الحكم هو الأقوى فهو فخور بقوته يزدري قوانين الضعفاء وأخلاقهم وتسامحهم وحكمتهم. ولذلك فإنه ينتصر لقانونه الخاص الذي هو قانون الطبيعة (البقاء للأقوى).

فالقوانين التي صاغها الناس (مطالب الناس) هي قوانين الضعفاء وهم الذين صنعوا هذه القوانين لحماية أنفسهم من الأقوياء ( كما يرى نيتشه). والرجل القوي لا يترك نفسه لخدعة الضعفاء وقوانينهم بل سيعمل دائما على بناء قانونه الخاص وحكمته الخاصة وهي حكمة الأقوياء وقوانينهم. فالبذخ والثراء والعنف والهيمنة والفجور تتحول إلى فضائل الأقوياء وقيمهم العليا، وكل ما عدا ذلك هو عقم وجنون وعدم.

ثورة أم تمرد:

أخذت "ثورات الربيع العربي" صورة الثورات المتمردة وهي تشكل وفقا لذلك مزيجا من العصيان والتثوير. والسؤال ما الفرق بين الثورة والتمرد؟ هل يمكن حقا التمييز حقا بين الثورة والتمرد؟ يرى الفيلسوف الوجودي ألبيرت كامو أن الإنسان المتمرد هو الإنسان الذي يقول: لا، أي هو الذي يرفض واقعا محددا، وهذا الرفض يصبح مشروعا عندما يكون رفضا للقهر والظلم والطغيان. والتمرد في هذه الصيغة يكون تعبيرا عن حق أخلاقي ولاسيما عندما يقف الإنسان وينهض للدفاع عن حق ويعمل على رفع ظلم جائر. وهذا يعني بأن التمرد ليس مجرد فعل أناني بل هو عملية نابعة من وضعية أخلاقية قوامها الضغط والإكراه. والمتمرد في هذه الوضعية يكون إنسانا متعطشا للعدالة وباحثا عنها بكل ما يملك من قوة وقدرة. فالتمرد انطلاقة لا يعرف صاحبها أين تنتهي ومع ذلك فهي حركة وانتفاضة من أجل العدالة والحرية. ووفقا لهذا المنطلق فإن التمرد في سوريا يصبح واقعا مشروعا أخلاقيا وإنسانيا.

فالتمرد يعبر عن وضعية أخلاقية آنية وعلى خلاق ذلك فإن الثورة تعبر عن تمرد يقوم على أسس استراتيجية بعيدة المدى. فالتمرد يأخذ طابع ردة فعل ضد الظلم والقهر أما الثورة فتتجلى في صورة عمل منهجي منظم يقوم على ركائز أيديولوجية وفكرية بعيدة المدى توظف في تغيير الواقع وإعادة بنائه وفق منظور ثوري واضح المعالم. فالثورة ليست ردة فعل عفوية بل هي عمل إنساني منظم وهادف ومكثف في سبيل التغيير.

وهنا يمكن الحديث عن الفرق ما بين الثورة والتمرد. فالثورة تأخذ طريقا مختلفا، إذ تنطلق من رؤية فكرية متكاملة في اتجاه تغيير الواقع وإصلاحه كليا وبناء على هذا التصور تريد الثورة أن تغير المجتمع وفقا لرؤية مثالية محددة ومعلومة. فالروح الثورية تختلف عن التمرد بما تمتلك عليه من تصورات أيديولوجية منظمة لتغيير المجتمع والمفاهيم والأنظمة القائمة. ويتجلى هذا التصور في رواية سارتر الأيادي القذرة Les Mains sales إذ يقدم لنا حوارا يدور بين رأيين متعارضين حيث يمثل هيغو (واحد من شخصيات الرواية) شخصية الرجل المتمرد الذي يريد تغيير المجتمع لأن الناس يتعرضون للظلم والقهر. ويقابل هيغو شخصية هودرير Hoederer الذي يمثل عقيدة الثورة التي تنطلق من الأيديولوجيا حيث يتوجب على الفرد أن يضحي بنفسه من أجل الحزب والجماعة.

- هيغو: ليس هناك غير هدف واحد هو تحقيق الانتصار.

- هوديرير: هذا صحيح أنت تمتلك أفكارا، وهذا يتجاوزك أنت أيضا.

- هيغو: هل تعتقد أنني وحدي الذي يمتلك هذه الأفكار؟ ألم يُقتل رفاقنا من أجل الأفكار، أليس من أجل الأفكار ذهبوا ضحية رجال الأمن والشرطة؟ ألا تعتقد بأننا لا نخونهم أبدا إذا قمنا بخدمة الحزب للقضاء على القتلة .

- هوديرير: لا يهمني الأموات إنهم مجرد أموات بالنسبة للحزب، والحزب يستطيع أن يقرر ما يجب أن يكون، فنحن نمارس سياسة من أجل الحياة ومن أجل الأحياء.

- هيغو: وهل تعتقد أن الأحياء يقبلون هذا الرأي؟

- هوديرير: لقد قرؤوا وفهموا كل النظرية.

- هيغو: لقد كذبتم عليهم أليس كذلك؟

- هوديرير: نعم في بعض الأحيان.

- هيغو: لم أكذب أبدا على رفاقي. وماذا ينفع هذا في النضال من اجل الحرية حرية الناس إذا كنا نحتقرهم ونكذب عليهم.

- هوديرير: كذبت عندما كان الكذب ضروريا، ولكنني لا أزدري أحدا. فالكذب ليس أنا من اخترعه: بل نشأ في مجتمع مقسم إلى طبقات، وكل منا ورث طبقته بالولادة. وليس برفضنا للكذب يمكن إزالة الكذب من الوجود. فالكذب ضروري إذا كان يؤدي إلى إزالة الطبقات.

- هيغو: ليست كل الوسائل جيدة.

- هوديرير: كل الوسائل جيدة إذا كانت فعالة.

وهنا في نظرة إلى دلالة الحوار يمكن القول بأن هوديرير يترجم صورة العنف الأيديولوجي للثورة، ولكن هوغو ولأنه يعطي الأولوية للإنسان وحقه في العدالة فإنه يمثل العنف بمعنى التمرد، فليست كل الوسائل جيدة كما يقول. وبالتالي فإن الوسائل السياسية التي تجعل من الإنسان مجرد أداة تجعل من هذه السياسة سياسة للعنف. وبالتالي فإن التمرد يقوم ضد العنف السياسي. وهنا يبدو العنف ضروريا ضد العنف الجائر الذي يمارس نظام سياسي ما. فالإنسان الذي لا يتمرد أبدا في عالمنا هذا هو إنسان ميت. ولذلك فإن التمرد هو واجب على كل مواطن. وإنه لمن المقلق جدا أن نفقد حساسيتنا إزاء التمرد ضد الظلم والقهر والعبودية وهنا يمكن القول بأن الرفض والتمرد يمثل نزعة إنسانية نحو العدالة والخير والحق والجمال. إنه السبيل إلى عالم أفضل نضّاح بفضله وغامر بعدالته.

وعلينا هنا أن نكرر من جديد بأن ما حدث في سوريا وليبيا وتونس واليمن حالة من التمرد وليس حالة ثورية. فشريحة كبيرة من البشر انطلقت لتعبر عن رفضها للظلم والقهر والعبودية والإكراه تعبيرا عفويا لا تحكمه نظريات أو مقدمات وهذا ما يمكن أن يعبر عنه بالرفض الشعبي الغريزي للظلم والقهر كما حدث في أغلب المدن والقرى، وهذا التمرد لا يعرف نظريات أو مقدمات أو ايديولوجيات إنه ببساطة رفض للظلم والعبودية فالتمرد الشعبي هو تمرد على الذل والقهر والعبودية في أكثر صوره وتجلياته الثورية.

عقلنة العنف:

وهنا أيضا يمكن أن نميز ما بين شكلين من أشكال التمرد: التمرد بمعنى العصيان السلمي أو التمرد بمعنى العصيان المسلح من جهة، والتمرد بمعنى تمرد العقل بالمعنى الثقافي وانتفاضة العقل من جهة ثانية. وهنا يمكن القول بأن التمرد الذي يأخذ طريق العنف الدموي ليس تمردا من الصنف الذكي. فالعنف الثقافي يعلن عن الرفض للظلم والخوف والألم والتوحش. فالتمرد الأصيل يمتلك في ذاته على نوع من التنظيم والعقلنة والسيطرة على مقاليد النزعة الذاتية للعنف. فالمتمرد العقلاني يكون دائما على أهبة الاستعداد للحوار وهو ينتظر دور العقل معارضا بذلك كل الاندفاعات الذاتية المدمرة. وهذا يعني أن الحوار يضع المرء في الاتجاه العقلاني ويضعه خارج دائرة العنف ومساره المدمر، وهنا يجب أن نعلم بأن الحوار في ظل العنف أشبه بالمستحيل، ولا يمكن أبدا أن يتم الحوار في ظل الامتهان والحقد والاحتقار، حيث لا يمكن للشخص الذي يعيش أوضاعا كهذه أن يحاور وأن يضبط نفيه وأن يسيطر على نزعاته الذاتية. وهنا يمكن القول أن الحوار مع الإنسان المتمرد أمر ممكن لأن جوهر تمرده يكمن في البحث عن الخلاص والحرية ورفع الظلم والخروج من دائرة الاستلاب والقهر.

وقد شهدت "الثورات الربيعية العربية " بدايةً حالة هائلة من التمرد الثقافي الذي تمثل في أعداد كبيرة من مثقفي الظل المتواضعين الذي عبروا بكتاباتهم ومشاعرهم عبر قنوات التواصل الإليكتروني الفيسبوك والتويتر ومختلف الوسائل برفضهم الطبيعي والعفوي للظلم والقهر، واستطاعوا التعبير عن ذلك عنه بالصور والرموز. وهذه الفئة مارست نمطين من السلوك الثوري فأغلبها مارس فعل التمرد في الشارع على صورة مظاهرات وقدموا تصوراتهم الذهنية حول الرفض المطلق لكل أشكال القهر والظلم والعبودية.

 وماذا بقي أمامنا نحن المثقفين أصحاب الدعوة إلى السلام والأمن والأمان؟ لم يبق أمامنا إلا العمل على عقلنة هذا العنف الدموي الذي أخذ صورة المارد الجبار الخارج من قمقمه ليزلزل الأرض بمن فيها تحت أقدامنا في هذا الأوطان الحبيبة. إنه هذا الوحش الإنساني الذي خرج من أعماق العصور المتوحشة المظلمة ليشبع غريزة القتل والإناء بين الأهل والأحبة في الوطن الواحد. إزاء هذا الواقع الذي يفيض بالعنف ويتدفق بالدم ويجأر بكل الألم يتوجب علينا فهم طبيعة هذا العنف وإدراك مساراته من أجل السيطرة على جموحه وعقلنته وتفريغ شحنته المعادية للإنسانية والإنسان.

خاتمة:

فالعنف الثقافي يعني في النهاية العمل على عقلنة العنف الدموي وتصحيح مساره ليأخذ طابعا إنسانيا خلاقا تكون فيه الغلبة للكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان ورفض كل أشكال العنف الدموي ما تحكمه ضرورة الدفاع عن النفس. ولو أخنا بالنظرية السلمية فالصراع نقول بأن العنف الثقافي السوري يأخذ مسارا مسالما يؤمن بقوة الثقافية وقدرته على توجيه العنف نحو مساراته الإنسانية. وبعبارة أخرى العنف الفكري والثقافي يقوم بوظيفة عقلنة العنف وتوجيهه ثوريا نحو غايات إنسانية خلاقة.

 وما أجمل أن نختتم هذه المقالة بهذه الأبيات من الشعر العربي الجميل الذي يسطر فيها الشاعر حليم دموس أجمل المعاني في رفض العنف الدموي ويركز فيها على عمق الدلالة الإنسانية والثقافية للتسامح رفضا لكوابيس الحرب والعنف الدموي .

وأقسم لو يدري الورى كُنْهَ دينِهم--- لما فرقوا ما بين عيسى وأحمدِ

ولا أَطلقـوا يومـاً قنابلَ مِدفــع--- ولا صَقلُوا للحَرب حَـدَّ مُهنَّــــدِ

فأَنتَ أَخي ما دامَتِ الأَرضُ أُمَّنا--- وأَنتَ أَخي بالروح قبل التجسُّدِ

لعمرك ما الأديـــــــان إلا نوافـــذ--- ترى اللهَ منها مقلةُ المتعبـّــــدِ

فأقرأ في القرآن عيسى بن مريم---  وألمسُ في الإنجيلِ روحَ محمّدِ

 

أ. د.علي اسعد وطفة - جامعة الكويت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم