صحيفة المثقف

إسمي طاعون

جمال العتابيتمضي دقائق من الصمت الملفّع بتساؤل يرسم لي صورة جديدة لأستاذ الكرافيك، لم تكن مألوفة لدي من قبل، ثمة طلبة يمزحون بلا مبالاة، وطالبات بملابس ملوّنة يواصلن همساتهن بخفة وإبتهاج، وممرات البناية تزدهي بالوجوه المتأهبة للحب، كنت أزداد رغبة في الإقتراب من أستاذي رافع،الذي وقف أمام تمثال جبسي توسط ساحة  البناية المشمسة، تجاوزتُ نقطة التردد، وبادلتهُ التحية، إنفرجت شفتاهُ عن إبتسامةٍ عريضة، أبانت أسنانه الناصعة البياض.

تعال عيني... يا جميل.. ياولد ياحلو، بهدوء بدأ الأستاذ رافع الحديث معي، وهو يغمض إحدى عينيه، أمسك بكتفي، كانت يده حنونة دافئة، وبصوت خافت يقول:

أنت يا كامل أحد طلابنا المتميزين، إمكاناتك الجيدة في رسم الكرافيك، تؤهلك ان تتطور، وتنضج تجربتك مستقبلاً، فلدي هاجس يقول انك ستكون فناناً تشكيليا يشار له بالبنان، لكن ثمة مشكلة تكمن في إسمك، حاول ان تعالجها منذ الآن يا كامل. قالها الاستاذ بجدٍ وحزم.

إستجبت لنداء أستاذي بخفة روح، وهو يمسّد شعره المجعّد بلطف وحنان فائقين، بعد أن إستفز وعيي على نحو مباغت، أطرقت مستغرقاً في التفكير، إعتدل جسدي، وسألته بصوت يكاد يختفي من الدهشة، ما المشكلة يامعلمي؟

أسمك يا كامل؟! أسمك، ماالجديد في كامل سعدون؟ آلاف البشر في هذا البلد يختارون أسماءً مكررة، مستهلكة، لا تميزك عن الآخرين، إنتبه يا كامل، طاعون أسم جدك سينقلك إلى التحليق عالياً، مختلفاً، طاعون سيمنحك الشهرة، (صلي) لطاعون منذ هذه اللحظة، سأناديك منذ الآن: كامل طاعون!! تعال ياطاعون، إذهب ياطاعون، سيكون طاعون صديقاً حميما لك.

إختلج الصمت على عيني كامل وعلى أنفاسه، في موقف لا يحسد عليه، هزّ رأسه وإبتسم إبتسامة مقتضبة، بات ينظر  في وجه أستاذه الوسيم، ويتأمله بشغف، وعطرٌ كثيف ينتشر في الأجواء، يولّد لديه رغبة في معانقته. أراد أن يضحك، لكن وجهه تقلص فجأة، إنتابته لحظات صمت، هزّ رأسه دلالة موافقة، إعتدل، وقال لأستاذه وهو يقاوم الدهشة:

أستاذ، منذ سنوات فكّرت أن أبدأ الرحلة، ولنقل (اللعبة)، حين فاجأني أحد الزملاء بالسؤال:هل أن أحد أجدادي قرأ رواية (الطاعون) لألبير كامو؟ شعرت بالصديق وهو يسخر مني، رأيت في عينيه أكثر من رغبة في الإكتشاف، تطلعتُ إليه طويلاً قبل أن أجيب، طافت برأسي أفكار محمومة، قلت نعم ياصديقي، جدي الثالث قرأ الرواية، وتأثر بأجوائها، وإعتزازاً منه بالعمل الروائي وكاتبه، سمّى ابنه (طاعون)!!

هزّ الصديق كتفيه دلالة الجهل، وسألته من جديد، هل تكفي هذه الإجابة ؟ أم أن الأمر يحتاج إلى إيضاح آخر؟

تلفّتَ الصديق، بدا حائراً، جاءه الجواب مالم يكن متوقعاً له، حاول ان ينهي الحديث، بصوت حاد النبرات ليخفف حيرته: إذاً منذ ذاك الزمان بدأ الطاعون!! شكرا لك،

في تلك اللحظة ذاتها، لم يبق بيني وبين أستاذي رافع حاجزٌ يمنع إنفجار الصمت في داخلي، وأنا أقترب منه، لأهمس في أذنه:

وطّنتُ نفسي بهذا الإختيار، لدي إعتقاد ان الله سيشملني ببركاته وعطفه.

إحتملْ هذه التسمية أيها الفنان الواعد، تأمله جيداً، ستجد دفأً لذيذاً في قابل السنوات، لن تتخلى عنه، ستشعر بمزيد من الإعتداد به، سيكون هويتك، كانت عينا الاستاذ رافع لاتزالان بذلك التدفق السخي، تنظران إلي وحرارة الكلام تتسرب إلي، أضمها لجسدي، أتكور عليها لأني أخشى أن تهفت في داخلي.

الظلمة مدّت شحوباً كثيفاً في سماء بلادي... سدّوا منافذ الهواء علينا، وأضرموا النار في الجبهات، يا لقسوة الحروب إذا أنشبت، يا هولها ضياع الأحلام... إحمل (طاعونك) معك يا كامل، وإهرب، فثمة ما يشلّ أصابعك، ويسلب أسرار اللون فيهما، ويعطّل مشروعك الجمالي، إرحل فالوطن قتيل، وهناك في بلاد الثلج والشتاءات الماطرة سيكون إسمك TOWAN....

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم