قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: الخلفيات السياقية في رواية السيرذاتي وحقيقة المؤلف الثنائي

دراسة في رواية (حياة الكاتب السرية) لغيوم ميسو

الفصل الأول- المبحث (1)

***

توطئة: لاشك في أن طبيعة التقديم لرواية هي من الأنموذج ذات الطابع السيرذاتي، تعد من المهام الأكثر استغراقا في التواصل والتتابع بين قطب الأصل النصي -السياقي، وحدود النص المنجز، اقترانا محاكاتيا مع حيثيات الارتباط النسقي في التداخل والانفتاح والسيرة الذاتانية لأصل حكاية الروائي الفرنسي (ناثان فاولز) الذي أختار أن يكون النقطة الفاصلة بين حياة الكاتب الذي شغل الناس برواياته وبين نقطة زمنية معزولة في أحدى الجزر الفرنسية المغمورة.لعل التعامل والبحث في وظائف وأشكال وأساليب رواية (حياة الكاتب السرية) للفرنسي غيوم ميسو، لا تحددها (علاقة = محاكاة = سياق) بقدر ما نتعرف عليها كرواية ذات تدفق بين (الماقبل = المابعد) ولا من جهة غاية في الأهمية أن يغوينا الحديث حول حقيقة المصدر المرجعي للحكاية ذاتها، لا أبدا لا يسعنا سوى أن نقول أن (غيوم ميسو) قد تتبع سيرة الروائي ناثان فاولز، فإعادة منسوب المنظور السردي عبر كيفية خاصة من مظاهر المشهد السردي الأكثر تدفقا في الصياغة والمعالجة في تزاحم الرؤية وممارسة ذكاء التجسيد بالتمثيل المراوغ والتمويهي.يقدم لنا غيوم ميسو رواية سيرذاتية ضمن مواصفات درامية حقيقية لا تنبثقب من حافزية السياق دليلا، إنما شغلتها دلالات إعادة المصاغ صوغا نادرا ومعادلا على صعيد الأمثل والأصل من حكاية ناثان فاولز.لربما يتبين لنا من خلال رواية (حياة الكاتب السرية) مدى إمكانية الكاتب غيوم ميسو، وذلك من خلال إعادة الأحداث ملغيا وجود الأثر، مكتفيا القارىء بوجود مكونات المؤثر الذي غطى على حدود الأصل عبر تمثيلات أكثر تشويقا وتفاعلا وتجاوزا جماليا مصيبا.

- السيرذاتي بين ضروب المتخيل وخصائص الأدوار

في الحقيقة أنا شخصيا قد لا أعول على حجم العلاقة الترادية بين حياة ناثان فاولز وشخوص رواية (حياة الكاتب السرية) خصوصا وأن العملية النقدية لا يجذبها مثل هكذا تصديرات أبدا، حتى وإن كانت من ضمن الحالة التبويبية في عتبات الرواية التي قام بكتابتها غيوم ميسو، لذا سوف يذهب شاغلنا الوحيد في مقاربة فضاءات السرد الروائي، مدام أن النص الروائي جاءنا مسكونا بالإحساس على أن زمن الرواية، هو تلاعبا متراصا من حياة الكاتب ناثان فاولز.ولكن في الآن نفسه لا أعلم حجم ما وضعه غيوم لروايته من مصير محكوم بالتقابل مع القطب الآخر ــ ناثان فاولز ــ كان بإمكان غيوم إنشاء نصه بعيدا عن هذه الجذبة التي أشاع عنها كونها اللعب الفنية ــ السردية، في كتابة رواية سيرذاتية، وربما كان بالإمكان جعل نصه أكثر تحررا من المعاودة في إعادة الإنتاج لسيرة حياة ناثان فاولز.صحيح أن للروائي غيوم خلفيته الإجرائية على نحو خاص في نسج روايته، ولكن أمكنة السيرذاتي تؤشر دائما على كاتبها الحقيقة التي توحي بأن ليس للكاتب ونصه، القدرة القصوى من التخييل والحكي باستغراق اسلوبي متشبع بالكفاءة والامتلاء.ولكننا لو تعاملنا مع النص بعيدا عن هذه المزاوجه الثنائية، والهوية الاقترانية، لوجدنا بأن آليات رواية غيوم ميسو، هي استعادة شكلا جديدا من رداء السياق الأصلي، ما جعل صياغتها المتمحورة أكثر من مجال أبجدية (الاقتران؟!) أو المحاكاة أو كتابة رواية سيرذاتية.ولعلنا بالأخير نتفق ونباشر عملنا المبحثي كون رواية (حياة الكاتب السرية) انفتاحا وتفاعلا حاملا بصمات محاكاة السيرة ولكنها ليست السيرة ذاتها، باستثناء الاستفادة من الأسماء وبعض الأدوار العاملية.

1ــ العتبات النصية ومخطوطة الكاتب الشخوصي:

تظهر لنا في الأطوار (الميتانصية) أشكالا مأثورة في مراسم حقيقتها الاعتبارية، وقد جرى لمثلها في غالبية المدونات الروائية في العقد الرومانسي من الآداب وأيضا في خصائص المدرسة الواقعية، لذا وجدنا آليات وموجهات البنية العتباتية موغلة في اصطحابات المآثر القولية المنتقاة من الأجزاء والوحدات الخاصة ببعض الأعمال الروائية، وهذه المناصات بدورها تختلط وتنفرد عن بعضها البعض في الإنتاج الجزئي والكلي من السياق الروائي المبثوث تحت مسمى (حياة الكاتب السرية) وقد يختلف الفعل المرسل في المنصوص، إذا قوبل بالاكتفاء والاندراج في وقائع ومعطيات غير متباينة في سارية الارتكاز التأشيري، لذا وجدنا ضبط المحدد العاملي يوظف ويشغل لذاته هوية (الحالم؟) أو (المغامرة؟) أن صح هنا منا التعبير والإشارة حول شخصية (رفاييل) السارد المشارك حدثا وعنصرا شاهدا في نسيج مسار الرواية.ومن الجدير بنا القول بأن وظيفة (السارد المشارك؟) عبر الأحداث السردية، غدا شكلا مشتملا على تحديد مدارات الشخصية ناثان فاولز، مما جعله الأمر يترأى في بعض تشكيلات اللقطات والمشاهد وكأنه الماثول الذي يوحي عن طبيعة حياة ناثان فاولز، بذلك الاحساس المتضخم بالأنا والتضخيم الذي يضفي على شخصية ذلك الكاتب السري.في الواقع هناك حالات مفتعلة تشوبها مشاعر الإسراف والمكابرة بإظهار شخصية ناثان على النحو الذي لا يخلو من الجعجعة تحديدا:فما كل هذه الفوضى والإسراف في الإعلان عن حكاية ووصف ناثان فاولز، وكأنه آلهة إغريقية ممجدة دون جدوى؟لعل غيوم ميسوم أسرف وأفرط في مزج ملامح شخصيته في الرواية بذلك الأصل السياقي الذي هو ناثان فاولز الحقيقي، ما جعل شخصيته في الروائية ــ ناثان فاولز ــ تبدو تابعا بملامح غرائبية وفنتازية محدثة؟إلى جانب ذلك ما الرابط الدلالي بين شخصية الرواية ناثان الشاهد على جريمة كبرى من القتل، بذلك الأصل الكاتب الفرنسي ناثان فاولز؟من هنا نعلم ونقدر ما كتبه غيوم ميسو في روايته، خصوصا وأن المواجيد الأدوارية في (ناثان الأصل / ناثان الشخصية) يفصلهما العديد من الاختلاف والصورة والهوية والموقع.لذا هنا أردت أن أعزز ما كتبه غيوم، في النظر على أنه ليس في حدود (الحافر على الحافر؟) لا أبدا فالرواية ضمن تحولاتها وموضوعاتها راحت تعكس الاختلاف الملحوظ بالتصديق الموضوعي، كذلك الأمر يخص ما أعرب عنه غيوم ميسو نفسه في خاتمته للرواية، هو ما يعكس محتوى وشكل الثيمة الروائية الباحثة في وقائع جريمة قتل عائلة فيرنوي وحياة الشخصية ماتيلد موني الباحثة والمتعقبة إلى خطوات وحياة الكاتب ناثان فاولز.تنفتح المساحة الفضائية للرواية على محاولة الشخصية رافاييل وهو يتوجه نحو جزيرة بومون: (كنت أعمل في وظائف صغيرة عدة لدفع الإيجار، لكنني كرست طاقاتي الإبداعية كلها لتأليف رواية بعنوان ــ خجل القمم ـــ وقد رفضت من حوالي عشر دور نشر ./ص24 الرواية) .

2ــ الشخصية السيكلوجية والأفق والمغزى والأداة:

إن الفقرة السابقة من الوحدات تتضمن إقرارا صريحا وضمنيا في الآن نفسه، بأن رافاييل يبدو شخصية محبطة، منكسرة القلب، وهي مفعمة بذلك الإحساس النفسي بالانهزامية.ولكن غاياته بدا عليها وكأنها فريدة من ناحية كونها تتعلق حتى النخاع بآمال الذات الروائية التي تكافح لأجل الوصول إلى غاية ما تتأمله من النجاح الأدبي.هناك حيث يصادف أن يلتقي الكاتب الشهير ناثان فاولز، بعد أن قام بقراءة روايته (المحطمون) ورواية (لوريلاي ستراينج) ورواية (بلدة أمريكية صغيرة) .إن الواقع المتبدي في الأحداث الروائية جميعها تجسيدا لإداة وتخطيط الشخصية رافاييل في كيفية الوصول إلى منزل ناثان فاولز، حيث تستدعي ذلك الوصول أن يكون حرفيا عند المكتبي الشخصية غريغوار أوديبير: (ما إن وطأت قدماي اليابسة حتى جررت حقيبتي على أرصفة المرسى.لم تكن المارينا شاسعة، ولكنها كانت مجهزة جيدا - رصدت أوديبير وقد عرفته من ملامحه القاسية./ص30 الرواية) لعلنا في طي هذه الوحدات سوف نؤجل الحديث عن جملة (ملامحه القاسية) لكونها نقطة وصفية تتصف بصفات لها سياقها التبئيري الخاص.قلنا أن السمة الأداتية في مواصفات الشخصية رافاييل، كونها خائبة في مواقفها من الواقع الاجتماعي على صعيد العائلة، والأهم من ذلك، تعد نقطة الانطلاق في فهم المغزى المحاط بواقع شخصية الكاتب ناثان فاولز.

3ــ صورة ناثان فاولز وغياب القارىء الحقيقي:

قد نتوقف قليلا مع الوحدات السردية التي تتعلق بحياة المكتبي أوديبير وعلامات سأمه من تزايد دفعات الأرباح التي يجنيها بدوره من مبيعات الكتب في متجر المكتبة، كذلك يكشف لنا الحوار الذي دار بينه بين رافاييل عن حقائق غريبة تخص تقلص مستوى القراء في فرنسا ضمن معادلات إحصائية مفترضة، ولكنها من ناحية تقديرية بدت وكأنها تغطي كل مجالات الحقيقة الخاصة بمستوى انحسار القراءة والقراء إجمالا.لعلنا نتعرف من خلال توظيف رافاييل كموظفا داخل هذه المكتبة على روايات بارزة، فكان من بين أهمها هي روايات وصور ناثان فاولز: (اشرت إلى صورة فاولز في الألبوم: ــ ناثان فاولز، هل تعرفه؟تجهم أوديبير وبات وجهه عبوسا حذرا: ــ قليلا حسنا، ما هذا إن كان يمكن معرفة ناثان فاولز؟./ ص34. ص35) .

ــ تعليق القراءة:

أن الطبيعة الحوارية الدائرة بين (رافاييل ــ أوديبير) تتجسد بمحمولات الغرض وإبراز الملمح الاستباقي، ولأجل الحقيقة ومراحل تعرفها، علينا الاكتفاء تجسيدا بالأهم التدرجي من أطروحة مبحثنا هذا، في الكشف عن مواقف الشذوذ والعداء في المواقف التي تخص الكاتب ناثان فاولز، لذا فهي تجرى على لسان الشخصية أوديبير ضمن حدود مسكونة بهواجس الاحتراس والتحفظ من الخوف في التوسع في الكلام حول ناثان فاولز الذي اقتربت حكاية اعتزاله في الجزيرة مرمى كل الأوساط الثقافية والمحافل الأدبية في فرنسا، ولكن يبقى السؤال مطروحا منا : هل أراد غيوم ميسو أن تكون فكرته عن اعتزال حياة فاولز الحقيقي للكاتبة طابعا رمزيا لأفعال شخصيته فاولز في الرواية أم إنه أراد خلق صورة متطورة منطلقة من الأسباب التي جعلت فاولز الحقيقي يعتزل فعل الكتابة ويختفي داخل منزله الكبير الفاره المطل على أمواج البحر في حدود ملغومة بالتكتم والسرية؟لذا نحن نقول هنا هل إن عملية الاعتزال تلك مقرونة بحقائق مشتركة بين فاولز الحقيقي والمفترض في الرواية ، ولربما هناك حقيقة مرة وأكثر كابوسية من فكرة انسحاب الكاتب من مغامرة المكتوب؟ .

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

في المثقف اليوم