صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: إياك والمناصب.. ابن شهيد الاندلسي بين التوابع والزوابع

يسري عبد الغنيأبو أمير أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي عمر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد الأشجعي، ويشتهر بإسم "ابن شـُهـَيـْد" (قرطبة 923 - 1035) شاعر ووزير، من أعلام الأندلس ومؤرخيها وندماء ملوكها. ولد ومات بقرطبة.

كان وزير المستظهر في 1023 مع ابن حزم، إلا أن هذا الحكم سقط بعد 47 يوماً من توليه الوزارة، ففر إلى مالقة مع يحيى الأول بن علي. عاد إلى قرطبة في 1025 في دوائر قريبة من حكامها المتعاقبين.

له "تاريخ" كبير يزيد على مائة جزء، بدأه بعام الجماعة 40 هـ وختمه عام وفاته، مرتباً على السنين. جمع ما وجد من شعره في ديوان له مطبوع. ويُعتبر من التحرريين.

أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن شهيد، من كبار الأندلسيين أدباً وعلماً، مولده ووفاته في قرطبة. يعود نسبه إلى أشجع بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن مضر. وقد أشار إلى نسبه بقوله:

من شُهيد في سرِّها ثم من أشـ

                 ـجع في السرِّ من لباب اللُّباب

من أسرة موسرة، ذات علاقات وثيقة بالدولة والحكام، وذات اهتمام بالأدب، تقلَّد جدُّه منصب الوزارة في عهد الأمير عبد الرحمن الناصر[ر]، ولُقِّب أبوه ذا الوزارتين، وكانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا اللقب.

تغيرت أحوال ابن شهيد عندما تزهد أبوه في أواخر عمره واستقال من الدولة العامرية وانتقل بابنه الطفل من لبس الحرير إلى الصوف والكتان، فكان لهذا التباين بين الرخاء والفقر أثر في نفس الطفل استمر طويلاً.

أثّر عصر الفتنة في ابن شُهيد، فاضطربت أحواله المادية، وفقد الجاه العريض، بتشتُّت العامريين، وتنقل بين دويلات كثيرة أيام عصر الفتنة ليمدح أصحابها وينال أعطياتهم. والتحق بمجاهد العامري، فلم يلق ما كان يتمنى. ومدح بني حمود بعد تغلبهم على قرطبة، وأتى من الأمور ما دفعهم إلى سجنه، فاستعطفهم حتى أطلق المعتلي بالله سراحه. وسنحت له الفرصة حين صار عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الأموي خليفة، فصار وزيراً لديه، غير أن مدة هذا الخليفة لم تدم أكثر من شهر وبعض شهر. وظل ابن شُهيد على علاقة مع بعض العامريين إلى آخر حياته، وفي ديوانه بعض القصائد الموجهة إلى نفرٍ منهم.

تميَّزت شخصيته بالذكاء والحساسية المفرطة، وساعد على ذلك صمَمُه الذي رافقه طول حياته، وتأثُره بخراب قرطبة، وانقطاع أمله من أصدقائه.

وكان موته، في 11 أبريل 1035، من فالج أقام به مدة، ورام أن يقتل نفسه لشدة الآلام، ثم عدل عن ذلك، وقال في تلك العلة:

تأملت ما أفنيت من طـول مـُدَّتي

                         فلم أره إلا كلمحة ناظرِ

وحصَّلت ما أدركتُ من طول لذَّتي

                         فلم أُلفهِ إلا كصفقة خاسر

ترك آثاراً أدبية مختلفة، ما بقي منها إلى اليوم إلا قليل، منها ديوان مطبوع صدر أولاً بعناية شارل بلا عن دار المكشوف ببيروت عام 1963، ثم أعاد جمعه وتحقيقه يعقوب زكي، وصدر عن دار الكاتب العربي بالقاهرة. وله مجموعة رسائل في وصف البرد والنار والبرغوث، وغير ذلك، ولعل أهمها رسالته القصصية (التوابع والزوابع)، وهي رسالة خاطب فيها أبا بكر بن حزم، بناها على مخاطبات الجن، وله فيها آراء في البلاغة والنقد. ولقيت الرسالة عناية خاصة من النقاد ولا سيما في علاقتها برسالة الغفران للمعري وتأثيرها في الكوميديا الإلهية لدانتي.

يعد ابن شهيد من طبقة ابن خفاجة وابن عمار بالنظر إلى مجمل شعره. وقد كان من القلة الذين استثناهم المستشرق گرسيه گومس حين وصف الشعر الأندلسي الغنائي بالفقر العقلي والفكري، ولعل ذلك يعود إلى سعي ابن شُهيد إلى خلق أدب أصيل يكون أندلسي الروح قبل الموطن، فبدا شعره ـ في عدد لا بأس به من القصائد والمقطعات ـ مخلصاً لتجربة الشاعر وعواطفه الذاتية، بعيداً عن زخرفة الشكل والصنعة.

ومن جميل شعره قوله في شاهد قبر:

يا صاحبي قم فقد أطلنا

                 أنحنُ طولَ المدى هجودُ

فقال لي: لن نقوم منها

                 ما دام من فوقنا الصعيدُ

وقوله في معارضة امرئ القيس:

ولَما تملأَ من سُكره

                 فنام ونامت عيون العَسَسْ

دنوتُ إليه على بعدهِ

                 دنوّ رفيقٍ درى ما التَمَسْ

أدبّ إليه دبيب الكَرى

                 وأسمـو إليه سمو النَّفْسْ

شبهه أبو حيان بالجاحـظ في مزجه الجد بالهزل في روحه الساخرة. ووصف الثعالبي نثره بأنه «في غاية الملاحة» وقال عنه أبو حيان الأندلسي: «كان يبلغ المعنى ولا يطيل سفر الكلام»، وقد أطنب ابن بسام في الثناء على نظمه ونثره وأدبه.

التوابع والزوابع

التَّوابع والَّزوابع رسالة أدبية، كتبها أبو عامر أحمد ابن عبدالملك بن شُهيد القرطبي الأندلسي (382- 426هـ). وهي قصة خيالية تحكي عن رحلة في عالم الجن. يلتقي البطل خلالها بشياطين الكتّاب، فيحاورهم ويحاورونه. ويخلص من ذلك إلى سمات نقدية وأدبية محدودة.

تنقسم الرسالة إلى مجالس أربعة هي: 1- مجلس الشعراء 2- مجلس الكُتاب 3- مجلس أدبي نقدي 4- مجلس أدبي ساخر يلتقي فيه بحيوانات أدبية.

ينص ابن شهيد على أن رسالته موجهة إلى من كنّاه بأبي بكر، وكيف أن أبابكرٍ تعجب من عبقريته وعلمه، فأقسم أن هذه الروح لابن شُهيد، تصدر عن أدب فوق قدرة الإنسان، ومن ثم فإن لها تابعًا يمدها ويعينها.

وتتخذ رحلة بطل التوابع والزوابع مسارًا تاريخيًا في لقائه بتوابع الشعراء في المجلس الأول، ابتداء من العصر الجاهلي والأموي والعباسي. فيحاور عددًا من توابع الفحول كامرئ القيس وطرفة وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والمتنبي. ويتجاوز عصر صدر الإسلام إذ لا يرى فحولاً بين شعرائه.

وهو يوفق بين البعد الجسمي والفكري، ليستخرج نفسية الشاعر وذاته، فيرسم له صورة قلمية في ضوء ما ورد من أخباره. وهو أبدًا ينتزع شهادات الإجازة بشاعريته من هؤلاء الفحول، فهو لا ينشدهم، إلا في تلك الأغراض التي اشتهروا بها، وذاع صيتهم فيها.

وفي المجلس الثاني وهو مجلس الكُتاب، يقدم ابن شُهيد رؤية جديدة؛ وهي أن للكتّاب شياطين كما للشعراء شياطين. ويعتمد النهج التاريخي هنا؛ حيث يبدأ بالجاحظ شيخ الأدباء، ويحاور عبد الحميد الكاتب وبديع الزمان الهمذاني، ويساجلهم في قضايا تتصل بالسجع والمزاوجة، وتتصل بقضايا الأساليب والبيان. ويخلص إلى انتزاع شهادات بإجازتهم له وتفوقه عليهم.

أما المجلس الثالث فيبين ابن شهيد من خلاله طائفة من القضايا النقدية التي كانت تشغل ذوق العصر ومن أهمها قضية السرقات، فيوضح رؤيته النقدية المتميزة في هذا المقام ويستشهد عليها.

وفي المجلس الأخير ينتقل ابن شهيد وتابعه إلى أرض بها حيوانات من الجن، ويشفُّ هذا المجلس عن حس ابن شهيد الساخر؛ حيث يحكم في قطعتين شعريتين غزليتين لبغل محب وحمار عاشق. وتنتهي الرسالة بحوار ابن شهيد مع الأوزة التي رأى أنها تابعة لبعض شيوخ اللغة، وأرادت أن تناظره في النحو والغريب ، فأعرض عنها وزجرها لسخفها وحماقتها.

وتُعد رسالة التوابع والزوابع مَعْرِضًا، يقدم ابن شهيد من خلاله صورة للأدب والأدباء في عصره؛ كما يظهر براعته بانتقادهم والسخرية منهم؛ فيضع نفسه في المكانة الأدبية التي لم ينلها بين معاصريه.

 فالرسالة بذلك رد عملي ينافح به ابن شهيد عن عبقريته ونبوغه، حين انتقص خصومه وحساده من مكانته.

فهدف الرسالة إرضاء ذاته المتفوقة، ثم إظهار براعته وبلاغته بالنيل من الخصوم والأعداء؛ لذلك كانت السخرية المريرة الشرسة أداة من أقوى أدواته.

ثم تضمنت الرسالة آراءه النقدية في الشعر والنثر، التي بسببها اكتسب عداوة معاصريه. وأهم معيار نقدي لديه أن البيان ليس من عمل المعلمين أي المؤديين، وأنه نفسٌ من الرحمن لاتقوم به دراسة النحو أو غريب اللغة ﴿الرحمن¦علم القرآن¦خلق الإنسان علّمه البيان﴾ الرحمن: 1-4 . وفحوى نظريته النقدية أن البون شاسع بين الموهبة والاكتساب.

ومن أهم سمات أسلوبه القصصي حظه من الخيال. فخياله قوي خلاق تحفُّه طائفة من الصور الدقيقة الوصف مع عناية بتصوير الأخلاق والأشكال في إطار من التحليل النفسي. وقد اهتم بالأوصاف الدقيقة وكأنه، دون أن يشعر، يعوض عن ضعف حاسة السمع لديه فهو يكثر من الصور المتحركة والمسموعة.

كما كان عنصر التشويق أداة من أدوات أسلوبه، بجانب الاستطراد الذي يقتضيه السياق القصصي، فضلاً عن ظاهرتي الحوار الداخلي والمباشر. وتزخر الرسالة بروح الفكاهة والإضحاك بما يضع ابن شهيد في مكانة بارزة في دنيا السخرية والطرافة.

ومن المرجح أن ابن شهيد استوحى موضوع الرسالة متأثرًا بقصة الإسراء والمعراج، كما تأثر بها الإيطالي دانتي، في رسالته الكوميديا الإلهية. وهذا باب طويل في الأدب المقارن. ويماثل التوابع والزوابع في المشرق رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. فالكاتبان يلتقيان معًا في الخيال والأوصاف والسخرية والإضحاك، ولكنهما يختلفان في اللغة. فلغة المعري لاتخلو من تعقيد وإغراب وسجع ملتزم، ولغة ابن شهيد سلسة طيعة بعيدة عن التكلف والصنعة، تزاوج تارة، وتسجع أخرى وتسترسل ثالثة، ففيها لكل مقام مقال. ولئن اتفقت الرسالتان في عرضهما للمشكلات الأديبة في قالب قصصي، وتوجيه النقد للمعاصرين، فقد اختلفتا في الإعراب عن مؤلفَيهما؛ حيث شفَّت التوابع عن أديب فنان على حين شفَّت الغفران عن أديب عالم.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

..........................

أسانيد:

يعقوب أبو زكي، ديوان ابن شهيد (دار الكاتب العربي، القاهرة).

ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، تحقيق شوقي ضيف (دار المعارف، القاهرة)

المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (دار صادر، بيروت 1968)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم