قضايا
خالد اليماني: التكرارية وبنية المخيلة الثقافية

توطئة: تُشكِّل «التكرارية» العمود الفقريَّ لبنية الوعي الجمعي في المجتمعات البشرية، حيث يعمل كآلية يصعب إدراكها، وتنسج خيوطَ المعتقدات والقيم عبر الزمن. في السياق العربي الإسلامي، تتحول الأفكارُ المجردةُ إلى مسلَّمات راسخة عبر دورات متعاقبة من الممارسات اللفظية والطقوسية التي تتغلغل في الحياة اليومية، من خطب الجمعة إلى المناهج التعليمية ووسائل الإعلام. هذه الظاهرة لا تقتصر على الجانب الثقافي الظاهر، لكنا أيضًا تمتد إلى أعماق البنى العصبية للإنسان.
تُظهر دراسات العلوم العصبية الحديثة أن التكرار المستمر لأي فكرةٍ يُقلل نشاطَ الفص الجبهي الأمامي (Prefrontal Cortex) المسؤول عن التفكير النقدي والتحليل المنطقي، مما يحوِّل المفاهيمَ إلى عادات ذهنية تلقائية تُمارَس دون تمحيص.¹
هذه الآلية تفسر ظاهرة الجمود الحضاري التي تعاني منها الأمة العربية، حيث تتحول المفاهيم الدينية والتراثية إلى قيود فكرية تُعيق عملية التجديد والتقدم. فمصطلحات مثل "الثوابت" و"المقدسات" و"الهوية" وتكتسب قداستها من كثافة ترديدها في الخطاب اليومي، مما يخلق وهمَ الثبات التاريخي. هنا يبرز التحدي المركزي: كيف يمكن تحويل التكرار من أداة لتجميد الوعي إلى آلية للتجديد الحضاري؟
المناقشة
أولاً: الآليات التشريحية للتكرارية في البيئة العربية
1. التكرار اللفظي وتجميد المفاهيم:
تعمل هذه الآلية عبر تحويل المصطلحات إلى أنماط مغلقة تُمارس سلطتها بمجرد تداولها. في تحليلٍ كميٍّ لـ 2000 ساعة بثّ في القنوات الدينية العربية، تبيَّن أن مصطلحات مثل "السلف الصالح" و"الثوابت الدينية" تُذكر بمعدل 8 مراتٍ أكثر من مفاهيم النقد والتجديد مثل "إعادة النظر" أو "التأويل التاريخي".² هذا التكرار يُنتج وعياً زائفاً بثبات المفاهيم، ويُحوِّل التراثَ من إرثٍ تاريخيٍّ قابِل للتفسير إلى كيان مقدس معزول عن الزمن.
2. التكرارية على صعيد النظام التعليمي:
تُعد المنظومة التعليمية العربية حاضنةً رئيسةً لهذه الآلية، حيث تعتمد على تلقين المتون القديمة دون فسح المجال للتفاعل النقدي. تشير بيانات منظمة اليونسكو (2023) إلى أن 75% من مناهج الفلسفة في الجامعات العربية تُدرَّس كموادَّ للحفظ والتلقين، بينما لا تتجاوز حصصُ التفكير النقدي والتحليل 10% من المحتوى التعليمي.³ هذا النهج يحوِّل التراثَ إلى "نصوصٍ مقدسةٍ" تُحفظ كما تُحفظ الآيات، مما يقتل روح المساءلة الفلسفية ويُنتج أجيالاً تعامل الأفكارَ كمسلماتٍ غير قابلةٍ للمراجعة. وكل أشكال النقد الثقافي الفلسفي والعلمي للموروث كهجوم وعداء له، خيانة بينة للوطن و "الأمة"!
3. التوظيف السياسي للتكرارية:
تُستغل آليات التكرار لخدمة مصالح نخب سياسية ودينية عبر خطابات جاهزة تُكرر أزمات الهوية. ومصطلحات مثل: "الأنا والآخر" و"نظرية المؤامرة" تُستخدم كأدوات لتحويل الانتباه عن الإخفاقات الداخلية الحقيقية، وتعزيز التبعية الفكرية. المؤسسات التقليدية تستفيد من هذه الآلية عبر تكرار فتاوى تُكرس الانقسام بين "المقدس" و"المدنس"، مما يحفظ نفوذها في المخيلة العامة للشعوب المغلوب على أمرها.⁴
ثانياً: التكرارية وأزمة الهوية
تتفاعل آليات التكرار مع إشكالية الهوية في العالم العربي عبر صراع خفي بين المشروعين القومي والإسلامي. تيارات الإسلام السياسي ترفض العروبةَ كـ"مقولة علمانية مستوردة"، وتُكرر أن "الهوية الإسلامية" هي الإطار "الوحيد" للانتماء. وبطبيعة الحال، بأدنى درجات الحس الإنساني الواعي السليم ندرك تمام الإدراك أن هذا الخطاب يُعمق الانقسامات المجتمعية ويُضعف التضامن الوطني الحقيقي المبني على التعدد والاختلاف لا الطمس والتبشير الأحادي، وعليه تتحوّل الهويةَ من مفهوم جامع إلى إطار إقصائي يُكرس التكرارية والعادة.⁵
ثالثاً: من التفكيك إلى البناء
أ. التفكيك الأركيولوجي (الآثاري):
يُقصد بهذا المنهج كشفُ الأصول التاريخية للمفاهيم عبر دراسة سياقات نشأتها. مصطلح "الثوابت الدينية" مثلاً، لم يظهر في العصر النبوي، بل ارتبط بالصراعات السياسية في القرن الرابع الهجري، حيث استُخدم كأداة لمواجهة التحديات الفكرية. هذا الكشف يُزيل هالة القداسة الزائفة عن المفاهيم، ويعيدها إلى إطارها التاريخي البشري.
ب. بناء تكرارية تحررية:
يمكن تحويل الطقوس اليومية إلى فضاءات للتجديد عبر إعادة صياغة مضامينها:
- الصلاة كتأمل نقدي: تحويلها من ترديدٍ آليٍّ إلى عملية تأملٍ في دلالات الآيات وربطها بالواقع المعاصر.
- التكرار اللفظي البديل: استبدال عبارات مثل "القدر محتوم" بـ"الإنسان فاعلٌ في صناعة مصيره"، مما يُحدث تحولاً في البنية الذهنية.
الدراسات العصبية تؤكد أن تكرار فكرة جديدة 150 مرة يُحدث إعادة تشكيل للمسارات العصبية (Neural Pathways) بنسبة 40%، مما يثبت إمكانية تحويل التكرار إلى أداة تغيير.
الخاتمة
الخروج من الجمود الحضاري يتطلب تحويل التكرار من أداة سلبية إلى مشرعٍ تحرري واع. هذا التحول يرتكز على ركيزتين جوهريتين:
1. تكريس النقد كعادة جمعية: عبر دمجه في المنظومة التعليمية والخطاب الديني والفعاليات الثقافية والحوار الاجتماعي في الفضاء العمومي.
2. إنتاج خطاب بديل قائم على التكرار الإيجابي: عبر صياغة مفاهيم جديدة تُكرس قيم التساؤل والإبداع، أي المصطلحات النقدية التي تكرس الفهم والنقد والبناء على حساب الكسل والاتكالية الفكرية.
حين نختار بوعي ما نُكرره، والتكرار هنا في عمليات التفكير والنظرة للوجود والسلوك الفردي والجمعي في المقام الأول، نكون قد وضعنا اللبنةَ الأولى لصحوة (بالمعنى المعجمي الخالص للكلمة، لا حمولتها السياسية والتاريخية المتسخة) حضارية تعيد للإنسان العربي دوره كفاعل في التاريخ، لا كمنفعل متقاعد عن الإثراء المعرفي والحضاري.
***
خالد اليماني
.....................
الهوامش
1. الآلية العصبية للتكرار: أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن تكرار العبارات يخفض نشاط القشرة الجبهية الأمامية بنسبة 50% بعد 200 تكرار، مما يحول الأفكار إلى أنماط تلقائية. هذه الظاهرة العصبية تفسر تحول المفاهيم الدينية إلى مسلمات في الوعي الجمعي العربي.
2. تحليل الخطاب الديني: رصد مرصد الخطاب الديني بجامعة القاهرة (2023) تكرار مصطلحات المحافظة 8 أضعاف مصطلحات التجديد في القنوات الدينية، باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل 2000 ساعة بث.
3. أزمة التعليم الفلسفي: كشف تقرير اليونسكو (2023) هيمنة الحفظ على مناهج الفلسفة في الجامعات العربية بنسبة 75%، مقابل 10% فقط للأنشطة النقدية، مما يحول التراث إلى نصوص مقدسة.
4. التوظيف السياسي للخطاب: تستخدم النخب خطابات الأزمات الهووية لتحويل الانتباه عن إخفاقاتها، عبر تكرار شعارات "العداء الخارجي" و"نظرية المؤامرة" في الخطابين السياسي والإعلامي.
5. صراع الهويات: تيارات الإسلام السياسي ترفض الهوية القومية لصالح هوية دينية شمولية، مستخدمة التكرار لتجذير هذا المفهوم في الوعي الجمعي، مما يضعف التضامن المجتمعي.
المصادر
1. اليونسكو. تقرير حالة التعليم الفلسفي في العالم العربي (2023)
2. مرصد الخطاب الديني. تحليل الخطاب الديني في الإعلام العربي (جامعة القاهرة، 2023)
3. الجابري، محمد عابد. بنية العقل العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)
4. أركون، محمد. تاريخية الفكر الإسلامي (دار الساقي، 2005)
5. دويش، عبدالله. علم الأعصاب الاجتماعي وتشكيل الوعي (دار أكاديميا، 2021)