صحيفة المثقف

بيئة الحضارة

محمد كريم ابراهيمبيئة الحضارة تكون العامل الاساسي في كل مجالات الحضارة، فهي تشكل اكثر من نصف الحضارة، وقدرتها على تشكيل معالم الحضارة وتغيير اهلها تعطيها كامل القوة للسيطرة على مسار الحضارة، فهي التي تحكم نشوء الحضارة ونموها وتطورها، وهي التي تقرر موتها. نقارن بين الحضارات من ناحية قدرة اهلها على تغيير البيئة اسرع من الحضارات الاخرى وباقل طاقة ممكنة. وتظهر ثقافة اهل الحضارة من بيئتهم، فالملابس التابعة لثقافة معينة يجب ان تكون عاكساً لبيئتهم او على الأقل متماشياً مع بيئتهم. وكذلك مأكولات الثقافية لأهل الحضارة تأتي من بيئتهم. وأغلب تصرفاتنا هي ليست ذاتية بل استجابية لتغيرات بيئية التي تقوم بتغييرنا والتحكم بأفكارنا وأفعالنا، لذلك نتغير نحن استجابةً لتغير البيئة. بل ان تغيرات في الحضارة تكون متناسقة تماما مع تغيرات في البيئة وتمشي يداً بيد معها (اي تغيير في البيئة لا بد ان تحدث تغييراً في الحضارة).

تعرف بيئة اي كائن: كالأنظمة الاكثر عدداً في حيز معين (الذي يعيش في هذا الحيز ذاك الكائن). والنظام هنا يمكن ان يكون كائناً حياً او غير حي، والحيز في هذا التعريف يمتد ابعد من حدود الحضارة، و"الأكثر عدداً" تعني ان اهل الحضارة في البيئة لا ليسوا الكائنات الاكثر عدداً فيها، ولكن هم في مرحلة تحقيق ذلك الهدف. ويجدر الاشارة هنا الى ان البيئة لا تعني وجود مصادر غذائية ومائية بوفرة في حيز ما كما هو سائد عند ذهن الناس. لكنه يجب ان يتواجد هاذين المصدرين في بيئة الحضارة البشرية بسبب طبيعة الانسان:

1- مصادر الغذائية: يجب على انسان ان يأكل ويستمد طاقة منه لغرض نموه وتكاثره ومن ثم تغييره للبيئة. فالحضارة يحتاج ايضا ان يكون قريبا من مصدر للغذاء الصالح للأكل.

2- مصادر المائية: كما يشرب الانسان الماء، كذلك يتطلب على الحضارة شربه. نلاحظ ان الحضارة يحتاج ان يكون قريبا من مصدر مياه صالحة للشرب، سواء كان تلك المصدر نابع من مياه الانهار او المياه الجوفية او الامطار او الينابيع او المستنقعات والى غيره من المصادر.

تتسم الحضارة بسمات اهلها وطبيعتهم. وتعتمد الحضارة اعتمادا كلياً على اهلها، فلا تستطيع ان تعيش وتزدهر سوى بفضلهم. لذلك اصبح واجبا للحضارة ان تشبعٍ حاجات، وإلا فناء الانسان تعني فناء الحضارة.

الأنظمة البيئية في الحضارة البشرية تتمثل أغلبها بتركيبة تضاريس الأرض، ثم بتركيبة الماء، ثم بوجود نظام النباتات. تنقسم من خلالهم أنواع الحضارات إلى:

- الحضارة الجبلية: تعتمد على ماء الامطار وثلوج المائعة، وتعتمد في مصدر غذائها على نباتات و حيوانات التي تعيش في الجبال منها المواعز الجبلية والغزلان وبعض الطيور والأشجار والأعشاب الطبيعية التي تنمو ففي سفوح الجبال. وكذلك يكون الطقس باردا فيها. هذه الحضارة تكون شاقة على أهلها إن كانوا يريدون تغيير البيئة فيها لتمشي مع رغباتهم. الجبال عادة تكون وعرة تحتاج إلى تمشيط وتعديل حتى يستقيم أرضها ويصلح لبناء بنايات والبيوت والطرق. يمكن تحويل أراضي الجبلية إلى زراعية وكذلك يمكن تربية المواعز وتدجين حيوانات البرية هناك. مصادر ماء تكون معتمدة على الأمطار التي تنشأ نهراً جارياً من أعالي الجبال إلى قاعدته. يمكن تسخير تلك طاقة الجريانية بعدة الآلات. وبسبب درجة الحرارة الباردة، ربما يرجع اهل الحضارة الجبلية الى تكسي بجلود الحيوانات المختلفة (لذلك يكون ملبسهم ثخناً). الحروب تكون صعبة ضد الحضارات الجبلية، فهم يكونون عادة محصنين بأحجار جبلية ووديانها الوعرة، وعلو الجبال تجعل الحضارة الناشئة فيها فوق الحضارات الأخرى بالنسبة الى الارتفاع، مما يسهل رؤية تحركاتهم. يتكون البيوت من الأحجار الجبلية ومعادنها، ويمكن لأهل الحضارة العيش في الكهوف أيضاً، وأهل كهوف يعدون أيضاً من الحضارات الجبلية.

- الحضارة الصحراوية: هي من حضارات القاسية على ساكنيها، وتتميز سكانها بالتمركز والجماعية. وتستمد مصادرها الغذائية من حيوانات الصحراوية، والنباتات التي لها قدرة على نمو في تربة الصحراء. اما مصادرها المائية فتعتمد غالبا على الامطار والواحات والمياه الجوفية. والصحاري هي ليست مكاناً قوياً وثابتاً لإقامة حضارات قوية فيها، لإن شحة المصادر البقائية من الماء والغذاء تغلب اراضيها مما يعرقل تطور الحضارة وبقائها في مرحلة البقائية على الاغلب. الملابس الصحراوية تكون متنوعة بسبب تقلبات شديدة في درجات الحرارة وتأتي اغلبها من الجلود. وتكون سكانها قليلي العدد، وتكثر فيها الحروب على مصادر البقائية.

- الحضارة الجليدية: تغلب عليها برودة الحرارة والمياه الثلجية، وتستمد مصادرها المائية من مياه العذبة الثلجية، ومصادرها الغذائية من حيوانات التي تتكاثر في الثلوج، منها الجواميس وبطاريق ودببة القطبية وحورس البحر. وهي تعتمد ايضا على شيء اخر من البيئة، الا وهي ملابس التي يتحفظ حرارة الجسم، وتستمدها من جلود السميكة للحيوانات.

- الحضارة الغابية: تعتمد في مصدر غذائها على الغابة نفسها، وتأتي معظم مصادر مياها من الانهار الجارية والفواكه وثمار النباتات. هذه الحضارة تكون قد تجاوزت مرحلة البقائية منذ نشوئها، فهي في العادة حضارة شهوانية تبحث عن رغبات اخرى بعد ان سدت بيئتها حاجاتها. لكنها قد لا تخرج من هذه المرحلة الى المرحلة القادمة بسبب عدم وجود حافز للابداع أو تغيير البيئة غير حافز الشهوة والرتبة الاجتماعية.

- الحضارة المائية: وهي حضارة تقل فيها مساحة الاراضي وتحيطها المياه من جميع اتجاهاتها. هذه الحضارة تعتمد بشكل اساسي على الحيوانات البحرية في غذائها وعلى بعض النباتات التي تنمو في ارضها. وهي حضارة محدودة الحدود جداً قد لا تصل ابداً الى مرحلة الحضارة التوسعية.

- الحضارة الساحلية: المياه هو العنصر الاساس في بيئة تلك الحضارة. وهذه حضارة لا تحتاج الى خزن مصادرها الغذائية والمائية. وتكون أغلب مصادر غذائها من الحيوانات المائية من أسماك ونباتات مائية وطيور التي تكون مصدر غذائها الأسماك. لا تعتمد هذه الحضارة كثيرا على الزراعة. يقوم بإستغلال المياه بالكامل وتشكل فيها دفاعا للحضارة من سفن العسكرية. يكون نمو هذه الحضارة محدودا بسبب المياه المحيطة بها مما يجعلها تستوطن جميع بقاع الأرض الموجودة فيها، وينتشر سكانها في عدة أماكن مختلفة. يتواجد في بيئتها نوع من كوارث طبيعية إضافية من عواصف، الفيضانات، الزلازل. ومادة عمران بناياتها تكون عادة حجرية. ليس هناك حافز في حفاظ على البيئة فيها، لأن مصادرها كما قلنا ثابتة ومفتوحة مع البيئات اخرى (اسماك متصلة مع محيط باكمله) ومتوازنة إلا في حالات نادرة.

- الحضارة تحت الأرضية: يمكنها العيش على مصادر الغذاء الحشرية ويمكنها ايضا العيش على الحيوانات التي تحفر في الارض. ومصادرها الماءية تأتي من جوف الارض. هذه الحضارة تكون مقيدة ايضاً بتغيير بيئتها، ولكنها قد تتجاوز المرحلة التطورية البقائية.

لا توجد حضارات متنوعة البيئة كما قلنا، لان مجتمع الحضارة يتبنى نوعا واحدا من بيئة ويتعود عليها ويستمد وجهته منها. والدول التي تحتوي على حضارات متنوعة فيها، لا بد لها ان تنفصل أهلها وتنقسم، أن لم تنفصل وتنقسم من قبل. المكان الذي يعيش فيه المجتمع سوف يتغير ويعكس بيئته. فاذا كانت الدولة تحتوي على مدينتين لنقول احداها يتكون من حضارة صحراوية والاخرى من حضارة جبلية، عندها يعكس كل المجتمع الساكن بيئته المسلطة ويتغير عن حضارة الاخرى وحتى لو كان يجمعهم دولة واحدة و يوحدهم حكم واحد ودين واحد.

بشكل عام، يمكن تقسيم البيئة للنظام (للفرد) إلى أربعة أقسام:

1- البيئة النافعة للنظام: كل ما يكون نافعاً للنظام في البيئة. كظل الشجر الذي ينفع الفرد.

2- البيئة الخاملة للنظام: التي لا تضر ولا تنفع النظام. كيرقة الفراشة.

3- البيئة الضارة للنظام: كل شيء عمل ضد النظام وتهدف الى تغييره. كالحيوانات المفترسة

4- البيئة التي تشبه النظام: وهي اشياء تشترك مع النظام في التركيب والوظيفة. مثل مجموعة من الناس الذين يشبهون الفرد (كعائلته مثلاً). وهذه الأنظمة المشابهة قد تكون نافعة او خاملة او ضارة. وهذه قد تسمى احياناً "بالبيئة الأجتماعية"

البيئة تعد عاملاً مهماً جداً في سرعة تطور الحضارة. يمكن للبيئة ان تجعل الحضارة تتجاوز مرحلتها التطورية البقائية بتوفير مصادر غذائية ومائية وغيرها من المواد لبقاء الانسان، ويمكنها ايضا جعل الحضارة تتجاوز مرحلة الشهوانية بتلبية رغبات الانسان، ولكن حدها تتوقف عند مرحلة الحضارة النظامية، فلا يمكن للحضارة تجاوزها مهما ساعدتها بيئتها، ولكن هذه البيئة قد تكون سهلة التغيير بذلك تسرع من عملية تحويل انظمة البيئة الى نظام نافع للانسان (مثل وجود البرونز في الطبيعة بدل الحديد الذي يكون سهل التشكيل والتغيير).

لو اطلعنا على التاريخ وحكمنا عليه من خبراتنا وتجاربنا في حياتنا الشخصية، قد نستنتج بان الاحوال كلها تتغير، وانه ليس هناك شيئا ثابتا في الحياة، ولكن الحقيقة ليست كذلك. هناك عدة اشياء بقيت ومحكم عليها بالبقاء على مر الاحوال وبمختلف الازمان بالرغم من انها تتغير ولكن ببطىء شديد جداً، مثل الجبال. انما نرى ان اشياء تتغير بسبب ضعف البشرية وعدم قدرتهم على مواجهة وسيطرة على متغيرات بيئتهم، حيث يغيرهم البيئة اكثر مما هم يغيروا بيئتهم، لذلك البيئة تفوز في اخر الازمان وتقضي على جميع محاولات الناس. يمكن فرضيا بقاء الحضارة ثابتة بوجه المحن والازمان المختلفة ان كانت قوية كفاية. فالنظام الضعيف وضئيل سوف يتغير بسرعة مع اقل تغيرات في بيئته، اما نظام القوي والكبير سوف يبقى ثابتاً في وجه تلك المحن. ربما تغيرات بسيطة في درجة الحرارة قد تقضي على الحضارة باكملها ان كانت ضعيفة وغير مستعدة.

ربما بتغيير البيئة، بدأ البيئة بتغييرنا بالمقابل. بصنع السيف من تغيير الحديد، بدأ ذلك الحديد بتغيير تصرفاتنا وافكارنا. بعد ان اقتنيناه بدأ يدنا بالتصرف بشكل مغاير لما كان يتصرف قبله، وبدأ عقولنا يفكر في حروب او في قطع اشياء لم يكن ليفكر فيه من قبل تسخيره. تغييرنا للبيئة لن يتوقف ابداً حتى نحول كل نظام في الطبيعة الى نظام الانسان، كل الذرات والجزيئات والمركبات في البيئة سوف نهضمها ونرتبها بترتيب خلايا البشرية، الى ان لا يبقى في الارض شيء سوى نحن والادوات والانظمة التي تفيدنا كالمقاعد والأرائك، عندئد نبدأ بأكل تلك الانظمة التي ساعدتنا في الوصول الى القمة، عندئذ نبدأ بأكل أخشاب المنضدة لتكوين الاطفال. في النهاية، نتحول نحن لنكون البيئة فوق الانظمة الاخرى.

الحضارة تنجو فقط عندما تحافظ على بيئتها الأصلية، فإذا خسرت جزئاً منها او غيرها الى بيئة اخرى. فانها سوف تفقد القدرة على تكوين هويتها وتفقد روحها فيها. ويجب عليها ان تحول البيئات الاخرى المتغيرة عن بيئته التي تريد احتلالها الى ما يشابه بيئتها الاصلية. واحدة من نهاية الحضارات هي تغيير اهل الحضارة للبيئة بشكل غير طبيعي، حيث تقوم البيئة بتغيير متبادل على الحضارة وقتل اهلها. فالحضارة الباقية هي الحضارة التي تحافظ على بيئتها الاصيلة ولا تغيرها الى حد تقوم البيئة بتغييرها هي وتغيير اهلها. على الحضارة إذاً ان يوازن بين الحفاظ على البيئة وتغييرها لانها ان قامت بتغيير البيئة بالكامل فسوف تموت الحضارة وان لم تقم باي تغييرات فسوف تلتهمها البيئة، ولا يمكننا الاستخفاف في رغبة نظام الشائع في البيئة على تغييرنا وتحويلنا الى نظامهم، البيئة لا ترحم الا من يشبهها.

 

محمد كريم إبراهيم – محلل وكاتب عراقي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم