صحيفة المثقف

عطش العنادل.. للشاعرة خيرة مباركي:

احمد فاضلعندما يذوي النص الشعري السردي في أُتون اللغة .

في أحدث ما كتبته الشاعرة التونسية خيرة مباركي "عطش العنادل"، لم أكن أتوقع بقاء عنوان قصيدتها يتردد صداه في ذاكرتي، حتى مع انتهاء  قراءتي  لها، دهشة، وحزن، وصدمة، وإعجاب، وهذا العندليب الذي قصدته  طائر صغير الحجم، يظهر في  أيام  الربيع، وغناؤه مثلٌ يُضرب في الملاحة والطيب، لكنه هنا يستغيث بعد تمهيدة الشاعرة التي خاطبت القمر – المخاطبة هنا قد تعني امرأة أخرى -، باثة حزنها، في ليلة ظلماء إلا من بياضه:

تماهياً في غواية البياضِ..

أرحْني

ياااااا أيها القمر المدّثّرُ بهيبةِ الثلجِ..

فهذا القلبُ تجّمدَ

والروحُ تحرث مساماته

بصمتِ النارِ ..

اليوم أتممتُ عليكَ نعمتِي

وأغدقتُ عليكَ الصبرَ

القصيدة، بحركتها السلسة المكونة من خطوط بثلاثة وأربع إيقاعات وتحولات  رائعة  بين القافية المفردة والقافية الكاملة، حافظت على تماهيها – معنى  وصورة – كما يوحي السطر الافتتاحي والسطور الأخرى لها:

هذا نجْمي يَسْري بأعيُن النّدى .

يرصُد خسوفك

ويرقبُ استحالتكَ

من الشُّرفة الموقُوتَة

ينقُشُه خَارطَة عُمُر ..

ويمضي

على جَديلَة غيْمَة منْسيّة ..

يبدو أن هذه المقاطع تأخذ معنى أكبر، وتمتد خارج صورة القمر الذي بدأت به مفتتح القصيدة، حيث الذات المعاتبة الماضية ك – غيمة منسية:

لم تألف سرّ وداعَ الفُصُولِ..

ولم تُنازِع غرُورَ الحَرائقِ

التي تشتهيني ..

لا شيء يُشبِه نقراتَ إسمِكَ

وهو يُنرْجِسُني فِي عزِّ الخُشُوعِ ؟!

يتموّجُ على لوْحي المحْفُوظْ ..

يكتبني سفرا سرمديَّ الغوَى

وأنا التي خبأته عن أعيُنِ الحُور

غنيمةً يرَفْرفُ النّبض لأثيرِها

حتّى الوجعْ !!!

بلى ..

وجعك دونما شفاءْ !!

1865 خيرة مباركي

هذه  المعاتبة  – المجروحة – في  سطورها  اللافتة  للنظر (وداع الفصول، غرور الحرائق، حتى الوجع، بلى، هذا الحرف الذي استخدمته  مباركي هنا جواب  للتصديق، فجعلته إثباتاً ل وجعك دونما شفاء)، تكاد تكون – أي المعاتبة – مؤذية لذكرى مروعة وبقايا قاتمة:

ياااااااااأنتَ ..

يا أقسَى الرّاحِلينَ في دَمِي ..

كأنك لستَ منّي ..

الرّعْدُ يعبثُ بأشْرِعتي

ما بَقِيَ غيْرُ سينِ تنْفيسٍ تتَلاطَم

على المساءات الحائرة،

نكَسَتْ هَامتَها بصمْتِ الدُّجَى ..

تُرَى هلْ يسْتيْقِظُ اليَاسَمينُ

في قَلْبٍ تداعى لهيبُه

ذاتَ شِتاءٍ بَاردٍ

الصوت هنا مقتضب ومباشر وغريب أحياناً وجذاب، فيه وقفات للذات، استخدمت مباركي فيه تقانات السردية الشعرية التي تستعير من القصيدة وسائل عملها وآثارها، حيث يأخذ تحليلها  بعين الاعتبار كلا من تقنيات وصف الرواية وتلك الخاصة بالقصيدة، فالسرد الشعري هي ظاهرة انتقال بين الرواية والقصيدة، هذا هو التعريف الذي قدمه الكاتب الفرنسي جان إيف تاديه، لهذا النوع الهجين، في الواقع، إذ بدت القصة الشعرية وكأنها تتأرجح بين جميع أبياتها، فيجب التأكيد على أنها تعطي مكان الصدارة للوصف والبعد الشعري، حيث تتمحور طريقة الكتابة حول الوسائل وليس على الغايات، وبالتالي فهي تتميز بخصوصية إيلاء أهمية كبيرة للمناظر الطبيعية، وهي المناظر التي تفكر فيها الشخصية، والتي تسمح لنفسها بالاستيعاب (بكل معاني المصطلح)، وهو المنظر الطبيعي الذي سيصبح موضوع رغبتها .

هذا هو الجانب الذي يلفت الانتباه هنا قبل كل شيء، والذي يدفعنا إلى تعميق هذا النهج تجاه النصوص، وإعادة فحص ما يشكل، في رأينا، جوهر هذا النوع من القصص: البحث عن الفضاء، إنها إذن مسألة إظهار كيف أن السرد الشعري، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسارات المكانية للشخصيات، ينتج مساحة خاصة به، والتي تحددها وتعرفها .

وقبل أن تغلق باب - شرفتها الموقوتة -، تستعر الكلمات في قلب الذات الأنثوية لتقول له:

وعَطَش العَنادِلِ

يروي صُراخِ اللائلين؟؟؟؟!!!!!ْ

هَذا الحنينُ أتقنتُ صحبته مُكَابرَةً

وللدّمعِ سقوطٌ آخَر

في جموعِ المُتسَاقِطِين..

وهذِه فديتِي أدْفعُها سذاجةً..

تُرَى هلْ يسْتيْقِظُ اليَاسَمينُ

في قَلْبٍ أكل جمارَهُ

ذاتَ شِتاءٍ قارصٍ

وتهاوى برحيل العَنادِلِ

في لهاثٍ أليل؟؟؟؟!!!!!ْ

إنها أبيات قوية وحادة لأنها توجه أعيننا وآذاننا وعقولنا إلى حجم الألم الذي تشعر به الذات الأنثوية تجاه الرجل – زوج، حبيب -، مباركي هنا تلعب بالشكل وتوظف المساحة وعلامات الترقيم والتكرار بطرق تجبرنا على إعادة التفكير في اللغة التي أمامنا، كيف تبدو وكيف تعمل، وماذا تعني حقاً، وكيف يتردد صدى هذا المعنى من خلال كل واحد منا، إنها تستخدم القوافي المرئية والسمعية التي تجبر القارئ على التعامل مع هذا النص الشعري وتمييزه داخل مكامن نفوسنا، من يعاني ؟، ومن يحزن ؟، ومن هو مذنب ؟

نحن محظوظون لأن لدينا نص غير محايد يمكننا من خلاله إعادة فحص ذواتنا، والنظر بعيون واضحة إلى الحاضر ونحو مستقبل قادم، لم يتم تشكيله بالكامل بعد، أو كما لو كانت مباركي  تضع  تحديها في مسرحية من فصل واحد:

" إنشاء عالم خال مما تعيشه الأنثى من قهر الرجال "، وحتى تبقى العنادل مغردة غير عطشى:

هل أدقُّ أجْراسَ الهَوَى علَى

عتَباتِ عَيْنيْكَ ..

أمْ أهُبُ عاصفةً تمسَحُ كُلَّ

التّوارِيخِ

وتُزيلُ سِجِلاّت زُليْخة بجنُونِ

ليْلَى ؟؟؟

لا شيءَ منْ شيءٍ ..

لكُمْ هجْرُكمْ ولي كِبرِيائي .

***

كتابة / أحمد فاضل

....................

للاطلاع على نص الشاعرة في صحيفة المثقف

عطش العنادل / خيرة مباركي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم