صحيفة المثقف

أنا والشبيه (1)

قصي الشيخ عسكررواية كولادج

بعض من سيرة الأديب صدام فهد الأسدي


النشيد الأول:

لا علاقة للشبيه بالشكل

لاضرورة لأن يحمل السمات نفسها والقسمات ذاتها

إنه يمكن أن يأتي في أي شيء وبصورة لا نتوقعها.

فحين نتحدث عن الشبيه يمكن أن نجد صخرة تشبه إنسانا

أو

شجرة بأغصانها وورقها المتشابك تبدو مثل امرأة مجنونة راح شعرها يتطاير مع الريح.

الشبيه يمكن أن يكون صوتا يأتيك من بعيد.

بعيد جدا

حيث تدرك فيما بعد أنه أنت نفسك.

جدتي والبداية

هي السخرية وليست المصادفة وحدها بل القدر نفسه!

هكذا خيل إلي أيها السادة.. هذا التشابه الذي جعل بعضكم يكرهني وآخرين يحبونني.. أيها السادة لا أرغب قط أن أصبح محبوبا من الجميع، فلعل بعضكم قرأ قصة عن شخصين شبيهين. يستطيع أحدهما كما تصوره القصص وشرائط السينما أن يقتل شخصا لأسباب ما فتقع التهمة على الشبيه فهذا ليس بغريب إذ كلنا يعرف أنه قد يكون هناك من الشبه أربعون أو أكثر.

يتشاطر هو الشبه مثل عملية استنساخ

أو انشطار بكتريا قديمة إلى عدد لا متناه

لكن التشابه الذي أنا بصدده ليس تشابه شكل ولا علاقة له بالصور قط إنه تشابه اسماء سبّب لي مشاكل كثيرة أنا في غنى عنها!

أما أن يكون شخص ما مسيّرا باسمه فهذا احتمال آخر قد يبدو في بعض المواقف أقرب إلى المحال.

لكني أقول رحم الله جدتي أيها السادة فهي التي اختارت لي اسمي الحالي.

نعم جدتي حسنة التي كانت كما يقال خارقة الذكاء والحسن معا لذلك سماها أبوها حسنة. وفق الأخبار الكثيرة التي سمعتها فيما بعد خلال طفولتي عرفت أن نساء القرية كنّ يزرن جدتي ويستشرنها بل يطلبن منها بركة لمواليدهن الجدد ولا يقتصر الأمر على النساء فقط بل إنّ أباها – جدي الأعلى- يستشيرها في كثير من الامور التي أثبتت الأيام صحتها وصوابها ويبدو أنها تصرفت معي في اختيار اسمي وفق هذا المنظور وكان دافعها في ذلك هو الرحمة والبركة لا أكثر من ذلك!

**

النشيد الثاني

قد أنسى فأعرف أن هناك الكثيرين يحملون اسما مثل اسمي

لو عملت جردا باسم ما لكل من تسمى به في العالم

على أي رقم تحصل إذن؟

وحساباتي كانت مع الآخر

الذي يشبهني بالصوت

لكني لم أرغب في أن أشبهه

الاسم

كان يمشي مع الآخرين

هو فخور باسمه،لا حاجة له ان يذكر اسم أبيه أو جدّه .. اسمه حلّال المشاكل والعقد. في الدوائر الحكومية يشيرون إليه :هذا يحمل اسم الرئيس. لايقف في طابور، ولا يعاني من اجراءات رسمية ولا تحدّه قوانين شكلية. البركة بذلك الاسم،وحين مشى في الشارع مع الطلاب يهتف في تظاهرة ضمت الآلاف من طلاب ومعلمين وعمال،التفتوا إليه،هناك من يحمل صور الرئيس. أظنّه أبيض اللون واسع العينين. انا أبيض أميل إلى الشقرة قد أكون بطوله أو أقصر قليلا. في إحدى مراجعاتي لطبيب الصحة سألته هل أصبح أطول. كان السؤال بعيدا عن موضوع النزلة الصدرية لكن الطبيب لم يتضايق من سؤال طرحه عليه تلميذ في الثانوية. قال أظن أن طولك توقف وفق عمرك. أنت لست قصيرا.

إذن لم يكن اكتمال الطول هو الذي دفع المتظاهرين إلى هذه الفكرة. كذلك لم يكن الشكل قط.. ملامحي تختلف عن ملامحه. كانوا يمشون ويهتفون، وفي لحظة ما أو ثوان ما لاحت فكرة في أذهان معظمهم. متأكد من أنّ الغالبيّة اختارته. فكرة لا تطرأ على بال فرد يمشي وحده أو يجلس منعزلا عن غيره،سلوك لا يقدر عليه إلّا جماعة كبيرة. حشد هائل من طلاب مدرستنا وآخرين التقطهم الشارع، اللافتات والصور اتجهت نحوي،انتشلتني أذرع من مشيتي ،ورفعتني في الهواء. كادت تقذف بي إلى الأعلى..

خلتني أعانق النجوم.

كانوا يهتفون بالروح بالدم نفديك ياصدام.

بت أنا السيد الرئيس.

النياشين تعلو صدري.

رتبة عسكرية تزين كتفي. مهيب ركن.

بطل القادسية انا. الشعراء يهتفون باسمي. المغنون يغنون. اسمي مفتاح السرّ!

هل أبقى جامدا كالتمثال. ماعليه إلا أن يحرك شفتيه من دون صوت ويلوح بيديه،وقد فعل ذلك والجميع من حوله يهتفون:

لا أقدر أن أبقى جامدا وأنا على كتف أحدهم فلا أزعق أو أهتف كما يهتفون.

بالروح بالدم نفديك ياصدام.

**

النشيد الثالث

بعض أسماء الأماكن تحمل عنفا

قوة

أو تدميرا

والكسّارة أنواع:

كسارة صخور

وكسارة جوز

والقلوب أيضا تنكسر

وأيّ خاطر في هذا العالم لم ينكسر مثل غصن غضّ؟

القرنة من قبل

من غريب المصادفات أني ولدت في مدينة ومنحتتني اسمي مدينة أخرى.

القرنة مسقط رأسي.

الحديث عن التشابه وجدتي وأبي يتطلب أن أذكر قرية مدينة القرنة،الريف والجمال والطبيعة حيث الناس يعيشون مع الاشجار والدجاج والبقر. الماء والسمك. وقتها لم تكن هناك أزمة ماء،ولا كهرباء، طفولتي تقول أينما التفت تجد خضرة تحيطك وقطرات ندى تسيل من بين أصابعك وكلما رفعت بصرك إلى السماء رأيت نورا. وأقسم بالله أنني وأنا صبي كنت أقدر على القراءة فوق سطح بيتنا على ضوء القمر،كان الناس في ذلك المكان يعملون في الارض أما إذا وجدوا ساعات فراغ وما أطولها فإنهم يذهبون إلى العمل في المدينة هناك في الساحة المركزية يتجمعون قبل الفجر من يذهب مع عمال البناء ومن يستقل شاحنة إلى معمل السكر أو الورق.

أو أن تتجه الحافلة إلى مدينة بعيدة فيعود العامل إلى أهله على الأقل بعد شهر.

وكان أبي يعمل في مدينة الكسّارة بلواء العمارة يذهب ولا يعود إلا كلّ شهر مرّة . ذلك اليوم ساوره قلق وهواجس،فقد ترك أمي حاملا بي وذهب يعمل في البناء. تردد في البدء فلم يهن عليه أن يترك أمي ويباشر العمل إذ كل الظواهر تشير إلى أنه هذا هو اليوم الموعود غير أن جدّتي أبت عليه إلّا أن يذهب ولا يقلق فأمي أقرب الناس إليها،وإذا كانت حسنة قد ولّدت معظم نساء القرية وتعرف أنها أمّ الجميع إلى درجة أن ّأطفال القرية يسمونها البيبي.. لا شكّ أنها سعيدة بهذا اللقب قالت لأبي يا أبا محيي هذا المولود هو الرابع بإذن الله ألم يرزقك الله بأربعة قبله ولد محيي وأنت خارج البيت،ورزقك الله بأحمد وكنت في سفر إلى البصرة،وجاءت فوزية منتصف الليل فلا غرابة أن تكون في العمل وإلا أين ستكون وقتها.. إذهب إلى عملك فقد تلد زوجتك بعد ساعات أو تتأخر إلى الليل،وقد بدت رائقة المزاج أقول،إذا كان الأمر وفق ماهو معروف عنها مع النساء البعيدات والقريبات فزوجة ابنها أولى بها وما على أبي إلا أن يطمئن ويغادر البيت إلى عمله مصدر رزقه غير أنّه ذهب .. خرج يطلب الحافلة،وعندما وصل تردد في الذهاب.. التمس طريق الرجعة فتطلع فرحا بالمولود الجديد!

**

النشيد الرابع

من اختار لآدم أبينا اسمه؟

من الجنّة أم الأرض جاءت كنيته؟

في مكان ما بغض النظر عن الزمن يسطع وهج لخطوات

يشيع بخور

وتٌتلى ترنيمات من أفواه النّساء

فتكون امرأة ما

أو

رجل ما هو أوّل من يجري على شفتيه اسم الوليد الجديد.

الجدّة ولحظة تأمّل

قال الأب لزوجته مازلت محتارا في الاسم،والتفت إلى أمه وأضاف:

لدينا محيي وأحمد تبركنا باسم الخالق الأعظم واسم نبينا خاتم الأنبياء وكان النور من فوزية فيا ترى ما ذا اسمي الرابع؟

قالت جدتي تركت لك تسمية الثلاثة من قبل بارك الله فيك يا بني وفيهم اترك لي هذا الوليد ولن تنطق بأي اسم من هذه اللحظة.

انس..

لا تقلق. واترك الهواجس.

تركت زوجة ابنها في الفراش، ولفّت الوليد الجديد بقماش ثخين خشية عليه من لفحة النهار،قالت لأبي سنذهب معك أنا وزوجتك إلى الكسّارة،وخرجت مع أبي تتهادى في مشيتها التي يكاد الآخرون يحسدونها عليها،فمازالت تمشي بخفة ابنة العشرين وتخطو بقوة شابة. تمشي وتسبّح وتتمتم بسور وأدعية حفظتها وهي صغيرة،ولم تكد تهبط من الحافلة وتصل ضريح الولي الشهير السيد صدام السيد سرّوط حتى التقطت أنفاسها عند العتبة ودفعت الباب برفق وضعت حفيدها على الارض وخطت نحو الدكة التقطت علبة الكبريت واشعلت الشمعات ثم رمت في الوعاء بعض قطع نقدية. مائة فلس كانت في جيبها،وانصرفت بعدها تصلي لله ركعتي شكر..

صلت وتأملت كثيرا..

وأمّي معها صامتة لا تنبس ببنت شفة.

وليس من الغريب أن يكون الضريح فارغا من النسوة والزوار فالوقت ضحى واليوم ليس بجمعة،كأن الزمن يطاوع جدتي في أن تستأثر ببركة السيد وحدها من دون أن تشاركها أية امرأة أو رجل فيه.

طال تأمّلها ثم حملت حفيدها وعادت إلى القرنة

عندئذ وجدت الجميع ينتظرها وقبل أن ينطق أي من الآخرين بأيّة كلمة قالت:

لقد سميته باسم الولي!

إنّه الوليّ صدّام

وانطلقت الزغاريد يعجّ بها البيت.

**

النشيد الخامس

نحلم

نراود أحلامنا لعلها حين نصحو تكون خيرا

مهما يكن ،فمع الحلم لا نختار أيّ طريق

لا نقدر أن نتجنب الأمر الذي نحب

أو أن نلتقط الخير وحده

نحن مجبرون على أحلامنا

مثلما نصغي إليها ونحن في غاية التوهج

الرحيل

وكل ما ارتآه أبي أن يغادر قرية الكسارة في العمارة ليسكن ناحية التنومة التي أصبحت بعد قدومنا إليها قضاء.

هل كان يعاني من مشاكل مادية أم دفعه الحلم للهجرة؟

في ذلك الوقت يسمونها هجرة ويتمادون فيطلقون عليها اغترابا وإن كانت داخل البلد نفسه في مدينة تبعد بضع ساعات.

فلاحون رائحة الأرض تطبعهم بعطر خاص

وربما فكّر أبي الذي ولد من عائلة فلاحية بمستقبل أولاده وبناته. نعم تحاور مع جدتي التي لم تمانع في الأمر وقالت وهي تبتسم:

لك ماتشاء عليك أن تسعى وراء رزقك أينما يكون أما أنا فسأبقى هنا مع بناتي.

يا أمي هناك في البصرة فرص العمل كثيرة. الميناء . الشعيبة والشركات العاملة في الصحراء. المطار والحاجة إلى عاملين. الحدائق العامة.. الشوارع.. البنايات.. الشركات المقاولة.. المعامل التي بحاجة إلى عمال أرصفة وبناء ومراقبة وحقول كثيرة ثم لا تنسي أن في البصرة مدارس أكثر وسيكون أمام الأولاد فرص أكبر ويقال أن الحكومة ترغب أن تبني جامعة هناك تفتح أبوابها للعمال والموظفين.

تستطيع أن تجرب فإن لم يعجبك الوضع عد إلى هنا!

يعني أنت راضية عن رحلينا.

أنا راضية ياولدي عن كل خير ورزق يخص عائلتك!

أمّا الصبي الصغير فقد راودته تلك الذكرى اللذيذة لرحلة ارتسمت في ذهنه.

يسميها رحلة المفاجأة حيث ظنّ أنّه يبقى مع الطيور والأشجار إلى الأبد يتخيّل نفسه كبيرا مثل والده يذهب كل ّيوم للعمل في مدينة قريبة ويشتغل في الحقل الكبير يزرع الفجل والخيار والخسّ والبامياء والطماطم يجرف الماء من الساقية بالدلو وبنش الطيور والعصافير عن السنابل.

مشهد طويل عريض يراقبه كلّ يوم سيختفي بعد قليل من ذاكرته وصوت الأب والأم يحثانه هو وإخوته:

استعدوا سنستقلّ الحافلة بعد لحظات.

كانت الجدّة تخفي دمعة تترقرق بعينيها وتلوّح لهم بيديها حتى تلاشى المشهد تماما أمام رؤيا جديدة لمدينة لم يرها من قبل.

**

النشيد السادس

كيف تتخفّى الذكرى وتذوب

قد نبحث عن طريق للنسيان

ندرك تماما أننا لانجده

وإذ تغيب الأشياء لسبب ما عن ذاكرتنا

نحاول أن نستعيدها بشيء من التأمّل

ولم يسأل أيّ منا نفسه:

لماذا نتذكر حين ننسى؟

اقتراح

فات صاحب السيرة أن يذكر انه في قرية القرنة بدأ مرحلة المدرسة الابتدائية، ولم يكن اسم صدام ليسبب له أيّا من الحالات الغريبة التي واجهته فيما بعد. في تلك المرحلة كان يتعامل مع الأرض ويفخر باسمه الذي استوحته له جدته من السيد الوليّ صدام السيد صروط حتى ظن الناس أنه ولكونه يحمل ذلك الاسم فإنه من المحتمل أن يسافر إلى النجف يواضب على العلوم الدينية هناك فلعله يصبح فيما بعد معمما أو قاضيا.

هكذا كادت الأمور تصبح

وقد فاجأته جدته في أحد الأيام بالخبر:

مارايأك ياولدي أن تقرأ العلوم الدينية.

قالت أمه الدين بركة ياولدي

وقالت الأخت الكبرى:

يعني يلبس العمامه وحين يأتي إلى القرية يركض الجميع لاستقباله فيلثمون يده!

وقال الأب :

دعوه يكمل أولا المرحلة الابتدائية ثم ليكن مايكون.

رضخت الجدة والجميع لقول الاب

وربما سارت الأمور بشكل آخر.

وحين أصبحت في الصف الثالث المتوسط كنت قد نسيت مسألة العمامة. جدتي بقيت في القرية وكانت تود لو درست العلوم الدينية فأتزيّن بالعمامة . أصبحت لا أزور قريتنا إلا في العطل الدراسية،في حين اكتفت الجدة الطيبة بكوني أصبحت رجلا أنجح في دراستي واكتفت أيضا بكوني أحمل اسم السيد صاحب الضريح في قريتنا ذلك الشخص الذي يتحدث الناس الطيبون عن بركاته.

في إحدى العطل قالت جدتي هل ذهبت لزيارة المولى السيد صدام.

ذهبت متثاقلا وكنت أظن ان السيد يحمل وحده اسم صدام ثم أصبحت أنا ثاني شخص يحمل ذلك الاسم بجهود جدتي وإذا بي بعد سنوات اكتشف أن رجلا آخر شخصا احتل المرتبة الثالثة بعد السيد صروط في الاسم وبعدي أصبح هو الأول.

**

النشيد السابع

ذلك هو الوشم

يفنى ولا يفنى

وقد يزول ويترك أثرا

الشعوب والأمم اختلفت فيه

ظلّ ساطعا بملامحه الخلّابة وإن كان مخيفا

سيف هو.. عقرب

إسد هو.. عقاب حيوان مركّب .. إنسان

يلصق نفسه بأيّ مكان من الجسد ولي معه حكاية طويلة

الحرس القومي

هناك أماكن ندخلها قبل الأوان.

ربما يكون من الأفضل ألا ندخلها نحن الصغار مع ذلك وجدت نفسي وأنا في العاشرة من عمري مجبرا على دخولها. حدث ذلك مابين 1953 و 1963 عشر سنوات لا أكثر، في اليوم الرابع لانقلاب شباط كنا نسير أنا وأخي الأكبر في طريقنا إلى العشّار ،لا أعرف أنّ له علاقة بالسياسة من بعيد أو قريب. كان يحب الزعيم شأنه شأن الكثيرين إلى درجة أنه جعل لعبد الكريم قاسم وشما على ساعده الأيسر من جهة القلب ،كما يدعي. في الصيف يلبس القميص القصير الكمين كي يرى ذراعه الناس،وأحيانا في الشتاء يثني ردني القميص الطويلتين متباهيا بصحته وفق الظاهر وأظن الدافع الخفي صورة الزعيم، في البدء أبدت أمّي امتعاضها كانت ترى أن الوشم للنساء وألطف الرسوم تلك التي ترتسم على الحنك وتدعى الخزعليّة،وعقبت جدتي حين رأت أخي في إحدى زياراتها لنا أن لا بأس بالوشم مادام يخص الزعيم،أمّا الآن فقد تغيّرت الوجوه ورسوم الشارع ومظاهر الطريق. رأيت صورة الرئيس الجديد الذي سمعت باسمه من المذياع يوم الانقلاب. حذّر أبي أخي وأوصاه أن يرتدي القميص طويل الأكمام في الشتاء والصيف. طول الطريق لزمنا الصمت. تهنا في زحمة المظاهر الجديدة،عبرنا سوق التنومة ثمّ الجامع، وهبطنا باتجاه الفلكة،وقبل أن نجتاز مقر الحرس القومي إلى المعبر. صاح أحدهم فينا.. زعق.. ازداد الزعيق.. هرول أحد الحرس القومي نحونا ووضع يده على كتف أخي:

أنت؟ أصمّ؟ ألم تسمع النداء؟

تقصدني؟

وهل هناك غيرك في الشارع اسمه أحمد ؟

آسف جدا.

تعال معي

قال برجاء:

أرجوك أنت ترى معي أخي دعني أرافقه إلى البيت وأعود إليك.

أنتما الاثنين هيا ادخلا

استقبلنا حرس الباب بنظرات وعيد قاسية،الآخرون تجاهلوني تماما. انصبت نظراتهم ذات الشرر على أحمد. خفت وزادني رعبا أن لا أحد يلتفت إليّ فتكورت مثل القط المرعوب في بداية الممر وأسندت ظهري إلى الحاط. أمر أحد الحرّاس أحمد بالوقوف عند نهاية الممرّ ظلّ يتطلّع إليّ بنظرات خفيّة ذات معنى محاولا أن يطرد الخوف عنّي حتّى انبرى من جانب الممرّ اليمين رجل ضخم الجثّة مترهّل البطن وجه صفعة إلى وجه أخي،وصرخ فيه:

اكشف عن زندك الشمال.

 إذن كان هو الوشم الذي باهى به أخي وافتخر..

صورة الزعيم

ليس هو وحده الذي اقترف وشما،شباب كثر اندفعوا فكانت الصورة ترتسم على الصدور والأذرع. بانت للعيون صورة الزعيم فانهالوا على أخي لكما وضربا وركلا،وهو صامت،لا يجيب أو يشكو..

كان يخجل أن يبكي أمامي من الألم.

ترى لو لم أكن معه هل كان يبكي؟

سؤال يستفزّني إلى الآن..

لا أنكر أن أخي ظل يتباهى منذ بداية الثورة بالوشم يعرف ذلك القاصي والداني عنه،وليس أمامه بعد أن قذفوا به إلى الخارج إلى الرصيف إلا أن يزيل الوشم عن ساعده..

صورة الزعيم التي أحبها وذاب فيه

سألته وراحت يده تغطّي أذنه اليمنى وكان يكزّ على أسنانه من الألم:

نذهب إلى البيت بسيارة أجرة:

فنهض ثم تهاوي:

بل خذني الى المشفى

بعدها ظلّ يعاني من صمم في الأذن اليمنى لكنني رغم ماحدث لذراعه من تشوّه بسبب ماء النار كنت معجبا بذلك الأثر الباقي الذي ظلّ يلبس بسببه قميصا قصير الكمين كي لايواريه عن الأنظار.

**

النشيد الثامن

أحيانا يكون العبث إطارا

مجرد إطار لا روح فيه

وفي معظم الأحيان يحقق الخلق

لا يتحقق ذلك إلا إذا خرج من القلب

وتهدّج بالأنفاس

ذلك هو الإبداع اللامتناهي فعلا.

العبث

كل ذلك قد يبدو عبثا ،أو بالتأكيد جاء متأخرا أكثر من مرة في بداية حياتي وفي زمن متأخّر، وسوف آتي على السنوات الأولى قبل حصولي على اللقب ورفعي على الأكتاف.

يومها كنت مراهقا. معجبا بدراجتي الجميلةالجديدة التي اشتراها والدي مكافأة لي على نجاحي في امتحان المتوسطة )البكالوريا)جعلت للدراجة مرآتين كما هو الحال في السيارات واحدة عن اليمين وأخرى عن اليمين.

صدّقوني كان ذلك قبل أن أصبح رئيسا بإرادة الناس.

في تلك الفترة جاء أستاذ إلى جامعة البصرة في علم الاقتصاد سأسميه (م ح) يكفي الاختصار. أنا والله لا أكرهه بل لا أبغض أحدا وأرغب في أن يشمل الخير الجميع،للدكتور م ح هذا ابنتان سمراوان جميلتان الكبرى معلمة والصغرى لما تزل تلميذة في الثانوية مثلي، ولعلني أعجبت بها. والحق إن العائلة نالت إعجاب الجميع، أخلاق وثقافة،ونفوذ معنوي في السلطة أثناء الحكم القومي إذ أنّ الأب الدكتور قومي الانتماء.

بدأت أفكر بالفتاة.

شعور مراهق ..

انفعال..

انبهار..

طالب في الثانوية ينجذب لكلّ ماهو جميل انجذابه للورود والنسيم، والنهر والنخيل. رأيت في الفتاة صورة نخلة جميلة ولوحة رائعة لرسام مقتدر. لم أسال نفسي ماذا يمكن أن يحدث بعد ذلك. الأولى بي أن أفضي لها مشاعري وما أحس به تجاهها.

وكنت أتحين الفرص..

وأتابع حركاتها.

ذات يوم أوقفت دراجتي عند شجرة أثل كانت تشكل مع أشجار الأثل الأخرى صفا طويلا يمتد إلى سوق التنومة. أحكمت قفلها حول الشجرة،وراقبت صف الأشجار عندئذ لمحتها قادمة من جهة المعبر الشعبي. دق قلبي دقات عنيفة وتغلبت على خجلي.

ارتجفت يداي..

واحمر وجهي..

 مع ذلك تغلبت على ترددي واجهتها:

صباح الخير.

لم تجب. كنت أعرف اسمها سالت:

اسمي صدام ما اسمك؟

ظلت صامتة. تجاهلت العابرين. ولم التفت إلى عيون الناس. هل كانوا حقا ينظرون إلينا؟لا أعرف.. الذي أذكره أني نسيت جمل البلاغة وما قرأته من نصوص جميلة في الأدب عن العشق والعشاق،فقلت:

أنا معجب بك وليس قصدي سوءا.

يبدو أن جملتي أخرجتها عن صمتها فردت بعصبية:

إذهب أفضل لك.

اكتفيت بردها فتراجعت اتجهت نحو دراجتي وحين التفت ثانية وجدت أباها يهبط من سيارته وهو ينظر نحوي. لم أبال قط، بل ركبت دراجتي بهدوء وقدتها باتجاه الفلكة!

غير أن الساعات القليلة القادمة جاءت بأخبار غير سارة. موقفي أمام أهلي. والدي ووالدتي وإخواني وأخواتي. انتابني خجل شديد. جاء شرطي إلى منزلنا ففزعت أمي وذهل أبي. بدا القلق على وجوه الجميع. أيّ أمر هذا. سألني أبي:

هل صدمت أحدا بدراجتك؟

وازداد قلق أمي:

 هل ضربت أحدا فاشتكى عليك.

غاب الأمر عني. نسيت حادثة الصباح والحب والإعجاب.. في المركز عرفت أن الدكتور م ح ذهب إلى صديقه العقيد القومي في مركز المدينة وطلب منه ان يؤدبني،بدوره أبلغ العقيد شرطة التنومة أن يسوقوني إليه. أيّ جرم هذا يتابعه عقيد. دخلت المركز،فقابلني العقيد البدين ذو الخمسين عاما بوجه غائم وملامح قاطبة. صفعة على خدي، وهو يسأل:

ألم تجد لعبة أخرى غير التحرش بأعراض الناس؟

سيدي.

أش ولا كلمة.

رفع سوطا أِعدّ له من على المنضدة وانهال به على كتفي وظهري فشعرت بلسعات تأكل بدني، وأنا أستغيث وأصرخ،أرجوه ،وأقسم أني لم أقصد أيّ سوء:

اللهو بأعراض الناس؟

سكن قليلا،فظننته توقف عن التعذيب، وبعد لحظات نادى على شرطيين وطلب منهما أن يرفعاني،بقيت صامتا وظننت أنه يروم أن يجلدني على باطن قدمي،نهض وهويقول:

علقاه من يديه بالمروحة سأغادر وأعود بعذ نصف ساعة.

قسوة الوقت..

خشونة الحبل على ساعدي.

صيحتي المكبوتة.

الدوار.

بعد سنوات ،وهذا ما لم أكن أعلمه حينها، أني أصبح الرئيس الظل فيرفعني الناس على الأكتاف سوى أني أحسست بعد عشر دقائق بيدي ّتغيبان

تتلاشيان.

رجلاي طليقتان في الهواء

الشرطيان غادرا الغرفة،بقيت وحدي.. لاساعة في المكتب فأعرف كم بقي من النصف ساعة الموعودة. لقد انقضى الأمر على خير وفي البيت عرف أهلي قصة اعتقالي. قال أبي:

أنت مازلت صغيرا لم تكمل المدرسة فهل من اللائق أن تفعل هذا.

قالت أمي بطيبتها المعهودة

حين تكبر يا ولدي نخطب لك اية فتاة ترغب فيها.

خجلت كثيرا غير أن الأمر الذي أذلني حقا إلى هذه الساعة هو كيف يصبح أستاذ في الاقتصاد شرطيا أو لنقل مخبرا لمركز شرطة؟ كيف يؤمن رجل يجلس على مقعد جامعي بالتعذيب والضرب والإهانة والقسوة والقوة المفرطة؟أم كيف تؤمن فتاة جميلة سمراء رشيقة يتغنى بسمرتها الملايين بتعذيب معجب بها من شرطي عاشر الخشونة والعنف والقتل والرصاص؟

ربما اختلطت عليّ الأمور.

وقتها قال والدي لو جاء الينا الدكتور شاكيا ومحذرا لما تساهلنا قط مع ابننا. لم أكن وحدي مذهولا.. لكن طبعي لا يعرف الحقد،الدكتور القدير مازلت احترمه،وأحترم الآخرين الذين تدخلوا في شؤوني لخاصة. كانوا يرفعونني على الأكتاف ويهتفون باسمي الذي هو اسم الرئيس نفسه،كأني بنظرهم هو ذاته،ثم تطور الأمر فيما بعد. قبل أن أتزوج طبعا. لكن ذلك يحتاج إلى وقفة وتأمل منها أنك حين تكون الأوسط أو حين يكون ترتيبك بمنزلة الوسط في العائلة تشعر أنك الحلقة التي تشد الجميع.

فلأحوّل الحديث عن ذلك الآن وأسافر مع أناشيد قصتي هذه إلى أبعد من مدرسة التنومة ومعلمها محمد هادي عبود أوّل من علّمي الحرف وعمي غضبان الذي زرع في نفسي حب الشعر . لأتجاوز ذلك كلّه إلى حين.

النشيد التاسع.

لو سئلت الآن عن اسمي سأقول إنه أنا

لا أحبّ أن أغيره مهما كلفني ذلك

ومهما طرأ عليه من تداعيات جاءت فيما بعد

إنه يظل بلا شك يحمل رائحة الكسارة

ونفحة من نفحات وليها الذي علقت بركته جدّتي

التظاهرة

وقد حدث الأمر بعد أن تنحى الرئيس وأصبح بدلا عنه شخص آخر يحمل اسمي رئيسا للبلاد..

لا أخفي أني شعرت ببعض الغبطة حين رفعني الحشد وهتفوا باسمي أو باسم الرئيس.

تستقرّ معي على الفراش لمحة من نكتة تختلط بندى الصيف:

أبي سمّاه جدّي فهدا

لا أدري لم اختار له هذا الاسم أللشجاعة أم العدو السريع أم الذكاء؟

كلّ ما أعرفه أن الأسد هو أقوى الحيوانات لا الفهد.

كلّ توجّس محتمل

ويقال أن الحكومة في العهد الملكي أعدمت فهدا مؤسس الحزب الشيوعي. خبطة حظ كان يمكن أن يرفع الناس أبي مثلما فعلوا معي. أظنه كان سيعدم بدلا من الأصل أو إن الأصل يعدم بدلا عنه. غير أن الآخرين غفلوا عن ذلك فكان ذو الحول يرى أبي فيظنه اثنين فيقتنع،ويبدو أن الآخرين ،فيما بعد،عدّونا نحن الإثنين واحدا. أصبحت وأنا في عمر المراهقة رئيس دولة.

هل أفرح حقا ؟

بعد أن عدت إلى المنزل وخيّم المساء استلقيت على السرير وحدّقت في النجوم. طلّة الصيف ونداه الذيذ،جعلاني أسرح بعيدا. أتصوّر الحول في الآذان أيضا. نعم هناك حول في العين أما الأذن فيمكن أن تحتلّ الموقع نفسه. جارنا الأحول في سابع بيت أو السادس عن بيتنا أحول أظنه يرى الواحد اثنين. لو سألناه وهذا ما لم نجرؤ عليه لأجاب أنّه يرى للبلد رئيسين. سفينة بقبطانين. هذا أفضل يقولون نحن بلد دكتاتوري، لو كنا كذلك لما حكمنا رئيسان.

أضحك..

فيظنني من حولي أني أحلم خلال نومي.. وفق تلك المعلومة القيمة التي لاجدال علميا حولها عرفت أن الآذان يمكن أن تصبح حولاء،فأنا صدّام فهد طالب الثانوية المولود عام 1953 أًحمل على الأكتاف تحيطني هتافات بالروح بالدم نفديك ياصدام ..

أسأل نفسي قبل أن يداعب جفني النوم:

هل أصبحت الرئيس الظل،أم أنا الرئيس وسمّي الآخر الظل؟

فلأفترض مع نفسي فقط ماذا يخدث لي لو أن رصاصة ما أصابت سيادته عمدا أو سهوا ذات يوم؟

المهم في الأمر أن بلدة الكسارة وهبتني الاسم المعروف، ببركة مولانا صاحب الضريح وحين انتقل أبي إلى البصرة وسكن ناحية التنومة غرض العمل منحتني البصرة أقول البصرة كلها.. بتنومتها وعشارها والزبير وكلّ مكان منحتني على الرغم مما حدث لأخي أحمد في مقرّ الحرس القومي اللقب الجديد،وله حكاية أخرى تتعلق بوضعي موضع السيد الرئيس. الأمر الذي اقتنعت به بعد عودتنا من التظاهرة الاخيرة والإقرار أني أصبحت رئيسا للدولة ولو لدقائق معدودة بطريقة غير دموية،فلا دبابات تقتحم الشوارع، ولا طائرات،أو مظاهر عسكرية وقد راق بعد هذا كلّه للآخرين أن أصبح أبا وأنا مازلت على مقاعد الدرس.

***

يتبع 

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم