صحيفة المثقف

جبار ماجد البهادلي: تَمَثُّلَاتُ الذَّاتِ السِّيَرِيَّةِ فِي السَّردِ الرِّوائيِّ.. دِراسةٌ نَقديَّةٌ في رِوايةِ (خُطَىً فِي الضَّبَابِ) لِذِكرى لعيبي

جبار ماجد البهادليإنَّ من يُجيل النظر ممعناً قصدية البحث والتأمُّل الفكري والتَّقصِّي المَنهجي في فضاءات رواية (خُطىً في الضَّبابِ)، للأديبة الشاعرة والقاصَّة العراقيَّة ذكرى لعيبي، والصادرة عن دار الدراويش للنشر والترجمة في بلغاريا عام (2020م) في (102) صفحةً من القطع المتوسِّط، سيرى ذلك الكم القصصي العددي الهائل، والكيف النوعي المُحتشد لتمظهرات إثبات النسق الذاتي السيري،وتمثُّلاته الأدبية التي شغلت مِساحاتٍ واسعةً متساويةً من وقائع أحداث الرواية المتنامية درامياً وفنيَّاً.

التَّمثُّلاتُ السِّيريَّةُ الذَّاتيَّةُ

وقد تمثَّلت مظاهر هذا السرد الأدبي الذاتي في سبعة وعشرين عنواناً فرعياً تُشكِّل في حضورها النسقي الحداثوي روافد صغيرةً، أو منابعَ ثقافيةً رئيسةً تصبُّ تغذيتها الفكرية ومرجعياتها المعنوية في دائرة مركز العمل الفنِّي، وفي رؤيته الفلسفية التي تُشكِّل نقطة الإضاءة المشعَّة،وبؤرته المهمَّة في تكامل الوحدة الموضوعية لعنوان الرواية، وعتبته النَّصيَّة الرئيسة الموازية لمتن النصِّ الأدبي (الرِّسالي) . فهذه السبعة والعشرون جدولاً عنوانياً التي احتواها العمل الروائي السردي يَتفرَّدُ منها تسعة عنواناتٍ فنيَّة مائزة برشاقة لغتها التركيبية الانزياحية، وبعدها الدلالي والجمالي العميق الذي يُضيء فضاءات النصِّ الموازي، ويعكس ظلال روحه الموضوعية والفنية أحداثاً، وشخوصاً، وبناءً ولغةً طيِّعة معبِّرةً عن معطيات الواقع الراهن المعاش بوحدتيه (لزمانية والمكانية)، وإسقاط تجلياته وأنساقه الخفية والمتجليَّة على ثيمة الرواية الموضوعية.

والحقيقة أنَّ كلَّ عنوان من هذه العنوانات الصغيرة المُكتَنَزة بصياغة كثافتها المعنوية ودلالاتها السرديَّة يكشف جانباً سيريَّاً إنسانياً قَصصيَّاً مهمَّاً من جوانب الرواية وعالمها، ويرتبط بها فنيَّاً وموضوعياً و(زمكانياً) . وقد تمكّنت الساردة ذكرى لعيبي من الإمساك بتلابيب خيوط هذه العنوانات الثرية بسلاسة لغتها وأحداثها الموضوعية، ونسجها وربطها بواقعة وحدة الحدث الموضوعية التي تشكِّل المُهيمن الأكبر للوحدة العضوية التي بُني عليها فضاء النصِّ السردي بناءً تكامالياً موحَّداً.

وقد تعود أسباب هذا النجاح الفنِّي في تعاضد عنوانات الرواية الفرعية وتعانقها مع عتبة موضوعها الرئيس النَّصِّي هو الغاية والمقصد في بلوغ الهدف السامي في جماليات الإبداع السردي إلى جملةٍ من الأسباب الممكنة، والمسوغات المتاحة في فنيَّة التعبير عن نفسها التي ميَّزت لغة الكاتبة ذكرى لعيبي في حداثة المنهج البنائي النسقي (الأسلوب والأسلوبية)، أي في جماليات لغة الأسلوب طريقاً، ومنهجاً خاصَّاً، وفي الأسلوبية النسقية درساً إبداعياً تطبيقياً بليغاً في تخليق وإعادة إنتاج الحدث الذاتي،وتوظيفه توظيفاً سردياً أدبيَّاً يتماهى بتوقعاته وانشغالاته البنائية النصيَّة مع معطيات ورؤى الواقعة الجمالية، مع مخرجاتها الفنية التي تعزِّزها لغة الكاتبة وأسلوبيتها التعبيرية الرَّصينة في قوَّة التماسك النصِّي وسيرورة السَّبك والحَبك اللُّغوي والدلالي. وقد يكون ذلك النهج الأسلوبي وفقاً لثأثيرات القول البوفوني الفرنسي الشهير من أنَّ (الأُسلوب هوَ الرَّجلُ) .

تَشعيرُ لُغةِ السَّردِ الرِّوَائِيِّ

2679 ذكرى لعيبيإذا كان جوس إدموند في كتابه الموسوم (الوالد والولد) خيرُ من ترَجم لنفسه، وكتب سيرته الأدبية في قالب روائي قصصي ماتع، فإنَّ ذكرى لعيبي قامت بذات النهج القَصصي، والطريقة البارعة، والأسلوب الفنَّي الجيِّد، وصدق العاطفة المكنونة،والقدرة على السخرية من الواقع المعيش في تحقيق الغاية التاريخية من السرد.ولم تغفل عناصر الفن السيري التي تجلب المتعة للقارئ كما يرى إحسان عباس. وذلك لأنَّ الكاتبة كانت صادقةً مع ذاتها في سيرتها ولو كان الصدق نسبياً.

ولعلَّ هذا المؤثِّر اللُّغوي الأسلوبي في (خُطىً في الضَّبابِ) قد جاءت تأثيراته السردية المباشرة على مناخ الرواية وأقانيمها الداخلية مُتجليةً من خلال ما تمتلكه الساردة لعيبي من رؤية فقهيةٍ لسانيةٍ واعدةٍ، وقدرة مساحية إثرائية في تطويع الحدث وتصنيعة جمالياً. فضلاً عن تلك السِّعة الفكريَّة، والاستعداد النفسي المعرفي المكتسب، والقدرة اللُّغوية المخيالية التي تتمتع بها في تولي وإنتاج صور قَصصية سردية انزياحية انحرافيةً ماتعة الإدهاش في كسر تَوقُّع المألوف السياقي، رغم قساوة الحدث وكمية الحزن وضبابية المجهول السَّردي القادم؛ كون الساردة أساساً هي شاعرة إبداعية محترفة في الشعر القَصصي الحكائي، وفي إنتاج تشعير لغة السرد، وتسريد لغة الشعر نثرياً، مما كان علامةً فارقةً في تميِّز بلاغة مستويات لغتها الشعرية والنثرية التي جاءت خالية من مشاهد سرديات الآيروتيك الجنسي المبتذل في الأحداث.

ولنتأمل في هذا السياق اللُّغوي الساردة كيف تتكلَّم على لسان حالها الذاتي في مخاطبة نظيرها السردي البطولي الحبيب المنتظر (أحمد) بلغةٍ مجازية مخيالية طلبية محبَّبة في إيقاع تأثيرها السردي على النفوس " كُنْ ليْ غيمةً تَمطرُني حُبَّاً لترويَ صحراء حياتي، وفجراً من خلاله تُشرِقُ أيامي القادمة"، (ص17) . ثُمَّ تمضي في تشعيرها النثري في الإجابة عن تلك الأماني والتطلُّعات المنشودة، فَتسرِد بلغة المستقبل الآتي بحرف فعل المشاركة السيني القريب (سأروي)، وعلى لسان بطلها أحمد "سأروي نبعكَ صفاءً وأرتوي منكَ كي أديمَ زهراتكَ. تُصبحين على خيرٍ، تُصبٍحُ على خيرٍ"، (ص17) .

فهذه اللُّغة الرومانسية النثرية العالية التشعير الانحرافي في البلاغة الجديدة تقودنا في إحالتها الأسلوبية إلى لغة الساردة بهذا العمل الفني،وكيف كانت تشيع في سيرها، أي بمعنى آخر كيف كانت تُحلِّقُ إبداعياً في صناعة بنية جملها التسريدية خاصةّ وأنَّها التجربة الأولى لها في القصَّ الحكائي، وإنَّما في عالم الرواية الفسيح الذي يقتضي منها نفساً رائيَّاً خاصَّاً ويوجب عليها حرفيةً عاليةً، ومهارةً فكريةً وفنيَّةً كبيرةً في خاصيتي الإبداع والابتداع، والتخليق والتحليق، والمناورة

والمداورة في استمالة قلب المتلقي العادي، والنموذجي الواعي لهذا العالم الكبير،والتأثير به سحريَّاً وجذبه دون انفكاكٍ منه.

لُغةُ الرَّائِي السَّرديَّةُ

فكلُّ هذه المؤشرات الأسلوبية والفنيَّة كانت ميزةً واضحةً، وعلامةً سيميولوجية مضيئةً وجَّهت الساردة لعيبي إلى الكتابة السردية وإتمام العمل الفنَّي بموازاة لغتين خطابيتين تعبيريتين تكشفان عن حالهما، أمَا بلغة المتكلِّم السارد على لسان حال (أميرة) الشخصية الرئيسة الأولى في الرواية وبطلة أحداثها، وهي بالحقيقة القناع أو الماسك الرمزي الذاتي السيري الذي تكمَّمت به الساردة ذكرى لعيبي بطلة الرواية الحقيقية وكاتبة هذا العمل الفنِّي كما تكشف عن ذلك تمظهرات لغة الخطاب السردي الدالة عليها (ضمائر المُتكلِّم) تاء الفاعلية الحدثية "شعرتُ بالتعبِ والمرضِ من هذه الحرب النفسيَّة المدمِّرة،فقررتُ إمَّا إنْ أعود بأولادي إلى العراق أو أبقى لأجلهم وتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من التحدِّي،اقترحتْ عَلَيَّ نوال أنْ أبقى. بقيتُ ...وليتني لم أفعل"، (ص33) . أو الغوص في أعماق الكتابة السرديَّة بلغة الراوي العليم، وفق النسق الفنِّي الاعتباري المألوف في كتابة السرد الإخباري المعبِّر عن الشخصية الروائية ذاتها، "أصاب المرض أميرة. بَدأَ التعبُ على ملامحها أو ربَّما تعب السنينَ الجائراتِ الموحشات ظهر الآنَ.لكنَّها لم تتوانَ عن إرسال صباحاتها ومساءاتها إلى أحمد"، (ص56) .

وأحياناً أُخر تتخذ لغة السرد طريقاً ثالثاً، فتمزج بين لغة المُتكلِّم السارد أو لغفة السَّارد الراوي العليم، ولغرض فنِّي أو موضوعي يُحتِّم ذلك الخلط الذي يُثري العمل رصانةً وحيويةً لابدَّ منها في البناء السردي بهذا التشاكل الروحي المنعش لها، "لا أدري ماذا أُسمِّي هذا العشق أو الوَلَهَ أو التَّعلُّق الجنوني، لكنَّ أميرة كانتً تعيشةً، وتتنفسه،رغم أنَّ واقعها مريرٌ وألمها كبيرٌ"، (ص54) .وتعليل ذلك الخلط التعبيري بين لغة الأسلوبين يأتي أمراً طبيعياً وتلقائياً غير مقصودٍ؛ لكنَّ الأهمَّية في ذلك المزج هو قصدية التماهي الشعوري الذاتي والنفسي بين شخصية أميرة بطلة العمل الروائي الافتراضية، وشخصية الكاتبة لعيبي صاحبة الذات االسيرية الحقيقية التي تقتفي أثر العمل السردي مُضمرةً شخصيتها بأنساق ذاتيةٍ موضوعيةٍ، وتمثُّلات أدبية إبداعيةٍ.وهذا ما أكسب العمل الفنِّي قيمةً إنسانيةً وموضوعيةً عُليا في التَّحليق بفضاء السَّرد وتخليقه جمالياً.

مُقارَبةُ السَّردِ لُغَةً بَينَ (الفُصحَى العَاميَّة)

فإذا كانت اللُّغة العربيَّة الفصيحة هي السائدة في لغة الرواية في تأثيث وبناء تراكيبها السردية السياقية، فهذا لا يعني أنَّ الساردة ذكرى لعيبي لم تنجح في استخدام مفردات علمية عملية، وتوظيف جملٍ تركيبية في اللَّهجة المحلية العراقيَّة أو العربيَّة الخليجية؛ وذلك؛ لأنًّ الكاتبة السيَّدة لعيبي تُقيمُ منذ زمنٍ بعيدٍ في مغتربها بأُمارة (الشارثة)، أي في الأُمارات العربيَّة المتَّحدة. وأنَّ الجدوى من ذلك التوظيف السردي بلغة العامِّية الدارجة هو الضرورة السرديّة التي تقتضيها واقعة الحدث الجمالية التي تستدعي فيها الكاتبة إلى الميل إلى هذا اللَّون من الانحراف اللُّغوي الماتع؛ وذلك لما تمنحه معطيات هذه التقنية الدخيلة من تأثيرات لغوية ونفسية ودلالية كبيرةً، ويكون الأسلوب كثيفاً وأكثر تأثيراً واستمالةً ووقعاً على النفس في التعبير مما تعطية مؤثِّرات اللُّغة الفصيحة التي تقعَّرت الكثير من مفرداتها، وتصحَّرت بعض كلماتها، وفقدت معانيها، وأصبحت رسوماً جافةً مَيِّتَةً لا نسغ لروح حياةٍ فيها، ولا أثر لرواء ماء يُنعشها أو يُحيها.

ولإنَّ هذا التقارب (الفُصحِي العَامي) يشي بأنَّ تأثير اللَّهجة العامية الدارجة يدخل مباشرةً إلى القلب دون استئذان؛ لكونها لغة الواقع الشعبي المألوف الذي لا يحتاج إلى تفسير أو تعليل أو تحليل معقَّد؛ لخفَّة تكثيفها الدلالي التعبيري، وسعة تأثيرها المعجمي في بناء العبارة السردية وتأثيها تأثيثاً لغوياً مُحكَمَاً ومعبِّراً. وكما استخدمها في الشعر العربي الحديث الشعراء الروَّاد كالسيَّاب والبياتي وغيرهم؛ لدلالتها التأثيرية ووقعها النفسي المأثور الذي دفع الساردة لعيبي إلى استثمارها سردياً في أكثر من عشرة مواضع فنيَّة استدعتها هوية الضرورة الزمكانية لجماليات الحوار القَصصية لعالمنا العربي. فمن نماذجها ما هو معبِّر عن واقع حال لسانها، "ما بي حَيل دَمعة بَعَد"، (ص14)، أي غير قادرة على ذرف الدموع للبكاء، وقولها ماجاء على حدِّ تعبير الحاج جاسم الذي اتَّصل بها هاتفياً متسائلاً عن ألوانها الحالية كيف هي تسير، "مرحباً أَمَّ خالدٍ شلونكم؟"، (ص56)،وقوله أيضاً ساخراً بكناية التعبير عن ذات شخصيتها القويَّة،"خَشم يَابِس"، (ص 57)، أي لها كبرياء جافٌ فارغٌ. وغيرها من الجمل والألفاظ التي تلامس شغاف القلب مما تستدعية حالية المقام السردي، ويَفرضه واقعاً آنياً مؤثِّراً، ولنا في ذلك التأثير النفسي ما تبُوح به أميرة، (ذِكرَى) في التعبير عن نفسها عما أصابها من وجع السنين، وآلامها الخفيَّة، وتكرار خيبات العمر المتوالية التي وصلت بها إلى حالات البكاء الشديدة، ومع ذلك حينما أصابها كلُّ ذلك الشرر راحت تبرِّر ذلك الشعور الضافي بالحنين قائلةً:"أنا بخيرٌ، لا تقلقْنَ (بَسْ شُويَهْ حَنيتْ لَهْلِي) " (ص57) .

ويبدو لي أنَّ هذا الاهتمام الذي تُبديه الكاتبة في تدوين حوارات نصيَّة ساخنة ومؤثِّرة في تأثيث بناء النصِّ السردي وتطعيمه أو تخليقه باللَّهجة المحلية العامية الدارجة كانت مبعث فخرٍ، ومحلَّ اعتزاز الساردة في الكشف عن جماليات هوية لهجتها العراقية الأُمِّ بهذا الإِخبار التوصيفي الذي تُصرِّحُ به لِمُتَلقِّيها قائلةُ: "لأوَّل مرَّةٍ أشعر بجمال لهجتي العراقية هنا[ في الأُمارات].لهجتُنا كانت ساحرةً بالنسبة للخليج، يعشقونَها كما يحترموننا، لأوَّل مرَّةٍ أكتشف أنَّ اللَّهجة العراقية هُويَة أُخرى.."، (ص 67) . أي مثلما أنَّ اللُّغة الفصيحة هُوية البلد، فإنَّ اللَّهجة العامية هُويَةٌ أُخرى تُضاف لإرث تاريخه.

أَرخنةُ المَكانيَّةِ والزَّمانيَّةِ

عندما يكون التداعي الشعوري بجماليات اللَّهجة العراقية العامية هُويَة مضافة أخرى تُضاف إلى سجل إنجازات السارد المبدع إنساناً مرتبطاً بوطنه الكبير، فإنَّ الشعور بالانتماء إلى الأرض التي عاشت فيها الكاتبة مكانياً وزمانياً، والمنبت الذي ترعرعت فيه وطناً (بيتاً صغيراً) يَفوق كلَّ الهُويات الوطنية الأخرى، ويُضفي عليها مُسحةً من جمال الانتماء التاريخي وصدق الأصالة والانتساب التي لا حدود لها. فالمدينة التي شكَّلت تاريخ حياتها الإنساني والاجتماعي والثقافي لا بُدَّ وأنْ يكون حضورها الجغرافي، واستدعاؤها الحضاري التاريخي واقعاً فكريَّاً في صفحات سردياتها أرخنةً وتدويناً، لتفاصيل ذاكرة هذه المدينة، وخلودها الحضاري (الزمكاني) الذي تتداخل فيه لبوس الحقيقة التاريخية بلبوس الخيال السردي لقصَّة لرواية.

فلا شكَّ أنَّ هذه المدينة هي (العُمَارَة) مركز محافظة مَيسان مسقط رأس المكانية، ومنبتها الأرضي الذي عاشت فيه الكاتبة وتنفَّست هواءه، وأرتوت بعذوبة مائه، فلا عجب من تسريد ذاكرتها الثقافية التي تنتمي إليها جذراً وتخليداً وأصالةً لسيرتها الذاتية، "يُقال أنَّها مدينة الحبِّ والجمال، ومدينة الكنوز التاريخية،من تلك المدن الجنوبية الغافية على دجلة بدلالٍ،المطلة على جرف الحياة بأبنيتها الطينية وصرائفها وبساتينها وحقولها المحروثة. من هذه المدينة انبثقت أميرة". (ص7)، أي من مدينة الجنوب (العُمَارَة) عاصمة أقليم مملكة مَيسان في الحضارة السومريَّة ظهرت ذكرى لعيبي إلى فضاء الوجود.فبهذا الانبثاق التاريخي العريق حَريٌّ بالساردة أنْ تَجْمُل أرخنة فن سيرتها الأدبية،وتتغنَّى برموز أمجادها التاريخية الكبيرة، وقد ذيَّلت هذا التدوين الوطني بإقرار صادق إلى هذه المدينة،حبَّاً ووفاءً وانتماءً إلى الأرض التي أنجبتها.

ومن الطبيعي اللافت أنَّ أرخنة هذا الجزء المكاني، لا بُدَّ أنْ يَسبقه أو يَلحقه في هندسة هذا التدوين المعماري السيري الذاتي أرخنةٌ للكلِّ، أعني للوطن الكبير (العراق)، وما شهد وضعه السياسي وواقعه التحوّلي الحديث من جملة أحداث تاريخية جِسَام مؤثِّرة. وقد حفَّز هذا المتغيِّر السياسي الكاتبة الساردة السيِّدة لعيبي واستفزَّ مِهمَازَ وعيها الفكري والثقافي في الخوض بتدوين تمظهرات الواقع السياسي المتهالك، وما جرى للعراق من أحداث وتحوّلات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية عديدة أدَّت إلى متغيِّراتٍ جديدةٍ لم تكن مألوفةً من ذي قبل، فرضتها سياسة الغزو الأمريكي للعراق، والذي اهتمت بتدوينه في وقائع سردياتها اليومية لهذه المدينة، "بعدَ عام من زواجي الثاني، دخلَ العراق في مُنحنى سياسي خطر، كانت لأوضاع هناك قلقةً ومؤشِّرات على أنَّ البلد سيخل حرباً غير متوازنة"، (ص34) .

لم تكتفِ الرائية لعيبي بهذا التدوين التوثيقي الزماني لشهادتها على جريمة العصر فحسب، بل إنَّها تُعْرِبُ عن موقفها الآيديولوجي الفكري من ذلك الغزو العاتي، وما يحدث في العراق الجديد من مشاهد ومتغيِّرات ألحقت الضرر به وبمستقبله السياسي والاقتصادي. كما أكدت أنَّ "الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، أو معركة الحواسم، أو حرب الخليج الثالثة، مُسمياتٌ كثيرةٌ لمعنى واحدٍ، لتدمير روح العراق"، (ص34) . والكاتبة بقدر ما هي مُنهَمِكَةٌ بوضع همومها الذاتية وظروفها الصعبة ومحنتها على الصعيد الشخصي، فإنَّها لم تَخفِ قلقها البالغ وتشاؤمها عما يحدث لبلدها العراق. فقد كانت واعِيَةُ الوطنِ وحبُّهُ حَاضرةً في دواخل أعماقها،تسريداً وتنديداً، وتدويناً وأرخنة تتناسب مع قالب قصَّتها الموضوعية دون إقحام فجٍ يعيب الاقتصاد اللُّغوي في الترهل السَّردي، وهذا واضح في مدونتها التوثيقية عن مدينة دبي التي وطأت قدماها أول مرَّة أرضها المُبهرة، "لكنَّ دبي مدينةٌ فاتنة، مدينة لا تعرف أنْ تنام دون ترسمَ بناءَ عُمارةٍ أو شارعٍ أو مركزَ تسوّقٍ، لتصحوَ صباحاًعلى وجود مَعْلَمٍ جديدٍ، مدينةٌ تُشعرُكَ بالتَّرف والرفاهية، تُشعرُكَ بأنَّك مسؤول عن نفسك ومستقبلك"، (ص66) .

عتباتُ النَّصِّ السَّرديِّ

إنَّ من يقرأ رواية (خُطىً في الضَّبابِ) سيلفت نظره عنوانها الفنِّي وتركيبه الجُملي الاسمي المثير بدلالاته الإنسانية القريبة، وتوريته الانزياحية البعيدة؛ لكونه حَقلاً دلالياً لغوياً مائزاً يُعلِن بوضوح عن طبيعة النصِّ الموازي أو ما يُسمَّى أيضاً بالنصِّ المصاحب الذي يكشف عن نوع التلقِّي القرائي والجمالي لهذا النصِّ الرئيس. ومن ثَمَّ الولوج من خلال بوابته الكبرى الرئيسة إلى فضاء النصِّ السردي، والتمتع بعوالمه الموضوعية والفنية، ومعرفة اتجاهاته المتجلِّية والخفية الغامضة.

فالعنوان أو النصُّ الموازي أو (المَناص) كما يُسمِّيه بعض الكُتَّاب والنُّقاد هو إحدى عتبات النصَّ السردي، أو مفتاح من مفاتيحه الدلالية المهمَّة التي بواسطتها تتمكَّن من معرفة واقعة الحدث السردي (بؤرة الحدث)، أو كلٍّ ما يمتُّ بصلةٍ إلى النصِّ؛ كونه (ثُريا النصِّ) أو أيقونته السميائية الملغومة بالدلالات والإيحاءات العلاماتية البعيدة، أو بما يتعلَّق به رمزياً.

1- الشَّفرةُ العُنوانيةُ

فحين نذهب إلى تفكيك شفرات النصِّ اللُّغوية نفهم من ذلك أنَّ كلمة (خُطَىً)، هي جمع الجموع لمفردٍ من الكلمات، هو (خُطوةُ)، أي ما تتابع من الخُطواتِ في حالة المشي، وأنَّ (الضَّباب)، هو بخار الماء المتكاثف الذي يَحجُب الرؤية البصرية على سطح الأرض، فتنعدم به الرؤية الكليَّة للمحسوسات الأرضية. أمَّا التعبير الدلالي لهذه الجملة الاسمية المفخخة بالمعاني السيميولوجية، فيُشير بتجلٍّ إلى تلك الخُطى الذاتية السيرية لكاتبة النصِّ، وإلى رحلة التِّيْهِ والضياع الحالية التي خَطَتْهَا الساردة - في حياتها- نحوَ ذلك العالم الضبابي الذاهب إلى المجهول الغيبي اللامُتناهي الذي لا تُعرفُ له محطَّاتٌ واضحة المعالم يقف عند حدودها، سوى تلك العُتمَةِ التي تُغلِّفُ حياتها،والحزن الشديد الذي يَهصُر قلبها كامرأةٍ أُنثى ذاقت وقتذاك مرارة الاغتراب الروحي والجسدي، والحرمان الاجتماعي والثقافي في مرافئ رحلتها السندبادة العرجاء.

فـ (خُطىً في الضَّبابِ)،هي السير في دربٍ مجهول مُنعدِم الرؤية الشمولية، أيْ ضَياعٌ في متاهة من الضباب الواسع الذي لا آخر معلوم له. وليس له هدف أو غاية مقصودة تَعرف نهايته الحتمية،إنَّه طريق الاضطرار الذي تفرضه الأقدار مهما كانت النتائج. وبهذا المعنى اللُّغوي والدلالي يكون العنوان كعتبةٍ نصيَّة قد أدَّى وظائفه السردية الأربع المناطة باشتغالاته: (الإخبارية، والدلالية، والتأويلية، والثقافية) . تلك الوظائف التي ستتضح نتائج حركتها الصورية من خلال عتبات النصِّ الأخرى التي حدَّدها جيرار جنيت للنصِّ الأدبي تغذُّ به سيراً إلى آفاق ورؤىً تغور به إلى عالم سردي ممتد.

2- لَوحَةُ الغِلافِ الأُولَى

أو ما يعرَف بالوجه الأَّول للغلاف الذي تصدَّرت أعلاه عتبة العنوان االرئيسة للكتاب، أي (اسم المُؤَلَّف والمُؤَلِّف) . الذي يُمثِّلُ لوحةً فنيةً بصريةً بسيطةً لطريق سائر مستقيم تُحيط به سماء لونية زرقاء مُلبَّدةٌ بضباب شفيف يتخلَّله فنار ضوئي أصفر خافت ينثال بضوئه الضئيل على المدى وسط هذا الطريق المعتم الرؤية، والذي تشكَّل معالم رصيفه دالة صورية أنثوية سوداء تميل إلى الدكنة المُعبِّرة بدلالة رمزيتها الأيقونية الصورية عن صاحبة الخُطى الضبابية، وقد اختفت ملامحها الشخصية الفارقة كليَّاً، ولم يبقَ منها سوى شكلها الخارجي المُتشِح بلون السواد الدّال على كونها امرأةً تعاني الألم والحزن. فالغلاف على الرغم من كونه تمَّ تشكيله اللَّوني بلون إزرقاق تكثيف السماء إلَّا أنَّه يميل في خفاياه الداخلية إلى ظُلامية الضباب للدلالة على أنَّ الخطى الموضوعية تُشير إلى أنَّها مجهولة النهايات الزمانية والمكانية وغير محدَّدة.

ويُلاحظ على الوجه الداخلي الباطن من لوحة الغلاف الأولى نفسها تترآى لك صورة الرائية الساردة موشومةً باسمها الحقيقي الصريح (ذكرى لعيبي) يَعقبهُ نصٌّ نثري لها يكشف جانباً مهمَّاً من رؤية الكاتبة الشخصية والمسوغات التي دعتها إلى القَصص (السرد الروائي) السيري الذاتي، موضحةً التعبير حول مفهومها الفلسفي عن الذاكرة والقَصِّ الذي تبوح به مرددةً القول: إنَّ "الذاكرة نصُّ يَعبُرَ الأزمنةَ، والقَصُّ ذاكرة ثانية تبقى وتتمدَّد بلغته وأسلوبه. ذاكرة تحمي الكتابة من الموت، رؤىً في أزمنة التيهِ والشتات والركض وراء الحقِّ الغائب، البحث عن المكان - الوطن، عن المأمول - الحبيب- عن ابتكار فصول تتحدى البكائيات التي فتحنا أعيننا على لونها العدم )، (ص 0) .

هذا الهجس الشعوري الذاتي ما يخصُّ رؤيتها الفكرية في إنتاج هذه الرواية، أمَّا ثيمة الرواية الموضوعية وأرخنة فكرتها زمانياً، فقد جاء تعبيرها القَصَصِي الآتي موضِّحاً موقفها الإنساني من تداعيات هذا العمل السردي الروائي الصغير حجماً، والكبير كيفاً، فإنَّ أنساق "روايتي تدينُ الحرب إذ لا مجال للتمويه والتورية في الدمار، تُدين الرجال الذين شَوهوا المبادئ، لنيل مآربهم، تُدينُ الجانب الشَّرسَ من العالم الذي يغتصب عُذريةَ الكلامِ، وشغفَ الحبِّ وبراءةَ الأحلامِ. حكمةُ قَصٍّ أتيتُ بها من وطن الانتماء، إلى فضاء المعاناة. بدأتُ بكتابتها في زمن تنحَّى به عن المسرات،وأنجزتها في زمن جائحة كورنا". وفي الحالتين فإنَّ الزمن الذي تخطَّت به الضباب فاقد لشَّتى أشكال الفرح ومباهج المسرات. كما أنَّها في حكمتها القَصَصِية لمْ تأتِ بأنساقٍ أدبيَّة وتمظهراتٍ ذاتيةٍ سرديَّةٍ خارج وطن الانتماء العراقي إلَّا ما كان مُتَّصلاً بأحداثه.

3- لَوحَةُ الغِلافِ الثَّانيَةُ

أمَّا الوجه الخلفي للوحة غلاف الرواية الثاني الذي جاء حافلاً بلون أصفر جذاب، فقد تضمَّن محتوى عنوان الرواية

أيضاً، واسمَ كاتبتها (ذكرى لعيبي) ؛ ولكن الشيء المهمَّ في هذا الغلاف أنَّه تضمَّن علامتين بارزتين من أيقونات العمل الروائي، العلامة الأولى تضمَّنت جزءاً سردياً مقتطعاً من موضوع عنوانها الفرعي الفنِّي الثامن عشر الذي توسَّط صفحات الرواية باسم (في المنافي نُدركُ مَعنى البُكاءِ) . والذي هو من أهمِّ عنوانات الرواية الدالة على مدلولها الإنساني الواسع الكبير الذي اكتشفته الرائية في مغتربها المهجري خارج الوطن. والإدراك في هذه المحطَّة العنوانية يُشكِّل إدراكاً حقيقياً لمعاناتها الذاتية، ومأساتها الوجودية كأنثى تُجاه الوطن والإنسان والثقافات والتجارب المتعدِّدة التي مرَّت بها في حياتها.

أمَّا العلامة الثانية في هذا الغلاف، فقد كانت صرخةً مدويَّةً، ومكاشفةً علنيةً صريحةً من مكاشفات الذات الأنوية للآخر الذكوري، أي مقاربة الذات السويَّة الأنوية مع الذات العدوانية المتنمِّرة للحبِّ والسعادة والأهداف الإنسانية النبيلة التي يسعى إليها العاشق المُحبُّ، وينشدها حاضراً آنياً وغداً مستقبلياً "في المنافي نبكي بهدوء، نفرح بهدوء، ننكسر بهدوء، نموت بهدوء، الغياب حاضر، الحبُّ حاضر؛ لكنَّ الإنسانية وحدها محاصرةٌ، وحدها مقيَّدةٌ، والمسافات مفتوحة طويلةٌ، الحدود مغلقةٌ، والمنافذ قابلة لتأويل كهنة التعسف"، (ص60) . فلولا رسوخ صفة هذا الهدوء المتسامي تكرَّراً فيناً، والحضور لانكسرت الهمم العَلِيَة،وَكَثُرت الخيبات،وضيقُ الحالِّ والمواجع،انقطعت سُبُل الحبِّ وعوامل الرشاد وَفُسَحُ الأملِ.

ويكفي الكاتبة همَّاً وتوجُّعاً واغتراباً أنها عاشت تجربةً ذاتيةً كبيرةً ثَرةً في المنافي وهذا التعايش السلمي للحياة الجديدة جعلها تبوح به في تعبيرها السردي مبيِّنةً مُدركات مدخلاته الحسيَّة والتجريديَّة، وتأثير نتائج مخرجاته الحياتية عليها. فتؤكِّد بعفويةٍ وصدقٍ لقارئها أنَّ "في المنافي نُدرك معنى البكاء، عندما نُحبُّ شخصاً ولا نَستطيع الوصول إليه، ونُدركُ معنى الابتسامةِ عندما نَسمعُ صوتَ الأهلِ والأحبابِ عَبرَ أَسلاكٍ جَامدةٍ؛ لكنَّها تَنبضُ بهشم، ونُدرك معنى الاحتجاجَ لِيدٍ حَانيةٍ تأخذُ بَأيدينا وَقتَ العَوزِ، ونُدركُ أنَّ الآصرةَ نوَعٌ آخرُ من أنواعِ الحُريَّةَ، ونُدركُ مَعنى الرَّغبةِ في الحياةِ، ومَعنى كلمةِ (وطنٌ)، ونُدركُ معنى أنْ نكونَ لا شيءَ في رَفِّ أَفكارِ مَنْ تَركناهُم خلفَ الحُدودِ"، (60) .

إذن من خلال مُدركاتِ هذا الشعور الجمعي الاغترابي، وأعني المُدركاتِ غير البصرية في المنافي مثل، (البكاء، والابتسامة، والآصرة والرغبة)، وكلمة وطن السحريَّة، واللاوجود الكوني، تكون الساردة العليمة بهذا السمت من التوظيف والتجسيد الأدبي الفَّني لاقتفاء أثر السرد السيري، قد تخطَّت بشموليةٍ ووعيٍ حدود الذاتية الضيِّقة إلى مِساحةٍ أكبر من حدود مِساحاتِ السَّردية الإنسانية في تعويم لغة السَّرد إلى لغةٍ أدبيةٍ ماتعةٍ شائقةٍ في اشتغالاتٍ اشتشرافيةٍ رمزيةٍ تحاكي عقل المتلقِّي، وتماهي ضميره الإنساني الحيِّ عبر وسائط المشاركة الوجدانية، ومن خلال تعدُّد الفعل المستقبلي المضارع المبدوء بنون حروف (أنيتُ) الدالة على المشاركة الخطابية الجمعية، (نَبكي، ونَفرحُ، ونَنكسرُ، ونَموتُ) . وإنَّ تكرار ما بعده لفظة الجار والمجرور (بهدوء) ثلاث مرَّاتٍ يُدلِّلُ على أنَّ الساردة بحاجةٍ ماسةٍ إلى سعةٍ كبيرةٍ إلى عناصر مثل، (الهدوء، والاستقرار، والسكينة)، وهذا ما كشفت عنه شفرات الفعل الزمانية الحدثية الدالة على حقل (البكاء، والفرح، الانكسار، والموت) بمعناه المجازي التعبيري،لا الحقيقي، فضلاً عن أنَّها منحت الغياب لازمةَ حضورٍ يتكرَّر حدوس فعله التخليقي.

4- الإِهدَاءُ

وعند الولوج إلى صفحات الرواية يُطالعك (الإهداء) في أسمى تجلياته كعتبة من العتبات المُكمِّلة لِجماليات النصِّ الأدبي السَّردي. وما يلفت النظر أنَّ الإهداء كان قصيراً جدَّاً، ولكنَّه كان مُكثَّفاً ومُكتنزاً بعبارته التركيبية الدالة على ثيمته الموضوعية اللُّغوية ودلالية العميقة الرؤيا، والبعيدة المغزى في مقصديات الرواية حين يكون الإهداء موشوماً ببصمةٍ إبداعيةٍ عربضة تقول بنبرةٍ تحدٍ مستقبلية: ( إِلى الغَدِ اَّلذِي لَنْ يَأتِي) . فهذا التأكيد إلى المُهدَى إليهِ المنفي كائنٌ لم يأتِ بعد.وَبتجلٍّ يعني أنَّ الغد الذي تروم الوصول إليه الساردة،وتلُّوح به وصلاً لغايتها المبتغاة هو غدٌ مجهول كسراب في عالم ضبابي آخر لم تكن رؤيته البصرية أو رؤياه الحُلُمية معروفة الآخر. وهذا بحد ذاته يُعدُّ تعضيداً مجهولاً وإسناداً مضاعفاً إلى العتبة العنوانية الرئيسة. فلا خُطىً واضحة المعالم تَلوحُ في الأفق القريب، ولا غداً مستقبليَّاً موعوداً يأتي انتظاراً.

ويتناهى إلى ظنِّي كثيراً أنَّ علامات الحزن الشديد الدائم الألم، والوجع الكبير الغائر الجرح الذي تَستشعرُه سيميولوجياً الكاتبة، أو ما مرَّت به ذكرى لعيبي على المستوى الذاتي السيري في مراحل حياتها الإنسانية وفق سرديات هذه الرواية، ووفق عالمها القصصي الشعري الآخر قد انعكست آثاره (المازوشية)، وآفاقه النفسية الأليمة على شخصيتها الإنسانية المثابرة، وعلى كتاباتها الإبداعية شعراً ونثراً .وصار الحزن سِمَةً وظلاً ظليلاً لا يُفارق شكلَ لازمتها الفنيَّة والأسلوبية. وهذا الشعور المستديم يعدُّ ليس عَيباً أو مَثلبةً في أنَّ يكون طبع الإنسان المبدع حزيناً، فمن رَحم الحزن وواقع الفقر والمأساة يولد الإبداع الحقيقي الصادق؛ ولكنَّ العيبَ أنْ يُصبحَ الكاتب إنساناً اضطغانياً كثير الشكوى في حياته لا أمل له يُرتَجى.

5- التَّصدِيرُ والتَّأخيرُ (المَطلعُ والنَّهايَةُ)

منْ يقرأ الرواية بتوءدةٍ وإمعانٍ دقيقين، ويُطالعُ تسريد صفحاتها القصصية بتدبُّرِ المتأمِّلين، سيلفتُ نظرهُ الفكري هندسة البناء الفنِّي لمعمارية تصميم خريطة حُسن البداية، وجماليات خاتمة النهاية (الخروج)،أو ما يُسمَّى بِحُسنِ التَّخَلُّص في إيجاد مخرجٍ مناسبٍ لنهاية الموضوع.فعتبة التصدير الفرعية الأولى (الدِّلُ والدَّلالُ) ابتدأت بعبارة تَغليبية أو ظنيِّةٍ اعتقاديةٍ غير مؤكَّدة التسليم في ترجيح الخطأ الظنِّي على الثابت اليقيني المؤكَّد الصائب الممكن الحدوث. مُصححةً في الوقت ذاته مسار ذلك الانحراف الشكلي بما هو واقع معاش، فـ"غالباً ما نظنُّ أنَّنا لم نجد يوماً مكاناً يتَّسع لنا على هذه الأرض؛ لهذا أحياناً نحبُّ أنْ نتعامى لكي لا نفتحَ أعيُنَنَا على واقعٍ مَريرٍ، جَديبٍ، وأحياناً أُخرى نَنسَى إنَّنا نِساءٌ"، (ص 7) .

في حينً أنَّ منْ يتأمَّل خاتمة الرواية ويقف عند العتبة الفرعية الأخيرة (السابعة والعشرين) الموسومةبـ (أنوارُ السُّكونِ)، سيجد أنَّ المنتهى السردي لها قد خُتِمّ - رغم مرارة المأساة، وفداحة الأمر- بعبارةٍ إشراقيةٍ إنسانية يقينية تأكيدية دالة ٍعلى أُماراتِ الأمل والمحبة والابتهاج الذي تَبوح به السارة لعيبي لقارئها تاركةً وراءها كلّ الخسارات المادية والمعنوية، وَمُؤْثِرَةً في الوقت نفسه جماليات الربحَ في تعليلها الذاتي، "لهذا قررنا أنْ نترك السلام يُخيمُ على فلوبنا وأرواحنا، لنهبط بأنوار السكون إلى أقاصي أوردتنا، فيرويها لِنتفَتَّحَ في دروب العاشقينَ زهرة نيلوفر. (وَصَلَ العَريسُ وَصَلُ العَريسُ) " (102) .

والأجمل من ذلك كلِّه في هذا الختام (السلامي) التخلُّصي أنَّ ختام هذه العتبة السردية جاءَ موشوماً في جمال حُسن المطلع ببصمةٍ إبداعيةٍ أثيريةٍ دالة على رؤية الساردة وفلسفتها الإيمانية في الحياة من أنَّ الإدْبَارَ الضائع في طريقه، لا بُدَّ أنْ يَتبعهُ إقبالٌ عائِدٌ رائع. فحتَّى الخسارات المتوالية في قاموسها السردي ربحٌ إنساني سكوني الأنوار مشرقٍ الآفاق ساطع. والشيء الأخر الذي أمتعنا في القراءة رغم خاصيَّة التجربة الفردية، هو وعي الكاتبة وحسُّها المعرفي الثقافي المكتسب وقدرتها على الكتابة في التضمين التعبيري لنصّوص كُتًّابٍ ومثقفين ومشاهير صَدّرتْ بها مطلعَ بعض ِعتباتها للتماهي مع تكثيفها السردي الدلالي، أو الميل بذكر بعض الأعمال الروائية العربية على لسان أميرة للدلالة على أنها قارئة مُثقَّفة.

شَخصِيَّاتُ الرِّوايَّةِ

من يتتبع أحداث الرواية بتفحِّصٍ دقيق واعٍ، سيلحظ أنَّ هناك تقارباً نسبياً بسيطاً بين شخصياتها الذكورية والأنوثية من حيث الكم العددي، لا النوعي الكيفي لهذه الشخصيات، وعلى الرغم من تَفوّق الشَّخصيات الأنثوية بتسعِ شخصياتٍ، يُقابلهُ سبعُ شخصيات ذكوريةٍ، فإنَّ أحداث الرواية ووقائعها السردية بُنيِتْ موضوعياً وفنيَّاً على خطى شخصيتين أساسيتين رئيستين هُما: شخصية (أميرةٌ) التي ترمز بدلالاتها التكثيفية القَصصية السرديَّة البعيدة إلى شخصية الرائية الحقيقية مُبدعة العمل (ذكرى لعيبي)،والتي تتخفَّى بشخصيتها وراء أحداث الرواية عن بعد بتقَنُّعِ أنساق سيرتها الذاتية، وعن قُربٍ مشاركتها إنتاج سيرتها الأدبية، وبمختلف تمثُّلاتها الأدبيَّة والفنيَّة التي احتوها عتبات الرواية العنوانية (السابعة والعشرون) عتبةً. ومع تطوِّر الأحداث وتناميها فنيَّاً ودرامياً فإنَّ اللافت المفاجئ على شخصية بطلة الرواية (أميرة) هي نفسها تتحوَّل إلى شخصيةٍ ثنائيةٍ مركبة أخرى تُدعى (شامة)، والتي تظهر زوجةً لشهيدٍ قُتِلَ في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين.

وهذا التحوِّل المفاجئ إلى شخصية شامة التي هي أميرة نفسها نجده ماثلاً في مرجعيات ثلاث عتبات، العتبة الثامنة عشرة التي ظهر فيها لأول مرَّةٍ اسمها الجديد ضمن أحداث السرد في معرض الحديث عن أسباب خطوبتها الفاشة من حبيبها وجارها وزميلها سامي الذي أحبته بصدقٍ، لكنَّ الظروف العائلية لها كانت أقوى من رغبتها له. والعتبة التاسعة عشرة الموسومةبـ (نَغمضُ أَعيننَا رَغمَ مَعرفتنَا بِالحقيقةِ)، والعتبة العشرون التي جاءت تحت عنوان (العودةُ) .

وقد اقتصر الحديث في هاتين العتبتين عن علاقة شامة الإنسانية العاطفية بحيب عمرها وعشيق الدراسة الثانوية سامي الذي ظهر مجدَّداً في حياتها من خلال اتصال هاتفي بعد غياب دام انقطاعه سبعةً وعشرين عاماً. والذي تصف فيه شامة هذا الغياب والظهور الذي طال أمده البعيدة مؤكِّدةً "إنَّها مفارقة غريبة. ظهور موجع في غير وقته،ظهور شتتَ تفكيري، وبعثر خططي"، (ص 69) . وفي ختام العتبة العشرين تُبَرِّرُ شامة مسوغات قصدية اتصال سامي بها في غربتها بمدينة دبي بأنَّه غفر فراقه وأخطاءه وأنساها ما أصابها من أحزانٍ ومآسٍ كارثية بسبه في غيابه "محو الماضي أمر ممكن، فهو لم يعد قضيةً كبرى، كلُّ ما تحتاجهُ النسيان؛لكنْ هل نستطيعُ أنْ نتجنبَ المستقبلَ المُبْهَمَ؟هذا الذي يؤرقنا.."، (ص72) .

أمَّا الشخصية الذكورية الثانية التي تُقابل شخصية بطلة الرواية الافتراضية (أميرة)، أو الراوي الحقيقي العليم لرمزية صاحبة العمل الرسالي الإبداعي الثر السيٍّدة لعيبي، تلكَ هي شخصية الدكتور أحمد ابن عمها فرحان التي ظهرت فجأةً على حين غرته في طيات العتة الفرعية الثانية المسماة (صباحٌ مُقدَّرٌ) . وشخصية أحمد كما تظن أميرة هو الحبيب الأزلي المنتظر للزواج بها؛ ولكن أيَّ زواج هذا الذي يجمع مثله رجلاً متزوِّجاً له أسرةٌ وزوجة وأبناء بامرأةٍ مطلَّقةٍ أرملةٍ مثل أميرة لها بالمثل أسرة وأولاد. والعجيب في الأمر أنَّ الزواج الذي يرومه أحمد ويبتغيه منها زواج كما يرى (تَحتَ غِطاءٍ شَرعيٍ)، أي زواج منقطع مؤقت، أو كما هو معروف في بـ (زواجِ المُّتْعَةِ) في المذهب الشيعي. هذا هو شعار الزواج الذي يسعى إليه أحمد، ويهفو قلبه ظمأً وشوقاً إليه، فتصفهُ مصرِّحةً القول: "لهفي يُطفئِه غطاءٌ شرعي، وخَلوةٌ تنفضُ فيها غبار السنين"، (ص17) . يا لوجع هذه العبارة التي توجسَّت منها أميرة كثيراً، وحسبت لها ألف حساب في كينونتها الذاتية.

أميرة لا ترى في هذا الزواج الطارئ عليها تعويضاً لخساراتها الشخصية الروحية المتوالية، ولا ترى فيه منجاةً حقيقيةً لها، أو تجد فيه ترميماً لسقف الزوجية المنثلم؛ كونه زواجاً غير متكافئ، زواجاً لا يمكن أنْ يكون إلَّا ظلاً لامرأة لا أكثر. فهي مازالت تعيش هِزَّةَ هولِ تلك الصدمة القاسية الأولى لانفصالها عن زواجها الشرعي العلني الأول من زوجها المدعو أبي خالدٍ الذي يَكبرُها بعقد من الزمان ونيِّف كما تذكر الساردة. وما زالت أميرة تعيش وجعاً مريراً من وقع تلك العبارة القاتلة التي كانت سبباً غير إنساني مقنع في انفصالها من زوجها أبي خالد. وذلك حين سألته، لماذال تريد الانفصال مني؟، فأجابها دون تردد قائلاً: "لأنَّي أراكِ نصفَ امرأةٍ"، (ص22) .

هذا هو وقع لسؤال الماحق الصاعق الذي أذهلها نفسياً بِهِزتهَ الشعورية الكبيرة وأفقدها توازنها العاطفي الإنساني والاجتماعي حتى راحت تُردِّد مع نفسها وتسألهاعلَّها تجد جواباً مقنعاً يُشفي ثورة غليلها الموارة من هذا الـ (نصفِ)، "كيفَ نصفُ امرأةٍ؟ألم أنجب له الأولادَ؟ ألستُ ضغيرةً وجميلةً؟ ألست بنتَ حسبٍ ونسبٍ؟"، (ص22)، فجاءت بالجواب المنصف العادل بوحاً،"نعم أنا كلُّ هذه الأشياء؛ لكنِّي عرفتُ تالياً المقصودَ بنصفَ اَمرأة! نَعم التفاصيل مؤلمةٌ ومملَّةٌ"، (ص22) .

إنَّ مثل هذا السياق الجُملي التسريدي الذاتي تُحيلُنا موضوعيته الإنسانية والاجتماعية إلى وقفةٍ تأمليةٍ من المكاشفة والمصارحة الذاتية التي خطتها الساردة لعيبي في الكشف عن الأنساق الخفية المكبوتة أو المسكوت عنها في صفحات سيرتها الزوجية كامرأةٍ أنثى، وإنسانة ساردة مبدعة معاً تنماز بهذه الشجاعة الفائقة من الجرأة الصادقة والصراحة المعلنة في كسر توقُّع تابو المألوف الحياتي للسياق الاعتباري الراهن. فإنَّ توظيف جملٍ ذات مؤثِّر دلالي تسريدي مهمازي كبير مثل، الزواج بغطاء شرعي، أو ما يسمَّى بزواج المتعة، يُعدُّ عند كثير من الناس أو بعضهم من أتباع المذهب نفسه الذي يُبيح هذا النوع من الزواج خطّاً أحمرَ لا يمكن قبوله أو تناوله بهذا الشكل العلني المكشوف، منعاً ومراعاةً لدواع لإحراج لمن يقبله على غيره، ولا يقبله على نفسه، أو ربَّما يتمُّ رفضه نهائياً.

إنَّ التصريح والتلميح بعباراتٍ السرد الذاتي التي تخصُّ المتزوجين من الناس على وجه التحديد، مثل عبارة من يُطلق على شريكة حياته (أراك نصفَ امرأةٍ)، أي تفتقدين إلى حرارة المعاشرة الزوجية الحميمية الجنسية التي أدركت مغزاها الزوجة أميرة متأخراً، وتركت الكاتبة الساردة ذكرى لعيبي تفسير دلالتها الإنسانية التأثيرية التكثيفية المباشرة بذكاء أسلوبي إبداعي بعيد،لا لعجزٍ تعبيري لغوي، أو لحياء ديني، أو اجتماعي يمنعها من البوح بالإخبار عن مقصديتها المعنوية إلى المتلقِّي الواعي ليشاركها متعة القراءة وجماليات التحليل والتأويل والتفكيك الدلالي لشفرات النص الساخنة بالمغازي.

فالكشف عن مثل هذه العبارات الآيروسية بين الأنا وهوية الآخر في نصٍّ سيري ذاتي مكشوف للقرَّاء والمتلقِّين بهذه الجرأة والصراحة المحمودة من والوضوح في مجتمع شرقي يُعدُّ أمراً مفضوحاً ليس هيناً؛ كونها تعدُّ تابوها محرَّماً من ممنوعاً من التابوهات، والعبارات الحميمية التي تخصُّ العلاقة الزوجية السرية بين الزوجين نفسهما. وأنَّ الآخرين غيرُ معنيينَ بهذه الخصوصية الثنائية، ولكنَّ البوح بها في الخطاب السردي الروائي يُحسبُ إلى كاتبة النصِّ السيري لوناً من ألوان الإمتاع في فنيَّة التعبير الأسلوبي الثقافي الحديث الذي يُماهي فيه عقل المتلقِّي وثير شغافه بالإضاءات الإشراقية.

ولو عدنا مرَّةً أخرى إلى سياق العبارات التركيبية السابقة ذات الوقع التأثيري الضوئي اللافت الذي كانت تردِّده (أميرة) مع نفسها في الرَّدِّ على عبارة طليقها الناريَّة، لرأينا أنَّ تساؤلها المرير، ألستُ أنا امرأة صغيرة وجميلة، وبنتُ حسبٍ ونسب وأصول كبيرة؟ وأنَّ كلَّ هذه (الأنويات)، والأشياء، والتداعيات النفسية، هي - حقَّاً- ذاتها مصادر مرجعياتها وأنساقها تنطبق حقيقتهاعلى السيرة الذاتية لكاتبة الرواية السيِّدة ذكرى، والتي جاء تسريداتها على لسان بطلتها الافتراضية (أميرة)، والتي انبثقت جذورها التاريخية وأصولها من مدينة الأهوار السومريَّة الجنوبية مدينة (العُمَارَةِ) التي مزجت فيها سيرتها الذاتية بتاريخ هذه المدينة الطويل العريق،وبلغة مخيالية ذاتَ تأثيرٍ بالغٍ مُؤثِّرٍ ومُحبَّبٍ في النفوس حلَّقت فيها عالياً بِتَشعيرِ السَّرد.

"من هذه المدينة انبثقت أميرة. ابنةٌ جميلةٌ مدلَّلةٌ لعائلةٍ وجيهٍةٍ ومُترَفَةٍ، تأخذ المرتبةَ الثانية بين الأبناء السبعة، تُقاربُ في حُسنها (بنتَ المُعَيْدِي) تلك المرأة التي يُقال عنها إنَّها ملكة جمال الأهوار،أو كما تسمَّى (موناليزا الشرق)، عُيونٌ وسيعةٌ بارقةٌ، وشعر أسود كأنَّه اللَّيل، ينسدل على كتفين مرصوصتينِ، بلون دم الغزال شفتاها، وجهٌ يُشبِهُ انفلاق القمرِ)، (ص7) . وتعضيداً لسيرتها الذاتية أنَّ الكاتبة فعلاً من الأسر الوجيهة والكبيرة الشهيرة في حسبها ونسبها وتاريخها بمدينة العمارة في جنوب العراق. فجدها الشيخ كاظم السدخان (رحمه الله) شيخ عشيرة البهادل العام الذي جمع بين الدين والمشيخة مشهود له بـالفراضة و(الحظِّ والبَخْتِ) على صعيد العراق، أي في البَتِّ بحلِّ المنازعات العشائرية والحكم فيها،وقضاء خوائج الناس. وأنَّ أباها الشيخ لعيبي السدخان - الذي أُغتيل لظروفٍ خاصةٍ- هو أيضاً شيخ عشيرة ومشهود له بذلك في وجاهته ومواقفه النبيلة وطيب كرمه. فكلُّ الذي وظَّفته الساردة لعيبي في فضاء روايتها، والذي جاء على شكل قَصَصٍ حكائي قصير يشكِّل موضوعاً ذاتياً كبيراً صادقاً من جزئيات سيرة حياتها، إلَّا القليل من لبوس المخيال الشعوري اللامرئي الذي يُماهي تفاصيل سيرة واقع حالها الراهن، ويضفي عليه شيئاً من الحبِّ والموضوعية التي تكشف جوانب مهمَّة من فواجع خاصيات المرأة العربية عامَّةً والعراقية على وجه التحديد.

هذه هي قصة حياة (أميرة) االساردة ذكرى التي بدأت بزواج اجتماعي غير متوازنٍ، أو متكافئ بكفَتي الميزان، فلم يُكتب له النجاح أو الاستمرار بعد في خطى الكاتبة الأولى، وانتهى بالانفصال السريع رغم وجود أبناء وبيت أُسري، لكنَّه تصدَّع كجدار بيضة الرَّخِ. ثُمَّ أعقبه زواجٌ ثانٍ آخر فاشل فرضته ظروفها الاجتماعية العصيبة، فجاء رداً سريعاً غير مخطَّط له؛ لردم الهُوة، وملء فراغ ما أحدثه طلاق زواجها الأوَّل الذي لم تُجْدِ خطاه نفعاً، سوى أَلمِ نقعِ غُبارِ الضباب المبهم الكثيف.

وتتوالى خيبات أميرة وخساراتها الروحية والنفسية في خطى مسيرتها الحياتية. فتمرُّ بمرحلةٍ جديدةٍ من صور العلاقات الإنسانية العاطفية، والتي يمكن أنْ تكون انعطافةً تاريخيةً تُجدِّدُ بوصلة مسيرة حياتها المتعرِّجة. فتلوحُ في الأفق القريب بعد ثلاثة عقود من الزمن الغابر، عَلاقة حبِّ قرابةٍ مع الدكتور أحمد ابن عمها فرحان وصديق طفولتها الذي يكنُّ لها حبَّاً عميقاً منذ نعومة أظفارهما حتَّى يوم الاتصال المرتقب بها، رغم كونه رجلاً متعلِّماً ومتزوِّجاً ومستقراً. ولكن هذه الخطوة الضبابية هي الأخرى جاءت متأخرةً عن بداية علاقتهما؛ لذلك فإنَّ آمالها وئدت في رحمها وانتهت مقتولةً بالفشل الذريع الذي يكشف عن نفسه بطلب زواج متعةٍ تحت غطاء شرعي مؤقت،أي تكون العلاقة الزوجية الجديدة علاقة نفعٍ تعويضاً له عن سنوات الحبِّ التي خلت دون تحقيق ارتباط بها. فكانت هذه الخطوة المفاجئة لأميرة المعشوقة آخر الفجائع الثلاث في ضياع خطواتها المستقبلية في دوامة ضباب كثيف يحجب الرئية عن الغد المستقبلي الذي لن يأتي بعد حصاد أوانه.

لم يبقَ من تلك الخطوات الوئيدة سوى أنوار السكون الروحية التي تُعلِّل النفس بالآمال والتطلُّعات والرغبات المستقبلية رغم ضراوة حروبها الزوجية القاسية الثلاثة، ورغم نفاد الصبر، وكثرة العذابات،واستبداد الألم في هذا الزمن العاتي القميء، "أنْ نُمارس العشق في زمنٍ تَنَحَّى عن المسرات، زمن يغتال الآمال ويُبارك الأغطية الشرعية المزيفة التي تُجمِّد الأوصال، وَيَعيبُ الأسقُفَ الأمنةَ التي تَقينا من بردٍ وجُوعٍ. ولا بُدَّ أنْ نتلقَّى صفعةً تُعيدُنا للأثير الأوَّل"، (ص102) الذي بدأت منه خُطى الرحلة الضبابية المعتمة.

وفي العودة إلى شخصيات الرواية الثانوية الأخرى، سواءٌ أكانت ذكوريةً أم أُنثويةً منها؟ والتي أسهمت حدثياً في فعلها الزمني المروري الأسلوبي في البناء التركيبي الفنِّي لتنامي درامية الحدث السيري الموضوعي الكبير في إنتاج الرواية لم نجد لها دوراً رئيساً فاعلاً في تجسيد أحداث الرواية وتخليقها فنيَّاً، وإنَّما كا دورها عرضياً ثانوياً هامشياً مكمِّلاً ومساعداً في توظيف سياقات النصِّ التسريدي الذي ارتقى بمثابرة شَخصيتَيْهِ الرَّئيستَيْنِ (أميرة وأحمد) وتعاضدهما في عقدة الحبكة الموضوعية وفكَّها عملياً. فهما على الرغم من فداحة الأمر والأخطاء الكارثية التي وقعت لهما وعاشا مرارتها، يُعدَّانِ من الشخصيات الإيجابية السويَّة المتعلِّمة الواعية ثقافياً وحضارياً بدلالة وقائع أحداث الرواية التي ختمت بنهايات مفتوحة تركتها بصمة الكاتبة؛ لتمنحَ القارئَ المبدعَ الناقد شيئاً من فاعلية متعة التلقِّي الفكري الإيجابي لأحداث الرواية، وَحَمْلهِ على المشاركة الفنيَّة في هرمنيوطيقيا التأويل القرائي واتباع آليات التدبُّر والتأمُّل وفكِّ التشفير اللُّغوي للنصوص السردية وفق جماليات التلقيِّ، ومن خلال ما يمتلكه من حاسة التذوُّق الأدبي.

 

بقلم: د. جبَّار مَاجد البَهادليُّ

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم