صحيفة المثقف

عندما يكون المثقف شيطانا !؟

علي اسعد وطفة(الخطاب الثقافي الفاوستي خطاب ديماغوجي مغلق متعصب ذاتي التوليد، يرهب النقد والنقض ويعلو فوق التشكيك والتجريب. وهو لا يتطور وفق نواميس التطور والتغير، إنه فكر الجمود والتصلب).. علي أسعد وطفة

مقدمة:

تعد مسرحية «فاوست» من أبرز الأدبيات الألمانية التي جسد فيها «جوته» تطلع الإنسان إلى بلوغ أقصى القوة والسعادة، ومن أجل هذه الغاية أبرم فاوست صفقة مع الشيطان فباع له روحه على أن يهبه له قدرات فائقة سمحت له بالممارسة المطلقة للملذات وإشباع الجشع والشهوات والشطط في الغرور والأهواء ومكنته من قوة السيطرة والهيمنة والاستعلاء. وعلى هذه الصورة الشيطانية يشبه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان مثقفي البلدان المتخلفة بـ«فاوست» غوته، فهم مثله يعيشون تناقضا بين ما تتطلبه الثقافة كقيمة أخلاقية وما بين رغبتهم الجامحة في مشاركة الحاكم أمجاده في السيطرة والطغيان. وهذا هو حال جلّ المثقفين العرب الذين باعوا أنفسه للشيطان طلبا للمجد والقوة وتحقيقا للمصالح الآنية الرخيصة.

إنه من الصعوبة بمكان أن يدرك المرء هذه الكيفية التي تجعل عالما كبيرا، أو مثقفا شهدت الساحات بفضله، من صعود المنابر للدفاع عن الظالمين والمستبدين. ويصعب علينا أن نفهم أيضا كيف يستطيع هؤلاء المثقفون أن يقلبوا ظهر المجن للحق والحقيقة، للعدل والعدالة للكرامة والحرية والإنسان، فينتصرون للظلم والظالم والطاغية والطغيان.

كيف يتمكن مفكرون من قامة عالية (رجال دين وأئمة يدين لهم الناس بالقدسية والاحترام، أساتذة في الجامعات وحملة ألقاب ومفكرون) للدفاع عن الظلم والظالم والاستبداد جهرا وعلنا وفي ضوء النهار دون خجل أو وجل. أو لم يكن حريا بهم أن يأخذوا بالقول المأثور "إذا بليتم بالمعصية فاستتروا"، ولكنهم على خلاف ذلك يفاخرون بها ويفتخرون. وحالهم كما تقول الحكمة الشعبية “إذا كنت لا تستحي فافعل ما شئت" وهذا هو حال جمع كبير من المثقفين الذين باعوا الضمائر فكانوا أكثر وفاء للظلم من الظالم وأكثر نزعا إلى القهر من القاهر.

ومن منا اليوم من أصحاب الضمائر الحية لا يهزه هذا المشهد المرعب لجموع هائلة من المثقفين والصحفيين ورجال الدين وهم ينجرفون بقوة حزم وعزيمة وإيمان للدفاع عن الشيطان ممثلا في الظالمين والقاهرين والمستبدين بحزم وثقة وأمان. من منا لا يصدمه هذا الحشد من المثقفين بالدفاع عن الشياطين الإرهابيين الذي اغتصبوا الأرواح والعقول والأذهان وغني عن البيان أن هذا الوجه الشيطاني قد يتجلى في بطش نظام سياسي أو في جموح وحشي لجماعة دينية متطرفة أدمنت تقطيع الأجساد وقطع الرقاب وهتك الأعراض. لقد هالني هؤلاء المثقفين الذين انتصروا في البداية للثورة ولكنهم ما لبسوا أن وقعوا صفقتهم الشيطانية مع أكثر الأنظمة السياسية همجية أو مع أكثر جماعات الإرهاب توحشا وهمجية، ومنهم الإعلاميون وأساتذة الجامعة ورجال الدين والصحفيون والفنانون والممثلون .

 وها نحن اليوم نجد أنفسنا اليوم بين قطبين من المثقفين متعارضين كليا وكلاهما باع نفسه للشيطان: مناصرو الأنظمة السياسية الاستبدادية المتوحشة من جهة ومناصرو العنف الأيديولوجي للجماعات الدموية المتطرفة من جهة أخرى. وفي خضم الصراع بين القطبين تفتقت الساحة الفكرية عن مواهب فكرية سياسية من طبيعة أيديولوجية حكمتها ظروف الصراع والاستقطاب المريب بين الاستبداد السياسي للأنظمة السياسية المستبدة، والتوحش الأيديولوجي للجماعات الدينية المتطرفة. وقد لا نجد اختلافا كبيرا بين الخطابين في القطبين المتقابلين من حيث اعتمادهم على نفس الأواليات الشيطانية في تبرير القتل وسفك الدماء والدعوة إلى التصفية العرقية والدينية وفي تعظيم استبداد المستبدين ووحشية المتسلطين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يجند المفكرون والمثقفون أنفسهم للدفاع عن أنظمة سياسية مستبدة وعن طغاة متطرفين أوغلوا في دماء مواطنيهم؟ والجواب بسيط جدا لأن هؤلاء بكل بساطة قد باعوا ضمائرهم للشيطان من أجل مصالح آنية مع الأنظمة السياسية القائمة أو مع الجماعات الدينية المتطرفة، وما أكثر هؤلاء الذين لا باعوا ضمائرهم هذا إن وجدت فسهل عليهم ركوب الأمواج الظلم والقهر والاستبداد.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم “إذا رأيتم العالم يرتاد السلطان فاتهموه«. إذ لا يمكن للثقافة أن تكون استبدادا أو دفاعا عن الاستبداد أو توسلا إلى المستبدين. فالثقافة حرية وكرامة وتسامح وحق وعدل ونهوض بالإنسان. وهي غالبا ما ترتبط بالعقل والعقلانية إذ تتنافى بطبيعتها مع منطق الاستبداد والقهر والظلم والاستعباد. ومن يراجع التاريخ يجد بأن أعظم المفكرين والمثقفين وأغلبهم بالمطلق كانوا أبطالا للحرية والكرامة والحق والخير والجمال.

والمنطق يقول بأن الثقافة الحقيقة لا يمكن أن تكون ثقافة ما لم تكن ثقافة إنسانية وأخلاقية. فالثقافة كانت دائما وأبدا تعبيرا عن الحق والخير والجمال والإخاء والعدالة. وكانت الثقافة دائما وأبدا تنطلق من أبعاد إنسانية خلاقة وأصيلة. فلا يمكن للثقافة أن تكون ذراعا للظلم أو تعبيرا عن الظالم. ومن هذا المنطلق فإن كل ثقافة لا تأخذ مسارا إنسانيا وأخلاقيا تفقد جوهرها الثقافي وتصبح نوعا من الهرطقة المضادة للإنسان والإنسانية .

يجري استخدام مفهوم "مثقفي الأنظمة السياسية والأنظمة الإرهابية" على هؤلاء الذين يوظفون أنفسهم في خدمة الطغاة والظالمين والاستبداد من أجل الحصول على مصالح مادية أو معنوية. ومعظم هؤلاء يجدون مصالحهم مع أي نظام قائم أيا يكن أمره فيكرسون أنفسهم لخدمته والتفاني في الدفاع عنه والاستماتة في خدمته. والغريب في الأمر أن إضفاء مفهوم الثقافة على هؤلاء يتنافى مع مفهوم الثقافة وخير تعبير عن هذه الفئة هو القول: إنهم بطبيعتهم أعداء للثقافة، ديماغوجيون مزيفون، وهم بطبيعتهم معادون للثقافة التي تتمثل في الحق والخير والجمال والتسامح والتسامي الإنساني.

ولعل أفضل مصطلح يمكن أن يطلق على هؤلاء هو (صعاليك الفكر ومرتزقة الأنظمة السياسية المجحفة بحق الإنسانية والإنسان). فهم يمثلون حالة معادية للثقافة والفكر والإنسان. إنهم ثلة من العبيد الأذلاء الذين يجدون في العبودية ملاذهم وفي القهر مجدهم. وفي هذا يقول بوذا: “العبد الحقيقي هو من اتخذ أعداء الحقيقة أولياء له ومعلمين لأنه عما قريب سيصبح كلبهم الأمين "، إنهم عبيد أرقاء للذل والمهانة باعوا أنفسهم وضمائرهم بنثرات من فتات السلطان وقاذوراته وبقايا موائده.

ومما لا شك فيه أن الأنظمة السياسية البائدة قد أعدت حثالة من البشر (تحت تسمية المثقفين) الذين يدّعون الثقافة والمعرفة والفهم للدفاع عن مصالحها وترسيخ المغالطات الأيديولوجية لاستبدادها من أجل ترويض الناس على قبول سخافاتها وديماغوجيتها ودمويتها. أكباش وصعاليك تستخدمهم الأنظمة المتوحشة في المقارعة وفي الهجوم على خصومه الأيديولوجيين الذي لا يقلون عنه همجية وتوحشا وتوغلا في الدماء. إنهم باختصار صعاليك من المثقفين الذين تم إعدادهم من قبل مؤسسات وشركات لتزييف الحقائق وتشويه القيم وغسل الأدمغة وترويض البشر على قبول التزييف للحقائق والقتل المستمر لأبناء الشعب ومناضليه.

ديماغوجيا الخطاب الثقافي:

يتميز الخطاب الثقافي الديماغوجي ( ونعني به الخطاب المفخخ بالكذب والجل والخداع) بوجود قطيعة كبرى بينه وبين المنطق والعقل والعقلانية والتأمل الفكري. ويمكن من حيث المبدأ أن نصفه بأن خطاب غير عقلاني وغير واقعي لا يستند إلى المنطق والعقل، بل يوجد في حالة عداء واضحة مع كل قيم العقل والمنطق والعقلانية. وهو في الوقت نفسه يفتقر إلى القيمة الأخلاقية لأنه يضع نفسه في خدمة الاستبداد والظلم والقهر والطغيان في أي اتجاه كان. ولا يمكن لفكر يخدم الطغاة أن يكون فكرا أخلاقيا، فهو فكر فاوستي شيطاني مضاد للأخلاق والقيم والواقع في آن واحد. وظيفته التبرير والتشويه والتزييف وقلب الحقائق وترسيخ مقومات الاستبداد وأنظمة الظلم والاستعباد.

وما يؤسف ويحزن أن جمعا من المثقفين في وغيرها نفروا للدفاع عن الاستبداد والقهر والتسلط واستخدموا أساليبهم الملتوية وحقائقهم الزائفة في منافحتهم عن الظالمين والمستبدين بعضهم مواليا للنظام والبعض الآخر مواليا للمجموعات الدينية الإرهابية المسلحة المسلطة على البلاد ورقاب العباد من قبل قوى خارجية ومؤسسات استخبارية تنتشر هنا وهناك في الفضاء السياسي القائم على تدمير مقومات وجودنا وأركان حياتنا.

سمات الخطاب الديماغوجي:

عندما تشاهد مثقفا من مثقفي النظام ـأو من مثقفي الجماعات الدموية المسلحة تجد نفسك مباشرة أمام وحش ثائر غاضب خائف يريد القتل ويروم الفتك وبعشق التدمير ويستميت في هزم خصومه ومحاوريه.

إذا أردت أن تصور داعية "مثقفا" من دعاة الأنظمة السياسية المستبدة أو مأجورا من مأجوريها فإن الصورة الأولى التي تقفز إلى الذهن هي صورة "الكبش" الذي أعد للمناطحة والصدام، أو صورة الثور الهائج الذي أعد للنزال ويراد له أن يثير الخوف في نفوس مجادليه ومخالفيه في الرأي، ربما من أجل إرباكهم وإضعاف حجتهم ولجم كلمتهم. وغالبا عندما يظهر هؤلاء على شاشات التلفزيون لإثارة الخوف والهلع في نفوس خصومهم قبل أن يمتشقوا سيوفهم ويسددوا رماحهم. وكل منهم يملأ الشاشة طولا وعرضا، وتراه متجهم الوجه وكأنه أسد رهوص أو ضبع جعور ضروس. وما عليك إلا أن تنظر إلى الشاشة لترى هذا التجهم العبوس على وجوههم، والغباء على محياهم، والخوف في أعينهم، إذ لا يجيدون غير النطاح على إيقاعات واحدة ومسارات متجانسة لا يحيدون عنها ولا يخرجون من مسارها.

في الغالب تمّ اعتماد معظم هؤلاء الصعاليك وتهيئتهم عبر دورات تدريبية إرهابية في الخارج أو حزبية وأمنية في مؤسسات أمنية واستخبارية. ولا يغرنك ظهورهم المفاجئ على الشاشات وفي الساحات بوصفهم أبطال النظام أو فرسان الجماعات المسلحة الذي يدافعون عنه وينافحون من أجله. وتتسم الثقافة الفاوستية بسمات وخصائص كثيره أهمها:

1- الروح الفاوستية: يهتدي المثقف الديماغوجي بطاقة فاوستية تتمثل في روح القوة الشيطانية وهي الروح الفاوستية التي تجعله يرى أن الحقيقة هي تلك التي يفرضها بالقوة والغلبة والحرب. فالمثقف الديماغوجي محارب يعمل وفق منطق الحرب والقوة في مجال الصراع الفكري ومغالبة الآخرين. فالفكر لديه صورة للعرف الفاوستي وهو فكر تحكمه إيقاعات الصراع والنزال والقوة من أجل السيطرة والسيادة في حقل الفكر والثقافة. وهذا يعني أن الروح الفاوستية الشيطانية تمتلكه وتستحضره تتجسد في ميادين الحوار من أجل مبدأ الغلبة والصراع والتحدي والانتصار والقوة. وتلك هي الروح التي بثها النظام السياسي الأرعن في مثقفيه تمجيدا للقوة وروح الحرب والانتصار والاقتناع بأن الحرب والقتال والغلبة هي الروح الحقيقية لكل المعاني الثقافية والدلالات الفكرية.

2- الصراخ وسيلة الإقناع والبرهان: يغتصب المثقف الديماغوجي الحقيقة، يشوهها ينال منها، ويختطفها برنين الكلمات وتهدج الأصوات. فمعظم "الأكباش" من دعاة الثقافة يتحدثون بنبرة عالية وبصوت جهوري مرتفع ربما لإرهاب محدثيهم وإقناع مواليهم، وكأن الحقائق ترتسم بقوة الصوت وشدته ورنينه وجهوريته. ولعلك ترتجف أحيانا من شدة الصوت وارتفاعه الذي يصم الآذان ويصدم كل التكنولوجيا المعدة لنقل الصوت التلفزيوني على نحو معتدل. فالكبش يؤمن بأن انتصاره في معركة المنطق والعقل تعتمد بدرجة كبير على الهدير والشخير ورفع العقيرة، وهو يعتقد أن الصوت المدوي يمكنه أن يغيب الحقيقية ويشوهها ويتجاوز كل حيثيات المنطق ووضوحه. لذا فهو يصرخ ويرغي ويزبد ويهاجم ويرفع عقيرة الصوت ليرهب محدثيه ويضعهم في دائرة الخوف والقلق والتوتر.

3- إنشائية الخطاب والرنين الانفعالي: يتميز المثقف الديماغوجي بأنه مخضرم في إنشائية الخطاب وديماغوجيته حيث يلجأ إلى أساليب لغوية كاللحن حيناً والسجع حيناً آخر، والتدرج في الصوت والهيئة ما بين الشدة والانتفاج، وانتفاخ الحلق والأوداج إلى الهدأة والسكون وسبل الرموش ودمج الجفون، والوعيد بشر المتون ثم إلى الصمت بعبوس ونكد وكأن البحر على أشجانه رقد، أو على أوصابه تجحد، أو كأن الخطيب في زعل وحرد، وهو في كل ذلك متكلم عامر البنيان، لا يخلو من سلاطة اللسان، تراه من ثمرة الإيمان يشتد كالعقبان، ثم يسترخي كالساهر النعسان (2).

4- الهجوم خير وسيلة للدفاع: يتسم المثقف الديماغوجي بسمة الهجوم المرتكز على عنصر الهيجان، وهو في هذه الحالة يشبه الثور الهائج الذي يقرع كل ما يقع تحت ناظريه أيا كان، ويضرب كل من حوله دون تمييز أو استئذان. إنه آلة معدة للهجوم والقتال وتدمير الخصوم. لذا تراه يهاجم مقدمي البرنامج والمذيعين في بداية الكلام ونهايته، يهاجم محاوريه وناقديه، يهاجم كل من يقع تحت بصره وسمعه. فالحوار بالنسبة له حالة من الصراع حالة من الكر والفرّ والصراع والعناد، بل هي حالة من الهيجان والاكتساح. فالمنطق هنا أداة ضعيفة والعقلنة وسيلة سخيفة، فقط الهيجان والاستثارة والهجوم هي الأدوات التي يحسب لها حساب لإرهاب الآخرين ولإقناع السامعين بقوة الهجوم وعزم السواعد وليس بالتأمل والنظر والبحث والحوار.

5- القداسة والتمجيد: إضفاء القداسة على أسيادهم وأرباب نظامهم السياسي سمة أساسية من سمات الخطاب الثقافي الديماغوجي. إنهم يؤلهون سلطانهم ويقدسون حكامهم، ويضفون على الطاغية كل عناصر المهابة والرهابة. وإذا أردت إثارة جنونهم فما عليك إلا أن تقلل من قداسة طاغيتهم ،أو أن تبدي لهم قلة احترام لسادتهم، وعندها تثور ثائرتهم وتدور عليك دوائرهم (انظر ماذا حدث في محطة تلفزيونية لبنانية عندما تم الهجوم بالكراسي والطاولات على المحاور لأنه لم يبد تقديسا واحتراما للطاغية والسلطان). فالحاكم ربّ نعمتهم وسيد لقمتهم، له يسجدون وعلى أمجاده يركعون، وعلى أسمائه الحسنى يسبحون.

6- خطاب المطلقات: عقل المثقف "الكبش" مكدس بالمطلقات والأحكام والمقولات المسبقة، إنه يحمل في عقله حقائق كونية لا تقبل التغيير والتبديل والحوار والمناقشة. في عقله أن البلاد تتعرض للمؤامرة، وأن السلطان نبي منزل ورسول معصوم، وأن المؤامرة انتهت، وأن البلد قلعة الصمود، وقلب العروبة النابض، وأن الوطن برعاية الطاغية بلد الممانعة والمقارعة. وتلك هي آيات منزلة في إنجيله المقدس. وهذه المطلقات - وهي تعد بالمئات - غير قابلة للمناقشة والمجادلة، وعندما تجادله فيها فإنك تخترق الحجب وتغتصب المقدسات وتطلب الحرب والنزال وعلى روحك يجب أن تتشهد.

7- تزييف الوقائع: لا يرى المثقف الديماغوجي في الواقع غير مطلقاته. فهو لا يرى احتجاجا في البلد، ولا يرى مظاهرات، ولا يصدق بوجود معتقلات، والثوار خونة، والقضية انتهت، والبلد لا توجد فيه انتفاضات، وهو يرى حقيقة واحدة الجماهير تلتف حول قائدها المفدى. بل يذهب إلى تكذيب كل ما لا يقع في دائرة تمجيد الحاكم والسلطان. ومن يتأمل في مقولاته يجد أن دولته هي البلد الأقوى والأعظم والأكثر مجدا في العالم.

9- تعليب الخطاب ونمطية الحقيقة الواحدة: يجري الخطاب الديماغوجي على قواسم مشتركة، فهو خطاب معلّب ونمطي يرتدي حلة واحدة رقصا على إيقاع واحد. فأبجدية هذا الخطاب قائمة على ديباجات واحدة متجانسة، كما تقوم على مطلقات الدلالة الواحدة والمعنى الواحد. إنها أشبه بالقصة المحبوكة يحفظها الكبش السلطاني. فهو في البداية يهاجم المذيع ويتهم المحطة التلفزيونية بالتواطؤ والتآمر على البلاد والعباد، ثم يكذب صورها وتقاريرها، ثم ينتقل لمهاجمة محاوريه بألفاظ نابية وأصوات عالية، ثم يوجه إليهم الاتهام بالخيانة، ثم ينتقل لتعظيم سلطانه وولي نعمته ونظامه وبعدها يكرر مطلقاته ومقولات النظام أي هذه التي أطلقها الرئيس في خطاب أو وزير الخارجية في سباب. هذا الخطاب واحد بمكوناته ومنطلقاته ومسلماته ومصدقاته، وهو لا يأبه بالمحاور والسؤال بل يسرد حكايته النمطية بدقة متناهية ليعطي الانطباع بأنه محاور ذكي ومخلص وشجاع.

وحال المثقف الفاوستي الديماغوجي حال بروكروست، الملقّب داماستيس وبوليبمون، قاطع طريق منقطع النظير. وكان يعيش على الطريق الرابطة بين ميغارا وأثينا، مدّوخاً العالم. فلقد ابتدع طريقة شيطانية في قتل المسافرين الغرباء الذين يمرّون ببيته. كان له سريران، أحدهما قصير والثاني طويل. وكان يرغم كلّ من يمرّ به من المسافرين على أن يستلقي فوق أحدهما. فإذا كان قصير القامة أجبره على أن يستلقي فوق السرير الطويل حتى إذا بدا أقصر من السرير مطّه بوحشيّة لا مثيل لها وخلعه خلعاً كي تلامس قدماه حافتي السرير. وإذا كان طويل القامة أرغمه على أن يستلقي على السرير القصير. وبالمنشار ينشر رجليه بمقدار الزيادة. وحين التقى البطل الصنديد ثيسيوس بالشقي بروكروست نازله وهزمه وأهلكه بالطريقة التي كان يقتل بها المسافرين الغرباء سيئي الحظّ.‏، وتلك هي حالة الكبش السلطاني في خطابه الثقافي المعلب الذي يصوغ الكون على مقياس أسياده.

12- أيديولوجيا التزييف والتبرير: الخطاب الديماغوجي خطاب أيديولوجي وضيع ورخيص يصنف في الدرك الأسفل للخطب الرديئة عبر التاريخ. فهو يقلب الحقائق ويشوه المعاني ويدافع عن الإجرام فيظهر لك القاتل بريئا والبريء مجرما. خطاب يريد أن يظهر القتلة والسفاحين بوصفهم رسل محبة وسلام ووئام، ويظهر الشرفاء والأبرياء والشهداء على أنهم قتلة مأجورون وخونة متآمرون. خطاب يعلي فيه ظلم الظالم ويمجد قمع المظلومين، خطاب يسير في ركاب القاهرين ضد المقهورين، خطاب يقدم البراءة لسفاكي الدماء وقتلة الأبرياء، خطاب يتهم المظلوم ويبرئ الظالم فيا لبؤس الخطاب ويا لبؤس الأكباش المأفونيين المفتونين.

لا يمكن تصنيف فقهاء الأنظمة السياسية والجماعات الإرهابية في طبقة واحدة ومستوى واحد. إذ يجب التمييز بين كبارهم وصغارهم كما يجب التمييز بين منطلقاتهم وغاياتهم. فهناك بعض من كبارهم يحظون بالفطيرة الكبرى على موائد الحكام وأصحاب الزمان. وهناك بعض المفكرين الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وهم مرتزقة مأجورون أرضاهم النظام ببعض الهبات والمزايا. وهناك الصغار المتسلقون الذين ظهروا فجأة، وهم تربية طلائع البعث وشبيبة الثورة، وهؤلاء يرتضون حتى بالظهور على الشاشات وفي وسائل الإعلام أملا في امتيازات النظام حال استمراره. ومهما يكن الأمر فمعظم هؤلاء ليس لديهم رصيد فكري وثقافي، ولا توجد لديهم أي أعمال فكرية أو ثقافية أو إنتاج علمي، فإنتاجهم الفكري يقتصر على ظهورهم الإعلامي، وبهذا يتفاخرون وبظهورهم يتباهون. ويمكن القول بأنهم من حثالة المفكرين والساقطين والمأجورين الذي ارتضوا لأنفسهم القيام بهذا الدور الثقافي الإعلامي المهين.

خاتمة:

الجندي الذي يقتل مواطنا له بأمر عسكري قد يكون مكرها على القتل. ولكن جريمة المثقف الديماغوجي أعظم وأكبر، فمثقفو الديماغوجيا يقتلون روح الوطن وينتهكون روحه في خطبهم وفي مقولاتهم، إنهم يحاولون كسر الروح الأخلاقية وقهر القيم الإنسانية. هؤلاء لم يجبرهم أحد على ذلك بل تطوعوا للعمل في خدمة الطغيان والتسلط، وتمترسوا بإرادتهم ورغبتهم في الدفاع عن الطاغية وخدمته. وعلينا أن ندرك جيدا بأن القتلة الحقيقيين للشعب والثورة للحق والعدالة والحرية هم أولئك المثقفين الذين تفانوا في خدمة الاستبداد وضحوا في خدمة أسيادهم.

يقول ابراهام لينكولن: يمكنك أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. وأكباش الديماغوجيا والتسلط لن يستطيعوا خداع أمتهم إلى الأبد بل هم يخدعون أنفسهم وطاغيتهم. لأنهم يشدون من أزره ويوهمونه بأنه الحاكم المطلق إلى الأبد فيستغرق من جديد في استبداده واستعباده للبشر. هم يزيفون الحقائق فيصدقها السلطان فيندفع إلى تنفيذ جرائمه بقوة واقتدار. ويقول سقراط في هذا الأمر مخاطبا مواطنيه: "أيّها الأثينيّون لقد حكمتم عليّ بالإعدام وهذا لا يحزنني بل يُسعدني لأنني انتصرت على أعدائي. أفضل أن أموت حراً على أن أعيش عبداً...".

ويبقى القول: إن الخطاب الثقافي الفاوستي خطاب ديماغوجي مغلق متعصب ذاتي التوليد، مصدره مسلمات موروثة مدسوسة، يرهب النقد والنقض والتشكيك والتجريب. وهو لا يتطور وفق نواميس التطور والتغير، إنه فكر الجمود والوثوق واليقين والتصلب والتجمد، وهو فكر الرفض لكل ما هو ثوري وعادل وحق وجميل، فكر يرفض الحق والحقيقة، فكر يتعالى على المنطق والعقلانية والتأمل والنظر، إنه لا يطور إلا أسلحة الدفاع عن ذاته ومعتقداته السلطانية، أو أسلحة الهجوم للقضاء على الآخر، إنه يضع العقيدة التسلطية التي ينافح عنها في مقام الدين ويجعل المساس بها مساسا لا يغتفر بالمقدس والمتعالي.

ولن يفوتني في هذه الخاتمة أن أشكر المفكرين الأحرار الذي رفضوا كل الإغراءات السلطانية من مال وهبات ونفوذ ووقفوا إلى جانب الحقيقة أينما كان مكانها وزمانها. لقد رفض كثير من المثقفين في العالم العربي أن يكونوا إلى جانب الطغاة أو إلى جانب الإرهاب، ولم تنفع معهم كل الإغراءات المادية والهبات والسمات والخلع السلطانية. فالمثقف الحر لا يطوع بالمال والهبات والثروات وهذا ما عرف به تاريخيا الشاعر (ميلكسنوس) في علاقته الأدبية مع الملك (ديونسيوس) الذي كان طاغية يهوى الشعر، ففي مرة سأله الملك عن رأيه فيما يكتب من شعر فأجابه: بأنه شعر غث لا قيمة له، فحكم عليه بالاشتغال الشاقة المؤيدة. وبعد حين كتب (ديونسيوس) التراجيديا الملكية وأرسل في طلبه للوقوف على رأيه، فوقف أمامه صامتاً وعندما سأله عن رأيه في التراجيديا الملكية لم يجب! وإنما طلب من حارس سجنه أن يعيده إلى السجن كتعبير عن رفضه لمسعى الطاغية لارتداء لباس الثقافة" (3). وفي وطننا الغالي مثقفون أحرار كثر من نوع (ميلكسنوس) الحر ومن هذا المنبر أحييهم ونحيي فيهم هذه الروح العظيمة التي حصنتهم من الوقوع في براثن السلطان وأفخاخه وفي شباك الجماعات الإيديولوجية وحبالها الواهية. والتحية أعظم لهؤلاء الذين رفضوا الظلم ونقدوه وهاجموا الطغيان ورجموه.

وخير ما أختتم فيه هذه المقالة موقف عبد الرحمن بدوي اليائس من مثقفي الطاغية ودرهم المضاد للإنسانية. ففي سيرته الذاتية (اليأس التام) يدون ملاحظاته حول العلاقة بين الطاغية والاستبداد بقوله:

"يئست من كل شيء” حاكم طاغية وشعب مسلوب العقل والإرادة وطبقة متعلمة تتنافس في تملق الحكام. نعم قد يزول حاكم بعد وقت ربما يكون قصيرا لكن لن يتغير شيء كثير لأن داء الاستبداد قد تمكن من نظام الحكم فصار من العسير اقتلاعه. فحتى لو جاء حاكم جديد مستنير عادل فسرعان ما تلتف حوله حاشية من الانتهازيين كأعشاب العليق يضعون بينه وبين الحق والعدل حواجز بعد الحواجز ويملؤونه غروراً حتى يصدق ما تقوله ألسنتهم الكذب".

 

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

..........................

هوامش:

* الديماغوجية: كلمة يونانية الأصل مشتقة من (ديموس) أي الشعب و(غوجية) أي العمل، وكانت تطلق في الماضي على زعماء الحزب الديمقراطي في أثينا الذين كانوا يدعون (العمل من أجل مصلحة الشعب). وهي اليوم تدل على مجموعة الأساليب والخطابات والمناورات والحيل السياسية التي يلجأ إليها السياسيون لأغراء الشعب أو الجماهير بوعود كاذبة أو خداعه وذلك ظاهرياً من أجل مصلحة الشعب، وعملياً من أجل الوصول إلى الحكم. وعليه فأنها خداع الجماهير وتضليلها بالشعارات والوعود الكاذبة. والديماغوجية هي أحد الأساليب الأساسية في سياسة الأحزاب البرجوازية. وهي موقف شخص أو جماعة يقوم على إطراء وتملق الطموحات والعواطف الشعبية بهدف الحصول على تأييد الرأي العام استناداً على مصداقيته. والديماغوجي هو الشخص الذي يسعى لاجتذاب الناس إلى جانبه عن طريق الوعود الكاذبة والتملق وتشويه الحقائق ويؤكد كلامه مستنداً إلى شتى فنون الكلام وضروبه وكذلك الأحداث ولكنه لا يلجأ إلى البرهان أو المنطق البرهاني لأن من حق البرهان أن يبعث على التفكير وأن يوقظ الحذر، والكلام الديماغوجي مبسط ومتزندق، يعتمد على جهل سامعيه وسذاجتهم.

(1) المختار بنعبدلاوي، الثقافة العربية ومعطيات الواقع الراهن والآفاق المنظورة، مجلة الوحدة، عدد غير مذكور، صص 44-50 ،ص 45.

 (2) يوسف فجر رسلان، الفلسفة العربية والخطوط الحمر ،المعرفة، عدد 386، تشرين الثاني نوفمبر، 1995 ص8-35 ص10.

(3)- صاحب الربيعي، الطاغية والمثقف، الحوار المتمدن، العدد 1259، 18/7/2005.

 (4) Kant E , critique de la raison pratique trad. J.GiblinK, Paris , 1965.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم