صحيفة المثقف

دار الدباغ ورش جمالي ومختبر كيميائي

محمد الشاويكنتُ في طفولتي مُولعاً بالبحث والتنقيب في الأماكن التاريخية لمسقط رأسي مدينة القصر الكبير. ومن بين هذه الأماكن ذهابي إلى الركام المنسي من سور الموحدين الذي كان يحيط بالمدينة، وبعد ذلك أقصد دار الدباغ، حيث توجد هناك صومعة يسميها العامة بصومعة البنات التي تعود إلى فترة أبي عنان المريني. فقد أكد لي مؤرخ القصر الكبير العلاّمة سيدي محمد بن خليفة رحمه الله وأحسن إليه،  بالسند والدليل التاريخيين أن الصومعة كانت مسجداً للتعليم العتيق لفائدة طالبات القرآن والعلوم المجاورة له كالفقه، واللغة، والتفسير والسيرة، والحديث... وكان يوجد بمحاذاتها  نفق لم يكن يلجه غيرهن. وهو الشيئ الذي يدل على الوقار والاحترام اللذين اختُصتْ بهما طالبات العلم من طرف ساكنة المدينة خلال تلك الفترة. اندثر المسجد بفعل مرور الحقب الزمنية المختلفة والمتعاقبة، وأضحت صومعته مكانا لرمي النفايات، وملاذا لأفكار الدجل والخرافة ومن بينها: جلب الحظ السعيد للعوانس لأجل الزواج عن طريق رمي أشياء من ملابسهن للمباركة ورفع الحظ السيء، إشعال الشموع...

كان ذهابي إلى دار الدباغ من أجل مشاهدة عمل صناع الجلد والصوف داخل الصهاريج الكبيرة والآخذة في شكل وحدة متكاملة ومتفاعلة لعدة أوراش داخل مختبر الدباغة. أحسست بخوف شديد يتملكني من أي وقوع مفاجئ بداخلها. وهو خوف لا زال إلى الآن يتراءى لي في أحلامي الليلية، إذا ما تذكرتُ أول مرة دخلتُ فيها إلى المكان. ولعل ما كان يُفرحني هو حركية المياومين وديناميتهم في الاشتغال داخل الصهاريج وهم ينتعلونَ أحذية بلاستيكية خاصة، ذات شكل طويل، والتي تصل إلى الفخذ.

حكى لي والدي قصة عن عمل الدباغين وطريقة تلوين أسندتهم الجلدية. فهم الذين يشترون جلود الماشية من أجل الاشتغال عليها بمنوال التدوير Meady-mad لجعلها قابلة للتصنيع بتوسل طرق تقليدية ومواد طبيعية قٌحة، استُعملتْ في الحضارات القديمة حسب الروايات التاريخية. حيث عمل دباغو القصر الكبير على توريث هذه الحرفة كغيرهم من الممتهنين لها داخل المدن العتيقة بالمغرب. وكذا العمل على تلقينها للمتعلمين من صغار الحرفيين، بدءا من تنقية الصوف، ومرورا بغسل الجلد، وصباغته، وتنشيفه، وختاما بعملية بيعه لصُنّاع الجلد وحرفييه. وكان ساكنة المدينة يُقبلون على دار الدباغ عند فترة عيد الأضحى لإعداد فروة الخروف التي تُستخدم كسجادة بالمنازل القصرية. كما يُباع الجلد أيضا لأصحاب المحلات الخاصة بالصناعة التقليدية.

1919 الدباغ

أما الخامات التي تُصبغ بها الجلود يتم استخراجها من مواد طبيعية كقشور الرمان والزعفران... ومن مواد أخرى مُستحدثة من شأنها أن تُساهم في تركيبة الألوان. كنت أشاهد عندما توضع هذه المواد مع الجلد داخل صهريج متخصص، لتُخلط بألوان الصباغة، فالمسألة شبيهة بالاشتغال العلمي داخل المختبر الكيميائي. شاهدت أيضا تنقيتهم للجلد وغسله بالجير وفضلاتِ الحمام داخل الصهريج.

قد سيتغرب بعض النائشئة اليوم أن فضلات الحمام كانت تُباع بالكيلو غرام لدار الدباغ من طرف مُربيي الحمام، أو بمعية الوسطاء...

نظرا لدورها الفعّال في إعادة تدوير الجلد، وهي لا تقل أهمية عن الجير ومواد أخرى في الدباغة.

أحببت طريقة معالجة الجلد داخل الصهريج باستخدام النعل المُختص والضرب بالقدمين وأدوات أخرى، بطريقة تتطلبُ النَّفَسَ الطويل والصبر أثناء العمل. هناك أعمال أخرى كان يقوم بها الدباغون كتجفيف الجلد ووضعه في أماكن عالية... لا أخفيكم سرا فقد كانت تسافر  بي ألوان الجلد إلى شاطئ السعادة، ولا سيما الألوان الأساسية: الأصفر والأحمر والأزرق. وألوان صباغية أخرى شبه أحادية ذات اللونية الواحدة مثل الأحمر الطابوقي، وألوان أخرى مُستخرجة من نفس تركيبة الألوان الأساسية كالوردي والبنفسجي والبرتقالي... أما الأبيض والأسود فنصيبهما من عملية الصباغة لا يقل عن الألوان السابقة.

وفي جو ممتع من التفاعل بين الدباغين أثناء قيامهم بعملهم وهم يستخدمون الأرجل داخل الصهاريج وبركلات رقصية شبيهة بالرقص على القعدة المغربية التي تُستخدم في الأعراس الشعبية، كنتُ أسمع غناءهم وترانيمهم وآهاتهم لمقطوعات لمغنيين مغاربة: عبد الصادق شقارة والمعطي بنقاسم والدكالي وناس الغيوان...، ولمطربين مصريين: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد وعبد الحليم...

ربما يَستغربُ البعض أن لدى دباغة القصر الكبير ذوقا موسيقيا، فمنهم من يُجيد العزف والغناء.

ولهذا فطول فترة الدبغ ومشقة عملية الضرب تحتاجان إلى متنفس غنائي للتسلية والاندماج داخل عوالم ممكنة تُنسيهم عبء التعب وعياء العضلات ورائحة الجلود المدورة.

كان أحد الدباغين ينشد لرفاقه في العمل مقطوعة اللايمين لجيل جيلالة، والتي جاء في مطلعها:

يا دوك الليمين رفقو من حالي

علاش تعيبو فقولي و فعالي

شدرت أنا شدرت في ما يجرالي

ماناش ألي خترت لعيوب ديالي

وعلى نفس النمط تفاعل معه صديقه الذي يعمل في الصهريج المجاور قائلا:

علاه أنا يوم صبت راسي فالدنيا جيت بالشوار

علاه أنا يوم زلقوني رجلي كان لي خبار

ياك هنا حليت عينيا

وهنا لاغيت مع من رباني

حبيت فالأرض على ركابية

و قريت ليقريت بحال قراني

أدوك الليمين رفقو من حالي

وفي نهاية العمل تتصاعد أصوات العاشقين في النبي بالطريقة القصرية من أفواه الدباغين، والفرح يملأ محياهم بانجاز عملهم، ويأتي المشتري لأخد الجلد.

 

  د. محمد الشاوي

 فنان تشكيلي مغربي وباحث في الجماليات.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم