قضايا

قاسم حسين صالح: اللغة العربية في العراق.. منسية في يومها العالمي

بجهود دبلوماسية مميزة للمملكة المغربية، من خلال منصب رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو الذي كان يشغله السيد محمد الفاسي، وسفير المغرب لدى الأمم المتحدة في حينه السيد رشيد الحلو، وباسناد من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية، وافقت الأمم المتحدة في العام 1973 بقرارها الرقم 3190 باعتماد الثامن عشر من ديسمبر / كانون الأول يوما عالميا للغة العربية، بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها الى جانب خمس لغات معتمدة هي: الانجليزية، الفرنسية، الصينية، الاسبانية، والروسية.

  كنّا تحدثنا في مقال سابق عن  مزايا اللغة العربية بوصفها من اقدم اللغات السامية، وانها لغة القرآن، والبلاغة والبيان، والاستقامة والترادف والمعاني الجميلة، وتفوقها على لغات العالم بمفرداتها الحية التي تبلغ فيها (000 303 12) كلمة، فيما عددها باللغة الأنجليزية (000 600) وفي الفرنسية (150000) وفي الروسية (130000)، ولا عن الذين كتبوا فيها من العلماء والمفكرين والأطباء وما كانوا عربا، ولا الشعراء في عالمنا العربي، وابلغ ثلاثة بينهم (احمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي) كانوا من الكورد وليسوا عربا!.

وكانت جامعة قرطبة بحضارتها العربية الراقية يقصدها الطلبة من كل بلدان اوروربا.ويذكر ان الشاعر الاسباني لوركا كان قد سئل:هل تعتبر المرحلة العربية بتاريخ اسبانيا..استعمارا؟ اجاب:المرحلة الوحيدة المضيئة في تاريخ اسبانيا هي المرحلة العربية، وما قبلها كان ظلاما.

ولقد شاهدت في زيارتي الأخيرة لأسبانيا ان الأسبان نحتوا التماثيل لأطباء ومفكرين وقادة عرب تكريما لهم، ليس لهم ذكر في زماننا هذا مع انهم ونحن..عربا!

في العراق.. اللغة العربية في محنة

صحيح ان الذين جاءوا الى الحكم احالوا الوطن الى خراب وحياة المواطن الى شقاء، لكننا ما كنّا نتصور ان اساءاتهم ستنال من لغتنا الجميلة. فكثير من المسؤولين السياسيين والنواب يرتكبون اخطاء لغوية مخجلة حين يتحدثون، ويخطئون ليس فقط في اسم كان وخبر ان ورفع المجرور والمضاف اليه، بل حتى في املاء كلمات بسيطة.. ولك ان تطلع على فضائحهم اللغوية عبر الفيسبوك، فاحدهم بمنصب مدير عام يكتب شكرا بالنون هكذا (شكرن)، وآخر يكتب لكن هكذا (لاكن)!.

والأساءة الاوسع انتشارا والأكثر خطرا ان فضائياتهم التي تجاوزت الخمسين، ترتكب اخطاء فاحشة بحق اللغة. فمعظم العاملين فيها من المذيعين والمذيعات يرفعون المفعول وينصبون الفاعل والمجرور!.وتلك فاحشة ما حدثت في تاريخ المؤسسات الاعلامية العراقية.ففي السبعينيات، اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات..تقدم في حينها اكثر من (1200) من حملة البكلوريوس..خضعوا الى اختبار من لجنة ضمت مديرها العام (محمد سعيد الصحاف)، ومدير اذاعة صوت العرب (سعد لبيب)، وكبير المذيعين سعاد الهرمزي، والراحلان الدكتور عبد المرسل الزيدي وبدري حسون فريد.. اجتاز الاختبار عشرة فقط!. وقد تلقينا نحن العشرة تدريبا بدورة اذاعية في اللغة والصوت والالقاء والدراما وتحرير الخبر لثلاثة اشهر! سمح لنا بعدها دخول الاستديو، لا كما يجري الآن.. ياتون بهم (بهنّ) من البيت الى الاستديو!

التهديد الأخطر

ان اخطر تهديد تتعرض له لغتنا العربية هو ان  جيلا كاملا من الأطفال والمراهقين والشباب، وأجيال قادمة، تولعوا عبر الانترنت بمفردات اللغات الاجنبية وتولد لديهم نفور من اللغة العربية، وشاعت بينهم مفردات من قبيل (كنسلها، دلّتها، سيفها..).. بعكس جيل السبعينيات الذين تربوا على برامج تلفزيونية تحبب لهم لغتهم مثل (لغتنا الجميلة) و (لغة الحروف..جعفر السعدي بدور استاذ القواعد ومعه سهى سالم بدور الآنسة قواعد، ومحمد حسين عبد الرحيم الذي يحلم بأنه راى قوري فترد عليه الآنسة قواعد: ليس في لغتنا قوري بل ابريق الشاي)، وبرنامج المناهل.. الذي يبدأ بأغنية (هذي لغتي.. فوق الشفة كالأغنية... المنـــــاهــل).. وأخرى يتذكرها ابناء ذالك الجيل وما تزال مطبوعة في ذاكرتي كوني كنت يومها مشرفا على برامج الأطفال.

ما يؤلم حقا ان اللغة العربية كانت، في العراق تحديدا، حزينة في يوم الاحتفاء بفرحها.فلقد مرّ يومها باهتا على الصعيدين الرسمي والاعلامي.ذلك لأن معظم من في السلطة بين من يشعر بالنقص في علو شأن العلماء والأدباء، وبين جهلة لا يدركون ان جعل العربية لغة رسمية أمميا الى جانب خمس لغات عالمية فقط، يعدّ اعترافا بحيويتها وتطورها واعترافا بمساهمتها في تطوير الحضارة الانسانية عبر غزير عطاءات مفكريها وعلمائها واطبائها وادبائها، ولا يعنيهم تكريم علماء اللغة العربية في يومها، وليس في حساباتهم ولا يخطر على بالهم ما تفعله دول تحترم مفكريها. فالصين مثلا اعتمدت العشرين من نيسان يوم اللغة الصينية تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية، وروسيا اعتمدت السادس من حزيران يوم اللغة الروسية تكريما لميلاد شاعرها الكساندر بوشكين، وبريطانيا اعتمدت الثالث والعشرين من نيسان تخليدا لوفاة ويليام شكسبير. والكارثة تكمن في ان ثقافة القبح التي اشاعها الاسلام السياسي قد شوهت كل جميل في الوطن..حتى وجه لغتنا الجميلة، وأن على من بقي من محبيها أن يعيدوا لها حيويتها وبهاءها وايقاعها الموسيقي الذي يطرب كل السامعين!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم