صحيفة المثقف

جَبَّار مَاجِد البَهادِلي: تَمَثُّلَاتُ شِعرِيَّةِ الآيرُوتِيكِ الحِسِّي (3)

جبار ماجد البهادليوَالمُستَويَاتُ الجَماليَّةُ لشِعريَّةِ التَّناصِّ فِي غَزَلِيَّاتِ يَحيَى السَّماوِي الجَمَالِيَّةِ

8 ـ المَعشُوقِةُ الصَّارِخَةُ بِجَمالِ الإثارةِ (الحِس رُوحِيَّةِ)

هكذا ينظر السَّماوي إلى الحبِّ في فلسفته الحسية وانبعاثاته الروحية للمرأة، فيمنح صورتها الكليَّة حركية التحوّل والتغيُّر والتصيِّر إلى صورة لمسيِّة (مرئيةٍ صوتيةٍ) حيّةٍ نابضةٍ بالحياة وفعل التجدُّد بالوجود من العدم. إنَّه الأمل الذي (يَحيَا) يَحيَى السّماوي من أجله، وينطلق به قلمه من العدم، فيكتب الماضي وراءه، وحاضرهُ أمامه ويصنع المستقبل على حدِّ تعبير الشاعر الإنكليزي ت. س أليوت. والأمل مكمنُ الجمال الذي يسعى إدامته وتجدُّده فكرياً وثقافياً دون شعور بالنكوص أو المَلَلِ أو السأم أو القنوط.

ولنُجِلِ النظرَ بتؤدة متأملين في طيَّات هذا التشكيل الشعري المتصاعد بجماليات الصورة الشعرية الناطقة بحسيَّات الجسد الظاهرة، وروحياته النفسية المضمرة جسراً من الذات الشعورية الخبيئة بجمال الحبِّ الصوفي الذي يُحبُّه الله ويرضاه مدينةً مثاليةً فاضلةً للعشقِ، فضلاً عن مؤثِّرات جماليات المرأة الصارخة بالإثارة في مثل هذا النوع من قيم العشق الإنساني الذي تخطَّى به جميع أشكال الحواجز الجغرافية والدينية والمذهبية والإثنية والعرقية الطبقية. ولنقرأ مايقوله السماوي في أنسنة هذه المقطوعة الصورية الحركية انزياحياً وفنياً وجمالياُ ساخناً بمناخ اللَّذة العشقية العارمة بالإثارة الرغائبية المُحتَدِمة:

لَمَّا تَرجَّلَ لِي قَمِيصُكِ

عَن حِصَانِ الصَّدرِ

واشْتَبَكَ الصَّهِيلُ

مَعَ الهَدِيلْ

 

فِي حِضنِ "مَشحُوفٍ يَطُرُّ الهَورَ"

يَومَ تَلاقَيَا شَرقَاً وَغَربَاً

والصَّبَاحُ مَعَ الأِصيلْ

 

أدرَكتُ

أنَّكِ خَيرُ مِفتَاحٍ

لِقُفلِ المُستَحِيلْ(47)

في هذا التشكيل التجريدي الآيروتيكي الحسِّي الصوري الاستعاري المؤنسن بصوره الحركية البيانية ودلالاته الانزياحية ما يُشير ويُوحِي دلالياً وسياقيَّاً على المستوى الفنِّي الرمزي إلى صور التماهي الذاتي الشعوري بين(الأنا) الشاعرية العاشقة، والماثلة بياء المتكلِّم في دلالة الجار والمجرور(لِي)، وبين (الأَنتِ) الأنثوية الدالة على الحبيبة المعشوقة في ضمير المخاطب الكاف بدلالة قوله: (قَميصكِ). وبين دلالة (الصَهيلِ) العشقي الدال على ذكورية وفحولة الشاعر ورجولته، و(الهَديلِ) العشقي الحمائمي الدال على أنثوية المرأة المعشوقة وجماليات سحر صوتها التوقيعي التنغيمي. ونجد في عبارته الشعرية (في حِضنِ مِشحُوفٍ يَطِرُّ الهُورَ) تضميناً تناصيَّاً جميلاً للأغنية الشعبية التراثية الفلكلوريَّة في الستينيات تلك الأغنية (مَشحوفنَا َطَرَّ الهُورَ) التي صدحت بها حنجرة المطرب السومري الريفي العراقي الجنوبي(داخل حسن).

فضلاً عن تلك الجماليات اللُّغوية والفنيَّة نلمح تقنية الطباق البديعي في صورتي التماهي الضدي لدلالتي(الصَّباحِ) مع (الأصيلِ)، و(المِفتاحِ) مع (القُفلِ) في إنتاج معنىً تقابليٍ تناظريٍ دلاليٍ آيروتيكي جماليٍ جديدٍ يُسهِمُ في تنقية الحبِّ وتساميه من شوائب الرذيلة النمطية إلى مصاف سُلّم الفضيلة الإبداعية الحكيمة التي تنظر إلى دلالة القبيح الوجودي جميلاً، والجميل الشاذ قبيحاً، انطلاقاً من فلسفة علم الجمال الرُّوحي. وإيماناً من أنَّه "قد يعمل التَّضاد على تجسيد المفارقة(الحسيَّة الروحية)، كما أنَّ الانزياحات التقابلية تعكف على تَكوِّنِ الدلالة التكثيفية لوقائع شعرية النصِّ، فاللُّغة تتشكَّل من مجموعة تعارضاتٍ تَضمُّ التّفارقَ والتَّرافقَ والمُؤتَلفَ والمُختَلفَ"(48). ووقع الصورة الشعرية من دلالة جمال اللُّغة.

في المشهد الشعري الآيروتيكي السابق المُعلن جهاراً بدلالات حسيَّاته الصورية يُحيل فيه السَّماوي _بكل جرأة وإقدام وبسالةٍ إبداعيةٍ_ اللَّا حبَّ إلى حبٍّ، والقُبحَ إلى جمالِ، والتدنيسَ إلى تقديسٍ، كلُّها عناصر مستوياتٍ رُوحيةٍ تهفو لجمالها النوراني النفوس، وتستسيغها على أنها ظاهرة إبداعية صحية يُصَحِّحُ فيها الشاعر واقعية المرأة القديمة والحديثة، ويَعْبُرُ بها مُحوِّلاً سُنَنَهَا المعجمية الشهوانيـَّة الجنسيّـَة المنطفئـة إلى مناطق تحرريَّـةٍ إنسانيـةٍ مضيئـةٍ مشرقـةٍ في فضاءات الشعرية.

إنّـها مناطق الجمال الرُّوحي التي يحوِّل فيها الشاعر شعرية (الكيوبيد) الجنسي المقدّس العرفي إلى مفارقاتٍ شعريةٍ مُذهلةٍ، واستعاراتٍ انحرافيةٍ صوريةٍ ماتعةٍ،وَتحوَّل الاستعارات إلى لغة آيروسيةٍ تحرريَّةٍ روحيَّةٍ فاضلةٍ معتمداً على مهمازية التضاد والمفارقات المذهلة في بناء خطابه الجمالي، وهذا ما تعضده نصوصه السابقة واللَّاحقة تنظيراً وتطبيقاً شعرياً صادقاً.

9- المَعشوقةُ الحِسيَّةٌ التَّقليديَّةُ (الحَبيبةُ)

لا يتوانى هاجس السّماوي الحسِّي عن تجريب (تابو الجمال) في رسم معانيه التجريدية بأطرٍ واقعيةٍ جديدةٍ، وكياناتٍ لفظيةٍ حسيَّةٍ بالغةِ الخطورة الجماليَّة على شكل أنثى معشوقةٍ تنطلق منها المعاني الدلالية، لِتُحققَ بخمائر التجربة ذاتها بعيداً في سماء مملكة العشق السومريَّة الافتراضيَّة التي سعى الشَّاعر إلى تأسيس نواتها الحقيقية في شعرية الجسد.

وفي ضوء ذلك تبدو الخلفية الحسيَّة للعشق الآيروتيكي روحيةً لا شعوريةً خبيئةً دفينةً يتصاعد سريانها النفسي اللَّاشعوري إلى هَرمِ القصيدة في تجسيد صورة المرأة، وينخفض منحاها الحسِّي إلى مستوى القاع الهرمي الذي انطلقت منه مرحلة الشعور التكثيفي، لتتجلّى في حاضرها الإيقاعي المنعكس إلى حالةٍ جديدةٍ من الشعور السامي، فتحوَّل لهبَ هذا الحبَّ الساخن إلى أضواء إشراقاتٍ روحيِّةٍ ممزوجةٍ بتصوِّفٍ عَذبٍ ربانيٍ صافٍ، يخرج في انزياحه الشُّعوري من أسلبة المرأة الانطفائية الابتذالية المرخَّصة جنسياً إلى صورة المرأة الجمالية الفنيَّة التجريدية الزاهرة بكمال ما هو طاهر ماكث. وسنشهد في مجسَّات هذا التشكيل العشقى الفنّي موقفاً، كيف منح الشاعر المرأة المثالية الحبية أجمل صفات الثَّراء النفسي، والوفاء الروحي الصادق؟ وهو الذي لا يملك من مواقف العشق إلِّاهُ :

مَا دُمتِ لِي

مَا حَاجَتِي بِكُنُوزِ قَارُونٍ

وَمَخدَعِ شَهرَيَارَ، وَمُلكِ هَرُونَ الرَّشِيدْ؟(49)

يقيناً أنَّ رمزية المرأة في عشقيات السَّماوي، وتشكُّلاته الروحيَّة والحسيَّة تمثّل الجانب الإيجابي في كل شيء لها، ولا يمكن أنْ يشغل صورتها الكليَّة في قلبهِ الظامئ أيُّ شيءٍ تضاديٍ سَلبيٍ مغاير آخر، ولا يستطيع أنْ يسدَّ مسدَّ حبِّها كنوز قارون، وثراؤه وأمواله ومغرياته الحياتية، ولا حتَّى مخدع شهريار الرمز، وقصص حكايات شهرزاد التراثية الألفية الشهيرة في أساطير الخرافة، ولا ملك وخلافة الخليفة العباسي الشهير هرون الرشيد وخُراجه العائد له أرضاً وسماءً الذي ملأ الأرض صيتاً وإشهاراً، وشغل الناس تفكيراً في عهودٍ كبيرةٍ من الزمن الذهبي لعصر بني العباس. فالمرأة تظلُّ موطن شعور السَّماوي وتفكيره الدائم، ما دامت هي رحلة عشقه الروحية، وملاذ مسكنه الأبدي، فلا حاجة له بكل أصداء هذه الغوابر المادية التاريخية الزائلة التي تُقارَنُ بها المرأة إنسانياً في كل مقارباتها الحسيِّة والمعنوية الوثيرة:

أَغفُو فَيُوقِظُنِي أَذانُ السُّومريَّةِ

يَا نَزِيِلَ القَلبِ قَدْ حَانَتْ صَلَاةُ العِشقِ

حَيَّ عَلَى العِنَاقْ(50)

أَذانُ المرأة السومريَّة في هذا التحوير الفنِّي لمفردات الأَذان (حيَّ على الصلاةِ) هي قِبلة عشقه الأزلي، وَمَحَجَّة صلاته الروحية التي تَيمَّمَ شطرها بوجهه وقلبه وعقله وَنُسكه الشعري كلَّ يومٍ، بل وكلَّ عامٍ، وكلَّ لحظةٍ شعوريةٍ يجد نفسه بها أميراً عاشقاً لنزيلةٍ تَرَبَّعَتْ شطراً زمنياً على أفياء فؤاده المشرئب الظامئ.2893 البهادلي

10- المَعشُوقةُ ذَاتَ الطَّابعِ الغَزلِي (الحِسِّي الصُّوفِيِّ)

وفي جغرافيا العشق المكاني وجماله الذي يتجلَّى في المكاشفة الروحية كتجلِّي الرؤى لدى العارفين بأسرار العشق وصناعة أحواله وتقلباته الزمانية والمكانية المتحرِّرة، يقوده شعوره المتأجِّج بعاطفة الضياع والتشتُّت والتَّمرُّد على عواهن الزمن إلى فلسفة الاعتراف بتقريرية ضمير المؤكَّد المتكلِّم (أنا) في خطابه الموجَّه إلى المعشوق المتمثِّل حضوراً بكاف ضمير المخاطب المشبَّه بهِ بدالة (مِثلكِ) في بلاغة التوازن والتقابل والتماثل، وجماليات المفارقة الإدهاشية التي تكشف عنها بنية الدفقة الشعورية الآتية، وكيف ألقت به مقادير موجات الزمن؟ وكيف أصبح وهو العاشق في حيرة من أمره؟ أفلا يدري أين يقوده شعوره بين أفياء الحقيقة الصادقة، أمْ بين نوازع الخيال التي تفرضها شعرية اللَحظة الشعورية موجة القدر المُحتَّم:

فَأنَا مِثلُكِ يَا مُوجةُ قَدْ ألقَى بِي الدِّهرُ

فَلَا اليَقظَةُ آوَتنِي

وَلَا الحُلمُ البَتُولِي أتَانِي بِحصَانِ العَاشِقِ الصُّوفيِّ

كَي يُصبِحُ قَلبِي فَارِسَهْ(51)

فالشاعر صادق في روح تماهيه، وقلبه لا يكذب في العشق تُجاه طوارق الدهر ونوائبه العارضة، فيغذُّ السير به إلى أنْ يتَّجه بمشاعره العتيدة إلى معابد العشق وظلال أجوائه الكهنوتية، ليؤدِّي أرفع دعوات العشق، وأسمى صلوات الحبِّ، وأنبل شعائر وتراتيل طقوسه النورانية، كونه مؤمناً إيماناً قلبياً مطلقاً بأنّ شعيرة (الحبَّ) هي الطريق الأجدى والأنجع لتباريح قلبه، وهو الذي يقوده بعد هذا الضياع الفكري والرُّوحي إلى ملاقاة وجهِ رَبِّهِ الأعلى في أقدس صورة من صور العشق الروحي الذي  تذوب فيه حسيِّة الجسد بمعارج الروحية، فتغدو رحلةً إسرائيةً ربانيةً صوفيةً نحو سماء العشقية الروحية السابعة في رائعة من نماذج غزله العرفاني في مثل هذا النشيد الديني المقدَّس الذي عزف به تصوِّفات عشقياته الغزلية:

لَولَاكِ

لَمْ تَعرِفْ رَغِيَفَ الخُبزِ مَائِدَتِي

وَلَا اَستَعذَبتُ قَبْلَكِ

مُتعَةَ الإسرَاءِ مِن خَمرِ الَّضيَاعِ

إلَى يَنَابِيعِ السُّلافِ

*

وَكَتَبتُ بِالمِحرَاثِ فِي تَنَّوُرِ وَادِيكِ

اِعتِرَافِي

*

شَفَتَاكِ بُستَانَانِ مِنْ شَجَرِ البَلاَغَةِ

وَالقَوَافِي(52)

فيَحيَى السَّماوي هذا العاشق المُريد المُوَلَّهُ الذي اكتوى في تغزِّله وعشقياته الحسيَّة بلظى نار المرأة، يميل إلى إنتاج حياةٍ شعريةٍ خِصبةٍ جديدةٍ نابضةٍ بحركية التوالد والتناسل الفكري الذاتي، موظِّفاً مخياله الابتكاري الحسِّي في تأطير تدفقه الشعوري بوثبةٍ خياليةٍ للواقعة الجمالية تتَّسم بمزايا العمق والجِدَّة والمثابرة الفكرية والثقافية التي يُؤلِّف فيها تأليفاً بين المتباعدات الحسيِّة اللامنطقية بمتقارباتٍ صوريةٍ قياسيةٍ اعتبارية، يواجه فيها فضاء المألوف، ويخرج عن سمته المحيطي في مناورةٍ شعوريةٍ صادقةٍ يُبادل فيها حسيَّاً وفكريَّاً بين دالة صيغ (الدَّوالِ والمدلولاتِ)، ويستدعي حضور قارئه ومتلقِّيه لصنيع دهشة الكتابة الموضوعية من عميق الفكر الحاذق ومتعة القراءة الإبداعية، ويطرب مسامعه جمالياً، بمزامير توقّعات الحبِّ وتشكُّلات جوّه الصوفي اللَّافت بدلالة مفرداته المتناغمة حسيَّاً، وتركيباته للجمل الشعرية التي وظًّفها توظيفاً موضوعياً يحمله على التوقّف والتأمُّل والتدبِّر، لتحليلها وفكِّ شفراتها اللُّغوية والجمالية:

أيَا نَهرَ الأُنوثَةِ

مُذْ رَشَفتُ نَدَى ضَفَافِكِ

قَامَتِ الوَاحَاتُ فِي صَحرَاء عُمرِي

فَالرِّمَالُ سَنَابِلٌ

وَصُخُورُهَا غِزْلَانْ

 

يَضُوعُ رَحيقُ زهرِ اللوزِ فِي وَادِي الحَرِيرِ

فَيَستَحِيلُ فَرَاشَةً ثَغرِي

وَجَمرُ وَسَادَتِي غِدْرَانْ(53)

في هذا النّصِّ المكثَّف تكثيقاً دلالياً ثمَّةَ جسارة وجرأة كبيرة  في المجاز اللُّغوي، وبسالة تفرُّديَّة في الصور الاستعارية الممتعة، وفي التكثيف الدلالي والترميز الجمالي العالي، وقد اتَّضحت إشارات تلك الصور الانزياحية بأنسنة حركية تلك المتحركات الصورية، هي قيام الصحراء، وتحوِّلُ ذرات الرمال إلى صور سنابِل متلألئةً، وتغيَّر الصخور غزلاناً بريَّة أليفةً، مما يوكِّد قيمة هذه المجازات التعبيرية وأثرها الفني الإيجابي في رغائب النفوس. والمرأة في نسج خيال الشاعر وانزياحات لغته الفكرية التجريدية نهر أنوثةٍ دافقٍ بحيواتٍ تجدُّديةٍ من واحات صحراء الطبيعة المُتحرِّكة المتوالدة في عمر الشاعر برمالٍ، وغزلانٍ، وسنابلَ، وصخورٍ، ورحيقِ لوزٍ، وفراشاتٍ تُسهمُ جميعها في التشكيـل الشـعري المكاني للواقـعة الزمانيـة التي يقابل فيـها تماهياً بين المدلولات اللَّفظية (الفَراشـةُ والثَغـُر والجَـمرُ والغُدرانُ)؛ لتكتمل صورة العشق بين هذه المتباعدات الوجودية تكاملاً نفعياً جمالياً يصبُّ في نهر المرأة، نهر الأنوثة الجاري حياةً.

مُنذُ سبعةِ أعوامٍ وَنَيِّفٍ من الزمن البهي الجميل، أولى يَحيَى السَّماوي بوعيٍ ثاقبٍ اهتمامه الكبير بمشروعه الشعري الفكري الثقافي الَّذي أسسه، وخصَّ به مجموعاته الشعرية الأخيرة السبع بدءاً من ديوانه  (بَعيدَاً عَنِّي.. قَريبَاً مِنْكِ)، وتَرَسُّخاً في( أطفئيني بناركِ)، و(تَيمَّمِي بِرمادِي)، و(أنقذتِنِي مِنِّي)، ومروراً بديوان(نَهرٌ بِثلاثِ ضَفافٍ)، ومهَّد له قبل ذلك بديوانه السابق (قَليلُكِ لا كَثيرُهُنَّ)، وتَرَسَّخت تراتيل هذا التسبيح الآيروتيكي العشقي الروحي أكثر عُمقاً ونضجاً واستقراراً وكثافةً في مخطوطات ديوانيهِ القادمينِ(التَّحليقُ بَأجنحةٍ مِنْ حَجَرٍ)، و(فَرادِيسُ إِينَانَا)، العنوان المقترح. وكان جلُّ اهتمامه وعنايته الجمالية وتفرُّده وتأصيله لموضوع حسَّاس شكّلَ عصبَ حياةِ المرأة، ذلكَ تقنيةُ شعريةِ الآيروتيك الجسدي.

وكان سبب اهتمام الشاعر بهذا القادم الجريء(الجديد القديم)، هو تحقيق هدفٍ ثقافيٍ فكريٍ روحيٍ جماليٍ يحطُّم ويبني آلية الأنساق الشعرية التالفة بثقافة البديل الفكري الآيروتيكي الشعري الجديد؛ كونه يمثل الارتقاء بالعشق الحسِّي الأرضي _الذي قدَّمنا الكثير من نماذج نصوصه السابقة بهذه الدراسة النقدية_ في الانفتاح على مصاف العشق النوراني الروحاني، والمساهمة الفعلية في تنقية مظاهر العشق المحسوس بلغة الجسد، وتهذيب وتشذيب كلّ ما علق بحقل(الآيروتيك) من أشواك آليات شعرية (الستربتيز)، ذلك المصطلح الغرائزي المُبتذل الفاحش بفعل غواية حيوانيته الشهوانية التي لوَّثت صورة الجسد المقدَّس الجمالي بالمدَّنس العهري الإباحي الماجن كدافع أساس لفعل الرذيلة الجنسية التي تُناقض روحياً ودينياً وعرفياً صورة جمال العفاف الجنسي رمز الخصب والنماء لديمومة الحياة المدنية الحرَّة.

11- المَعشُوقَةُ الآيروتيكيَّةُ ذَاتَ الطَّابعِ (الحِسِّي الرُّومانِسِي)

فهذا التوجِّه الشعري في حقل المرأة، أو حقل التغزّل العشقي يحسم الفارق الأساسي التأثيري المهمَّ بين صورتي(المُقدَّس والمُدَنَّس)، بحيث لم يعد هناك ثمَّةَ فارق كبير بين هوية الآيروتيك، كوجه من وجوه فلسفة علم الجمال الذي يُجِلُّهُ الله ويرضاه لجماليات أنوثة المرأة، وبين لغة شعرية (الستربتيز) المبتذل الماجن الذي يمقته الله في أرفع مخلوقاته الأنوثية التي جعل العلاقة بينها وبين الذكورية علاقة حبٍّ دينية اجتماعية مقدّسة لصيانة الوجود في نقليات كتبه المقدَّسة السماوية الثلاثة :(القرآنُ، والإنجيلُ، والتوراةُ).

وخلاصة هذا المشروع الشعري الثقافي البديل عن تلك الأنساق الشعرية المحترقة المعطوبة التي عفا عنها الزمن أنَّ السَّماوي يجد في أنوثة المرأة متنفَّساً رومانسياً رُوحياً إلهياً عرفانياً صوفياً سامياً يتقرَّب به إلى الله تعالى الخالق (عابداً ومعبوداً)، فيُحوِّل جسدها رمزاً يفيض جمالاً، ويرقى دلالةً عبر صورة هذا المعنى الآيروتيكي الجديد، بعيداً عن إطار النزعة الجنسية الفرويدية الغرائزية الخالية من جدلية الروح الحيوية الفلاطونية (54).

ثمَّ يعيد بُنيات إنتاجه القصصي معها بطريقةٍ شعرية مؤثِّرةٍ في نسجها المرئي، فيتَّحد الفعلان الخارجي والداخلي في بؤرة من التفاعل الرُّوحي، لتخليق صورةٍ فنيَّةٍ جديدةٍ تَليقُ بروح المرأة ووجودها الذاتي، ككيان أنثوي مكمِّل لعناصر الجمال في فلسفة الحياة التي تُزَيِّنُ صورتها الإنسانية المقدَّسة بعين الرائي المتلقّي. ولنتأمل جمال هذه النظرة بهذه التمظهرات الحسَّية الناطقة بدوال لغتها:

مَعَ الَّتِي قَمِيصُهَا

شّقَّ سِتَارَ الظُّلمةْ

*

فَأرضَعَتنِي قُبُلَاً

وَوَسَّدَتْ فَمِي مَرَايَا الجِيدِ

فَانزَلَقَتُ نَحوَ الحَلْمَةْ

*

طِفلَاً يُنَاغِي قَمَرَ النَّهدِ

وَيغَفُو فِي سَرِيرِ حِضنِهَا

نَاسِجَةً لِي مِنْ حَرِيرِ شَعرِهَا مَلَاءَةً

وَخَيمَةْ

*

مُسَبِّحَاً حِينَاً..

وَحِينَاً سَابِحَاً تَحتَ هِلَالِ خُصرِهَا

بَدرَاً تُسَاقِيهِ الرَّحِيقَ

نَجمَةْ(55)

إنَّ ألفاظاً ودوالاً عضويةً جسديةً، مثل: (الجِيدِ، والحَلمَةِ، والحِضنِ، والشَّعرِ، والخُصرِ) لها إشارة رمزيتها السيمياطيقية ومدلولاتها الحسية المرئية التي تشكِّل علاماتٍ صوريةً جماليةً فنيَّةً من تكوينات هيأة المرأة التي تكتمل بها علاقة الجسدية بعلائق الرُّوحية في إنتاج بدائل صورٍ رغائبيةٍ جديدةٍ من صور تقديس وتبجيل هذه العلاقة الإنسانية التي تنحرف حميميتها إلى الجسدية الرُّوحية في أصدق تجلَّياتها. فما أجمله من ترتيل روحي حين يكون الشاعر مُسبِّحاً لله وعاشقاً لذاته الإلهية! وما أبرعها من مقابلة تصويرية جسديةٍ حين يكون دفقُ الحسِّ الشعوري سابحاً في مناطق ساخنة من أعضاء اللَّذة الحسيَّة الجسدية العارمة! فالجمع  بين الحسِّي لَمَساً، والرُّوحي المحسوس جمالاً يُضفي على النصِّ إبداعاً ولذَّةً.

في الوقت ذاته أنَ أفعالاً ماضية ومستقبلية تركيبية مؤثِّرة، مثل(شَقَّ، أرضعَتنِي، وَسَّدتْ، انزلقَتْ، يُناغِي، يَغفُو)، تُسهم كلُّها بفعلها الحركي الزمني ودلالاتها المعجمية القريبة والبعيدة في ترسيم آفاق هذه العلاقة الحسيَّة، وتفعيل الرؤى الجماليَّة والرُّوحية لفلسفة شاعرها من خلال انزياحات لغة مدلولاتها الصورية السياقية المتغيِّرة بتجريبها اللُّغوي الفنِّي المتراكب. والذي تستحيل به اللُّغة الشعرية المحكية من لغةٍ حركيةٍ جسديةٍ مُثيرةٍ جامحةٍ إلى لغةٍ لفظيةٍ روحيةٍ مُسربلةٍ بَصور الإيمان في طاقتها الإيجابية القويَّة.

وهذا موشِّر على "أنّ الشعر العربي الحديث من بين جميع أشكال الأدب يبحث دائماً عن تجريب في اللُّغة وتشكيلها في بنية النص وفق متغيِّراتٍ، فتحوَّلت اللُّغة من لغة التعبير التي تعتمد محاكاة مظاهر الأشياء في انعكاس أمين إلى لغةٍ تخلق الأشياء بنظرةٍ فكريةٍ جديدةٍ، فمن لغةٍ تنقل الطبيعة إلى لغةٍ تُبدِع خلقَ الطبيعة، الكلمة تتجاوز مدلولاتها وتشير أكثر مما تعبر، فالشاعر لا يخدم اللُّغة بهذا الشكل، بل يثور عليها ويفجِّرها حِمَماً بُركانيةً متصاعدةً ، فلا يستعمل كلمةً ما إلّا تَخلِقُ موضوعها وتتشكّل مع كلِّ بنية وتركيب جديد بحثاً عن حقيقة ذاتية"(56)،وبذلك تتشكَّل دفقات الجمل والمقاطع الشعرية تشكُّلاً فنيَّاً.

فكلُّ هذه روافد الصور الآيروتيكية المُفعمةُ بالخيال المجرَّد والجمال الحسِّي، وهذه المشاعر الإنسانية الضاجَّة بالعلاقة الحميمية، والسخونة والإنفعال العاطفي الكبير، ينبئ عن مشاعر حسيَّةٍ حقيقيةٍ فاضت بها أحاسيس الشاعر الشعورية، وتملَّكت وحدة وجدانه الذاتية التي حوَّلتها إلى فعل(بافلوفي) حركي مثير باقترانه الشرطي النفسي، تُقابله في الطرف الآخر استجابة ردِّ فعلٍ إيجابي ينصهر ودِّياً في بؤرة التلاقي العاطفي، فينتج حبَّاً عرفانيّاً نقيّاً صافياً يُعمِّدُ جسد المرأة، ويُطَهِّر قدسيتها السلبية من وقع دنس النظرة الابتذالية الجسدية الرخيصة التي تسيء إلى رمزية المرأة كائناً إنسانياً ليس مكمِّلاً للحياة الذكورية فحسب، بل عنصرٌ مُهِمٌّ  في رفد منظومة سير الحياة الإنسانية، والمحافظة على صيانة سيرورتها الوجودية.

فالسَّماوي ينظر للجسد الإنساني بأنَّ له حرمةً وقدسيةً، وهو إجمالاً مكان يمارس فيه وبه الفرد سلطته  ويكون حميماً وأليفاً مثل الدار(57)، مثلما ينظر إلى أنَّ جسدَ الأُمِّ جسدٌ مُبجلٌ، واهبٌ للحياةِ، وحاضنٌ للرجل يقوم عليه ويمنحه الحياة(58).

وهذا الالتحام الجسدي التشاكلي الأمثل، يدلُّ على صدق عفاف اِنعطاف تجربته الشعرية وجماليتها، لأنَّ المرأة عنده تحوَّلت إلى مركز إشعاعٍ فكريٍ جماليٍ بعد أنْ كانت مركزاً حسيَّاً خصباً للأنساق الشعرية التالفة والمبتذلة الممجوجة، فضلاً عن هذا كونها رمزاً أُسطورياً جمالياً مقدَّساً من رموز الخصب والجنس، تقدِّسُها الشعوب القديمة دينياً وثقافيَّاً في إحتفائيات أجواء وطقوس حضارتها وأساطيرها وملاحمها القديمة:

وَاحتَرِسْ

مِنْ غَضَبِ النَّحلَةِ

إنْ خُنْتَ شَذَا وَادِي زُهُورِ اللُّوزِ

وَاحْذِرْ

إنَّ إينَانَا إِذَا جِزْتَ مَدَاهَا

تُمسِكُ المَاءَ عَنِ الحَقلِ

وَتُظْمِي جَدوَلَكْ (59)

بهذه اللُّغة اللَّمسيّة التي تنقل الطبيعة، وتوظّفها عنصراً مهمّاً من عناصر الواقعة الحدثية، وتستحضر الأسطورة والرمز تقنيةً فنيَّةً في يوتوبيا الشعرية ضرورةً من ضروراتِ تخليق بنية حداثة الخطاب الشعرية.

وهكذا بترانيم هذه الإنطلوجيا الشعرية المنوَّعة يُصوّر السَّماوي صورة المرأة(السلبية والإيجابية)، فمرةً يرى مذاقها الفعلي شهداً حقيقياً حلواً طيِّباً للقلوب قبل الأفواه، ومرةً أخرى يجدها نحلةً لاسعةً تلدغ من يُبدي لها فعل الخيانة ويُسيء لذاتها؛ لأنَّها لا تُطيق ذلك أبداً، ومرةً جديدةً يؤكِّد أنَّها (إينانا)آلهة الحبِّ والحرب والجنس والخصب والمطر والموت والحياة إذا أحسنت التعامل معها في الحبِّ والوفاء. غير أنَّها تستحيل سدّاً مانعاً لتدفق ماء الحياة، فتمنع الرواء عن البشر والحقول وتظمئ الجداول والضرع والزرع والشجر، إنها فرادة  الوجود في الوظيفة (تَكٌن أو لا تَكُن) هكذا تبدو للمتلقِّي الواعي الفاحص لبنية النصِّ.

***

"يتبع"

د. جَبَّار مَاجِد البَهادِلي

...............................

(*) من كتاب بنفس العنوان سيصدر  قريبا .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم