قضايا

سامي البدري: حامل المطرقة

كثر من الناس يستنفدون خياراتهم ويستسلمون لليأس. أكاد أقول، وعبر مراقبتي لحياة البشر والقراءة عنها في الكتب والمصنفات، أن غالبية البشر هم من هذا النوع.

ومن جهة ثانية فإن الإنسان، ومنذ أمد غير قصير، سعى ويسعى لأنسنة كل ما حوله إلا نفسه، رغم اعتراف الغالبية، وعلى رأسهم النخب الثقافية، بإن الإنسان يعيش حالة اغتراب مفزعة في عصره الحديث، وخاصة حقبة ما بعد الحرب الكونية الثانية.

قال أحد الكتاب عن هذه الحالة، في مقال له (إنها عملية اصطدام المرء بجدار الحياة غير المرئي، ذلك الجدار الذي يصادفه الجميع في كل مكان، رغم أنه بلا هيكل أو جسد وبلا أبعاد محددة)، وأنا، وعبر مراقباتي وقراءاتي التي أخبرتكم عنها، تفهمت هذا الوصف وكنت أحد المقتنعين بوجود هذا الجدار.

أين يقوم هذا الجدار وما هي أوصافه ومن يحميه ويديم بقاءه؟

حامل المطرقة (الفيلسوف، بحسب توصيف فريدريك نيتشه) يقول: الجميع وأولهم المؤسسات، وأول هذه المؤسسات هي المؤسسة السياسية، بعد أن تخلت عن المهمة التي تكونت من أجلها: صناعة الحياة.

من يصنع الحياة اليوم، بعد أن تفرغت المؤسسات، بقيادة المؤسسات السياسية، لصناعة الحروب ومصانع الأسلحة والأسلحة النووية والجرثومية والكيمياوية، التي تدمر الطبيعة، وقبل هذا وما هو أهم منه، ملاحقة الإنسان ومصادرة حريته والتنكيل به وقتله على رأيه وأفكاره وصوته إذا ما ارتفع محتجاً ومندداً؟

في زمن الثورة التكنلوجية، عندما صار مجرد هاتف، أصغر من حجم كف الإنسان، يقلب لك العالم ويأتيك بأخبار كل زواياه الضيقة، في هذا الوقت بالذات نجد أنفسنا في الزمن الأشد حماقة والأكثر التباساً وبؤساً: حروب مجانية تقتل مئات آلاف الأبرياء، مجاعات مخجلة، أوبئة، تدمير للبيئة، اضطرابات مناخية مرعبة، ارتفاع درجات حرارة الطبيعة من حولنا بصورة تحدث فيضانات وأعاصير مدمرة، وكل هذا موجه ضد الإنسان من دون المؤسسات التي ترتكب أفظع الحماقات وبكل ما تحوز من استهتار بالإنسان والقيم.. بل وكل هذا موجه إلى الإنسان الفرد وكينونته التي لا تريد أن تراها المؤسسات حرة مستقلة وتقول رأيها، المخالف لحماقات من يديرون المؤسسات، وأولها المؤسسات السياسية طبعاً.

لماذا؟ لماذا لا تستطيع المؤسسات التعايش مع الإنسان الفرد الحر وصاحب الرأي المستقل، وهنا لا نقصد الرأي السياسي المستقل بقدر ما نقصد الرأي الفكري العام وككل؟

لنعود إلى غرفة الفلسفة التي باتت باردة وشبه مهجورة، بعد أن فرضت عليها المؤسسات إقامة شبه اجبارية في أروقة الجامعات. هل مازالت ذات المطرقة، التي حملها سقراط وافلاطون ونيتشه وسبينوزا....، بيد أصحاب تلك الغرفة؟ هل مازال أولئك السكان قادرين على طرق صنج العقل البشري بذات الحدة، ومازالت ترددات طرقاتهم تسمع وتهاب بذات التقبل الذي كان لهم ذات يوم؟

كل شيء اليوم معجون في مرق (هل عليّ أن أقول في دم، كي أكون دقيقاً؟) السياسة ومصالح وعقد ولؤم محترفيها، من حبة البارستيمول إلى لقاح كوفيد 19 (بصفته آخر الأوبئة الخطرة المنتشرة حالياً على كوكب الأرض) وكل هذا على حساب الإنسان الفرد وحريته الشخصية، والأهم حريته في أن يصرح برأيه الخاص في مجريات حياته الخاصة ومجريات ما يدور من حوله، سياسية ودينية وثقافية واقتصادية وفكرية. لماذا؟ لأن الإنسان الفرد يرتكب الحماقات، كما تقول المؤسسات. ماذا ترتكب المؤسسات إذن عبر مراقبتها لرأي الإنسان وحرية ضميره ومعتقده وأفكاره... بل وحتى أحلامه وهلوساته عندما يغضب على ما تخيط له المؤسسات وتجبره على ارتدائه؟

ألا يحق للإنسان الغضب والصراخ عندما تمطره الطائرات القاصفة بالصواريخ والقنابل الذكية (التي لا تخطئه كهدف لها)، في حرب لا يعرف لم وقعت ولا يدري في أي جيب تصب مصالح وأهداف ونتائج انتصار أصحابها، من زعماء المؤسسة السياسية؟

ألا يحق للإنسان أن يتظاهر ويصرخ محتجاً وهو يرى أن النهر الذي يشرب منه ويسقي مزروعاته، يحول مجراه أو يقطع ماءه عنه لأسباب سياسية؟ ألا يحق له أن يغضب وهو يرى أن الحرارة ترتفع من حوله وتسبب له اضطرابات مناخية قاتلة ولم يعهدها، (بل ولم يقرأ عن مثيل لها في كل تاريخ البشرية السابق)، لأسباب سياسية تتعلق بما ينتج الساسة من حروب وأسلحة تنتج درجات حرارة وحرائق تدميرية، تكاد تقترب من درجة انفجارات الشمس؟

كل هذا يجري وعلى حامل المطرقة أن لا يقترب (وليس يهدم بمطرقته فقط) ما تبني مؤسسات السياسة، بل عليه فقط أن يجد مخرجات (فلسفية) مبررة لما ترتكب في حق الإنسان وحقه في الحياة والحرية، التي (على ما يبدو) أن لا حياة ولا يستقيم أمر ملاكها - المؤسسات السياسية – من دون مصادرتها وإذلاله وتحويله إلى إمعة. أليس هذا ما يفعله أغلب ساسة الأرض؟

ولنعود مرة أخرى إلى غرفة الفلسفة ونقلب بعض أدراجها، لنرى ماذا تملك مطارقها من توصيفات لهذا الوضع المختل. يقول نيتشه (حامل المطرقة الكبرى) في وصف الفلسفة بأنها السبيل إلى السخرية. السخرية مم غير الوضع المختل الذي فرض على الحياة، ممن نصبوا أنفسهم سادة وأوصياء على حياة ومصائر البشر؟ أما جيل ديلوز فيرى في الفلسفة وسيلة لمحاربة الغباء. هل هناك أكثر غباءً، مما يستحق محاربته، من إنتاج المؤسسات التي تفتك بالإنسان وتصادر حريته؟ أما فوكو فلا يرى بحامل المطرقة غير محارب، لا يهدأ، للحماقة. هل على الأرض أكثر حماقة من مصادرة حرية الإنسان وصناعة الأسلحة والحروب لإفنائه وافساد الطبيعة التي توفر له أسباب الحياة؟

نعم الثورة الصناعية، ومن بعدها الثورة التكنلوجية، قدمتا للإنسان الكثير؛ إلا أن نظرة متفحصة للجهة التي يحرف بها الساسة منجزات العلم والتكنلوجيا، والطرق التي يستخدمونها بها، تدفعنا للتساؤل: ماذا يفعل هؤلاء بهذا الكوكب وساكنه المسكين (الإنسان)؟ إنهم يفسدون عليه كل حياته وشؤونه؟ إلى أين يقود هؤلاء هذا الكوكب؟ إنهم يفسدون ترابه وهواءه وماءه بكل ما يتوفرون عليه من لؤم وبشاعة. لماذا؟ هل العالم بيد مجموعة من المنحرفين؟

يا للبشاعة قبل السخرية! إنهم يفرضون علينا (الوجود الزائف) بحسب توصيف الفيلسوف مارتن هيدجر؛ وهذا الوجود المصطنع يفرض علينا بقوة السلاح وأجهزة الشرطة والجندرمة والمخابرات والجيش والدرك ليصير هو وجودنا اليومي، والذي لا يجب أن نعرف سواه، ومن يرفضه أو يتمرد عليه فمصيره القتل أو التغييب في السجون. من منح الساسة حق تزييف وجودنا؟ القانون الذي وضعوه بأيديهم ووفق ما ترى مصالح هيمنتهم على السلطة.

ماذا بقي لحامل المطرقة ليفعله في عالم الحماقة والتفاهة هذا؟ كل منحى من مناحي الحياة من حوله تشيء أو في طريقه لذلك... بما فيها مطرقته (الفلسفة)، التي تسعى المؤسسات، بما فيها الأكاديميات للأسف، إلى تشيئها: تحويلها إلى ايديولوجيات سياسية تؤطر (فكرياً) لمشاريع الساسة أو إلى مجرد لذة نصوص (فخمة بغموضها) بعد أن كانت أداة التحرش بالغموض الكوني وطريقة الإحاطة به وتفسيره وفهمه.

من نافلة القول أن نذكر هنا أن من بين أهم مشاريع الساسة وأكثرها عتمة، كانت دفع حامل المطرقة (الفيلسوف) إلى ركن مطرقته والانزواء في برجه العاجي (الأكاديمي) ودفعه لإنتاج غموض مركب وتهويمات لقراءة التاريخ أو انتاج لوغارتمات جديدة تسند تطلعات الساسة إلى المزيد من كبح الإنسان ومصادرة حريته واحكام السيطرة عليه. وأمر مؤسف أن نجد بعض حاملي المطارق قد انساقوا وراء اللعبة من دون التوقف للنظر إلى الجهة التي يسير إليها هذا الكوكب، أو حتى للتساؤل عما سيحدث لهذا العالم، بعد أن صار حتى دخول الحمام يخضع لاعتبارات وأغراض سياسية!

هل لنا أن نتساءل، في النهاية، عن صورة العالم، فيما لو اختفى جميع الساسة منه؟ ربما لن يكون أجمل، ولكنه على الأقل سيكون بلا حروب ولا روائح جثث المقابر الجماعية المدفونة على عجل... وبالتأكيد ستعاود مطرقة سقراط العظيم التلويح من سفوح الأولمب.

***

د. سامي البدري - روائي وباحث

في المثقف اليوم