صحيفة المثقف

سامي عبد العال: دوِاعِش الفلسفة

سامي عبد العالمن الجذر اللغوي الحديث" دَعِشَ"، تأتي مجازاً للتوضيح مفردات مثل: الدَاعِشيَّة، الاسْتدْعَاش، التَّدَعُش، المُسْتَّدعِش، الدَاعِش، الدَعْدُوش، الدَعْيِدش، التَّدْعِيْش، الدَّعْشنَّة، التَّداعُش، أي دَعِش دعْشاً فهو داعش... وجميعها ليست حُروفاً تتناوب الترتيب على خريطة الدولة الاسلامية في العراق والشام طبقاً لاشتقاق اسمها، بل هي معانٍ تقف على أرضيةٍ واسعةٍ من الثقافة التي تشكل الأفكار ورؤى الحياة. ناهيك عن الإشارةِ إلى تنظيم داعش العولمي الذي استباح القتل وإقامة الخلافة فوق خراب المجتمعات العربية.

إنَّ الداعشيةُ لا توازي النُتوء الجغرافي لجماعات يربطها بالديانة الإسلامية أو غيرها رباطٌ تأويليٌّ تكفيري للنصوص المقدسة وحسب. فكما جاءت المفردات السابقة آليات وممارسات تمرح على خريطة الدماء التي كانت مُراقة يومياً دون توقف، كذلك أظهرت جذورها الثقافية البعيدة والمتفرقة التي لا تنتمي إلي قطاعٍ واحدٍ حصراً.

من تلك الزاوية لا تعدُّ الداعشية ظاهرة محدُودة المعالم، لكنها نتاجٌ أخير لجوانب إضافية- زائد الجذور الدينية- في الثقافة العربية الاسلامية. يمكننا القول بوجود دواعش في السياسة ودواعش في الفن ودواعش في الفكر ودواعش في المجتمع ودواعش في المؤسسات ودواعش في التعليم ودواعش في الحياة الجارية بمسميات خادعةٍ وبراقة. هم يمارسون أدوارهم بتكتم مُريب وتوظيف أخبث ما يتصور المتابع لأفعالهم وأفكارهم. التعميم ليس قفزاً مُخلَّاً بالمعالم البنائية للتدعيش بمعناه الديني الإرهابي، لكنه يضعنا أمام الأساليب والمفاهيم العنيفة لانتهاك الآخر والمجتمع بضربةٍ واحدةٍ. الدواعش هنا وهناك (داخل الدين وخارجه) يؤدون المهام نفسها ويتماثلون في الاعتقاد ويتبادلون اعتماداً راجعاً إلى أوبئة الثقافة العربية التي تغذي تلك المعطيات.

وإذا كانت الداعشية هي التطور الأبرز انحرافاً لمسار الجماعات الإرهابية، ففي أحسن الأحوال ثمة جوانب من الحياة اليومية دفعتها إلى السطح كاتجاه له معالم دينية خاصةً. بحيث سيكون النظر مُركَّزاً نحو الارهابيين غافلاً عن سواهم الأشد فتكاً. إنَّ الحقيقة الثقافية أكبر من ذلك بكثير، الداعشية ظاهرة فكرية وأيديولوجية تُغرِق بنية مجتمعاتنا العربية وتنتج نفسها في مجالات ثقافية متباينة ليس أوضحها في مجالات الاعتقاد والتدين.

دوماً الثقافة العربية الاسلامية التقليدية تحصُرنا داخل زاوية ضيقة للاختيار بين بدائلٍ ما، حتى تمارس مركزية بعض معالمها العنيفة. وهذا لا يعني بالضرورة وجود بدائل بمعناها الحر والمفتوح، لكن من مكر واقعها أنَّه يحتم عادةً تفريغ صورته المأزومة في أشكال عينيةٍ هم جماعات العنف الديني ورموزها فقط وحصرياً. حتى إذا تم مواجهة الواقع بصورته الكئيبة كان برئياً مما يجري على المدى التاريخي الطويل. ويحدث أن تتحمل تبعات العنف كتل تنظيمية مثل الارهابيين بعينها إزاء مظاهر الحياة، إذ يأتي العنف دوماً مبرَّراً في غير أوانه. في حين أنه لا يوجد عنف ديني طازج كأنّه خارج لتوه بكل ملابساته وأسبابه. لأنَّه مشحون تاريخياً بأزمنة عميقة الأبعاد فيما لا نراه الآن من النكوص الحضاري والفهم الدموي للدين.

اتساقاً مع ذلك إذا حفرنا وراء العنف وصوره المراوغة نجده منتشراً في أكثر الاتجاهات نعومة واحتماء بمقولات التسامح والتنوير والعقلانية وحتى التمرد والثورة أيضاً، بحكم أنَّه وليد البيئة التي تضم الأفعال وتعيد انتاجها. معنى ذلك أنَّ مفارقة العنف في الثقافة العربية قد تجيئ برداء الانفتاح بالدرجة ذاتها التي تحمل انغلاقاً لتوجهات أخرى. على سبيل المثال تجد أحد المثقفين مهووساً بتكرار مقولات التنوير والنقد والتنوع تجاه استعمال العقل مع الإلحاح العنيف على ما يقول. وكأنَّه ينحت عقولَ متلقيه بشكل حتمي وقد تحول إلى فارز للأفكار بطريقة الأيديولوجيا. ولو حاد أحدٌ من أتباعه عن الطريق، سينال الجزاء الرمزي مثلما يحدث لأتباع الديانات حين يخرجون عن مسار شريعتها. وتباعاً يتعامل هذا الداعية الجديد مع الفكر، كأنَّه يمسك بمقادير الأشياء صانعاً من نفسه سلطةً فوقيةً لا تنزل إلاَّ في عبارات واجبة اليقين.

هكذا بتنا نرى في مجال التنوير إقصاءً باسم الفكر، حتى أنَّ دواعشه كوَّنوا طبقةً من اللاهوتيين الأقحاح الذين يتصرفون بالأفكار كما تتصرف جماعة الفقهاء والقساوسة والحاخامات بأمور الدين. وبتنا نسمع أنَّ هناك إلهاماً خاصاً من إيمانويل كانط الذي يأمرهم باستعمال عقولِّهم بجرأة دون سواهم. وقد اجتروا عنف الخطابات الميتافيزيقية غير سامحين بأي انفتاح للآخر ولا اعطائه مساحة للاختلاف.

وهذا الأمر يمثل شيئاً فاجعاَ:

1- يضع صاحب الأيديولوجيا والمُنظِّر لها معياراً مطلقاً دون مساءلة. والإطلاق قد يكون في الخطاب نفسه الذي يختزل الواقع والمتلقي معا في صور معينة.

2- يشرِّع نوعاً من العقاب الرمزي كوسيلة إدارة للأفكار والحوار بين المختلفين. على سبيل المثال قد يعتبر أحدهم أن الخطاب المضاد لليبرالية مثلاً خطاباً عنيفاً دون أن يدرك كونه يحول الليبرالية إلى لاهوت.

3- يجعل من الصراع الدموي هو الغالب بصورة أو أخرى في جوانب المجتمع. لأنه يرى في أن مصدر الصراع واحد وأن معايير التخلي عنها واحدة هي الأخرى.

4- يقضي تدريجياً على اختلاف العقول وينمطها وفقاً لقوالب واحدة. لأن الالحاح على شيء ما ولو كان يمثل مناط التنوع إنما هو تجميد له على وتيرة بعينها واستبعاد غيره بالوقت نفسه.

5- لا يسمح بما هو جديد مهما يكن. لأن هناك نموذج جاهر سلفاً على من يفكر أن يمتثل له وفقاً لمحدداته.

6- يجتر الماضي الغابر من التقاليد المستبدة والسلفيات القمعية. لأن التعددية لو كانت متصلبة بمنطق سواها بزعم أنه الحقيقة التي يجب الأخذ بها سرعان ما تنقلب إلى نقيضها تماماً.

في إطار كهذا قفز ما يمكن تسميتهم بـ" دواعش الفلسفة" كظاهرةٍ ناتجة عن غياب أصالة الفكر وادعاء المعرفة واستسهال الكتابة ونهب الفرص المتاحة للظهور، بالوقت نفسه تزامن ذلك مع احتياج الواقع العربي لملء الفراغ العقلي الراهن. إنَّهم أرتال من الأساتذة وكتاب الفلسفة ودارسيها الذين يلتزمون بأوهام متصلبة إزاء الواقع وداخله. وقد ظنوا أنهم يمثلون نحلةً هم انبياءها والناطقون وحدهم بلسان " الغيب الفلسفي " بعيداً عن آفاق الفكر الحر والتطور والإبداع الخلَّاق. وكأنَّ العِوز العقلي الذي نعيشه قد نَصَبَ " سوقاً ثقافياً" لتسليع الأفكار والعقول كبضائع تدخل من باب المواصفات العالمية لما يماثلها في ثقافات محلية أخرى!!

حقاً ينتدب " دواعش الفلسفة" أنفسهم ليقدموا الأفكار بصيغة الوصاية، فهم العارفون – من وجهة نظرهم- بالتنوير وهم حملة مشاعل العقل وآلهة الأوليمب الجُدد في ردهات العالم العربي. وحين يوجه لهم انتقادات ينتفضون باتهام سواهم بعدم فهم علاقات التنوير بالمجتمع كما يفهمونها هم، ولا يدركون أبعاد العقل كما يتمثلونها هم، ولا يتشوفون إلى الحرية كما جاءت إليهم وحيّاً!!

دواعش الفلسفة اخترعوا فكرة التنظير المباشر دون أنْ يعترفوا بتطبيقه على أنفسهم. هم ديكتاتوريون في سترات حمراء كإشارة إلى تفجير من يقترب من حدودهم. يمجدون تاريخهم العلمي وتوجهاتهم الفكرية كأنهم يؤدون شعائر علنية في إهاب الحقائق. وبذلك يهدرون أبرز ما في العقل من احتمال التنوع والتطور ومراجعة تاريخه بأكثر المعايير صرامة ونزاهة وموضوعية حتى تجاه نفسه وبصدد أخص ما ينتمي إليه.

على أي حال هؤلاء الدواعش كثيراً ما ينفُر منهم الناس، لأنَّ الثقافة تستدعي جوانبها في لحظات تاريخية وتعلن في زمن ما عن تصادم المصالح وصراع الرغبات. ولا سيما أنَّ مجتمعات العرب تمر بأقسى درجات الاختبار البنائي منذ نشأتها. فالتحولات الربيعية في بداية القرن الحادي والعشرين خلخلت أركانها وجعلت الدواعش بأنواعهم ينفرزون بسهولة أمام النظر النقدي. فهؤلاء يقعون في فخاخ " التكفير الثقافي " بموازاة " التكفير الديني". مما يعني أنَّ إمكانية تجنبهم أمر وارد طالما يطلع المتابع على نتاجات ثقافية أخرى وينوِّع رؤاه عارفاً خلفيات الأفكار الرائجة.

أما الفصيل الأشد خطراً وتدميراً من "دواعش الفلسفة"، فهم هؤلاء المحتالون الذين يتربحون من وراء الفكر والمعرفة إلى حد التسوق الرخيص وعرض الخدمات لكل مسئول قزم ونيل ما لا يستحقون من الحظوة التافهة. هم أشد قسوة من المجرمين المخادعين، فلا يعبئون بأيَّة مسؤولية تُمليها عليهم قيم النقد وحرية الفكر ويبتذلون في ترويج بضاعتهم لمن يشتري. يتساوى في ذلك انصاف المواهب (على أنهم عباقرة بغلبة ثقافة البهلوانيات) مع المتذللين للسلطة القائمة واللاهثين خلف المناصب أينما حلُّوا.

وهؤلاء يعتبرون التنوير مجرد حيلة لمجاراة السلطة، أي لاكتساب أكبر مساحة من النفوذ في الواقع الموبُوء. تجدهم في خدمة أية سلطة مقدمين قرابين الولاء والطاعة نتيجة تقزمهم الفكري. إنَّهم كارثة في مجتمعاتنا العربية التي تحاول لملمة وجودها المهترئ وإعادة صياغة تاريخها الذي انفرط عقده حد الجنون. ويزيفون قيم التنوير الحقيقي التي أسهمت في تطور المجتمعات، يعتبرونها " قوارير براقة" مثلها مثل المشروبات الغازية التي تسهل هضم الأكلات الدسمة من الاستبداد السياسي والديكتاتورية.

أفدح ما ينشرونه هو تلوين المواقف والقيم بحسب المصالح وإضاعة أهمية الفكر في نشر الوعي الحقيقي وتعرية الواقع بما يكافئ وجوده التاريخي الفعلي لا المزيف. ونظراً لتلاعبهم بقدرات العقل يؤكدون خفة الحقائق ويغطونها في دهاليز التزلف لمزيد من الرواج الدارج منتظرين مزيداً من الأرباح. إن التنويري الحقيقي يتحمل وطأة الواقع واستبداده وقد اختار الإنسانية فينا والعدالة والإنصاف وقيم الحق والتغيير لا احياء البهلوان داخل بطون عربية خاوية (الفقراء) وعقول فارغة.

حين أشار كانط إلى جرأة استعمال العقل في المجال العام، لم يستثنِ أيَّ فرد من ذلك ولا يعني أنه يدعم مراوغة الفكر الحر والتسلق على أكتاف البسطاء واستسهال طرق النقد وتغليب المحسوبية واتخاذ المواقف المائعة. إن التنوير قوة حقيقية في الواقع تحتاج إلى قدرات المقاومة والتحرر ومجابهة السلطة الغالبة وإن كان صاحب تلك المهمة جزءاً من وجودها العام.

إنَّ أكبر السلبيات على من يتحدث حول العقل وبناء الفكر هم أصحاب مهمة التفلسف، لأن التزييف لن ينتج إلاَّ مفاهيم متخلفة ستحتاج عقوداً لغربلتها والتخلص منها. كما أن اشتغالهم على أسس الوعي يدفعهم لتدمير بذور التحرر من قيوده. والثقافة العربية من تلك الجهة كانت وما زالت بنية تاريخية تكرر التزييف المؤسَّس بقوة الواقع الغالب. أخذت أشكالها المتنوعة من القبيلة إلى العقيدة إلى الخلافة إلى الولاية إلى الدويلات إلى حقبة الدول المستعمرة إلى الدول القومية ما بعد الاستعمارية إلى صورة الدول المتأرجحة الحالية التي تحمل ما سبق جميعاً. الميراث مترحل ومتزحزح إلى درجة الهيمنة، نتيجة تشوُّه المبادئ والقيم والأعمال والأحداث والأفراد والجماعات والمؤسسات.

ذلك كله ترسب في ممارسات دواعش الفلسفة والفكر تحت عناوين المعرفة أو الثقافة مستعيدين هياكل القبيلة والذود عن مصالح الراعي الذي يسوس عشيرته بعصى النفْرَّة والغلبة. ونتيجة أنَّ هؤلاء لا يترعرعون إلاَّ في عصور الغسق والانحطاط بلغة هيجل، فهم الديدان التي تطفو على سطح الجيف. هم بُوم بلا حكمةٍ إلاَّ من نعيق متواصل فوق الخرابات. ولا يمارسون أدوارهم إلاَّ بنخر قيم العقل والحياة الحرة.

لقد جسَد المثقف في مجتمعات العرب نظرية متحركة في تزييف الحرية والتكسب من كل الموائد ومداهنة المسؤولين واهدار الوعي الحر. لنراجع مثقف ما بعد الربيع العربي، هذا الحيوان الداعشي السياسي بامتياز، وكيف امتهن الخنوع والانبطاح وجعل من صهوته موضعاً مريحاً لكل الأقزام شرقاً وغرباً في العالم العربي. أصبح استاذاً في حياكة المؤامرات بين الأنظمة العربية (ظاهرة المنظرين السياسيين)، ذلك بدلاً من كونِّه مشعلاً يضيء لإنسانيتنا الراهنة مستقبلاً غامضاً لم يتجلَّ بعد.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم