صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: مدادٌ مَلعون

مجدي ابراهيمكثيرةٌ هى الأحيان التي نكتب فيها ولا نكتب، وإذا كتبنا كنا كمن يعبث عبث الأطفال الحالمين؛ فلكأننا نعاني في أنفسنا بنقص شنيع لسنا قادرين على إدراك سلبياته في دخائلنا، أو لربما كان العبث بالنسبة إلينا طاقة علوية نافعة .. ربما .. فمن يدري؟ فإنْ تكن ليست كثيرة النفع لغيرنا فلا شك في أنها نافعة لذواتنا العابثة!

وكثيرة هى الأحيان التي نكتب فيها لنعبث ولنلهو؛ لا لنصوِّر ما قد يترك في أنفسنا، وفي نفوس غيرنا "موازين الإصلاح" فنفيد فيما نصوِّر، ونعلن على الملأ من حولنا من واجب خُلقي وعقلي يرتدُ إلى فضائل القيم وفاعليتها لازمٌ لنا جميعاً.

أحياناً كثيرة يقودنا العبث إلى التخلي عن "الواجب" والتحلي بالغفلة العابثة، عمداً ومع سبق الإصرار؛ لأننا على ما يبدو، لم نعد قادرين على الحياة الأمينة الواعية، بضروب الوعي الصادق الخالص المستنير، ولو كانت تلك "القدرة" بحق موجودة فينا، لما أصبحنا اليوم نجتر الأفكار القديمة اجتراراً مقززاً، ونزعم على غفلة منا أننا من أهلها الذين اخترعوها وابتكروا فيها عناصر الأصالة والإبداع.

ألا .. فليرحم الله ابن خلدون؛ فما أبدع مقولته النافذة :" إنّ التحقيق قليل، والتقليد عريقٌ في الآدميين وسليل، والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة قليلون، لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، فلم يأتِ من بعد هؤلاء إلا مقلد بليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال : يكررِّون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها إتباعاً لمن عُنىَ من المتقدمين بشأنها..." (أ. هـ).

فالذين يزعمون لأنفسهم قدرات التجديد والابتكار على غير دراية بما يقدّمونه من بضاعة كاسدة بالية، هم في الحق - على رأي ابن خلدون - مقلدون أبشع ما يكون التقليد نكاية وضراوة على بني البشر، ينسجون على منوال الغير، وليس لهم منوال خاص صحيح متميز، مخصوص بهم، ينسج الغير عليه ولو على سبيل القدوة والاحتذاء.

والأصل في ذلك كله، إنّما هو فقدان "القدرة" المانحة لقوة الخلق وطاقة الابتكار؛  أعني فقدان الموهبة والمؤهلات واستعداد الطاقة لمثل هذه الأعمال التي يقتدر عليها أهلوها في كل حال وفي أية حال؛ بل لو كانت تلك "القدرة" بحق موجودة فينا، لكنا اليوم أهلاً للاحترام والتقدير من سائر الأمم والشعوب التي اقتدرت في ذاتها، وزانت قدرتها بالعمل النافع والتقدُّم المطلوب، ولزال عنَّا اللغط المنفر حول "الثوابت" التي لا تحتاج إلى مناقشة وجدال، قَلَّ أو كثر.

لماذا لا تغير أقلامنا شيئاً من أدمغة الناس مما قد يكتبه الكاتبون ويجيدون الكتابة فيه؟ ولِمَ هذا السيل العرم المتدفق من الكتابات حول قضايا بُليت من كثرة القيل فيها والقال؟ ومع ذلك؛ وأعجب من ذلك، أنك لا تجد لها صدى مؤثراً فعالاً على قطاعات الناس العريضة مِمَّنْ تهمهم لقمة العيش ويسوؤهم تعس الحال، بمقدار ما لا تجد لها صدى على أولئك الذين شبعوا حتى الطفاسة، فلا ولن تأخذهم "الفكرة" إلا في أنفسهم، بحثاً عن المنفعة واندفاعاً جنونيَّاً نحو الثراء، وإيماناً بقيم "المادة" وحدها دون الإيمان المقنع بكل قيمة نافعة من قيم الخُلق أو قيم الروح والضمير.

والإجابة على هذا تؤكد بما لا يدع للشك مجالاً، أن انعدام القدرة فينا مَرَدَّه إلى العبث نتوخاه حينما نكتب وعندما نقول، نبدع أو نجامل أو ندردش مجرَّد "دردشة"؛ فالأمر من بعدُ سيان؛ فأقلامنا لا تغير من الأمر شيئاً؛ لأن مدادها في غالب الأحوال ملعون!

على أن التفرقة واضحة بين أن نكتب لنستفيد ونفيد، فنقرِّر مصائرنا بأيدينا، وبين أن نكتب لنعبث في أوقات لا تحتمل العبث، وفي أزمان الكتابة فيها ينبغي أن تكون جادة و"مسئولة"، وليست مجرد لغو طارئ يملأ الصحف ولا يملأ العقول.

صحيحُ أن زماننا هذا الذي نعيشه لم يعدْ زمناً يستقبل الثقافة المكتوبة مثلما كانت عليه الحال في الأزمنة الماضية؛ فإنّ ثقافة الكتاب اليوم في منأى عن التحصيل، ومن هنا فقد سقطت قيماً نبيلة وانهارت أصولاً تليدة، فلن ترى لها وجوداً محققاً في الواقع الفعلي، اللهم إلا بين بطون الكتب المهملة على رفوف المكتبات العتيقة.

ومن النادر جداً في هذا الزمن أن تجد للكتاب قارئاً وللأقلام رجالاً، مثلما كانت للكتابة فيما تقدَّم صولة وللقلم فيما سبق دولة، مع أن للقلم  لسرَّاً علوياً مباركاً لا يضاهيه في فنون البيان من مستحدثات الزمن أداة ولا كشف جديد.

لم يعد اليوم للكتاب مطلبه ولا رونقه، ولم تعد الثقافة المكتوبة هى هى الثقافة التي كانت عليها الحال قبل نصف قرن أو يزيد؛ فقد تداخلت معه وسائل معرفية أنشط وأسرع وأفيد للمجموع العريض من الطلاب والمنتفعين، وصار القلم بالتالي في يد حامله أداة عرجاء كسحاء لا تفي بمتطلبات العصر، رغم المعاناة الشديدة التي يعانيها "رجال القلم" فيما يكتبون ويفكرون ويدوِّنون من مقبول الآراء.

أصبح نتاج القلم تماماً، كما بات الكتاب، من الثقافات القديمة البالية التي لا ينهض بها إلا أهل العادات! وإني لأعني بأهل العادات هم أولئك النفر القليل الذين تعوَّدوا أن يقرؤوا ويكتبوا، وأن ينظروا فيما يقرأون ويدونون فلا يجدوا أثراً واضحاً ولا حتى غير واضح لما كتبوا وتعبوا ودونوا في سالف الأيام وفي حاضرها على السواء. ناهيك عن النفاق الفج والمجاملات الرخيصة على حساب القيمة وعلى حساب المستوى العلمي مع غيبة النقد من وقائع التفكير وأحداث التطور التي تلاحقه.

أهل العادات العقلية المُفكرة هم أحوج الناس إلى العبث، وأكثر الناس حاجة إلى أن يجيء عبثهم "عذراً" إذا هم كانوا على الحقيقة عابثين، غير أن هذا العبث يحتاج إلى تصحيح الدلالة؛ لأن عبثهم هذا، إنما هو حياة يعانون فيها أوجاع التأمل في الحياة، والتأمل في الحياة، يزيدُ أوجاع الحياة، كما كان أبو تمام يقول.

فإذا نحن نظرنا إلى "العبث" باعتباره ضرباً من الحياة كانت كثيرة هى اللحظات التي نكتب فيها ونحن عابثين؛ لا لشيء إلا لأننا نحيا وحياتنا الواعية فيها شيء من ضروب العبث اللاهي عن كثير من ضروب النشاط الجاد.

صحيحٌ جداً أن الأقلام المسئولة لا تكتب لتعبث أو لتلهو، وإذا هى عبثت أو تلهَّت؛ فبمقدار الطاقة العلوية النافعة، ولكن يجب أن يُؤخذ ممحصاً في الاعتبار أنه لما كانت حياتنا الواعية يغذيها ضربٌ من العبث يخفف عنها أعباء الحياة الجادة ويهوِّن ضغوط المعاناة فيها؛ فقد يتبدّىَ لغيرنا أننا نكتب جادين نظراً لأن ما كتبناه نشر في كتب ومجلات وظهر مرات ومرات على صفحات الجرائد والمجلات.

والكلمة المنشورة لها سحْرٌ أعجمي، وبريق يأخذ بمجامع الأفئدة ويكاد يخبل الألباب، لا لشئ إلا لأنها منشورة فقط، وإلا فكيف نبِّرر أن كثيراً مما هو مكتوب اليوم في صحفنا فيه عبث جميل، هو ذلك العبث الذي يحمل بين طياته أوجاع عصر وهموم حياة، لكأننا نقول : إذا أردنا أن يكون لحياتنا معنى؛ فلا مناص لنا من أن نعطيها شيئاً من ذلك العبث اللذيذ الجميل! ومن هنا؛ فقد يبدو القلم العابث على هذا النحو، فيما لو ظللنا نردد بيننا وبين أنفسنا إساغة العبث كونه يجعل لحياتنا معنى، هو القلم المدْرك لحقائق الأشياء التي سترتها الغيوب.

ولم يكن العبث على هذا سوى إدراكاً علويّاً لمعنى جميل يزكي شعور الوجود وشعور الحياة، وليس هو بالغفلة اللاهية في غير نفع كثير، مادام مصدره النفس التي هى مصدر كل علم؛ كمن يستتر خلف ستار مثل خيال الظل فتتحرك عليه الصور والأشكال، فإذا أزيح الستار ظهر المختفي المستور وراؤه.

وعليه؛ فلهو الناس إذا هو كان معرفة؛ فلا شك أنه أقرب إلى هذا الشعور لا محالة، وإذا لم يكن فيه مثل هذا الشعور يجئ بغير هدف ولا مضمون؛ فهو "جهالة" فارغة من المعنى، هو هو اللعنة الدائمة والسباب المكروب.

ولنسمع بإذن صاغية وروح علوية من "ابن الفارض" قوله في التائية الكبرى :

ولا تـــكُ باللاهـــي عـــن اللَّهو جملة

فهــــزلُ الملاهي جـُـــــدُّ نفس مُجدَّةٍ

وإيـــــَّاك والإعـراضِ عن كلِ صورة

مُمَــــوَّهةٍ، أو حـــــالةٍ مستحيــــلةٍ

فطيفُ خيال الظلِّ يُهدي إليك؛ فــي

كُــــرَى الليل؛ مَا عَنْه الستائر شُقَّتٍ

تَرى صوُرة الأشياءٍ تجُلي عليك، من

وراءٍ حجـــــابِ اللَّبْسِ، في كل خلِعْةٍ

***

إنّ الأقلام المسئولة لا تكتب لتعبث أو لتلهو. وإذا هى عبثت أو تلهَّت؛ فبمقدار الطاقة العلوية النافعة، أعني بمقدار تجلي النفس بالمعرفة على البدن بما فيه من صور وأشكال؛ تتلاشى تماماً عند ظهور فاعلها المختفي وراء ستار خيال الظل.

لنبرّر تلك الأقوال على وجهها الصحيح المستقيم، وهى ثلاثة : أن يجيء العبثُ بمعنى أنه طاقة علوية. وأن يكون العابثون معذورون في عبثهم. وأن نعبث حين نعبث، العبث الجميل وإنْ ظن الظانون بنا سوء الفهم أو سوء الطوية، ولنبدأ بالتفرقة المشار إليها فنقول : إنها تفرقة في ظاهر الأمر لا في باطنه. فأما ظاهره؛ فتنحية العبث جانباً عن دلالة الأعمال وجلائلها شيء ضروري وواجب. وأما باطن الأمر لا ظاهره؛ فهو ضرورة واجبة كذلك، إذا نحن نظرنا إلى العبث باعتباره ضرباً من حياة؛ فكثيرُ جداً ما نعبث ونحن جادين؛ لأننا نحيا، وحياتنا الواعية فيها شيء من ضروب العبث اللاهي عن كثير من ضروب النشاط الجاد.

أعودُ فأقول؛ ألا ترَون معي أن السَّاحة القلمية الآن تضربُ في واد، ويضرب المجتمع كله بأحداثه الشداد في واد آخر؛ خذ مثلاً شطط الأجيال الجديدة وغفلتها عن الثقافة الحرة، واتصافها بأوصاف تدلُّ على الردة والنكوص؛ لتحكم على صواب إنما هى أوصاف رجعية إلى حد كبير، وليست هى بالأوصاف الثقافية والتنويريَّة، ولا هى بالأوصاف التي من شأنها أن تهيئ أذهان الأجيال الجديدة لمعرفة ما يطرأ على المجتمعات من تطور في العلوم والمعارف والتقنيات العلميّة المستحدثة، فإذا هم تهيأت أذهانهم لمثل هذه المعرفة وذاك التطور، أهملت على الجانب الآخر سائر القيم النبيلة والأخلاق الحسنة، تترافق - أو ينبغي أن تترافق - مع ذلك التطور أو تلك الكشوفات الحديثة؛ لكأنما انبهرت بما فتحت عليه العيون كما ينبهر السُّذج إزاء كل ما ينجذبون إليه من أضواء وذرْكشات.

ومن هنا؛ فإنّ أبشع صورة مرسومة لتخلف الأمة العربية لهى الصورة التي نراها اليوم : خِدَعٌ براقةٌ مبهرجةٌ زائفةٌ، وفقدان لأسلحة الضمائر اليقظة القوية، وفساد لاستقامة القلوب، ونكوص عن "قيم الروح" الباقية الخالدة.

على أن القوة العظيمة في الشرق كله هى "قوة الروح" الخالد، والسلاح الفتَّاك الذي يملكونه ولا يملكه سواهم هو سلاح "الضمير"؛ فإذا سقطت جميعاً قيم الروح وتعطل سلاح الضمير، ضاع الأمان من الشرق وبلاده، وضاع السلام مع ضيعة تلك القيم، وصارت الصورة المرسومة لتخلف العقل العربي كما لو كانت جرثومة يجب القضاء عليها في ذاته؛ فأسباب هذا التخلف لا تلتمس خارج إطار هذا العقل، بل هى موجودة في ذاته، والقضاء عليها كذلك لن يكون إلا ذاتياً صرفاً، بمعنى أن يجيء القضاء على جرثومة التخلف من داخل هذا العقل نفسه لا من خارجه.

على إثر هذا رُحت أقرأ فأذكر أن للأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله - مقالاً منشوراً في كتابه :"بين الكتب والناس" هو بعنوان :"الغرب الحائر"؛ ذكر فيه أن دور النشر كانت أعلنت يومها في تسع أمم أوروبية هى على الترتيب : إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وهولندة وألمانيا وفنلاندة والتشيك والأرجنتين، كانت أعلنت تلك الدول الأوروبية والأمريكية عن صدور كتاب واحد مترجم عن الهندية في وقت متقارب. والكتاب المترجم هو تاريخ حياة ناسك من طائفة "اليوجا" المشهورة، وهى الطائفة التي تحاول بالرياضة الروحية أن تتسلط على الجسد، وتملك زمام الطبيعة، ويزعم المتحدثون عنها أن الواصل إلى النهاية في هذه الطريقة يتوحَّد مع المشيئة الكونية فلا يستعصى عليه شيء ولا تقيده النواميس بسلسلة الأسباب والنتائج؛ لأنه قد أنطلق من كل قيد إلى ساحة الحرية والبقاء. واسم الكتاب هو "سيرة يوجى بقلمه؛ تأليف : برمهنسا يوجانندا :)

( Autobiography of yogi by parmhmsa yoganda

ومضى "العقاد" يفند ما جاء بالكتاب كعادته في فنون التفنيد والتحليل إلى أن قال : أول ما يدل عليه هذا الإقبال على "الصوفية الشرقية" أن الغرب حائر يتخبط، وأنه قد آمن بإفلاس حضارته المادية، فهو يبحث عن قبلة أخرى يلتمس عندها الإيمان بالأمان ثم أستدرك بعد أن عرض الكتاب فلم يغلب على ظنه أن هذا التطلع نحو الشرق حركة من حركات الحيرة التي لا معنى لها، أو أن معناها الوحيد هو أن الحضارة الغربية تشهد على نفسها بالإفلاس، غير أنه يعتقد أن الحضارة - إذا هى كانت حضارة بحق - فهى حضارة إنسانية عامة، لا غربية ولا شرقية، إنما هى أطوار تشعَّبت مسالكها ثم تتلاقى في وجهتها، ولعلها اليوم (يوم أن ظهر الكتاب فعرضه في المقال المشار إليه سلفاً)، آخذة في التلاقي والاقتراب.

والدليل الذي يقدِّمه "العقاد" هو أن حكماء الهند كانوا يؤمنون في حضارتهم القديمة بوحدة الحياة وسريان الروح في أجزاء الوجود. ولكن العلوم والصناعات التي نشأت في حضارة الغرب هى التي زَوَّدت الهندي الحديث بآلات الرصد والتجربة التي تمحِّص هذه العقيدة وتجمع فيها بين علم التصوف (وفضائل الروح) وعلم المحسوسات (التي تقرها العلوم والصناعات). وكان حكماء الهند يقولون بوهم الحسِّ في كل شيء، وأن الحقيقة المحضة تلتمس من وراء الملموس والمسموع والمنظور، ولكن العلم الحديث هو الذي كشف عن هذا الوهم بالحس نفسه فأصبحت العين قادرة على أن تعرف ضلالها بما تستخدمه من أدوات الرصد والتحليل وانكشفت المادة الكثيفة عن ذرات تخفي على النظر، ثم تنكشف الذَّرَّات الدقاق عن أشعة وحركات يدركها الحساب ولا تدركها الأبصار.

ويروح "العقاد" بعد هذا كله فيقول (وعلى القارئ أن يتنبَّه جيداً ليلاحظ عمق هذا القول ومفاده فيما نشأ بينا اليوم من لغط كثير حول ما يسمى باطلاً بــ" صراع الحضارات"). يقول العقاد :" وكأنما كانت الحقيقة الكبرى شطرين أو جملة شطور، وكأنما كان كل شطر منها ناقصاً يشعر بالنقص ويتشوَّف إلى التمام، ثم يتلاقى الباحثون عنها من الشرق والغرب ومن القديم والحديث، وكل منهم يحمل ما وجده، ويضمَّه إلى ما وجده الآخرون، فلا تتم الحضارة الإنسانية من طرف واحد في زمن واحد أو في وطن واحد؛ بل تتمُّ كما ينبغي لها أن تتم حضارة الإنسان من حيث وجد الإنسان".

هذا هو رأي العقاد - طيَّب الله ثراه - وهو رأي الباحثين عن الإنسان وحضارته أنيَّ وجد وكيفما كان، وفيه وحده ما يكفي لتفنيد الدعوي البغيضة والعريضة تلك التي فجرَّها منذ سنوات خلت "صمويل هنتنجتون"، حول فكرة "صراع الحضارات"، ووجِدَ لها مع بالغ الأسف صدى كبيراً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001م) في الولايات المتحدة الأمريكية، ويلوح أنها فكرة مستمدة عناصرها من أساس ديني، قائمة على العصبية في أساسها، فإذا لم يكن هذا الأساس هو مصدر الفكرة، فهناك الأساس السياسي يشكلها كيفما اتفق، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك، فها هنا الصراع القائم بين ثقافتين على الأساس الحضاري. وهذا عبث..!

ترى الدعوي العريضة قد شطرت العالم إلى حضارتين مختلفتين : الأولى حضارة العالم الإسلامي وهى الحضارة الشرقية. والثانية : حضارة الغرب المسيحي، لكأنما الحضارة الغربية لم يكن لها جذور تتكئ على مصادر عربية وإسلامية، ولم تكوِّنها الثقافات العربية التي وصلت إليها من طريق الأندلس، ولم تكن كتب الفلاسفة أمثال ابن سينا وابن رشد والرازي والبيروني والخوارزمي وغيرهم قد ترجمت وانتقلت في القرن الثاني عشر الميلادي لتكوِّن بمجملها مادة غزيرة صالحة للإمداد الثقافي الغربي : في الفكر والثقافة والطب والفلسفة والفلك والعلوم عل اختلاف ميادينها، يوم كانت أوروبا كلها تغط في نعاسها، أو لكأنما الحضارة الشرقية (والإسلامية على وجه الخصوص) لم تعتمد على أصول يونانية، ولم تغذيها دماء مسيحية، ولم تتداخل فيها بعض المصادر الخارجية التي اتسع لها صدر الإسلام السَّمح الطهور؛ فهضمها المفكرون الإسلاميون، واستوعبوا منها معضلاتها، وأضافوا إليها، جديداً من ذوات عقولهم فكوَّنوا بها؛ وبما كانوا أضافوا بعد النقد والتنقيح والتعديل حضارة جديدة : (أعنى المنهج الصَّدّى في الإسلام)، وأقاموا بمقتضاها مجداً تليداً يكاد في الماضي ينقطع معه النظير؛ فالحضارة إذا هى كانت إنسانية - وينبغي أن تكون - فلا تقوم على دعوى العنصرية البغيضة والتعصُّب المرذول، ولا على تكتل الأجناس على اختلاف العقائد والنحل السياسية، ولا تتم من طرف واحد في زمن واحد أو وطن واحد، ولكنها تتم  كما ينبغي لها أن تتم - كما قال الأستاذ العقاد - حضارة الإنسان من حيث وجد الإنسان.

وإذا نحن عدنا إلى "العقاد" نراه يطرح في خاتمة مقاله المتقدم سؤلاً هاماً؛ إذْ يخيَّل إليه أن الطرفين (الشرقي- والغربي) قد بلغا الغاية من الافتراق؛ فهل هو إيذان باللقاء بين الطريفين أو لا تزال الفرجة بينهما أوسع من أن تتلاقي على وفاق؟

وللإجابة على هذا السؤال لنلحظ معاً هذا (التخريج) ولنتأمل فيه قوله على تؤدة وتمهل حيث قال :" قد بلغ سلاح العنف غايته في القذيفة الذرية وما شاكلها من القذائف التي يصول بها الغربيون، وبلغ الطرف الآخر غايته من دعوة "اللا سلاح"، و" اللا مقاومة"، التي جمعها غاندي في كلمة "الأهمسا" ونجح بها أيما نجاح. هنا أفتك سلاح عرفه البشر، وهنا سلاح الروح مجرَّداً من كل سلاح فتاك. والعجيب أن الحائر الذي يطلب الأمان هو صاحب السلاح الفتاك أو صاحب القذائف الذريَّة بألوانها. أما جماعة "الأهمسا" فلا حيرة بهم كهذه الحيرة، ولا قنوط عندهم كهذا القنوط، ولكنهم مع هذا لا يستقرون في ظلال الحيرة، ولا يحققون الرجاء في ظلام ذلك القنوط.

تُرى لو بُعث "العقاد" مجدداً، فماذا عَسَاه يقول في مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية، وهى أعْتى الدول الكبرى استخداماً للعنف وامتلاكاً للأسلحة الفتاكة، بنزع أسلحة الدمار الشامل من منطقة الشرق الأوسط وإرهابها لدول هذه المنطقة بفرض طرق الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والديني، بل والحياتي على وجه الإجمال، وذلك من خلال مشروعات لا شرعية فيها تفرض الإصلاح على كافة صوره كما يترآى في أذهان الأمريكان بحجة مبادرات التغيير والتحديث للأحوال العربية المترهلة، تمهيداً لاستعمار الشرق الأوسط من جديد وتفتيت بلاده، بحيل جديدة في ظروف جديدة، مع احتفاظ إسرائيل بأكبر ترسانة كاملة تشمل جميع الأسلحة النووية الفتاكة على أحدث طراز! هل يعدُّ هذا بالفعل طلباً للأمان يدل على فراغ الوجدان الغربي من قيم الروح، أو هو في الواقع تفوق القوة المادية على تلك الأسلحة الروحيّة؟

وهل يصحُّ مع هذا التفوق المادي أن نقول : ربما يكون شعور الغرب بالحيرة وفقدان الاطمئنان أو يكون فقره من الأمان هما بمثابة الدافع الأقوى لطلب الأمان بنزع الأسلحة على اختلاف ألوانها من منطقة الشرق الأوسط؟ نعم ! قد يكون الطلب بالفعل هو "طلب الأمان" ولكنه أمان الطالب من طريق التفوق العلمي والتكنولوجي، في حين ظل الشرق في غفلة سباته لوجود مثل هذا الأمان الموهوم هو هو الحيران.

واخيبتاه ..! فالدول العربية لا هى تمتلك قوة السلاح الفتاك، ولا هى تحفظ من قوة الضمائر والأرواح قيد أنملة، فالفقر أضحى في الحالتين لديها سواء !

 

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم