صحيفة المثقف

صورة من صورِ ذاكرة الخوف

عبد الرضا عليحين تزرع المنظَّمة السريّة عيونها في الجامعات

وتجعل من الطلبة وكلاء مخبرين

ـ 1 ـ

عملتُ في جامعة الموصل خمسةَ عشرَ عاماً درَّستُ خلالها طلبة قسم اللغة العربيّة في كليَّة التربية دروساً عديدة، منها: موسيقى الشعر، والأدب العربي الحديث، واللغة العربيّة لغير أقسام الاختصاص، والنقد القديم، والنقد الحديث، وأصول تدريس اللغة العربيّة، وغيرها، فضلاً عن تدريسي لطلبة ماجستير اللغة العربيّة في كليّة الآداب .

 وفي سنة من السنوات أنيطَ بي تدريس (الكتاب الحديث) لطلبة المرحلة الرابعة، فاقترحتُ على قسم اللغة العربيَّة الذي كان يرأسه العلاّمة الدكتور طارق الجنابي أنْ تكون رواية الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) التي تعالج ظاهرة الصراع بين الشرق والغرب رمزيَّاً هي الأنموذج لهذه الظاهرة التي شاعت في تلك الحقبة، وأن تكون روايتي: (قنديل أمّ هاشم) لـ يحيى حقّي، و(أصوات) لـ سليمان فيَّاض مكمّلتين لدراسة هذه الظاهرة في التوظيف الفنّي تطبيقيّاً.

 فوافق الرجل، واستحسن الفكرة، لأنَّ تدريس ظاهرة أدبيّة من خلال هذا الدرس أنفع علميَّاً، فاقتنتِ الكليّةُ نسخاً كافية من الرواية، وقامت بتوزيعها على طلبة المرحلة الرابعة من قسم اللغة العربيّة مجَّانا، وبدأنا بقراءة الرواية فصلاً فصلا، وقمنا بما يقتضي الدرس من تحليل، وتفسير، والوقوف على التوظيف الفنّي للظاهرة مروراً بروايتي: يحيى حقّي، وسليمان فيّاض، وكيف عالجا الأمرَ فكريّاً، وفنيّاً.

 وفي منتصف الفصل الثاني، وقبل انتهاء الدوام الجامعي بساعة تقريباً كلَّمني السيّد رئيس القسم بهمسٍ قائلاً: إنَّ السيّدَ العميد الدكتور محيي الدين توفيق طلبَ أن تجييبهَ على سؤال يتعلَّق بالجنس الذي تشيعه رواية الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) التي تقوم بتدريسها، وما قد تسببه الرواية من نشرِ الفاحشةٍ بين طلاب الكليّة، مضيفاً أنَّ طالباً من طلابك قد رفع تقريراً بذلك إلى أمين سرِّ فرع الموصل السيّد وليد إبراهيم الأعظمي⁽¹⁾، وأنَّ أمين السرِّ أحال التقرير للسيّد العميد على نحوٍ سريّ، لكونِ عميد الكليّة عضو قيادة فرع الموصل، وينبغي ألاّ يعرف أحدٌ بالأمر. فالتمستُ من الدكتور رئيس القسم أن يوجه لي السؤال مكتوباً، وسأجيبُ عنه غداً بالتفصيل، لكون إجابتي تحتاج إلى وقتٍ كاف، ونحنُ الآن على وشك مغادرة الكليّة، فكتب الرجلُ السؤال، وسلّمه لي، وخرجتُ مسرعاً.

2201 عبد الرضا علي والطيب صالحالطيب صالح     و     عبد الرضا علي

ـ 2 ـ

 سهرتُ تلكَ الليلة في كتابة الإجابة، وكنتُ دقيقاً في توضيح ظاهرة الصراع بين الشرق والغرب، واستشهدتُ بمقاطع من الرواية، فضلاً عمّا قاله نقادٌ لا معون فيها من تمجيد؛ وفي صبيحة اليوم التالي سلَّمتُها للدكتور طارق الجنابي، وبدأتُ أفكِّرُ راغباً في معرفة من كتب التقرير، وانتظرتُ النتيجة، ومرّت الأيام ثقيلةً بطيئةً مضنية.

 وتوضيحاً لما جاءَ في بعض إجابتي (الاستجوابيّة) التي رفعها العميدُ إلى أمين السِّرِّ ذكرتُ الآتي: .... رواية المبدع السوداني الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) تعالج قضيّة الصراع بين الشرق المُستعمَر (بفتح الميم) والغرب المستعمِر (بكسر الميم) أيّام السيطرة الإمبرياليّة، والاحتلال الأجنبي للبلاد العربيّة، فالسودان كان واقعاً تحت الاحتلال الانجليزي، وسورية كانت واقعة تحتَ الاحتلال الفرنسي، كذلك كانت مصر قد تعرّضت للغزو الفرنسي أيّام نابليون، وهكذا بقيّة البلدان، وحين استطاعت الشعوب العربيّة المستلبة ردَّ اعتبارها، وتخلَّصت من الاستعمار، ونالت حريَّتها، وأعلنت استقلالها، فإنَّ بعض المبدعين من كتّاب السرد الروائي حاولوا أن يعالجوا قضيّة استلابهم فنيَّاً، وكان الطيّب صالح واحداً منهم بوصفه سودانيَّاً مغترباً، وواحداً من المستلبين أيام الاحتلال الإنجليزي، فرأى أن يكون بطل روايته واحداً ممَّن يردُّ استلاب شعبه، فجعلَ بطلَ روايتهِ يوحِّدُ بين قضيّته، وذكورته، كما يوحّدُ المغترب بين الأنثى والغرب على وفق ما جاءَ في الدراسة النقديّة العظيمة التي كتبها المفكّر السوري الحصيف جورج طرابيشي في كتابه القيّم الموسوم بـ (شرق وغرب: رجولة وأُنوثة) وهو دراسة قيِّمة نادرة في أزمة الجنس، والحضارة في الرواية العربيَّة، عالج فيها قضيّة المغترب بأُسلوب التحليل النفسي، وجعل قضيّة الجنس ضرورة فنيّة، فضلاً عن كونها رمزيَّة في الأداء والتطبيق، ممَّا جعلَ النقادَ العرب يُطلقونَ على الطيِّب صالح عبقريّ الرواية العربيّة.

 أمّا الجنس الذي يردُ في لهاثِ السيّدة العجوز السودانيَّة في تلك الرواية، فهو توظيف رمزي للأمَّة حين تكون منخورة من الداخل، وعلى وفقِ هذا الترميز الفنِّي جرى توظيف المعالجة لهذه الظاهرة في رواية موسم الهجرة إلى الشمال.

 لكنَّ الجنس الحقيقي المكشوف يردُ واضحاً في أدبنا القديم وضوح الشمس في رابعة النهار، ولم يكنْ ثمةَ اعتراضٌ عليه، مع أنه لم يكن ترميزاً فنيَّاً، كما في لاميّة امرىء القيس التي يقولُ فيها:

تقـولُ وقد مـالَ الغبيطُ بنا معـــــــاً

عقرتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزلِ

فقلتُ لها: سيري وأرخي زمامَهُ

ولا تُبعديـني مـن جنـاكِ المعلَّلِ

فمثلُكِ حُبلى قد طرقتُ ومرضـعٍ

فألهيـتُها عن ذي تمائمَ محـــــوَلِ

إذا ما بكى من خلفِها انْصَرَفتْ لهُ

بِشِـقٍّ وتحتي شِقـُّها لــــــــمْ يُحوَّلِ

 

 ويكلّفُ طلابُنا باستظهار هذا التشبيب، وشرحه، ومعرفة خصائصه، فاسمحوا لي يا سيادة العميد أنْ أقول، (وأظنُّ ظنّاً يكاد يصل إلى اليقين): إنَّ لبساً قد حصلَ في فهم هذا الترميز ليسَ غير، ولكم القرار.

ـ 3 ـ

  وبعد أيّام تمَّ حفظ القضيّة، وغلقها لاقتناع العميد، وامين سرِّ الفرع بما كتبتُ، لكنَّني رجوتُ السيّد رئيس القسم أن يوضّح لي ملابسات التقرير، ومن كتبَهُ عنِّي، كي أحترس منه في قابل الأيّام، فوعدني خيراً، وبعد مدّةٍ قصيرة أخبرني العلاَّمة الجليل الدكتور طارق عبد عون الجنابيّ الذي كان يحميني دائماً من جمهوريّة الخوف، ومنظَّمتها السريّة، أنَّ الذي كتب التقرير كان أحد طلاّبي العاقّين المدعو (غزوان العاني) وكان غبيَّاً جدّاً، وسبب كتابته لذلك التقرير هو رسوبه في المادة التي كنتُ أدرّسها لمرحلة السنة الرابعة، علماً أنه تخرّج في الدور الثاني، وجرى تعيينه بعد ذلك مدرّساً للغة العربيّة مكافأةً له على غبائه العلمي، وحقدهِ اللئيم، وما تحملهُ نفسه المريضة من ضغينة على أساتذته، وقرّرت الكليّة بعد ذلك الاستجواب إلغاء تدريس تلك الرواية، واختيار كتابٍ حديث آخر.

 

أ .د. عبد الرضا عليّ

.......................

إحــــالات:

(1) تمَّ إعدام أمين سرِّ فرع الموصل لحزب البعث العربي الاشتراكي (وليد ابراهيم الأعظمي) بعد حين من الزمن بعد أنْ اتُّهمَ بالاشتراك في المؤامرة التي عُرفت بـ مجزرة الرفاق في 22 تموز سنة 1979م، التي أمر فيها صدام حسين بإعدامِ اثنين وعشرين من رفاقه، فضلاً عن حكمه على ثلاثةٍ وثلاثين من الآخرين بالسجن بأحكام مختلفة .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم