صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: الزمن وامكانية النظر اليه من الخارج.. استطلاع فلسفي

حاتم حميد محسنان فكرة السفر عبر الزمن(1) كانت دائما مثارا للدهشة. انها تبدو دائما كنوع من الفنتازيا التي لا يمكن تحقّقها. لذا فان محاولة النظر في هذه الفكرة قد يراها البعض مضيعة للوقت. مع ذلك، نحن نواجه هذا المفهوم مرات ومرات هذه الأيام، خاصة كجزء من المحادثات الفكرية والتأملات الفلسفية، فلابد من الإعتراف ان السفر عبر الزمن يثير لدى المرء حالة من الاستغراب والتساؤل. ان التأمل في هذه المسألة لايركز بالضرورة على ما اذا كان بالإمكان عمليا السفر عبر الزمن الى نقطة معينة في الماضي او في المستقبل، وانما ذلك يساعد في الإبحار عميقا في طبيعة الزمن ذاته. تعريف الزمن ربما يبدو اولا، بسيطا وصريحا جدا. ولكن رغم كل ذلك، جميعنا على اطّلاع بفكرة الزمن بمعنى المدة وقياسها. غير ان السؤال عن الزمن من حيث الجوهر هو سؤال اكثر تعقيدا في ضوء التاريخ الطويل للخلافات الفلسفية والتي لايزال معها التعريف بدون اتفاق.

إحساسنا الفطري يخبرنا ان الزمن هو ظاهرة عابرة. هذا يعني ان المكان (او الكون المادي) هو في وضع ثابت، وان الزمن يشبه فيلم يدور من خلال جهاز عرض قديم سيأتي ويمر من خلال الكون. وعندما يأتي الزمن، يجلب كل التغييرات معه. بكلمة اخرى، الكون يتغير من خلال الزمن.

او بطريقة اخرى، يمكن ايضا ان يرى المرء هذه العلاقة بين الزمن والمكان بطريقة معكوسة. وكما ذكر صديق مرة، "الزمن لا يمر. نحن الذين نمر من خلاله". بهذا المعنى، الزمن يمكن تصوره كخط ثابت يتألف من نقاط الماضي والحاضر والمستقبل. لكن، وخلافا للرؤية السابقة، في هذه الحالة يُعتقد ان الشيء الذي في حالة حركة هو المكان (الواقع المادي). بكلمة اخرى، المكان وكل شيء فيه يتحرك على طول خط الزمن. وكلما يتقدم فان النقاط التي يتركها خلفه تُعتبر من الماضي، والنقطة التي يقف عندها تُعتبر هي الحاضر، اما النقاط التي لاتزال لم يلتق بها فهي المستقبل.

في كلا الرؤيتين، الزمن والمكان يُنظر اليهما ككينونتين منفصلتين مع احتمال التلاقي في نقطة معينة. انها فقط نقطة التلاقي هذه لها وجود واقعي. خارج نقطة التلاقي هذه، الزمن بذاته ودون مكان ملتصق به، ليس له واقع ايا كان. تجدر الاشارة ان نقطة التلاقي هي دائما الحاضر. النقاط (او الأزمنة) التي نشير اليها كماضي ومستقبل، هي خارج هذا التلاقي، وهي غير موجودة. ولذلك، هي غير واقعية. وبكلمة اخرى، الزمن يصبح واقعيا فقط عند النقطة التي يلتقي بها مع المكان. أية نقطة خارج ذلك هي غير موجودة.

ثانيا، في مثل هذا الفهم للزمن، هناك عامل عدم الديمومة او التعاقب. الحاضر يأتي للوجود عندما يذهب الماضي. عندما يكون الحاضر في الوجود، فان الماضي لم يعد كذلك. ونفس الشيء، المستقبل ايضا يمكن ان يأتي للوجود فقط عندما يلتقي الزمن مع المكان ويصبح المستقبل هو الحاضر. بكلمة اخرى، المستقبل يصبح واقعيا عندما يصبح هو الحاضر. ولذلك فان المستقبل، في الإحساس العام الذي يُفهم فيه، هو غير موجود ابدا.

اخيرا، هناك عامل آخر مهم في هذه الرؤية وهو الحركة. وهي ان الكون يمر من خلال الزمن او الزمن يمر من خلال الكون، هناك حركة تجعل التقائهما ممكنا وكنتيجة لهذه الحركة فقط يوجد الحاضر ويكون وجوده واقعيا.

هذه الرؤية للزمن تُعرف في الفلسفة بالحضورية presentism. وهي الرؤية بان ما يوجد هو الحاضر فقط . الماضي كان لكنه لم يعد موجودا، بينما المستقبل سيأتي لكنه لم يأت بعد. هذه الرؤية في الحقيقة تعود الى المفكرين اليونانيين، احدهم كان هيرقليطس (500 ق.م) الذي اشتهر بالقول:"انت لاتستطيع النزول في نفس النهر مرتين، لأن مياه اخرى تتدفق.. كل شيء يتدفق ولا شيء يبقى، كل شيء يتحرك ولاشيء يبقى ثابتا"(wheelwright,1960).

الحضورية تنسجم جيدا مع رؤيتنا التقليدية للزمن، التي تفهم الزمن وفقا لتصوّر التغيير، كما يذكر جون لوك ، انه بطريقة ما مرتبط بالماضي، "عندما يتوقف ذلك التعاقب للأفكار، فان تصوّرنا للمدة يتوقف معها" (رسالة تتعلق بالفهم الانساني، 1689، ص174). الفيلسوف التنويري الاسكتلندي ديفد هيوم عبّر عن فهم مشابه نوعا ما للزمن عندما كتب: "مثلما نتلقّى فكرة المكان من ترتيب الأشياء الملموسة والمرئية، كذلك نكوّن فكرة الزمن من تعاقب الأفكار والانطباعات.. عندما لا نمتلك تصورات متعاقبة، سوف لا نمتلك ايضا حركة للزمن حتى عندما يكون هناك تعاقب حقيقي في الأشياء: (رسالة في الطبيعة الانسانية، 1738، ص35).

في ضوء اختبارنا لفكرة الزمن وفق سياق السفر عبر الزمن، من الطبيعي ان يبرز السؤال الرئيسي هنا وهو ماذا تخبرنا هذه الرؤية للزمن عن السفر عبر الزمن؟ هل يمكن اعتبار السفر عبر الزمن ممكنا في ظل هذا الفهم للزمن؟ الجواب السريع هو كلا. السبب هو واضح. دعنا نفترض اننا نبني ماكنة لتأخذنا الى نقطة ما في الماضي. لسوء الحظ، طبقا للرؤية الحضورية للزمن، الماضي لم يعد يلتقي بواقع مادي، وبالنتيجة هو غير موجود. ولذلك، فان السفر الى أي نقطة في الماضي غير ممكن. هذا الجدال ينطبق ايضا على السفر الى المستقبل. الكون لم يلتق بعد مع المستقبل لحظة الزيارة التي نريد، ولذلك فان الظروف التي تجعل هناك إمكانية واقعية هي غير موجودة. وعليه، فان السفر الى أي نقطة في المستقبل هو غير ممكن ايضا.

الآن، هل هذا يعني ان طبيعة الزمن تمنع بشكل مطلق إمكانية السفر عبر الزمن؟ انه يبدو كذلك. لكن كل الأمل لم يُفقد بعد. هناك ربما طريقة. لكي يكون سفر الزمن ممكنا فان المفهوم الحضوري للزمن يحتاج للنفي طالما نستطيع السفر فقط الى النقطة الموجودة. بالنتيجة، لكي نكون قادرين على السفر الى اي لحظة في الماضي او في المستقبل، سيكون من الضروري لتلك اللحظات ان تكون في الوجود الى جانب الحاضر، تكون ضمن حدود التلاقي بين المكان والزمان. هذا ربما يحدث فقط عندما يكون المكان والزمان في علاقات ثابتة تجاه كل منهما، كالقول مثلا، ان خط المكان يسير بالتوازي مع خط الزمن. بكلمة اخرى، السفر عبر الزمن يكون ممكنا فقط عندما تكون جميع أزمنة الحقيقة المكانية الفيزيائية موجودة كلها، ليس فقط تلك التي في الزمن الحاضر. هذه الرؤية في فلسفة الزمن تُعرف بالأبدية eternalism، وتقول ان الماضي والحاضر والمستقبل كلهم موجدون بطريقة ما "دفعة واحدة".

يمكن القول، ان أول المدافعين عن الأبدية هو الفيلسوف اليوناني القديم بارمنديس. هو اوضح فلسفته بالكلمات التالية: "... هناك كلمة واحدة بواسطتها يتم التعبير عن الطريق "الحقيقي" وهي كائن (is). على هذا الطريق هناك عدة اشارات فيها الكائن ليس له بداية ولن يتحطم ابدا: انه كلي، ثابت، وبدون نهاية. انه لا كان ولا سيكون، انه ببساطة كائن – الآن، كلي، واحد، ومستمر .. الديمومة هي اساسية. لا شيء يأتي ليكون، او ينزلق الى الماضي، او يتوقف عن الوجود. الماضي والحاضر والمستقبل هم تمايزات ليس لها علامة على الثابت الكائن . الزمن والصيرورة هما شيء ثانوي في أفضل الأحوال، وأوهام في اسوأها، كما يؤكد فهمنا للعالم"(trans.philip wheelwright,1960).(2)

من الواضح ان الأبدية تتحدى معظم بداهاتنا و رؤانا الفطرية للزمن، ولكن لننظر اليها في هذه الطريقة. لنتصوّر الوعي كمنظار نستطيع من خلاله فقط رؤية مساحة ضيقة. اننا و من خلال رؤية أنفسنا والشعور فقط في لحظة معينة، سنحصل على فكرة عن الحاضر ان لم تكن وهما. نحن نشعر في هذه اللحظة المعينة، اننا في زمان مختلف عن الماضي الذي ذهب سلفا بالاضافة الى المستقبل الذي لم يأت بعد – بينما لو نزيل المنظار فسوف نرى كل شيء: الزمن سيظهر لازمني، لأن جميع نقاط الوجود ستتعايش الى جانب الحاضر، بما في ذلك تلك النقاط التي اعتُبرت ماضي ومستقبل لمن لديهم رؤية محدودة. بالطبع، لحسن او لسوء الحظ، اننا لانستطيع ابدا ازالة ذلك المنظار بسبب قدرة الانسان المحدودة في التصور. نحن كلنا نعيش بتصور للزمن، بينما في الحقيقة، الزمن هو شيء ما تصنعه أذهاننا بسبب ضيق الاطار الذي تستطيع تصوّره وهي غير قادرة على التحرر منه.

كما سنرى، ان الفهم الأبدي للزمن يسمح للسفر عبر الزمن ليكون ممكنا. كذلك، انه ايضا يسمح بالإمكانية النظرية لرؤية المستقبل. ليس بإمكان أي شخص، حتى الآلهة، ان ترى حقا شيئا ما غير موجود. لو قبلنا بصحة الأبدية، سنجادل بان المستقبل موجود وربما ان أي انبياء محتملين ومصلحين ببساطة لديهم مناظير أوسع مما لدى الناس العاديين، تمكّنهم في كل مرة من إلقاء نظرة سريعة على أحداث المستقبل المختبئة عن بقية الناس.

نستنتج، ان فكرة السفر عبر الزمن ربما تبقى دائما شكلا من الفنتازيا، لا إمكانية لتحققها في العالم المادي، مع ذلك انها يمكن ان تفيد في غرض هام لنا بإطلاق فهم مختلف للزمن. في أحيانا كثيرة نحن نأخذ الزمن كظاهرة ذات وجود حقيقي فقط في الحاضر. هذه النظرية للزمن ترفض اطلاقا إمكانية السفر عبر الزمن . لكن السفر عبر الزمن قد يكون امكانية منطقية لو وسّعنا فهمنا للزمن لنأخذه كظاهرة "أبدية"، بصرف النظر عما يبدو عليه من تناقض او مضاد للبديهة. لو قمنا بذلك، نحن ايضا نختار الرؤية بان الزمن يجري كالوهم الذي يأتي به الذهن بسبب قدرته الضيقة على تصوّر ما وراء أطار معين.

 

حاتم حميد محسن

.............................

الهوامش

(1) السفر عبر الزمن Time travelهو مفهوم للحركة بين نقاط معينة في الزمن مشابهة للحركة بين نقاط مختلفة في المكان بواسطة شيء او فرد، اساسا باستعمال وسيلة افتراضية تُعرف بماكنة الزمن. السفر عبر الزمن نال اعترافا واسعا في الفلسفة والخيال العلمي. لكن من غير المؤكد ان كان السفر الى الماضي ممكن فيزيائيا. السفر في الزمن الى الأمام، هو ظاهرة لوحظت بكثافة وفُهمت جيدا ضمن اطار النسبية الخاصة والنسبية العامة. لكن جعل أي جسم يتقدم او يتأخر في أجزاء من الثانية قياسا بجسم آخر هو غير ممكن في ظل التكنلوجيا الحالية.

(2) كان بارمنديس (539ق.م) من أعظم الفلاسفة الايليين، الذي طور فكرة الواحدية اللامتغيرة ووسّعها الى كل الوجود. هو جادل بان التعددية والحركة والتغيير هي مجرد مظاهر. عقيدة بارمنديس في الوحدة المطلقة واستمرارية الواقع كانت راديكالية حتى وفق المستويات الحديثة، هو أكّد بان الكون في الأصل واحد ولايتغير، وانه أنكر بوضوح وجود التعددية والتغيير، واعترف بمظهرية هذه الاشياء وأصر بانها مجرد تصورات وافكار لا يجب ان تلتبس مع ما هو (كائن). زينون أحد تلامذة بارمنديس أثبت ان الحركة والتغيير والتعدد مستحيلة. حيث عرض زينون أربع مفارقات هامة في موضوع الحركة منها مفارقة السباق التي يؤكد فيها ليس هناك أي حركة لأن من يتحرك يجب ان يصل الى المنتصف قبل الوصول الى النهاية. في هذه المفارقة يبيّن زينون ان الحركة ليست الاّ وهماً، هو يقول لنفترض انك كنت في سباق، انت ترى نهاية خط السباق امامك، لكي تصل الى نهاية الخط لابد ان تصل اولا الى نقطة المنتصف. ولكن قبل الوصول الى نقطة المنتصف عليك ان تصل الى منتصف نقطة المنتصف، وهذه النقطة الاخيرة لايمكنك بلوغها قبل الوصول الى منتصف منتصف النقطة الاولى وهكذا الى ما لانهاية. هو يعتقد بوجود عدد لا متناهي من نقاط الوسط بين أي موقعين. قبل إمكانية ان تصل الى موقع معين عليك ان تصل الى منتصف المسافة اولا. ولكن اذا كانت هناك اعداد لا متناهية من نقاط الوسط، كيف يمكن عبور الأعداد اللامتناهية للمواقع؟ وبهذا تكون الحركة مستحيلة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم