صحيفة المثقف

محمد لمعمر: وظيفة الفضاء العمومي عند يورغن هابرماس

محمد لمعمر"الفضاء العمومي؛ مجموعة من الأشخاص الخواص يجتمعون من أجل النقاش حول مواضيع تكتسي طابع المصلحة العامة أو المصلحة المشتركة".

Nancy fraser (repenser l’espace public : une contribution à la critique de la démocratie réellement existante, pp. 103-134.

إن المجال العام بالنسبة للنظريات السوسيولوجية عامة، والفضاء العمومي عند هابرماس خاصة، مجال تنازع المصالح والمنافع الذاتية، لأن الفضاء العمومي ليس وعاء فارغا، ولكنه مملوء بالذوات المتفاعلة فيما بينها، حيث الحرص على المنفعة والمصلحة، وسعي كل ذات للبحث عن تحقيق الرغبات، الأمر الذي يؤدي إلى تحرر الأفراد في بعض الآحيان من سلطة الدولة، والتنصل من المبادئ وقواعد الفضاء العام. لذلك، وخوفا من تقويض أسس المجال العمومي، كونه وسيطا بين الدولة والمجتمع المدني، لا بد من توفر مجموعة من الشروط: كضرورة تفعيل العقلانية العمومية والحجاجية، وفتح المجال للنقاش العلني الحر عبر وسائل الاعلام، باعتبارها مجالات ينشط فيها السلوك الاحتجاجي المعقلن المبني على ضرورة تحقيق الصالح العام. فبداية النقاش السياسي والعقلاني في الفضاء العمومي، معناه، الحد أو التخفيف من السلوكات العدوانية والقضاء على جميع الافعال السلبية كالظلم والاقصاء والتهميش والنبذ.

لذلك، وحرصا منا على البعد المنهجي في الدراسات السوسيولوجية، سنوضح في مقالتنا كيف أن هابرماس جعل من الفضاء العمومي، عالما مصغرا ومشتركا، خاضعا لقواعد الضبط الاجتماعي التي تؤطر وتنظم المجال العمومي، وتسمح بالانتقال من مجال الرغبة الذاتية، والعلاقات الحميمية داخل الأسرة إلى مجال القاعدة لضبط العلاقات التي تنتج بناء على اللحمة الاجتماعية. فالفضاء العمومي الهابرماسي، يجسد نموذج الوساطة بين الدولة والمجتمع، بين الأفراد والمؤسسات، وبين الأفراد فيما بينهم، لجعل العلاقات البينذاتية مؤطرة بالنقاش العقلاني المبني على الحجج. مبرزين أهمية الحديث عن الفضاء العمومي الهابرماسي.

الفضاء العمومي حسب هابرماس، هو مجال لعقلنة الفعل، وذلك بضبطه والتحكم فيه ليصبح فعلا استراتيجيا يخدم المسائل الحيوية ذات الطابع العملي. بغية تعظيم القدرات العقلانية وتفعيل الحداثة والتنوير. فغاية الفضاء العمومي هو التقاء الأفراد لنقل المعلومات من شخص إلى أخر، والبحث عن نقطة التلاقي التي تتيح إمكانية تعظيم الكفايات العقلانية للفرد، باستخدام الحجج المولدة للنقاش العمومي، وتحقيق المواطنة ما فوق الوصاية، بإلغاء العوائق التي تحجب الاستعمال العمومي للعقل، وتؤدي إلى الاعتراف التلقائي بإمكانية تقديم الأراء حول ما يجمعهم من مصلحة مشتركة، بما في ذلك الاعتراف بالوجاهة الاجتماعية، وفي ذلك تفعيل لمبدأ سوسيولوجي يتمثل في رمزية حضور الذات بناء على الحاضنة الاجتماعية. وأساس ذلك تفعيل العقلاني المحجم للهوى، والكابح للذة التي لا تستقيم والاتفاق الاجتماعي.

هابرماس حدد الوظيفة السوسيولوجية للمجال العمومي بناء على الطبيعة والأساس والهدف والوسط، مبينا أن الفضاء العمومي يتحدد انطلاقا مما يخرج من إطار الذاتي والحميمي إلى الجماعاتي، حيث الطبيعة المفتوحة القائمة على الإشهار والإعلان والتعبير الحر عن الموقف، والاستخدام الحر لعقل الفرد، في أفق خلق توافق بين إرادة الذات وإرادات الأفراد، شريطة الانضباط لقواعد اللحمة الاجتماعية. فالفضاء العمومي بالنسبة لهابرماس مؤطر بالنقاش العمومي المفتوح، حيث إثارة قضايا الشأن العام كأرضية مشتركة للنقاش، عبرها ينشط ما يحسب على الحميمية، وبين مجال أخر يحسب على السلطوية. لذا، استحق المجال العمومي أن يكون ألية حداثية سوسيولوجية لتفعيل الحلول السلمية، وتساكن المصالح خدمة للمجتمع، وتلاقح الأفكار، وتفاتح الألسن، لأن الأصل في الفضاء العمومي كونه مدنية العقل، واعتماد أدوات سلمية حجاجية قائمة على شرط التواصل والاحترام التي هي شروط وموجبات العيش المشترك. فكيف يمكن للأفراد أن يتفاعلوا داخل المجتمع؟ وماهي شروط استمرارية المصير المشترك؟

إن الدولة كيان عاقل، ضروري كإطار مؤسساتي مالك للقوى العمومية، وحائز على العنف المشرعن وفق تعبير ماكس فيبر، لذلك، يجوز لها وفق القانون اللجوء إلى إعمال القاعدة التي تؤطر ما ينمي الحاجة للسلم والمراقبة والتحكم. وما بين الدولة والمجتمع يوجد الفضاء العمومي، المرسخ للنقاش، بغية الاعتراف  أولا، وتحقيق الإنصاف ثانيا، هذا الأخير هو المؤدي إلى الشرعية في حقل الفاعلين، بمعنى أخر؛ أن الفضاء العمومي وفق المقاربة السوسيولوجية لهابرماس يجعل الفرد يحتل موقعا ضمن خريطة الفاعلين، ومن ثمة فالاعتراف هو أساس الشرعية، الاعتراف المؤدي إلى الوجاهة الاجتماعية، وتهميش الاعتراف معناه، الخروج من الشرعية، دون نسيان العلاقة الجوهرية بين الفضاء العمومي وقاعدة الإعلان بغاية البروز في الفضاء العام لتحقيق المصلحة أو حيازة موقع يؤدي إلى وجود مساحة للاعتراف.

الفضاء العمومي، مبني على ضرورة حضور الحجاج العمومي لتفعيل العيش المشترك، والتنازل عن جزء من المصلحة الشخصية، والدخول في سلوكيات مشتركة يمكن الاصطلاح عليها بسلوكيات المدينة أو الفضاء العمومي، وعليه، فالفضاء العمومي مجال للتفاوض حول المصالح المجموعات، مصالح تتنافر فيما بينها، والأصل هو السيادة، وإمكانية الاعتراف بالشرعيات السياسية، التي تنشط داخل الفضاء العمومي وتتنازع فيما بينها، لكن، بطريقة عقلانية سلمية وحجاجية قائمة على مسارات واختيارات وتوجهات معقولة. النقاش العمومي يساهم في إظهار الأراء القائمة على الحجة، التي لا تغيب العقل، وتصبح الحرية فعل معقلن، وموجهة لخدمة الصالح العام. فالتاريخ الحديث، تاريخ الأنوار شاهد على البزوغ الرائع للنقاش العمومي كوسيلة لظهور فكر المجموعة، بحيث وضح هابرماس كيف برزت اجتماعيا البرجوازية كفئة، وكيف تشكل الوعي لدى الطبقة البرجوازية، وكيف خلقت الرأسمالية كطبقة اجتماعية ذات مصالح أطرت سياسيا، المواطنة الحديثة ما فوق الوصاية والحد من سلطوية البلاطات الملكية.

فالمجال العمومي وفق المقاربة السوسيولوجية الهابرماسية، هو مجال وسيط بين المجتمع ومالك السلطة السياسية، وبين المجتمع والمؤسسات، بمعنى أخر، ان المجال العمومي، هو إطار وسيط يؤطر علاقة المجتمع بالمؤسسة، وهو لقاء بين أفراد خارج اللقاءات الاعتيادية، التي تتم داخل الأسرة مثلا. الفضاء العمومي، هو وسيط بين لقاء حميمي عمومي، وحميمي داخل المؤسسات، حلقة بين- بين، بين الأسرة والمؤسسات العمومية. لذلك، لا بد من تنمية ثقافة الحوار والتفاوض على المصالح دون اللجوء إلى شكل من أشكال القوة، فالحوار هو التعاطي السلمي، والتواصل المعقلن، وفق شروط جامعة مانعة. وخلق تعاقدات، بدونها نكون أمام نزوات فردية شخصية لا يستقيم عليها العيش المشترك، والنتيجة الدخول في تنازعات لا حدود لها. وكل حديث عن الفضاء العمومي يقتضي بالضرورة إبراز العلاقة الوطيدة بينه وبين الديموقراطية في الفكر الاجتماعي لهابرماس، لأن الديموقراطية تترسخ كممارسة فعلية عن طريق مجموعة من المؤسسات، وخلق نقاشات عقلانية عمومية حول قضايا الشأن العام. مناقشة ديموقراطية تضمن المشاركة الفعالة لجميع المواطنين في النقاش العمومي، فلا فضاء عمومي بدون نقاش، ولا نقاش بدون ديموقراطية.

إن أهمية النظرية السوسيولوجية الهابرماسية حول الفضاء العمومي، تكمن في كونها تأخذ بعين الاعتبار وضعية الفعل الإنساني التواصلي، والسياق الاجتماعي الذي يؤطر الفعل، وهو سياق يتأطر وفق مفهوم النسق. بمعنى ان هابرماس ينظر للمجتمع كنسق وعالم معيش، فالفضاء العمومي ليس مجرد ذوات منفصلة ومتباعدة ومنغلقة، وإنما هي ذوات متصلة ومتفاعلة فيما بينها، الأمر الذي يؤكد دمج هابرماس لعقلانيات أخرى داخل الفضاء العمومي، كالعقلانية التواصلية والعقلانية الأداتية.  غاية الفضاء العمومي، ترسيخ استقلالية الفرد في أرائه، وأخذ مسافة عن ممارسة السياسة، للتفاوض على موجبات العيش المشترك، وفق الشفافية والمسؤولية والديموقراطية، والفضاء العمومي هو الحاضن والمؤطر، يحتضن إمكانية مراقبة السلطة السياسية، وتتبع مسار اتخاذ القرار السياسي ونقده.

 

محمد لمعمر

أستاذ الفلسفة، وباحث في فلسفة القانون - المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم