قراءات نقدية

حيدرعبدالرضا: دراسة في شعر حسين عبد اللطيف

باطن المعنى يؤول الى استبدالية ظاهر المعنى.. الفصل الخامس/ المحور (2)

توطئة: لعلنا تحدثنا في محاور سابقة، عن مجالات عديدة في منتج ومنظومة الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف، وفي مستوى بدا من خلاله البحث النظري والتطبيقي، مجالا في ممارسة في الكيفيات التعليلية والتأويلية، خلوصا منا الى إستدراك سبيل الاهتداء الى ذلك الممكن القصدي الكامن في بواطن فحوى شعرية عوالم ورؤية وصورية وحالات الخطاب الشعري في مواطن قصيدة الشاعر. ولعلنا سوف نضيف من محورنا البحثوي هذا علامات جديدة وجادة، تزيد من ثريا قصيدة هذا الشاعر الفذ، إضافات فاعلة في مجال الفضاءات والمراكز والعلاقات والتراتيبية الاكثر تدرجا في ماهية القول الشعري الذي هو في حدود المعنى والتمعن لدى قصيدة عبداللطيف، إذ يشكل بذاته ذلك المزيج والتلاقح من الرؤية والتأمل والتمسك بتعالقات ذلك المعنى المتسربل في تجليات انظمة مخصوصة وخاصة من حيز متعلقات من الوسائل والوسائط الاكثر عضوية في متن النص (الصورة- الإحالة- العلامة - المرآة) توطيدا جاذبا مع حجم جملة مستويات القصيدة، كفكرة مرسلة في حيثيات الأحوال الاكثر تصعيدا للمحايثة ولبلوغ معرفية الاجزاء التي سوف تكون اكثر تمريرا لحسية الاستجابات لدلالات عدمية موقعة بحسن التصور والأداء، لذلك المعنى في فهم الاشياء وحالاتها عبر الضمير المستتر للحس المرآوي وهويته المسنونة كخاصية، معتمدا في فهمها ما يبدو مرشحا ومعلقا في مجال متحكمات الذات الشعرية ومرادات شكوكها القاهرة على صعيد الخروج من المعنى الظاهر، بالدخول بما يخالفه في الجوهر والحرفية والمسكوتية.

- تقاطعات التعيين المقطعي: أستثنائية الواصلة الربطية

ان الغريب في أمر تجربة حسين عبد اللطيف، كونها علاقات وروابط لأشكال وتلوينات متعددة في الهدف الدلالي كمحورية خاصة في المركز والهامش، اي أن قصيدة الشاعر تقدم لنا في شكلها التلفظي، جملة مكثفة من الحالات التعيينية في الإنشاء والتصور، منها ما تعوزه الوصلات الدلالية والتلفظية أحيانا، ومنها ما بدا كأنه إشارات وعلامات وشيفرات، تستدعي لمن يقرؤها البحث عن واصلات تمد واسطات الجمل بما يناسب القول والحال: فهل معنى ذلك إننا نواجه غياب حقيقة الروابط مثالا ؟ فهي عند المعنى المتني في سياق الدوال، لا تعد بالوظائف الكاملة في خطاب النص؟ ولكننا عندما نتأملها في حدود قصوى من جهة العلاقة الصوغية لعلنا نصادف دوالا مقرونة بوسائط الموضوعة الخاصة من باطن وخصوصية الشاعر، لذا ترانا نصطدم بما يخفيه المحفوف من باطن الدلالة، إنعكاسا بأداة التلفظ التي تتيح لذاتها مسرحة سياقية بالمخصوص والمراد من وراء التلفظ.

1- تفارقية المواضع وفرضية المرسلات القولية:

يتطلب أمر تأويل القصيدة، منا حالات أكثر اندغاما ووعي توطين وظائف ووسائط وخلفيات مؤولة لذلك المحسوس القرائي الذي هو النص في مستووية (الظاهر- الباطن) اي إننا ونحن نسعى لفهم قابليات النصوص الظاهرة، علينا التحلي بذائقة قرائية ما، أما إذا إردنا تأويل باطن النص فعلينا فهم مسميات الأشياء، دون استثناء ما ينافيها من جهة القبول والرفض، سوى الاقتناع بأن للمسمى الوطيد، هنالك مخالفات مرورية له أكثر قبولا منه إذا شئنا الدخول في المعنى التفارقي. ببساطة أن الاشياء المشار إليها في موجهات الدلالات، غالبا ما لا تعكس سوى ما يخالفها في السنن والحدوث الاقراري، فمثلا لو قصد الشاعر معنى ما، لا يمكننا قبوله كما هو عليه حاله، ولا من جهة ما الشاعر يعني حرفيا في ممسرحات دواله، سوى التوافد على المسميات في حدود قرائن مرسومة بشرائط العلامة أو الإحالة أو الترويع في المتشابهة والمخالف في جملة التلفظ، ومعنى هذا فالقارئ النخبوي لايذهب للقصيدة كي يعاين حالات تثير الشبق عنده ولا من ناحية كونها ممارسة لتزجية الوقت ابدا، فكلنا نتناول خطاب القصيدة وكل طموحنا الكتابة عنها بطريقة تبتعد عن ذاتية التشغيل الحسي، اقترابا من ناحية أخرى من اجزاء متعبة من المعنى الأكثر شرودا. فإذا كانت حياة الإشارات في النص الشعري، حالة حيوية في أستيعاب أداء الروابط، فمن الخليق بهذه الإشارات البلوغ بالمعنى في حدود علاقة تصورية مغرقة في الافاق النوعية من المقاصد المستترة. أن القصيدة حقيقة تأويلية تستند في مداليلها وحواملها في مساحة مخصوصة تشغلها حالات لاجتراح في التقاط ما يفوق مواضع الملموس والمعروف والمرئي، فلا يمكننا وضعها اي -القصيدة- في أقرب حافظة للنفايات، لو أكتشفنا مدى ما صنعته بنا من سخافة ومهزلة وتيه في التقزز. قلنا أن حيوية القصيدة الشعرية تكمن في أواصر مؤشراتها وإشاراتها وموحياتها وعلاماتها وتفارقاتها الفنية، فلا يمكننا أن نعد مشروع قصيدة ذاتية مفرطة في إيعازاتها الانفعالية، مكسبا شعريا ما تم حصوله من مغامرة قولية في رسم الخواطر وشرود بها. أقول تتمحور بعض من تجارب الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف تفاعلاوتصالحا، مع مستويات القصيدة المتمظهره بأجدى قابلية التثوير الشعري في الوظيفة والموضوعة والأداء، لذا فإننا نعلم بأن للشاعر في نصه مساحة خارجية في التموين والمقترح الخارجي حالا، وبالموضوعة اطروحة لسبيلا، ولو تعاملنا في حدود الداخل وفقا لعلاقته التفاعلية بالوسائل والفواعل ، لوجدنا مقادير ثقل النصوص في مأخذ وصولاتها الداخلية، ذلك لأن الداخل هو مبعث علاقات التلفظ وجنوحها الافاقي. وقد نحسب لأنفسنا أن بعض قصائد مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب)هي المكمن الصوري في معتمدات الداخل القادمة من إحاسيس لا تشي المفردات على حمل دلالاتها الخاصية، ذلك لأنها مقرورة بوسائط لا يحيط بلفظها ومبلغها سوى الشاعر نفسه، ...انها قصائد تتجاوز مواطن التلفظ بكيفياتها التبليغية، لتتعدى مراسم نزعة الموضوعة وحدودها التقريرية أوالوصفية، انها معرفة شعرية لا تتمسك بجغرافيا التسمية والعنونة النمطية، بل انها صرخة تلوينية جعلت تشحذ لذاتها محنة كيفية التلفظ عن مواطن من الاصطدام في طريق التقاطع الأحوالي. نطالع ما جاءت به جوامح قصيدة (أزرق منتصف الليل) إذ كونها القصيدة التي آثرت لدوالها أن ترتفع عن مستوى مسميات الأشياء، دخولا لها في الاعمق من رسومها اللحظية المستفزة، اي انها تأخذ صفاتها التلفظية من مكامن لوعتها العدمية، لتتحرك نحو غمار دهشة الاستنطاقي في حدود المعنى التشذيري للأشياء:

العتمة

تبحث عن النجوم

والغصون

تبحث عن الوردة

أما الحب

فينتظر الرفقة.

منتصف الليل أزرق./ص357

ترتفع درجات المقابلة الشعرية في بناء علاقة حسية، جعلت تحرض المقاصد تثويرا للمعنى في حدود ترسيمة تعنى ببؤرة التشكيل وغواية التقابل المتمخض عن الرغبة، وما تنطوي عليها بذلك المعطى الاولي من فعالية الفقدان. ولا وجود لأي مشكلة في تراتب النسق الموضعي في ديمومة النوع التلفظي، سوى ان استيعاب جملة (منتصف الليل أزرق) قد حلت في حدود وقفة تعطيلية غريبة، بخاصة وان افعال القصيدة قد أعلنت نهايتها:فما معنى هذا الوضع الإضافي في قيمة النقطة التوزيعية التي وقعت فيها هذه الجملة انفرادا؟ فهل هي ذلك النوع من إعادة التصور بتصديرات المركز الدال؟ أم انها حالة مقحمة للمدى الختتامي من النص؟ . لعل قدوم هذه الجملة من ناحية احوالية وكعنونة للنص، لا تؤشر بذاتها لأي حالة استحالية في روابط وجودها العضوي، سوى المزيد من عملية الارتكان في كينونة جملة تحقيق قوامها التقاطع اللفظي والدلالي إزاء باقي جمل القصيدة تحقيقا. أما من ناحية كونها تشغل لذاتها كمحددا زمنيا، فلا وجود في مجالها إلا التعاقد على وحدة إقترانية ظرفية تلاقيا. أقول أن بالإمكان التدليل على ان بروز الجملة في مركز العنونة وفي ختام النص تتم بطريقة قطعية في مساحة البياض أو الاستفهام، ولكن الجملة حلت في مستوى حالة نادرة من خاصية النوع الدلالي المجتزء، وربما تكون هذه الجملة هي من الاسلوب التبوبي في الاستعداد التحفيزي للدلالة المضمرة، ذلك عندما تكون الأشياء ذاتها وبذاتها تشكل حالة الموحى إليه، اي انها ربما تشغل لذاتها مسرحة سياقية في صعيد المداخلة مع جهة الاخر: (العتمة: استعارة-صفة/ تبحث عن نجوم = قصدية التبليغ في المراد إليها من احوال) وعلى هذا تتبين فحوى عواملية جملة (أزرق منتصف الليل) كونها اعتمادا على خاصية ضرورة التلميح والمجاورة، ولكن ضمن مفهوم معطل في الإطار كخصوصية دلالية لها محمولها وغرضها وقصدها المنيع. وتبعا لهذا النحو وجدنا كيفية حصول (تفارقية المواضع، والاوضاع القولية؟) إذ انها تبدأ في تحقيق وشائجية الارتباط في أوجه من مسلمات الخطابية التقابلية بين سياق الجمل، ثم بالتالي تظهر عدم توافقيتها مع غاية الاوضاع القولية وعناصرها الدالة كمتمحورات البنى التقابلية للنص والنصوص إجمالا.

2- بنية العلامة أم ملمحات علاقات المكبوت الدلالي؟:

ان للقصيدة في مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) جوها كثيرة من التأويل والمعنى المتقلب..اشكالا متعددة، فهي كحاضنة تجمع مختلف ألوان وروائح ونكهات أساليب تجارب الشاعر المنجزة إجمالا، ولكنها لا تعد بمثابة الانموذج الشعري في كل تجاربه الفريدة والمستقرة في النوعية والتركيز جماليا ودلاليا، لتكون هي اللحظة الساقطة من حالات توافقية شديدة التجريب في تجارب اخرى للشاعر نفسه، وليس كل نصوص الشاعر هي جيدة في جل وظائفها ومتحولاتها الدلالية التي نتوقعها بالصورة القصوى. وتبعا لما قلنا سلفا في مباحث سابقة، اي توقفاتنا مع تجارب الشاعر وعلى صعيد مجوعته موضع بحثنا، إذ توافينا منها هالات شائقة من الإحالات والممكنات والادوات الأكثر رؤية في وظائف الرمز والعلامة والاستعارة المسكوكة والسنن، فالبعض من القصائد في هذه المجموعة تعاملات مستفيدة من حدود وخلفية (العلامة- الموضوعة المركبة- الإطر) تماثلا مع كيفيات وتمظهرات ذات العلاقة (الذات- معادلة لموضوعة) بلوغا مأهولا في نطاق حساسية مجردة في الإستجابة الإجرائية في وازعات التمثيل والتجسيد للوظيفة السيموطيقيا.نقرأ هنا قصيدة (الغرور) لنكتشف أن مهام العنونة الايقونية تعاكس محتوى ما جاءت به المقاطع الشعرية:

أثناء ما كنت أسير

عثرت في طريقي

على جناح

ألقت به الريح

بين الحجارة والأوراق الذابلة./ص363

أتذكر جيدا في هذا الصدد، ما تحدث عنه بول ريكور في كتابه القيم (إشكالية ثنائية المعنى) الذي اراد منه في إحدى فصوله، ذلك القول بأن هناك فوارق بين (السميسوطيقا) والتأويلية (الهرمينوطيقا) فراى أنه في الوقت الذي تبقى فيه الأولى منغلقة ضمن علامات، وما يحدث بينها من تبادل للدلالات، بما في ذلك إمكانية حصول التغير المتبادل بين الدلائل، فإن الهرمينوطيقا تبقى ضمن نسق خاص من تفتح العلامات، ولعل القارئ اللبيب يفهم من على هذا النحو ما جاءت به (ثنائية المعنى) على حد تعبير اطروحة ريكور. فالقصيدة تتوحد من خلالها سمات إمكانية في حصول العلامة.بخاصة في قول الشاعر (على جناح.. ألقت الريح) فالمحمول هنا (جناح) كوسيلة دوالية لها من السنن ما يطول كل الجمل التلفظية الإنشائية، لذا مادام مستهل النص يبدأ ب (أثناء ماكنت أسير) فالوازع الإحالي هنا يعود الى أداة المشار إليه بدءا، وليس الى أختزالية دال (الجناح) ولعله هو من الإضافة السياقية، وليس من صيغة المخصوص دليلا، أو هو لربما ايضا الارتياد في التلفظ -إستكمالا- لماهية الموصوف اللغوي في الموضع المشار إليه انموذجا. ولكن ليس ممكنا ان يكون بعد جملة (عثرت في طريقي) مجرد وسيلة في متباينات الوصول التشبيهي او المشبه به، بخاصة وأن الجملة اللاحقة على ورود دال (الجناح) قد جاءت محملة بالتدليل على ان أداة (الجناح) كعلامة مقابلة ل (الغرور) وهذا الافتراض هو من السعة والوضوح على ورود جملة (بين الحجارة والأوراق الذابلة) إذ راحت تعكس لنا هذه الجملة مستوى وحجم العلامة الدالة، على وجود مقامية معنى تفاعلي اخر يحمل وجوها تتوزع وتتعدد في مرجحات طاقتها السيميائية، وتتعادل في مواضع إنتاجها، وليحيل وظائفها الى جملة معادلات موازية لصورة وعلامة الانا العاملية (قلت: هذا صلف الغرور) إذا ان حصولية العلامة تتمظهر لنا محملة بالدلالات الإحالية بطريقة تأبى ان تكون طريقا ملموسا وسهلا، يعاكس علاقتي ( ظاهر المعنى- استبدالية المعنى)خصوصا وإن تحقق العلامات في رحاب الوقائع ليس دائما صياغة شرطية في الإشتراك اللفظي المتاح في محمول المتون النصية، بقدر ما يكون الهوية المتتالية من انحراف ثوابت الأوضاع الى هيئات أوضاعية تكتسي وتكتسب غاياتها من المفعول المفرط للاشياء والذوات كمكونات تأشيرية في مجال وقوعها.

- تعليق القراءة:

لعلنا لا نطمح من وراء دراسة مبحثنا المحوري هذا، سوى بالاقرار بأن ظواهر المعنى بإمكانها من أن تتحول الى ملازمات عديدة من أوجه تعدد الاشكال والانساق والمتون والهوامش، وهذا الامر لايحدث من ناحية قراءة إسقاطية ما، بل تحدث من خلال رؤئ ومعايير قيمية في مواطن تأويلات النصوص الى حصيلة مشروعات في مستوى الثمين من التلقي... أن المقاربة التحليلية في مواجهة الاحتمالات الممكنة والاخرى المنفية في وقائع النصوص، لا تتحقق دون حدوث واقع من إجرائية (المؤول الممكن) وبهذا المؤول نكتشف خفايا وإمكانيات مخبوءة عن أذهان هموم التلقي العابر. لهذا وذاك أقمنا مبررات الاسباب في حصيلة استيعاب جملة محتملات التدليل، امتدادا نحو استبدال مجالات الإنتاج في مستويات المعنى الشعري الممتد الى سلطة معرفية تحكمها الموحيات ومسافة المقاصد المشيدة في خلق متاريس ومستودعات ذوقية من تعدد المعنى في ظواهر المقروء المؤول للمعنى الظاهر والباطن دلاليا.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

في المثقف اليوم