صحيفة المثقف

الجمالية المكانية في السّرد القصصي

لدى الكاتبة الأديبة الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت قصتا:

النقيب وتحت النير نموذجًا - السّرد والصحراء


مدخل

الصحراء ذلك السحر الأسطوري الكامن في المخيال الجمعي للإنسانية عامة، وفي الذاكرة العربية بشكل خاص، حيث ” تبرز الصحراء في الوعي، والمُخيّلة مَجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها المتقلِّبة، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء. ولوج الصحراء فتْحٌ لإمكانية السرد.. أن تعيش وترى، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور المحفّز على الإبداع..

إن للصحراء سردَها، وسرد العرب في جذوره سردٌ صحراوي إجمالا، إذا كان يخيّل إلينا أن الشعر هو فنّ الصحراء الأثير، أو الوحيد فإن ذلك الوهم سببه ثبات الشعر أكثر من النثر، والمرويات السردية، أن الشفاهية هي مفتاح الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغة المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية.. إنها الكتابة بلغة الرمل..

يقول الشاعر أحمد عبد الكريم: « كتابة الصحراء، لا تعْني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعني نقْل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية ».( الغرائيبية)، ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي “ نادي الصنوبر”  التي تتناول عالم التوارڤ  ما ورد على لسان المرحوم عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: « الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. ندّوكم أنتم للصحراء ».(1)

وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فذٌّ للخيال، وفضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، وروائيين، ومغامرين، ومستكشفين، وجواسيس، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت، وغيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه.

في هذا الأفق كتب لوكليزيو رواية “صحراء”، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، لورانس وهو يكتب “أعمدة الحكمة السبعة”، وكذا انطوان ده سانت  أكزوبري “أرض البشر”

تناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها ؛ ذلك لأن للصحراء قوانينها، وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكن هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر، واكتشاف النفط، وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية، ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية ” فساد الأمكنة ” لصبري موسى، وروايات “النهايات” و ” سباق المسافات الطويلة ” و” مدن الملح بأجزائها الخمسة ” لعبد الرحمن منيف. أما ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنُّعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب “المجوس والفرنسيس”، وإصرارها على البقاء مِهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مُقْفرًا للإنسان.

أسماء أخرى عربية في إبداعية السّرد والصحراء

وعندما نتقصّى متْن السرد، والصحراء حتى إلى وقت قريب سيقفز تأكيدًا أمامنا اسم الروائي الليبي إبراهيم الكوني بكمّ رواياته، وبثيماتها المنفتحة على فضاءات متفرّدة زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.

إنّما مجال السرد والصحراء لم يبق حكْرًا على هذا الأخير لكوْن أسماء أخرى ظهرت على الساحة العربية وخاصة في منطقة المغرب العربي منهم الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو وروايته “مدينة الرياح”، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية “الرجال الزرق” والحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري حبيب السايح، الذي عرفت فترةُ إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة، ومعمارية، وتيمات رواياته، وفي تبلور رؤية جديدة عبْر تلك اللغة التي تنسكب كلمات معجونة بالرمل.

إضافة إلى أعمال سردية أخرى تتخذ الصحراء فضاء معماريا كرواية نادي الصنوبر لربيعة جلطي، ورواية اعترافات أسكرام لعزّ الدين ميهوبي، والمجموعة القصصية ” رحمونة ” لعبد الله كرّوم، وأخيرا رواية ” مملكة الزيوان ” للصّدّيق الحاج أحمد، ورواية ” تنزروفت .. بحثًا عن الظلّ” لضيف الله عبد القادر، ورواية ” الشهيلي ” LE SIMON باللغة الفرنسية لعلي عبيد من الوادي، ورواية ” أعوذ بالله ” للسعيد بوطاجين .

الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت

ومن الذين ولجوا الصحراء، وفتنتهم فعشِقوها، وكتبوا عنها وأبدعوا، وبقدْر ما ألهمتهم الصحراء فإنهم خلّدوها في أعمال سردية رائعة أشبه ما تكون بلوحات تشكيلية رائعة الجمال ..الكاتبة الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت ذات الشخصية التاريخية المثيرة للجدل, ليس فقط لأنها جزء من ذاكرة الجزائر, وقطعة من فسيفسائها, ولكن لشهرتها العالمية ككاتبة, وما أحيط حولها من جدل، وشكوكٍ في تحرّكها، وعلاقاتها .

لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية, ووطنها المفقود, فاعتنقت دينه الإسلامي الحنيف، وساندته في فضْح بشاعة الاستعمار, وساهمت في ثقافته, وكل هذا بنشاطها وبقلمها الجريء، وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة، والساخر تارة أخرى؛ وهذا ما نستشفّه من كتاباتها، ومراسلاتها الصحفية.

عشقت إيزابيل الوادي( وادي سوف) ونخيلَها، وكثبانَها الرملية، وأزقَّتها وآبَارها، وساحاتِها، ومآذنَها، وإبلها فجاءت كلُّها صورا متناسقة منسجمة في كتاباتها عن الوادي، كما كانت واضحة جليّة في ذهنها ومخيّلتها . لقد بلغ عشقُ إيزابيل للوادي حتى أن الذين عاشوا حياتهم كلها في هذه المدينة لا يمكن أن ينافسوها في معرفتها لها، واطلاعها على أتفه الجزئيات، والدقائق في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية لهذه المدينة حينذاك وهي التي أطلقت على مدينة الوادي : ” مدينة الألف قبّة وقبّة ” .

لقد عرفت إيزابيل عن الوادي خيرها وشرها، جِدّها وهزلها، عفّتها، وفجورها، عاداتها وتقاليدها. عرفت من أهلها صدقهم وكذبهم، غدرهم وإخلاصهم، صداقتهم وعداوتهم.. كل ذلك سجّلته في نصوص سردية جميلة أشبه بلوحات تشكيلية في غاية الجمال .

من أعمال الأديبة إيزابيل إبراهاردت1 – (في ظلال الإسلام الدافئة).2 – (مذكرات الطريق).3 – (صفحات الإسلام).4 – (يوميات) 5 – (في بلاد الرمال).6 – (يسمينة.7 – (مخطوطات على الرمال).

جمال القصّ ومتعة السّرد

لعل أول دافع إلى قراءة رواية، أو قصّة هو تحقيق مُتعة السرد، إذ إن لدى الإنسان بصورة عامة دافعًا كامنًا يمكن أن نسميه مجازًا غريزة السرد، فكلٌّ منّا يودّ أن يروي قصة، أو يحكي خبرة عاشها، أو سمعها وانفعل بها، أي إن لدى الإنسان دافعًا أساسيًا لتفريغ شحنة الانفعال، والخبرة، والمعرفة التي يكتسبها في موقف ما ؛ كما أن لدى الإنسان ميلًا إلى الحديث عن خبرته في شكل سرد، أو حكاية، فإن لديه أيضًا ميلًا إلى سماع حكاية الآخرين عن خبراتهم . ولعل السرّ الكامن في هذين الدافعين اللذين هما في الواقع دافعٌ واحدٌ، يكمن في متعة عيش التجربة سردًا، رواية وسماعًا، من غير جُهِْد ولا معاناة، أو بقدْرٍ أقل من الجهد، والمعاناة.

الدلالية المكانية في العمل السّردي

إن الحيز المكاني في النصّ السّردي هو الفضاء الذي تتحدد داخله مختلف المشاهد، والصور، والمناظر، والدلالات والرموز، التي تشكّل العمود الفقري له ؛ إذ يُعدّ الخلفية المشهدية للشخصية القصصية . فهو مسرح الأحداث، والهواجس التي تصنعها الذاكرة التاريخية برموزها المتنوعة، مادامت صيرورة النص سوى جزء من صيرورة الواقع، وآليات المكان، ما هي إلاّ وسيلة من الوسائل الرئيسة لرصد الواقع على مستوى السرد، وما بعده أي على مستوى الموقف والرؤية.‏

فالمكان من أهمّ العناصر الأساسية في بناء العمل السردي، وخاصة الروائي ؛ فهو الإطار الذي تنطلق منه الأحداث، وتسير وفقه الشخصيات (2) فالمكان يسم الأشخاص، والأحداث الروائية في العمق على حدّ قول غالب هلسا، فالمكان هو الذي يلد الأحداث قبل أن تلده، فيعطينا تصوّرا لها وللأشخاص وللزمان(3)..المكان والحركة تشكّل وحدة لا تنفصم وهذا ما يعطيها ديناميكية، فلا يصبح المكان مجرّد عنصر ثابت معزول عن عناصر النص السردي ؛ بل هو المؤثر، والمتأثر بها.

وهذا يقودنا للقول: إن المكان هو القاعدة المادية الأولى، التي ينهض عليها السرد وعلاماته اللغوية منوطة بخلْق بناء فضاء خيالي “حميمي” له مقوماته الخاصة، وأبعاده المميزة، التي تُعبر عن الهُوية، والكينونة، والوجود.‏

الجمالية المكانية في قصص إيزابيل إبراهاردت

الكاتبة إيزابيل في نصوصها السردية المُشبعة بروح الصحراء، وطبيعتها الساحرة، وتعرية معاناة إنسان الصحراء من قساوة المستعمر، وكذا من صحراء عصيّة جعلها تركّز على ذكْر التفاصيل المكانية بما فيها من محتويات، وألوان، وشخصيات تتحرّك كي تصنع مصيرها الآني البئيس المُثقل بجريرة ماضٍ ليس من صُنْعها، أضفى هذا التركيز شاعرية على لغتها الوصفية التي ترسم فضاء مكانيا مكثّفًا من الناحية الفنية:

« تربّت في موقعٍ جنائزي أين تطفو في ذلك المكان الخرِبِ الحزينِ روحُ الأُلْفيات الغريبة الزائلة. مرّت طفولتها هنا بين الأطلال الرمادية، والأنقاض، وبقايا ماضٍ ظلّت تجهله تمامًا .. من كبرياء هذه الأمكنة الحزينة اكتسبت شحنة إيمانية أكبر بالقدَر، والأحلام ؛ غريبة الطبع، حزينة من بين كل بنات جنسها ..هي ذي ياسمينة البدوية .»( من قصة ياسمينة ..ص 27 )

« … تحرق الشمس بَلاط الشوارع الباهت اللون . يربض الظلّ الأزرق المهزوم تحت الأقواس، وخلْف الدعامات ..تتجوّل زهور وياسمينة . اليدان متشابكتان . تحت الشمس المنتصرة تعرضان رشاقتهما كأنهما قطّان صغيران لطيفان .» (من قصة زهور وياسمينة .. ص 128)

الجمالية المكانية في قصص إيزابيل إبراهاردت

1- قصّة ” النقيب ” نموذجًا أوّل

إن قصة ” النقيب ” بطلها طبيب شابٌّ رمت به الأقدار من وراء البحار إلى الوادي مُجنّدا في القوات الفرنسية لأداء الخدمة العسكرية، تَحُسّ وكأنه قريبٌ إليك لِما يحمله من براءة وطيبة. لم يندمج مع زملائه العسكريين، يقتله الملل وبقدْر ما كان يتحاشاهم كان يتعاطف مع الأهالي المرضى، ثم مع الأهالي خارج الثكنة لتربطه علاقة عاطفية مع شابّة أرملة :

« …كثبان بلا لون، متراكمة، متراصّة، متموّجة تتغيّر مسحاتها في كل ساعة، تكابد جميع تغيّرات النور، لكنها جامدة، وكأنها نائمة في حُلْمٍ أبديٍّ تحتضن القصر العديم اللون الذي تُواصل قبابُه المتعذّرة الحصر إرغاءها المتناهي ..شوارع صغيرة ضيّقة ملتوية، تُحاذيها منازل قديمة من الجبس، تقطعها أطلالٌ، أو يمرُّ أحيانًا ظلُّ نخلة نحيفٌ فوق الأشياء الخاضعة هي أيضًا للنور.. ساحات صغيرة تؤدي إلى دروب صامتة تنفتح في خيْبة على الصحراء الفسيحة المتأجّجة ..برْجٌ ناصع البياض معزول وسط الرمال، والذي من على شرفته ترى تموّج الكثبان اللامتناهي، وفي الحُفر العميقة مخْمل النخيل الأسود …» (من قصة النقيب ..ص 62)

« … ساعة الرحيل اللّذيذة، والتأمّل الكئيب لديه هي عند المساء، عند غروب الشمس، يذهب إلى مقهًى عربي صغير مقابل ل ” بيرو عرب ”، ويتمدّد هناك ليتأمّل الفتنة التي تُولد كل يوم من جديد في حُلّة مختلفة : الساعة الحمراء .

تتلوّن بنايات البرج البيضاء أمامه بالورديّ أوّلاً لتُمسي تدريجيا حمراء كأنها الجمر، مُبهرة، لا معقولة ..تبدو كل الخطوط المستقيمة، أو المقوّسة المرتسمة على حُمرة السماء، وكأنها مرصّعة بالذهب ..خلْف قباب المدينة المشتعلة تلتهب الكثبان الكبيرة، ثم إنّ كل شيء يبهت تدريجيا ليأخذ المسحة الوردية القُزحية …ضباب خفيف باهت بلون الشاموي الفضّي ينزلق على نتوء البنايات، وقمم الكثبان . من الدعامات العميقة، والأروقة الضيّقة بين الكثبان الرملية تزحف الظلال البنفسجية، تصعد نحو القمم المُتّقدة لتُطفئ الحريق، فيغرق كل شيء في ظلٍّ أزرقَ بحريٍّ غامقٍ .» ( قصة النقيب ..ص 69)

2 - قصة ” تحت النّير ” النموذج الثاني

« سيدي مرغني هو ممرٌّ ضيّقٌ بين كثيبيْن رمادييْن بمدخل وادِ مزروعٍ بالنخيل أين تختبئ مجموعة صغيرة من المنازل الفقيرة الآيلة للسقوط، المبنية من الحجر الرمادي الخام بنفس لون الصحراء، والتي عوض السقوف تعلوها قبابٌ صغيرة تجعلك في ” سُوفْ ” يختلط عليك أفق المدينة بأفق الكثبان الرملية ..تسكن هذه الدشرة قبيلةٌ بربريةٌ قدمت من الشمال منذ زمنٍ طويلٍ، وبقيت محافظة على تقاليدها، ولهجتها الشّاويّة ..من على الكثبان الرملية ينفتح الأفق فسيحًا جدًّا، وأزرق جدّا، ونحو الشرق ترى بحْرًا هائجٌا وجامدًا، كثبان وكثبان على مرمى البصر بعضها قممُه حادّة، وبعضها الآخر قممه مسطّحة ..هنا وهناك عبْر الرمل الذهبي نقاط سوداء متناثرة : إنها حدائق نحو الغرب، سهْلٌ فسيحٌ أدكنُ أين تتناثر القباب أيضًا، وعلى جانبي الدروب المبهمة قبور متعذّرة الحصْر، مبثوثة هكذا دون ترتيب، ودون حائطٍ واقٍ، دون أيّ زينة، ولا خوْفٍ .» (من قصة تحت النير ..ص 83)

« … تحبّ أيضا ( تاسعديت) عند الأمسيات التي تسبق ليلة الجمعة المباركة أن تجلس فوق أعْلى كثيب في العرق العملاق لتنظر إلى الشفق الأحمر عند الغروب، ولترى المصابيح التي يُوقدها ” السوافةّ ” بوقار بالقرب من قبور موتاهم ..هذه القناديل النحيفة التي تسهر لرعاية الموتى في شفق الغروب الأحمر المشتعل تحسبُها الفتاة أرواحًا يقظة، أو مخلوقاتٍ حيّةً عيونها من النار تنظر إليها، وترمش بأجفانها »( من قصة تحت النير .. ص 83)

« … الصيف صيف، وأحيانًا يتسلّلان خارج المدينة في الليالي المقمرة، ينزلان إلى أسفل الهضبة التي شُيّدت فوقها مدينة الوادي نحو متاهة الكثبان الرملية التي تُواري في طيّاتها الرمادية الحدائقَ العميقة التي تجتذب، وتضخّ برودة المياه الباطنية في أسفل الحُفر الكبيرة التي تشبه الأقماع العملاقة ..عادة ما يختاران الغيطان المهجورة المجاورة لطريق ” الدبيلة ”، وهناك يتمدّدان على بُرنس عبد القادر المُلقى على الرمل، والذي يوفّر لهما ساعتها سريرًا ملكيا أحمر، فيتأمّلان ظلال النخيل الرقيقة وهي تتلاعب على الرمل الأبيض تحرّكها الريح الباردة، ريح ” سُوف ” الأبدية، كما يتأملان أشعّة القمر وهي تتسلل خلْف الجذوع المتمايلة، وبين عراجين التمر المُصفرّة، ويستمعان لهمْس الجريد، وكأنه صوت أمواج بحرية .» (من قصة تحت النير ..ص 88)

« ..تعصف رياح ” الشهيلي ”، ويسود صمْتٌ كئيبٌ منطقة ” سوف ” الناعسة .يغمر ضبابٌ رمادي السماء، ومن الكثبان الباهتة اللون يظلّ الغبار ينهمر إلى ما لا نهاية كالأمواج الخفيفة لبحرٍ تداعبها الريح .» (من قصة النير ..ص 89)

المكان عند هذه الكاتبة ليس فقط عالما تتحرك فيه الشخصيات، أو ديكورا يقع في الخلفية لأفعال الشخصيات، أو مسرحا للأحداث ؛ بل إنه فاعل أساسي فيها، له وظيفة ودور أساسي في نصّها السردي بعيدا عن كونه لمسة تصويرية فنية فحسب في كمال الديكور المُتخيل، بل هو نظام داخل النص، والمكانيةُ هنا تمثل درجات من الانفتاح..

كما أن تيمات الصحراء متميّزة: (رياح الشهيلي، منطقة سُوف الناعسة، الكثبان الباهتة اللون، يظل الغبار ينهمر، متاهة الكثبان الرملية، الغيطان، ظلال النخيل تتلاعب على الرمل الأبيض، ريح سُوف الأبدية، جذوع النخل المتمايلة، بين عراجين التمر المصفرّة، همْس الجريد…)

جمالية الوصف السردي وغايته

للوصف أهمية كبيرة في القصة، حيث يشكل عالمها الحسّيّ، ويرسم المساحة والخلفية التي تقع فيها أحداثها، ويجسّد الأشياء التي تشغل الحيّز والفراغ ويقرّبها من عين المتلقّي، كما أن فنَّ السرد أحوجُ ما يكون إلى الخيال، وكلّما كان الكاتب أقدر على تثوير المخيّلة بأقصى طاقاتها إلاّ وكان إبداعه أقدر على إثارة المتلقّي، وأوْلى بالبقاء.

” يعتبر الوصف من أبرز وأهم الأساليب الفنية، التصويرية والتعبيرية التي حفل بها الأدب في مختلف العصور في شتى أشكال القول الأدبي، إلى الحدّ الذي جعل منه تقليدا أدبيا يتفاضل فيه الأدباء، ويتمايزون، ويتميزون عن بعضهم البعض”. (4)

ولهذا اعتُبر ” الوصف حتمية لا مناص منها، إذ يمكن كما هو معروف أن نصف دون أن نسرد، ولكن لا يمكن أن نسرد دون أن نصف كما يذهب إلى ذلك جينيت” (5)

إذن فالوصف نمطٌ من أنماط السرد إلا “أن السرد حركة، والوصف سكون، فالسرد مرتبط بالحدث،ومرتبط بالزمن، بينما الوصف هو تأطير الحدث في لحظة زمانية ومكانية ساكنة، والسرد يتوقف عند البدء بالوصف” فالوصف من أهم الأساليب التعبيرية والتصويرية (6) وأدق تحديد للوصف ولوظائفه هو انه ” بمقدار ما يكون الوصف نافعًا في السّرد، مطوِّرًا للحدث، مُلقيا عليه شيئا من الضياء، ممكّنًا للنصّ الروائي من الارتشاش بمسَحَاتٍ من الجمال الفنّي ؛ بمقدار ما يكون مُؤذيًا للسرد إذا جاوز الحدّ. (7)

جمالية الوصف المكاني لدى إيزابيل

« … كثبان بلا لونٍ، متراكمة، متراصّةٌ، متموّجةٌ تتغيّر مَسَحَاتُها كل ساعة، تكابد جميع تغيّرات النور، لكنها جامدةٌ وكأنها نائمة على حُلْمٍِ أبديٍّ، تحتضن القصْر العديم اللون الذي تُواصل قبابُه المتعذّرة الحصرَ إرغاءها اللامتناهي…»

« … تصعد الشمس الحمراء ببطْءٍ خلْف الجبال التي يغمرها ضبابٌ خفيفٌ. يمرّ وميضٌ أحمرُ أمام الأشياء كأنه حجابٌ من الحياء. أشعّة الشمس الوليدةُ تنثر تيجانًا على قمم النخيل لتبدوَ قبابُ أضرحة الأولياء الفضّية، وكأنها من الذهب الخالص…»

ما نلاحظه في هذه الفقرة أن الوصف ذو طبيعة متحركة حيث بعث الحياة في الجماد، وأدخل عليه أوصافا بشرية :(متراصّة، متموّجة، تتغير، تكابد، تصعد، يغمر، يمرّ، تنثر ؛ ولمسات جمالية ( كأنها نائمة على حُلْمٍ أبديٍّ، تحتضن القصر العديم اللون، إرغاءها اللامتناهي، يغمرها ضبابٌ خفيفٌ، يمرّ وميضٌ أحمر أمام الأشياء كأنه حجابٌ من الحياء، أشعّة الشمس الوليدة تنثر تيجانًا على قمم أضرحة الأولياء الفضية وكأنها من الذهب الخالص)، وهذا لم يأت عبثا ؛ وإنما لوجود تماهٍ بين الكاتبة، والطبيعة الصحراوية التي عشقتْها، وافتتنت بها .

« … حين ظهر جاك نهض المرضى، البعضُ بعناءٍ كبيرٍ ليقدّموا التحية العسكرية مرتبكين . خمس أو ستّ نساءٍ نهضْن أيضًا، ورفعْن أيدِيهنّ فوق رؤوسهنّ المنحنية كأنهنّ يطلبْن العفْو. رأى جاك في نظرة هؤلاء الخشية، والريبة بوضوحٍ .

ترتدي مجموعةٌ من الرجال برانسَ ترابية اللون، بشرتهم سمراء، قسماتهم تنمّ على شراسة طبعهم، عيونهم ملتهبة تحجبها نِقابات وسخة بالية ؛ أمّا النساء فأكثر سُمرة من الرجال ..المُسنّات منهن اللاتي فقدن معظم أسنانهنّ، وجوههنّ مجعّدةٌ، تحملْن فوق رؤوسهن ضفائر كثيرة من الشعر الأبيض المصبوغ بالحنّاء، وأخرى من الصُّوف الأحمر، وحلقات، ومناديل ..الصبايا قسماتهنّ بارزةٌ متناسقة، شهوانية، سُمرتهنّ داكنة، والعيون واسعةٌ يبدو عليها الحذر، تكسوهن على الطريقة العتيقة مَلْحفاتٌ زرقاء داكنة كأنها سوداء.» ( من قصة النقيب ..ص 65 – 66) (8)

ما يُستشفُّ من الفقرتين السالفتيْن جمالية السرد، وتواتر حركة الشخصيات، وتشخيص معاناة الأهالي من المرض أوّلاٌ في الظاهر، وثانيا التعبير بالحركات الجسدية عن الشعور بالدونية، والخضوع، وتقديم الولاء ظاهريا رغم المرض، وأمارات الفاقة التي تنهش أجسادهم، كل ذلك في لوحة تراجيدية تماهت فيها الشخصيات مع بصمات الصحراء : ( برانس ترابية اللون، بشرتهم سوداء، النساء أكثر سمرة من الرجال…)

الخاتمة

وفي أكثر من موقع من قصص المجموعة يبدو ارتباطُها بدقّةِ ملاحظاتها للحراك اليومي للناس، وبالتواصل الاجتماعي معهم، وهنا في رأيي تتّضح رسالة الأديب الفنان لتمكُّنهِ من أدواته، فيعرّي المجتمع من زيْفه، ويكشف تناقضاته، ويفضح سلوكات الكثير من أفراده من خلال شخصيات النصوص السردية، وقد نجحت إيزابيل في هذا نجاحًا كبيرًا ممّا يجعل المتلقّي يقف مندهشًا حيال تلك السلوكات، أيشفق على تلك الشخصيات؟ أم يُدينها ؟ أم يُدين المجتمع؟ أم يدين المستعمر؟ أم يدين المتعاملين معه؟

الاشتغال في الإبداع السّردي يحتّم في بعض الحالات على الكاتب المبدع الخوض في دقائق حياتية إنسانية عميقة، ومواضيع راهنة حارقة، أو ماضية فلتت من أصابع الزمان تغيب عن عيني الإنسان العادي في وعاء لغوي جذّاب ..في شعرية لغوية ممتعة، وأداء تشكيلي جمالي.. فيعيد لها الكاتب المبدع ألقها، وحياتها، وقد تتماهى هذه المنفلتة بما هو راهنً في النصّ المُبْدع ..فلكي نبدع سرديا وشعريا، فإننا ننشئ حدثًا أسلوبيا يتخطّى المعيار الكلاميّ السائد.

 

بقلم: بشير خلف

..........................

المصادر والمراجع

(1)  أ . محمد بن زيان: في السرد والصحراء . يومية الجزائر نيوز ليوم : 04 فيفري 2013

(2)  غالب ھلسا :المكان في الرواية العربية عن كتاب الرواية العربية واقع وآفاق، دار ابن رشد للطباعة والنشر .ط1،(د ت)،بيروت،ص 111

(3)  المرجع السابق .ص 209

(4) – عثمان بدري، وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ، دراسة تطبيقية، جامعة الجزائر، معهد اللغة العربية وآدابها، 1996، 1997م، (رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه.)، ص: 92.

(5) – عبد المالك مرتاض : تحليل الخطاب السردي، ع، س، ص: 264.

(6) – عبد الحميد المحادين، التقنيات السردية في روايات عبد الرحمان منيف. ص: 54. المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع. 1999

(7) – عبد المالك مرتاض في نظرية الرواية ..بحث في تقنيات السّرد. ص: 295. سلسلة عالم المعرفة . الكتاب 240 ط1  1998

(8)  إيزابيل إبراهاردت : مجموعة قصص . ترجمة : أ. ميهي عبد القادر. دار الثقافة لولاية الوادي، رابطة الفكر والإبداع بالوادي . ط1  2009

من هي إيزابيل إبراهاردت ؟

- هي كاتبة رحّالة من أصلٍ روسيٍ ولدت سنة 1877م في سويسرا من أمٍّ روسية تُدعى ناتالي إبراهاردت حرم موردر، وأبٍ مجهولٍ بالقرب من جنيف.

- قدمت أول مرة إلى الجزائر سنة 1897م واستقرّت مع والدتها في عنابة.

- وفي سنة 1899م عادت إلى الجزائر، ورأت لأول مرة وادي سوف، فأُعجبت به وكتبت عنه خاطرة أسمتها ” المغرب “

- وفي سنة 1900 أقامت هذه الكاتبة الرحالة مدة سبعة أشهر بوادي سوف قبل أن تُطرد من قِبل السلطات الفرنسية بتهمة إثارة الشغب، بعد محاولة اغتيالها بمنطقة ” البهيمة ” خارج مدينة الوادي.

- تعرّفت الكاتبة على سليمان هنّي، وهو عسكري من الأهالي، وتزوّجته. اعتنقت الدين الإسلاميّ على يد أحد شيوخ الزوايا، واتّبعت الطريقة القادرية.

- أحبّت الكاتبة الجزائر، وكتبت عن معاناة أهلها من تعسّف الاستعمار الفرنسي الشيء الذي سبّب لها كثيرا من المتاعب.

- تُوفّيت هذه الكاتبة الرحّالة سنة 1904 إثر فيضان واد عين الصفراء بالجنوب الغربي الجزائري.

في الأشهر الأخيرة من حياتها أقامت ايزابيل في قرية عين الصفراء الموجودة قرب الحدود المغربية الجزائرية . توفيت في فيضان طوفاني في عين الصفراء يوم 21 أكتوبر 1904.

كانت تقطن بيتًا مأجورًا مع زوجها، وانهار البيت الطيني في الفيضان. كان عمرها 27 سنة فقط . وجد عناصر الجيش الفرنسي، والذين كلّفهم الجنرال ليوطي بعملية الإنقاذ، وجدوها ميتة غرقا تحت انقاض بيتها، وكانت تمسك بيديها مخطوطا كبيرا هو عبارة عن كتاب ” تأملات وملاحظات ” خطّت فيه مسارها، ومسيرتها القصيرة الحافلة بالأحداث، وعنونته ب”المتسكع”. توفي زوجها سنة 1907.

عبد القادر ميهي مترجم ومهتمّ بكتابات إيزابيل إبراهاردت

1 - عودة العاشق المنفي

بعد المقدمة والتمهيد والإهداء قسّم المترجم مضمون الكتاب إلى أربعة أقسام:

 يوميات للرحالة إيزابيل إبرهاردت.

 المراسلات الشخصية.

 كراريس التشرّد.

 القصص القصيرة.

2 - مجموعة قصصية أطلق عليها ” تاعليت ” عنوان قصة من قصص المجموعة.

3 - الطريق إلى قنادسة أو (في ظلال الإسلام الدافئة )

4 - يوميات (في إطار الترجمة).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم