صحيفة المثقف

قراءة في مجموعة أقاصيص (غرفة الأكاذيب)

حيدر عبدالرضاللكاتبة هند الزيادي

المسرود القصصي بين واصلة نزيف المخيلة والأبعاد النفسانية المحتملة

توطئة:

أن موجهات فعل الكتابة القصصية في مجموعة أقاصيص (غرفة الأكاذيب) للقاصة والروائية التونسية هند الزيادي، قد يجدها القارىء القصصي، من أنها جملة خاصة من أصوات ودلالات (الرؤية ـ جنوح المخيلة ـ فائض المعنى) وهذا الأمر ما جعلنا نتبين مستويات حجم الاستطرادات في وحدات القص، وتشعباتها مما لا يتوفر عليه مدى التنصيص من القابلية الممكنة في ضم حالات موضوعة القصة في مجال أكثر استيعابا وهوية الاستدلال في الأداة القصصية .

ـ البنية الحكائية وتفارق شعرية الحادثة .

من هنا سوف نوضح ما تعنيه دلالة التفارق في الحادثة الشعرية وذلك عبر مقاربة أقاصيص المجموعة، بما يلخص لنا بوجود مقاطعات وتفارقات ما بين وحدات القص . فالقاصة الزيادي لديها مخيلة هائلة في رسم وتشييد مفاصل الحادثة السردية، وذلك عبر نقلها للحادثة عبر مواقع منفلتة أحيانا من نقاط ومظاهر الخطية التقليدية تجاوزا نحو صورة حلمية من أيقونة الخطاب القصصي المتصل وحدود أطرافه العضوية، مما يجعلنا نجد أغلب أقاصيص مجموعتها، وكأنها أنفعالات آنية من نزيف المخيلة فوق صفحات الكتابة، وهذا باختصار ما وجدناه في قصة (نادي المنتحرين التقدميين) وقصة (تالا ونور القمر) وقصة (دوبامين) وقصة (شاعرة .. بحكة خفيفة) على ما أظن أن ما قرأناه في ضوء هذه القصص، يتضح لنا بأن القاصة الزيادي لديها تراتيبية غرائبية في إنشاء مادة قصها . لذا فهي مأزومة بالحس المفارق والتهكمي الساخر في مسرود قصصها . وعندما يتاح لنا رصد نهايات نصوصها، نجدها عبارة عن مواقع من صوت الذات الساردة المأزومة بدلالات الفقدان والتيه المحفوف بشعرية ذلك (الحكواتي الساخط ؟)، عكس ما عليه الحال في قصة (الجنرال يخرج من متاهته) فهذه القصة تتوافق مع معادلة زمن فقدان الشخصية إلى كافة امتيازاتها الاعتبارية في مجال واقعها الحاضر، لذا نجده يتمثل في تكريس إعادة صوره القديمة تجسيدا تعويضيا في مسار من المخصوصية المتخيلة: (كان يجلس في كامل أناقته يرتدي الزي الرسمي ويزينه بالنياشين والشرائط . أنه الجنرال .. جنرال في أول أيام الخراب .. وكومة الأنقاض التي يجلس فوقها تلك كانت بيته، أو متحفه الخاص الذي أقامه لنفسه سرا . / ص5) تبدأ حكاية هذا الجنرال في علاقة شبه تعويضية خاسرة مع ذاته التي كانت تضيق بالمكان والزمن وبمغايرات واقعها الراهن ونقصانه، لذا فما عليها سوى الاتكاء على معطى حلمية رخوة نابعة من إسقاطات الذاكرة الشخصانية . أما الحال في قصة (الغائبة) فتبدو أكثر فقدانا وانتقادا لذلك الواقع المأزوم من حياة المدن وضجيجها المتواصل،الأمر الذي دفع بالشخصية ـ مريم ـ إلى أن تحيا داخل صورة متخيلة من حلمية ذاتها: (قررت أن تحبس نفسها داخل فقاعة زجاجية خيالية لا تسمع فيها شيئا يؤذي إذنها ولا ترى ما يجرح عينيها .. / ص20) غير أن القارىء الى دلالة مضمون هذه القصة، لربما تصادفه تلك الصورة المأساوية، التي تجعل من الشخصية ذاتها عرضة للموت إزاء موقف اقتلاع شجرة التوت من قبل تلك الجرافة: (جمعت ملابس أمها التي أعارتها لشجرة التوت وغادرت .. في تلك الملابس التي لم تغسلها أبدا، منذ غسولها الأول عندما أخلعوها من جسد الميتة عند تغسيلها .. لا تختزن مريم رائحة الغائبة فقط، بل تحتفظ بكل الحكايا التي لم تستطع أمها أن تسمعها . / ص27) أحتل مدلول المكان حيزا نفسانيا خاصا في دلالة وثنائية (شجرة التوت = الفاعل المنفذ ـ الغائبة) مما أصبح هذا الأمر يشكل بمثابة المحصلة الواقعية والخيالية في يوميات مريم، وهذا الأمر أيضا لا يمكنه أن ينفصل عن مؤثرات الآخر ومحوريته الموظفة في النص، بل أنه راح يرسم للشخصية في مسار خاتمتها في النص، ذلك القدر المكين من المألوفية والحميمية من قبل مشاعر الناس: (كانت تدافع بشراسة عن مكان موعدها مع غائبتها التي لا تعود أبدا . / ص28) والحال يبدو هنا مطابقا لموجهات قصة (المرآة) هذه القصة التي جاءتنا بأبعاد محصلة من حالات مأزومية الذات مع دلالة المرآة، وتأثير هذه الأخيرة على واقع أفكار الشخصية الغرائبية: (كل هذا جرى وهي لا تملك مرآة واحدة في بيتها .. كانت الهدايا مكومة فوق طاولة مجاورة وسرعان ما سرت في المجموعة الصغيرة حمى فتحها وتمزيق أغلفتها الجميلة / سقط الغلاف عن الهدايا وصاحت صديقتها بطريقة مسرحية مفخمة: تاتاااااااا .. كانت الهدية مرآة .. لم أفهم إلى الآن لما لا تملكين مرآة في منزلك . / ص39) من هنا لعلنا نتابع فعل عدم الاستجابة النفسانية للشخصية بمواجهة دال ـ المرآة ـ ولكننا مع القراءة نفهم طبيعة صراع هذا الجزء الآخر من الشخصية نحو صورة ذاتها المنشطرة عبر المرآة، وبطريقة أجادة من خلالها القاصة على ربطها لذات الشخصية في مجال من الإخراج الانشطاري من شظايا تحطم المرآة وتبدد صور الشخصية في أحوال مقتطفة من زوايا وسطوح المرآة المحطمة في مكان ما من النص: (لا أتذكر، الأدوية أتلفت ذاكرتي، ليلتها، وأنا عائدة في السيارة هل كنت خائفة من المرآة أم ممن سأراه في المرآة ؟ هل كان سيكون وجه رجل أم وجه امرأة ؟ لا أدري، ولكن أكثر خوفي على ما أعتقد كان مما يقدر ذلك الشخص المختفي داخلي أن يقوم به / كانت هذه السطور في صفحة أخرى من الصفحات التي قلبتها الممرضة وقرأتها مصدومة بعد أن كسرت باب الغرفة الصغيرة المعزولة واقتحمتها . / ص40) أن الدور الأدائي في النص الذي نلاحظه ـ ها هنا ـ يقوم بأدوار سردية متداخلة بين واقع حكاية الشخصية المأزومة وذلك الطرف المتابع للحكاية والذي هو متمثلا بشخصية الممرضة، مما يعني أن الشخصية في واقع الحال، هي نزيلة في مشفى الأمراض النفسية، كما أننا نلاحظ مستوى المسرود من جهة أخرى أكثر تواترا في حدود زمكانية متصلة ونسيج عرض الحكاية للشخصية المأزومة، وذلك عن طريق السارد العليم الذي أخذ يستظهر وجوده أو عدمه في مصدر الشخصية ذاتها: (كانت لا تريد فتحها ولا تعرف ما تفعل بها .. لم تكن تحتاجها عاشت عمرا كاملا من دونها ولم يزعجها ذلك / كان واضحا للممرضة وهي تواصل قراءة الأوراق كأنها أمام كنز حقيق .. كانت تلك الأوراق هي كل ما سعى الطبيب إلى دفع تلك المرأة إلى قوله، ولكنها خيرت أن تظل صامتة . / ص42) وبالنظر إلى مستوى صعود الأحداث في النص، يتمثل لنا ذلك المستوى من اللحظات التي واجهتنا الشخصية من خلالها، وعبر تلك العلاقة الرابطة ما بينها وبين المرآة، وعن كيفية وصول محاوراتها المنولوجية معها إلى أبها مستوى من التوصيف والتقانة الاسترجاعية وأخيرا تكشف لنا الضربة الختامية في القصة، عن ذلك المضمر المدلولي في النص: (أغلق ملف الممرضة المريضة التي أودعتها المحكمة مستشفى الأمراض النفسية، لما أنزلوا جسدها البارد من الحبل المتدلي من حديد النافذة العلوية / ولكن بعد بضعة أشهر سمعت الدنيا كلها بأمر الروائية الجديدة التي اكتسحت السوق بروايتها الأولى . / ص46) وتزدحم نهاية القصة بأسئلة السارد الاستفهامية حول مدى إمكانية هذه الممرضة من الحصول على رواية جديدة من مريضة روائية أخرى، كما يظهر بوضوح للقارىء أن حكاية هذه القصة، تمتاز بخاصية حاذقة في صياغة مكونات النص الشديدة الأقتناص لوظائف الذروة الفنية، بما راح يوفر للقصة أحداثا تشويقية خاصة من رصد رؤية المتحكم في زمن المسرود المناظر في دلالات السرد القصصي .

ـ تعليق القراءة:

يعد شكل موقع السارد في مواطن محققات الأعتماد السردي في أقاصيص مجموعة (غرفة الأكاذيب) بمثابة ذلك الطابع الخطي في نمو تصاعدية آليات القص . ففي قصة (هضبة الآهات) وقصة (بياعة الورد) وقصة (حجرة، ورقة، مقص) نعاين تمظهرات الراوي المهيمن أو الراوي المشارك المتمثل في شخصية الصورة الحسية من فضاء النص: (أنا كاتب وفي حياة روايتي خمسة أيام تلخصها وتلخص حياتي . / ص67) أو ما نتعرف عليه في قصة (شيطان لكل قرية) حيث مستهل عتباتي يخبرنا بهذه الدلالة من مدخل النص (أنا لست من شخصيات هذه الحكاية ولا دخل لي سوى أني راوٍ، لما وصل ألي من نبأ عمل في هنشير العطش) والحال أيضا مطابق في قصة (ليلة هادئة جدا) وقصة (أختنا .. عبد الحميد) وقصة (يحدث في كار الطاهر) وهذه الأخيرة لربما لا تعبر عن مستوى ما من مستويات أدوات القصص الأخرى من المجموعة، سوى أنها مجرد نكتة لا أكثر قلنا سابقا أن السارد المهيمن يحتل في دورة نصوص المجموعة أعلى مرحلة من مراحل صياغة الأحداث القصصية، التي تحكي عن نوازع الأحداث النفسانية، وعلى النحو الذي يجعل منها قصصا متخمة بوجدان الدلالات المتمثلة بتبئيرات (هيستريا المخيلة) أو جنوحها العابث في خطاطة هي في أشد حالاتها غرقا في تداعيات الذات الساردة ومحور هويتها الغائرة في خلايا حكايات تتوق نحو أعلان انكسار الحلم تارة في ذاتها والشرود الذهني بالفضاء الحكائي نحو صور غرائبية، وكأنها تلفظ ترددات الأنا الكاتبة في عوالم مغلقة من متخيلها الأوحد .

 

حيدر عبد الرضا

كاتب وناقد عراقي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم