قضايا

أنور ساطع أصفري: ثقافة إحياء الدور الاجتماعي والسياسي للمفكّر العربي

المُثقّف العربي هو فردٌ من المجتمع، ويحمل الهموم شأنه شأن أي مواطنٍ آخر، ولكن المثقف والمفكر العربي يُعاني من ضغط التحديات أيّاً كانت، وأيّاً كانت أيديولوجيتة أو توجّهاته الفكرية أكثر من أي مواطن عادي آخر.

حيث أن المُثقّف أكثر وعياً وأكثر ثقافة وهذا يجعله يلتزم بقضايا الناس بشكلٍ عام، وبضمير الأمّة، واستحقاقاتها، والعيش الكريم لكل مُكوّنات المجتمع.

المثقف واضحاً في مجال أنشطته السياسية والفكرية، وأكثر وضوحاً في مجال النشاط الإنساني.

ومع الأسف إن العرب يفتقدون الدور الإيجابي تجاه كل المستجدات والمتغيرات، والتي تؤثّر مباشرة على الدور الذي يجب أن يقوم به المثقف العربي.

فنحن نعيش حالة ممارسات وسلوكيات في غاية الإنفصام، وخطيرة جداً لحاضرنا ومستقبلنا.

فما يدور في العالم، وما يحدث حولنا وكأنه لا يعنينا، وكأن ما يحدث هو في كوكبٍ آخر.

على المثقف العربي أن يتحرك بإيقاعٍ متسارع، يستطيع من خلاله تحقيق التراكم الثقافي المطلوب، والولوج الواعي والإيجابي مع كل ما يدور حولنا وعلينا، كي نستطيع أن نحقق مع مجتمعاتنا حركة فاعلة في عملية السمو الإنساني. ومواجهة الخطر الجدي المعمول به على أرضنا العربية، وهو سيادة النبرة الواحدة في كافة أنظمة الحكم، وتجاهل وتهميش كل الآراء والدعوات والأصوات الأخرى التي لا تتجانس مع خطاهم، وهذا منتهى التسلط والقهر والقمع والإقصاء، كما يواجه أيضاً الخطاب الحكيم للمثقف العربي والمفكر العربي، والمُتّسم بالعلم وصوت العقل وحرية الفكر.

نُدرك تماماً أن المثقف والمفكر العربي يواجه تحدياتٍ مصيرية ينبغي التخلّص منها بهدف حماية الإنسان والأوطان والأمّة، وهذا لن يكتمل أو يتحقق إلاّ إذا تعزّز التواصل بين المفكرين والمثقفين من جهة وبين المجتمع من جهةٍ ثانية.

حيث أن سلوك الدول العربية يعتمد بشكلٍ أساسي على منابع التبعية في المقام الأول، وعلى تهميش وقمع المواطن في المقام الثاني، كي لا يعلو صوت الحق على ثقافة وسياسة وسلوك الأنظمة.

لذا أمام المفكرين والمثقفين والكتاب العرب الإنصهار الفعلي مع قضايا الإنسان والأمّة، ومع كافة التحديات، بغض النظر إن كانت داخلية أو خارجية، وصناعة ثقافةٍ حقيقية تستند إلى آفاق ثقافية وفكرية جديدة تتناسب مع معطيات العصر المُعاش.

من المعروف أن المجتمع هو الذي سهّل ومنح المثقفين والمفكرين العرب دورهم الأساسي لخدمة قضايا المجتمع، وإصلاح بوصلة المسار حينما تشذّ في الملمات.

إنّ الحوار والإبداع في الإقناع أدوات مهمة ومؤثّرة جداً في إصلاح أي خللٍ وخاصّة في هذه الآونة، حيث أن الخلل بمثابة عوامل رئيسية تمسّ السياسة والاقتصاد والمجتمع والقيم والثوابت.

على المثقفين والمفكرين العرب أن يأخذوا دورهم الفاعل وأن يُطلقوا العنان لقلمهم الحر " إن كان حراً "، والمساهمة الفاعلة لحل الأزمات والانحرافات التي تواجه الأمّة.

إن دور المثقف والمفكر العربي هام جداً، وعليه تسمو الأوطان والأمة، وبالتالي يرتقي الإنسان العربي، إن ترسيخ قيم العدالة والبناء، وإعمار البلاد، بوابة يتم من خلالها طرق مستقبل الأمة والشعوب، فيما إذا تم توظيف الموروث الفكري والثقافي بشكلٍ سليم وبمختلف مجالاته الأدبية والسياسية والفقهية والفلسفية والإعلامية، من أجل التصدي الفاعل لكافة الأخطار التي تداهم الأمة من كل صوب وجانب وأصحاب مراكز القوى نائمون، وإعادة اللحمة العربية والتوحّد والتماسك ونبذ الخلافات الوهمية المفتعلة.

هنا يبرز دور المفكر العربي والمثقف العربي من خلال الحفاظ على هويّة الأمّة، وإرشاد الأوطان إلى مكامن قوتها، وكشف عورات حقيقة العدو الخارجي واسترشاد سبل التغلب عليه، والاعتماد على مكامن قوته وضعفه، والعمل الجاد في تعزيز دور المجتمع في الدفاع عن ثوابت وقيم الأمة ومقدّساتها، وتوظيف التجارب والمحن التاريخية لكافة الأمم لخدمة الواقع وبالتالي استنتاج الدروس والعبر.

الذاكرة العربية الثقافية والسياسية والفكرية قولاً واحداً لن تنشط بدون جهود الكتّاب والمفكرين العرب، وبدون تحمّلهم المسؤولية بشكلٍ فعلي، فمن خلال نشاطهم وجهدهم نستطيع أن نصل إلى ما نحتاج إليه من التطوير الشامل، لإعادة تنشيط المسار الاجتماعي نحو الرقي والسمو لإعادة تنشيط ذاكرة الأمة الفكرية والثقافية والسياسية، وتعزيز التوجّهات والرؤى التي تتوافق مع العقل العربي والفكر العربي الهادف إلى مواجهة كل التحديات والسمو بالمفهوم الإنساني والوطني والقومي.

لو تأمّلنا جيداً في التاريخ العربي يتأكّد لدينا إن تردّي الثقافة والمثقفين والمفكرين العرب لا يمتّ بصلةٍ إلى السمات العربية، فعلى المثقفين العرب أن يتخلّوا عن الإيديولوجيات الهدامة للأوطان وللإنسان، ليكونوا أو ليتحولوا فعلياً إلى مواكبين فاعلين لقضايانا المعاصرة، لنكون على بيّنةٍ حول ما يُخطط لنا الآخرون، وليكون المثقف العربي عنصراً فاعلاً في وعي المجتمع وانطلاقته، وعلى الأنظمة أيضاً أن تقوم على الفكر والثقافة للنهوض بمواطنيها على مختلف كوادرهم ومكوّناتهم في مختلف مجالات الحياة، وأن تعتمد وبشكلٍ جدي على المثقفين والمفكرين والحكماء ورجالات الأوطان، بهدف إصلاح المسار نحو السيادة والنمو والرقي والحضارة بمعناها العريض.

آخذين بعين الإعتبار أن الكيان الصهيوني كي يبتر أفكار المواجهة بين أجهزة الأنظمة العربية وبين الحركة الصهيونية، طرح أفكار ومفاهيم ضمن إطار " مفهوم المعايشة " مع العرب، من خلال اتصالات ومخططات بدعمٍ أمريكي، بهدف إلغاء كل المفاهيم القومية السابقة، ومفاهيم العروبة والإسلام، وإدخال أفكار جديدة مثل الشرق الأوسط الجديد، وهذا السلوك الصهيوني يُحوّل المجتمع العربي إلى لوحاتٍ تشكيلية فقدت أبعادها و متناحرة و متنافرة، وقتل التطلعات العربية حول المصير المشترك، وتطلعاتها نحو السيادة والقوة، بل حتّى في الوجود.

السياسة الصهيونية تفرض على إسرائيل أن لا تقبل بأي توافق بينها وبين الشعب العربي، إنطلاقاً من نظرة الاستعلاء العرقي التي تتملّكها، و بهدف تفتيت الموقف العربي والإسلامي أكثر، طرحت الصهيونية فكرة إنطواء الجميع تحت الحركة الإبراهيمية، ومن هنا نرى مدى خبث وضراوة الفكر العدائي الصهيوني تجاه العرب، ومع الأسف تحلّت الأنظمة العربية بسوء الفهم، وبسوء إدراك توقعات الخطر القادم الذي سيداهمنا جميعاً.

وأيّاً كانت الأمور فإن الصراع العربي الإسرائيلي سيبقى أمام الشعوب صراع وجود، وليس صراعاً على الحدود ليس إلاّ، رغم أن الكيان المحتل يتوسّع ويبتلع أراضي فلسطين، وها هو يبتلع الجولان وبقايا فلسطين المحتلة، وأراضٍ سورية جديدة، وراء ذلك أراضٍ عربية أخرى قد تصل إلى عمق السعودية، ولبنان ومصر والأردن وسورية والعراق كما هو مخطط، والمخفي أعظم.

دوماً الشعوب هي التي تدفع الثمن، ودوماً هي التي تدفع ضريبة غباء وتبعية أصحاب القرار على الساحة العربية.

الأنظمة العربية ومنذ سنواتٍ طوال وهي تقود الأمّة المترامية الأطراف وشعوبها إلى حافةِ الهاوية من خلال سياسة التردّي المعمول بها، وبكل تأكيد إن كل محاولات تصحيح المسار كانت فاشلة، بسبب أن كل أصحاب مراكز القرار العربي مرتبطة بشكلٍ مباشر بسلسلةٍ من التبعية للخارج بطرقٍ مختلفة، متجاهلة كل إمكانيات الأوطان والأمة والشعوب العربية، وكل قيم السيادة والتحرر والاستقلال.

لذا على أقلام الأدباء والمفكرين والكتّاب الوفيّة لقيمها وثوابتها أن تأخذ دورها الاجتماعي الفاعل بهدف خلق نظامٍ عربي قادرٍ على مواجهة كل الضغوط السياسية بكل أبعادها الاقليمية والدولية، وإيجاد نظامٍ تربوي وتعليمي جديد يتوافق مع استراتيجية عربية واضحة المعالم للنهوض بالإنسان العربي والأوطان العربية، ونشر الثقافات العلمية والاستفادة المباشرة من كل خبرات الشباب والاخصّائيين بعيداً عن سياسة الإقصاء، والتوقّف الجاد عن عرقلة إبداع ومواهب الأجيال في المجتمع العربي، والعمل بثقافة الإحساس الفعلي بكرامة المواطن وسيادته، والاعتماد على ثرواتنا وامكانياتنا والمتوفّرة على كامل امتداد الساحة العربية، واستنهاض البحث العلمي والاستفادة من العلماء العرب للمشاركة في نهضة الأمّة وسيادتها، وإطلاق الحريات وامتلاك الإرادة السياسية، وهذه الأمور تتطلّب توفير كامل البنى التحتية، ومنح المكانة اللائقة لكافة المفكرين والعلماء، إن الإشادة بالعلماء العرب وهم في الخارج لا يفيدنا، ما دامت الأمّة لم تستيقظ بعد من غفوتها، والجهل يقطن كل جوانحها، وكل جوانبها الفكرية.

إنّ الحكّام العرب يتحمّلون كامل مسؤولية ما نحن فيه، بنفس الوقت كان بإمكانهم لو أرادوا رسم مسارات ايجابية وخلاّقة فيما يخصّ الإنسان والأمّة، كما فعلت دول العالم الأخرى، بهدف أن نكون أمّة حقيقية كما نرغب ونروم، لا كما يُراد ويُخطط لنا.

إنّ ما نروم إليه أمام هذا الوضع العربي المأساوي هو تضافر جهود المفكرين والمثقفين العرب، وتحمّل مسؤولياتهم الوطنية والإنسانية من أجل نظامٍ عربي حضاري قادر على مواجهة هيمنة الدول الأخرى علينا، وبتر كل سياسات التبعية العمياء، التي دمّرت المواطن والأوطان، والعمل وفق نظامٍ ديمقراطي يكفل التعددية والتداول السلمي للسلطة بدون خوفٍ أو تردّد، من أجل إحياء كرامة المواطن وسيادة الوطن.

ألم يستفيق العرب بعد؟.

ألم تخرج أقلام الأدباء والمفكرين العرب من حالة السبات الذي ألمّ بها؟.

هل ستبقى الأمّة مستسلمة لسباتها حتّى يُدمّر كلّ ما تبقّى من الكرامة العربية والوجود العربي؟.

أمامنا دربٌ لا مفر منه، والخيارات أمامنا، إمّا أن نبقى، أو أن نبقى، مهما حاول السفهاء من تمرير أجندتهم، ومهما حاولت أشباه الأقلام من تشويه الحقيقة أمام الجميع زوراً وبهتاناً.

عندما تضيع الفروق بين الاعتقاد الحقيقي وبين النفاق، وبين الثبات على المبدأ أو الثبات على المبلغ، يفقد المثقفون وأهل الرأي والمفكرون مصداقيتهم في أعين الناس، أمّا عندما تظهر الفروق ويظهر الذين ينتصرون للحرية والديمقراطية وحرية الرأي، يستعيد المثقفون والمفكرون وأهل الرأي والحكماء مصداقيتهم في العمل على التغيير والتحرر من المطبّات السلطوية وتنمية المجتمع بشكلٍ عادلٍ وسليم بعيداً عن النفاق والتسلق والدجل والعهر السياسي.

وبكلِ تأكيد إذا لم نستطع التحرر من تبعيتنا العمياء، وإذا لم نصحو قبل فوات الأوان، فإن السفينة ستغرق بمن فيها.

***

د. أنور ساطع أصفري

في المثقف اليوم