صحيفة المثقف

عند سفينة شهاب الخبر اليقين!!

يسري عبد الغنيوليست موهبة العم بيرم التونسي هي في استخدام العامية الفصيحة أو القريبة من الفصيحة، ولكنها موهبة شاعرية، ترتبط بالتصور الشعري وليست اللغة فيها إلا مطية توصله إلى هذا الهدف الفني .

ونحن لا نعترض على كتابة الأزجال بالعامية (وحتى لو اعترضنا فلن يسمعنا أحد ولا حياة لمن ينادي)، فإن الأدب المصري والعربي بوجه عام يعرف هذا الفن من قديم، ولكنه لا يعترف بأنه شعر، لا بسبب الانتقاص من قيمته كفن من فنون القول، ولكن لسبب آخر هو أن الشعر فن آخر له قواعده وأصوله غير فن الزجل .

وحتى فن الزجل الذي يكتبه بعض الزجالين اليوم، وقد اشتهر بعضهم في وسائل الإعلام شهرة كبيرة لا حدود لها، بل أصبحوا من المقررين علينا في الإعلام صباح مساء يتحدثون في كل شيء وأي شيء، ليس ما يقولونه فنًا يستحق الالتفات إليه، لأنه تكرار لنصوص قديمة معروفة ومنشورة في بعض الكتب القديمة، أخذها بعض الذين يؤلفون الكلمات، أخذوا مطالعها، ثم أضافوا إليها بعض المقاطع التي يسندون بها النص القديم .

ولو أنك رجعت إلى كتاب (سفينة الشيخ شهاب) وهو أضخم مجموعة للأغاني المصرية والشامية لوجدت أن نصف الأغاني التي نسمعها الآن مأخوذة من نصوص قديمة، بل أن هناك مجموعات أخرى للأغاني المصرية مأخوذة بالتمام والكمال منه .

ليس عند وسائل الإعلام شرطة تطبق قانون الملكية الفكرية أو قانون حماية المؤلف، فالشيخ شهاب وأغنياته المجموعة ملك عام، مضى عليه أكثر من خمسين عامًا، وعليه فلن يسمح بمقاضاة أحد، وأذكر أنه ذات يوم ادعى أحدهم أنه مؤلف أغنية مطلعها (عمار يا مصر عمار)، وهذا المطلع ليس له مؤلف، وكان آباؤنا وأجدادنا يسمعونه في شوارع القاهرة أيام زمان، حين يتغنى به رجل الشارع ..

ولكن المشكلة الحقيقية هي الادعاء بأن هذا الكلام شعر مثل شعر المتنبي وشوقي، وأصحاب هذا الادعاء يصممون أحيانًا على أنهم شعراء، مع أن أستاذهم بيرم التونسي كان يخجل كل الخجل من إطلاق لقب الشاعر على نفسه، لأنه كان معاصرًا لشوقي وحافظ، ولو ادعى أنه شاعر لطالبه الناس بقصائد مثل قصائد حافظ وشوقي .

أنت معي حين أقول : إن لغة الشعر في الفصحى، تختلف عن لغة النثر، ولها خصائص دقيقة وقف عندها النقاد منذ القدم، ولاموا بعض الشعراء الذين لم يحسنوا استخدام اللفظ، وأدخلوا ألفاظًا غير شاعرية في قصائدهم، أي أن الشعر له قاموس لغوي خاص، وألفاظه لها جرس أي نغم، وهذه من الأوليات المعروفة في عالم الإبداع الشعري، وقد استخدم بيرم التونسي معجم الشعر الفصيح في بناء إبداعاته، لأنه كان خبيرًا بالشعر العربي عارفًا لأسراره، ولذلك جاءت بعض منظوماته مثل الشعر الفصيح، ولكن بغير حركات الإعراب، واستطاع إدخال أوزان الشعر العربي في هذه المنظومات العامية التي كانت قاصرة على بعض الأوزان المتعارف عليها بين الزجالين .

ولكن حركة العامية التي استشرى أمرها وساعدت وسائل الإعلام والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على إشاعتها، بسبب الجدب الفكري والإبداعي الذي نعيشه وأدى كل ذلك إلى ضياع الشعر الجاد الأصيل، فقد انصرف بعض الشعراء إلى تأليف الأغاني ثم انصرفوا عن الشعر إلى غير رجعة .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم