صحيفة المثقف

آراء

المجتمع العربي بحاجة إلى التخلص من «عقدة الضحية»، أي الاعتقاد أنه يقع دائماً في الجانب الضعيف والمظلوم من أي معادلة سياسية أو اقتصادية تنشأ على الساحة الدولية. هذه العقدة هي السبب وراء كثرةِ حديثنا عن مؤامرات الأعداء، وتضخيمِنا قوتهم، وتقبّلنا المفرط الحلول السحرية والغيبية واللامادية بشكل عام.

المصابون بهذه العقدة لا يبحثون عن أسباب المشكلة، ولا يستمعون لمن ينفي هواجسهم أو يقترح حلولاً لِعلّتهم، بل يركزون على «النيات» والإرادات الخفية التي يقطعون بوجودها في نفوس أعدائهم. ولو سألتَ الذين يبشرون بتلك المؤامرات الخفية، لأجابوك من دون انتظار: «وهل تتوقع أن يعلن العدو نياته على رؤوس الأشهاد؟»... أي إن إقرارهم بالجهل بحقيقة ما يكتمه العدو، يتحول خلال لحظات إلى ادعاء العلم بالمكتوم... وهذا من أعجب العجب.

وأذكر أننا مررنا بحقبة كانت فيها كل خيباتنا التي تحققت، أو التي يُنتظر أن تتحقق في المستقبل، تُعلَّق على مشجب «الماسونية». ويؤكد أصحاب هذه الرؤية الكسيحة دائماً على الإمكانات الضخمة للماسونية، وقدرتها على النفوذ إلى أصعب المواقع، حتى إنها لم تترك شخصاً مؤثراً، ولا شخصاً تتوسم فيه قوة التأثير في المستقبل، في شرق العالم وغربه، إلا وجنّدته ووجّهته لهدم الإسلام وتدمير بلاد المسلمين.

وصدرت عشرات من الكتب التي لو صدقت الأقاصيص المروية فيها، لكانت الماسونية اليوم أقوى من الولايات المتحدة وحلف «الناتو» والصين واليابان مجتمعة. وتضم قوائم الأعضاء في الخطة الماسونية التي ذكرتها تلك الكتب أسماء لرؤساء دول ومنظمات دولية وقادة جيوش ووزراء وعلماء واقتصاديين وأكاديميين، وحتى قادة للمؤسسة الدينية في مختلف الأديان.

والعجيب أن عقدة الضحية تلك تتوازى، في كثير من الحالات، مع تفخيم الذات وتعظيمها والتفاخر على الغير. وقد حضرتُ نقاشات ظهرت فيها هذه الازدواجية بشكل كاريكاتوري. وأذكر مثلاً ندوة في الكويت تحدث فيها أستاذ جامعي عن مفاخر المسلمين وسبقِهم في العلم، فسأله أحد الحاضرين عن سبب انقطاع الحركة العلمية القديمة وانفصال العرب المعاصرين عنها، فقال المتحدث إن السبب هو مؤامرات الغرب، الذي لا يسمح للعرب بركوب قطار الحضارة، خشية أن يستقلوا بأنفسهم فيكونوا أقوى منه. وسرد عدداً من الشواهد وأسماء العلماء، الذين قال إن الغرب اغتالهم، بعدما رفضوا الانضمام إليه.

لعل القراء الأعزاء قد سمعوا كلاماً كهذا أو قرأوه. ولعل بعضهم قد أدرك التناقض بين جزأي الحديث: الجزء الذي يدعي السبق إلى العلم، والجزء الذي يدعي أن الغرب يمنعنا من مواصلة البحث العلمي أو التقدم في مجال العلم.

أقول إنه متناقض؛ لأن العلم ليس الكتب التي يُدعى أن التتار قد أغرقوها في دجلة، أو العلماء الذين يقال إنهم قتلوا على أيدي هؤلاء أو على أيدي غيرهم. إن أردتم الدليل فانظروا إلى اليابان وألمانيا اللتين دمرت مدنهما ومصانعهما ومدارسهما في الحرب العالمية الثانية، لكنهما عادتا أقوى وأعلى تقدماً مما كانتا، في مدة تقل عن 30 عاماً. لقد انتهت الحرب في 1945، وفي بداية السبعينات، كان الإنتاج العلمي والصناعي في كل منهما، منافساً للدول الغالبة، أي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا.

العلم لا يندثر بحرق الكتب أو موت العلماء، إلا إذا كان محصوراً في نخب محدودة، ونعلم أن هذا لا يقيم حضارة. العلم الذي نتحدث عنه هو الذي يخلق مجتمع المعرفة، أي المجتمع الذي تسوده روحية المعرفة ومعايير العلم في تفكيره وأعماله.

وخلاصة القول؛ إن إلقاء المسؤولية في تخلفنا على مشاجب الآخرين، أعداء أو غيرهم، ليس سوى تمظهر لعقدة الضحية التي تجعل الإنسان راضياً عن نفسه، باحثاً عن السلوى في قصص الظلم أو في ممارسة الظلم على من يظنه أضعف منه، وأظننا جميعاً قد شهدنا حوادث تجسد هذه الحالة قليلاً أو كثيراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أولا"- مدخل تمهيدي: من بديهيات القول ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية - السابقة واللاحقة - (خصائص معيارية) هي له بمثابة (الهوية) الحضارية التي تعكس طبيعته النوعية وتجسّد خصوصيته الفريدة، بحيث يتعذر علينا المماثلة بين مجتمعين أو أكثر حتى ولو كانت عناصر (الجغرافيا) وأصول (التاريخ) ومصادر (الثقافة) ومنابع (الدين) تشكل قواسم مشتركة بينهما، كما في حالة المجتمعات العربية، على سبيل المثال لا الحصر، التي وإن كانت تجمعها وتوحدها نفس القواسم المشتركة (المفترضة)، إلاّ أنها لا تلبث أن تتفرق وتتنوع على صعيد كينونة تلك الخصائص المعيارية التي يتميّز بها كل مجتمع من تلك المجتمعات. هذا ناهيك بالطبع عن استحالة العثور على مجتمعين مختلفين في ذات العناصر والأصول والمصادر والمنابع، يمكن اعتبارهما متشابهان ومتماثلان على صعيد نفس الخصائص المذكورة.

ولعل من أهم أسباب هذه الاختلافات والتباينات في (الخصائص المعيارية) ناجم عن انتهاج كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية مسار حضاري (خاص) به ومقتصر عليه، ليس لأنه أختار هذا المسار ورغب الانخراط في أتونه بمحض إرادته كما قد يعتقد البعض، وإنما لأن البيئات الايكولوجية والسياقات التاريخية والأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي وجد في إطارها وضمن شروطها، هي التي حتمت عليه ضرورات (التكيف) السيكولوجي و(التلائم) السوسيولوجي بما ينسجم مع تلك الشروط وهذه المعطيات. والحال ان درجة تأثير هذه الأخيرة (الشروط والمعطيات) على طبيعة تكوين الخصائص المعيار للشخصية الاجتماعية، تتناسب طرديا"مع فترات (التقادم التاريخي) وحصائل (التراكم الحضاري) للمجتمع المعني. بمعنى أنه كلما كان وجود المجتمع (أسبق) في التاريخ و(أعمق) في الحضارة، كلما ترسخت تلك الخصائص وتكرست في البنى التحتية لتلك الشخصية، بحيث تستحيل الى ما يشبه النوابض المحركة والمجسات الموجهة لتلك الشخصية. وهو ما يشهد عليه نمط (الشخصية العراقية) التي تتمتع بخصائص معيارية وصفات نوعية يتعذر إيجاد ما يماثلها لدى الشخصيات الأخرى، قد تتشارك في بعضها مع سواها من الشخصيات الاجتماعية، إلاّ أنه لا يمكن العثور عليها مجتمعة في شخصية أخرى عدا الشخصية العراقية !.

ولغرض الوقوف على ماهية تلك الخصائص المعيارية التي توفرت عليها الشخصية العراقية مقارنة بغيرها من الشخصيات الاجتماعية الأخرى، سواء تلك التي تشترك معها في (القواسم) التي سبق ذكرها (العربية)، أو تلك التي تختلف معها في نفس القواسم (الأجنبية)، فقد ارتأينا القيام باستعراض موجز ومقتضب لتلك الخصائص، مع تعمد الإعراض عن أي نوع من أنواع (المفاضلة) بين طبيعتها لجهة (الأولوية) في الحضور و(الأقدمية) في التأثير. أي بمعنى عدم التزامنا بوضع تسلسل تدرجي (تفضيلي) يعكس حجم حضورها في السلوك ومدى تأثيرها في الوعي، وإنما تركنا مسألة ورودها بصيغتها الحالية على نحو تلقائي لم يكن مقصودا"أو مخطط له مسبقا". وذلك من منطلق حقيقة أن الشخصية العراقية حين تمارس نشاطها الاجتماعي، وتظهر وعيها التاريخي، وتعكس مخزونها الثقافي، وتجسّد سلوكها الحضاري. لا تشرع بهذه الأنشطة والممارسات بدافع خاصية معنية دون سواها أو تستجيب لوازع محدد دون غيره، وإنما يحصل إدراكها للواقع ويأتي انخراطها في المجتمع كحاصل تأثير تلك الخصائص المتخادمة مجتمعه.

ولعل هناك من يظن أن هذه الخاصية من (التضرع) و(التشفع) التي يبديها الإنسان العراقي حيال كل من يمتلك سلطة سياسية، أو سلطان ديني، أو جاه اجتماعي، أو تفوق اقتصادي، أو امتياز ثقافي، هي من المؤشرات التي تحسب له ولا تحسب عليه، اعتقادا"منه أنها تظهر مدى تمسكه بالقيم لدينية، ومراعاته للأعراف الأخلاقية، وتحليه بالتواضعات العرفية، لاسيما وأنه لا يختلف عن أقرانه من شعوب العالم التي تشاطره ممارسة هذا الضرب من السلوك الإنساني. ولكن في الحقيقة ان هذه الظاهرة / الحالة لا تنطوي – من حيث القيمة الاعتبارية والكرامة الإنسانية - على أية مزايا يمكن إسباغها على من ينخرط بهذه العلاقة الاستزلامية بين من يأمر - يطاع، وبين من ينفذ - يطيع، والتي غالبا"ما تكون عوامل (القمع) السياسي، و(التجويع) الاقتصادي، و(الردع) النفسي، و(الانخلاع) الوجودي، هي ما يضطره الى الانخراط بمثل هذا الأتون المدمر. والحال، بدلا"من أن تكون هذه الأنماط السلوكية الشاذة مرهونة بظروفها الزمانية وشروطها المكانية، بحيث تنتفي الحاجة باللجوء إليها حالما تختفي تلك الظروف المؤقتة والشروط الاستثنائية، استحالت – بالتقادم والتراكم - الى صفات بنيوية ثابتة في السلوك وخصائص معيارية قارة في الوعي.

وإذا كنا قد توصلنا الى إحصاء / حصر خمسة (خصائص معيارية) أساسية تميّزت بها الشخصية العراقية وتفوقت فيها على سواها من الشخصيات الأخرى، فهذا لا يعني بتاتا"إننا توصلنا الى (القول الفصل) الذي لا يمكن معه رصد وتشخيص خصائص أخرى يمكن نسبتها الى هذه الشخصية. ولكننا آثرنا إبراز أكثرها حضورا"في السلوك وأشدها تأثيرا"في الوعي كما أسلفنا، مع الإشارة الى إننا خصصنا لكل خاصية من هذه الخصائص المعيارية حلقة خاصة بها ومقتصرة عليها، نستعرض من خلالها مصادر التكوين وأسباب الصيرورة ودواعي الاستمرار على النحو التالي :

ثانيا"- الخاصية الاستعراضية (الهنبلة) : التفاخر بالأنساب والتنابز بالألقاب

يعد أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ذي قار الدكتور (سلمان محمد رشيد الهلالي) أول من أستخدم عبارة (الهنبلة) لوصف طبيعة الشخصية العراقية، وذلك خلال بحثه في ماهية (النسق) السوسيو- ثقافي الذي حشرت داخله هذه الشخصية دون أن تفلح في التغلب عليه والخروج منه، بحيث كلما حاولت الإفلات من أساره والتخلص من قيوده، كلما عاودت الانزلاق فيه والانجذاب إليه سواء بوعي أو بدونه، وكأنما هي (منوّمة) مغناطيسيا". وعبارة (الهنبلة) الازدرائية التي يتداولها العراقيين فيما بينهم لانتقاد شخص ما، هي كناية وصفية لكل من ينسب لنفسه (خصال) و(شمائل) لا يملكها في الأصل، وإنما يحاول أن يوهم الآخرين بأنها جزء من كيانه وصلب شخصيته، والغاية من ذلك – كما نعلم - انه يسعى لإخفاء هشاشته ومدارات عجزه، والظهور من ثم بمظهر (الوحيد) في عصره و(الفريد) في زمانه.

والحقيقة ان لهذه الخاصية (الاستعراضية) تاريخ طويل يمتد الى مئات السنين يوم كانت حياة (البداوة) تسود هذه الربوع المتصحرة، باستثناء رقع متناثرة من (المدن) و(البلدات) التي هي أقرب عمرانيا"وسكانيا"الى (القرى) و(الأرياف) منها الى المدن الحقيقية، هذا بالإضافة الى طغيان القيم والأعراف (القبلية) و(العشائرية) التي كانت تضبط إيقاع العلاقات المضطربة بين شعث جماعات امتهنت نشاط الغزو والنهب والتخريب. ولما كانت حياة الإنسان تقوم على هذا الضرب من العيش والعلاقات في بيئة عدائية باستمرار، كان لابد ألاّ يكون فقط خشن الطباع وصلب العريكة فحسب، وإنما أن يواظب على الاندماج بجماعته والتماهي مع قيمها والدفاع عن حياضها؛ أولا"لضمان سلامته الشخصية والأسرية، وثانيا" لتأمين حاجاته المادية والمعنوية، وثالثا"للحفاظ على سمعته وهيبته.

وفي إطار مثل هذه الظروف والأوضاع والمعطيات ما كان للجماعات المتنافسة على شحة الموارد الاقتصادية والمتصارعة على فرض الهيمنة الجغرافية، إلاّ أن تفاخر في أصلابها وأنسابها وتباهي باستعراض قوتها وقدراتها، ليس فقط لإثبات ذاتها أمام منافسيها وخصومها من الساعين الى ذات الأهداف فحسب، وإنما لردع إرادتهم وبثّ الخوف في نفوسهم ومن ثم حملهم على التفكير ألف مرة قبل يجرؤا لانتهاك مجالها الجغرافي أو التطاول على سلطانها السياسي. من هنا نشأت ونمت النزعة (الاستعراضية) التي اشتهر بها الإنسان (البدوي) المحاط ببيئة عدائية لا ترحم الضعيف أو المتردد، بحيث أضحت له هذه النزعة بمثابة مقوم أساسي من مقومات كيانه الشخصي والقبلي على حدّ سواء. ولهذا فليس من المستغرب أن يبدو الإنسان العراقي – باختلاف مستوياته الثقافية والحضارية - شديد التعلق بأصوله (القبلية – العشائرية)، حتى ولو أظهر العكس في بعض الحالات الخاصة مراعاة منه للظرف أو الحالة التي تستوجب منه الظهور بمظهر الإنسان (المتحضر) المتسامي فوق عصبياته الانثروبولوجية.

والجدير بالملاحظة ان سيرورات وديناميات (المجايلة) الاجتماعية والثقافية لعبت - ولا تزال تلعب - دورا"أساسيا"في ثبات وديمومة هذه النزعة لدى معظم الجماعات العراقية، سواء منها التي تعيش في الريف أو تلك التي تسكن في المدن، لاسيما وان الغالبية العظمى من سكنة هذه الأخيرة هم من أصول ريفية أو قروية، لم تبرح قيم وأعراف (البداوة) تؤطر الكثير من تصوراتهم وعلاقاتهم وسيكولوجياتهم. ولعل ما زاد الطين بلّة، ان كل الذين حكموا (الدولة) وتحكموا ب(المجتمع) على مدى قرن (1921 – 2025 )، ليس فقط أنهم لم يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة والحدّ من آثارها المدمرة على آفاق التطور الاجتماعي والحضاري كما كان يزعم في الخطابات والشعارات فحسب، وإنما تعمدوا تكريسها – لا بل وتغذيتها - في الوعي والسيكولوجيا الجمعيين، لغرض استغلال واستثمار دورها في ترسيخ الانقسام والتشرذم بين الجماعات ومن ثم إبقائها في حالة من الضعف وعدم القدرة على تحدي السلطة الحاكمة من جهة، وتثبيت سلطتهم وتعزيز سيطرتهم وتقوية قبضتهم وفرض إيديولوجيتهم من جهة أخرى.

وحيثما تسود الكيانات (القبلية) و(العشائرية) و(الطائفية) و(الاثنية) وتشرأب قيمها وأعرافها وسردياتها ورموزها، على خلفية انحسار سلطة الدولة واستشراء الفساد في مؤسساتها من جهة، وتراخي قبضة القانون وانعدام هيبته وتلاشي ردعه – كما هو حاصل في العراق – فلن يكون أمام الإنسان العراقي سوى مخرج واحد لا بديل له، وهو اللجوء الى (قبيلته) أو (عشيرته) أو (طائفته) أو (إثنيته) أو كلها مجتمعة، وذلك للاحتماء بحياضها والاستنجاد بقوتها والتباهي بصيتها والتفاخر بأصالتها، كما كان يفعل آبائه وأجداه من قبل. وهكذا، بالتقادم والتراكم، استحالة (الظاهرة) السيكولوجية التي استوجبتها ظروف خاصة وسياقات محددة، الى (واقعة) سوسيولوجية متواترة لم تلبث أن تطورت الى (خاصية) بنيوية ضمن معمار الشخصية العراقية، بحيث بات من الصعب العثور على عراقي – بصرف النظر عن تحصيله العلمي ورصيده الثقافي ومستواه الوظيفي - يقدم نفسه للآخرين بصفة هويته (الوطنية / العراقية) الجامعة، دون أن سبقها بانتمائه (القبلي) وولائه (الطائفي) وأصله (الإثني) وانحداره (المناطقي).

ثالثا"- الخاصية الاتكالية (اللاأبالية) : الحاجة الدائمة الى منقذ أو مخلّص

على مدى قرون متطاولة من الزمن كان الإنسان العراقي ولا يزال يعاني ويكابد الأمرين ؛ ليس فقط من جور السلطات السياسية (المحلية) و(الأجنبية) التي سامته شنى صنوف القمع والردع والتجويع، بغية كسر إرادته واخصاء شخصيته ومسخ هويته ونسخ ذاكرته فحسب، بل وكذلك من طغيان الطبيعة الايكولوجية ونزق قوانينها وقساوة مناخها وشحة مواردها. وهو ما انعكس سلبا"على تشكيله النفسي وتكوينه السلوكي واعتقاده الديني، بعد أن لمس ان كل المحاولات والمبادرات التي خاض غمارها للخلاص من هذه المآزق والإفلات من تلك المخانق، بائت بالفشل ولم تجدي نفعا"إن لم تكن عمقت جراحه وزادت معاناته وضاعفت مكابداته. بحيث أفضت به هذه الحصائل المريرة الى الشعور بالإحباط النفسي الدائم واليأس الوجودي المستمر، للحدّ الذي أفقده القدرة الذاتية على إبداء المقاومة إزاء كل عارض، وساقه للارتماء في أحضان الاستسلام وتاركا"مصيره للمجهول.

وحين لا يجد المرء في نفسه ما يساعد على النهوض من الكبوات، ولا ما يقاوم به الصدمات، ولا ما يدرأ عنه التحديات. سرعان ما تتراخى عزيمته وتتداعى مقاومته، ويفقد بالتالي زمام أمره ويفوض مآل مصيره الى جهة أو مصدر خارجي قد يكون ؛ ديني (الملك / الإله)، أو اجتماعي (السيد / الشيخ)، أو سياسي (الزعيم / القائد). وهو ما حصل بالنسبة للإنسان العراقي الذي لم تقتصر خاصية (الاتكال) لديه على مصدر واحد من تلك المصادر المذكورة، وإنما شذّ عن مخلوقات الله الأخرى التي تستشعر الضعف في ذاتها وقلة الحيلة لديها إزاء ما يواجهها من مصاعب وما يعترضها من تحديات. حيث طالما لجأ الى رموز تلك المصادر وفقا"لدوافع براغماتية (مطلبية) متدرجة، بدأ بالأقل شأنا"وأدنى مكانة الى الأرفع شأنا"والأعلى مكانة، وذلك وفقا"لطبيعة الحاجة أو الغاية التي تستدعي منه اللجوء الى هذا المصدر أو ذاك. هذا دون أن يفرط - في بعض الأحيان – بطريقة مخاطبتها (مجتمعه) كل بحسب مقامه وقدرته، حيث يشرع يتوسلها ويستعطفها ويستنجد بها لكي تبادر الى (إنقاذه) و(تخليصه) مما هو فيه من هوان الحال وعواقب المآل، مظهرا"أمامها وبين يديها أدنى مستويات الضعف وأقصى درجات التذلل، معتقدا"بذلك أنه كلما كان أكثر توسلا"وأشد تضرعا"، كلما كانت استجابة تلك الرموز أسرع وأنفع.

وإذا ما تابعنا تطور هذه الخاصية لدى الشخصية العراقية ومن ثم تحولها من الحالة (الاضطرارية) الى الحالة (المعيارية)، وفقا"لسيرورات التحقيب التاريخي (القديم، والوسيط، والمعاصر)، فإنه بالإمكان موضعة كل مصدر من تلك المصادر (الخلاصية) التي كانت ولا تزال تستهدفها تلك الشخصية في طاب العون وتقديم المساعدة. فعلى صعيد الحقبة التاريخية (القديمة) كان المصدر الأثير والمؤثر بالنسبة للإنسان العراقي في طلب الحماية ونشدان السلامة، هو (الملك / الإله) الذي كان مواظبا"على استعطافه واسترضائه بصرف النظر عن طبيعة الظروف التي كان يمر بها حربا" أم سلما". حتى أنه من النادر خلو بيت أو قرية أو مدينة من وجود (مقام خاص) لرمز الملك / الإله حيث تقدم له النذور وتقام من أجله الصلوات، للحدّ الذي ان الأعداء الذين كانوا يغزون بعضهم البعض الآخر خلال عصر دويلات – المدن، كانوا يدركون أن وقع الأذى بالشخص المستهدف سيكون أشدّ إيلاما"، وأن حجم الضرر بالمدينة المعنية سيكون أشد وطأة، حين تستهدف تلك الرموز الدالة على كونها موجودة معهم وحاضرة بينهم من منطلق ان تحطيم مقامها أو إزالة رمزيتها هي بمثابة إعلان هزيمة المدينة واستسلام سكانها.

وأما على صعيد المرحلة التاريخية (الوسيطة) حيث سادت العلاقات (العبودية) و(البطريركية) و(الإقطاعية) ربوع الجغرافيا العراقية، فقد حصل انزياح نوعي في اهتمامات وتوجهات الإنسان العراقي المسحوق باتجاه مصدر (خلاصي) آخر، وهو المعني بمزدوج (السيد / الشيخ) بعد أن لمس أن مصيره ومصير أفراد أسرته بات مرهونا"برضى ورعاية هذا الرمز السلطوي الجديد. ورغم كل المعاناة التي كان يكتوي بلظاها والمكابدات التي يتجرع مرارتها جراء الممارسات التعسفية اللاانسانية التي كان يتعرض لها من قبل (أسياده) الطغاة، إلاّ أنه لم يفعل شيئا"إزاء تلك الظروف المزرية والأوضاع الشاذة، سوى أنه استسلم خانعا"لجبروت أولئك الأسياد معتبرا"ذلك أنه من الأمور الطبيعية التي تتسق ونمط العلاقات الاجتما – الاقتصادية السائدة بين (السيد والعبد)، بين (الشيخ - الإقطاعي والفلاح). وهكذا فقد ترك لهذه الرموز (الخلاصية) المهيمنة كل ما يرتبط بشؤون حياته الشخصية ومصير وجوده الاجتماعي، لتقرر له ما ينبغي عليه فعله أو الامتناع عنه، للحدّ الذي تحول معه الى ما يشبه (السلعة) حيث يباع ويشترى مع الموجودات المادية والحيوانية التي زمامها تلك الرموز. وهو الأمر الذي استتبع أن تكرّس لديه النزعة (اللاأباالية) حيال كل ما يقع عليه من مظالم ويجري حوله من انتهاكات، طالما كان يظن / يعتقد ان هناك كائن / كيان يمكن (الاتكال) على قدرته و(الاحتماء) بسطوته، لإنصافه من المظالم الكثيرة وحمايته من الانتهاك المستمرة، لاسيما وأنه لم يفتأ يقتات على خلفيات ومرجعيات أورثته تلك الحاجة المستديمة الى انتظار (منقذ) أرضي أو (مخلص) سماوي !.

رابعا"- الخاصية النكوصية (الارتدادية) : الماضي يأسر الحاضر ويؤطر المستقبل

ليس في تاريخ العراق الحديث والمعاصر ما يلفت انتباه الإنسان العراقي ويستحوذ على اهتمامه ؛ لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري أو الإنساني، بحيث يشده الى الواقع المعاش ويغريه للانخراط في حراك المجتمع الملموس، اللهم سوى النكبات المتكررة والويلات المتوالية التي باتت جزء من حياته منذ لحظة ولادته في أحضان البؤس والخوف والحرمان، وحتى لحظة مماته في شتات الغربة النفسية ومنافي الضياع الوجودي. ولهذا نجده لا يعير اهتماما"كافيا" بما يجري في الزمن الحاضر، بقدر ما يولي اهتمامه ما جرى في الزمن الماضي، لذلك فهو دائم التطلع الى الوراء ومشدودا"الى ما وقع في التاريخ ببعديه (الواقعي) و(المتخيل)، حاملا"في نفسه الملتاعة حنينا"جارفا"الى كل ما له صلة بالماضي الآفل.

ولعله من المناسب الإشارة الى أن ليس كل حالة (ارتداد) صوب (الماضي) تعدّ رجوعا"بالمعنى (النكوصي) السلبي، إذ ان الكثير من شعوب العالم – حديثها وقديمها – مارست هذا الضرب من الاستعادة (للماضي) وتحيين أحداثه واستحضار وقائعه، ليس بدافع (الحنين) المرضيي للأمجاد السالفة والاكتفاء بتأمل رموزها والتفاخر بانجازاتها، وإنما بوازع من الاتعاض بدروسها والاستفادة من عبرها بقصد تجنب أخطائها وتلافي عيوبها. أما في حالة الإنسان العراقي فالماضي بالنسبة إليه ليس مجرد أحداث مضت ووقائع انقضت يستطيع استدعائها في اللحظات الحرجة والمنعطفات الحادة من حياته، لتبين المسار الذي سلكته الظاهرة أو الواقعة المعنية ما بين لحظة التكوين ولحظة التمظهر، ومن ثم الكشف عن الخلفيات والمرجعيات التي ساهمت منحها هذه الخاصية دون تلك، وإماطة اللثام عن السيرورات والديناميات التي ساعدت على بروزها بهذا الظرف دون ذاك، بما يجنبه الشطط في صياغة الأحكام المنطقية ويمنعه من الانحراف عن بلورة التقييمات الواقعية. وإنما هو يدرك الماضي لا بالمعنى (النسبي) الذي يعبر عن سيرورة من المحطات الزمنية المتعاقبة التي يفضي بعضها الى بعض عبر مسار تطوري متدرج قابل الى (التراجع) و(النكوص)، بل هو يعيش الماضي بالمعنى (المطلق) والمفارق للواقع الذي يلمسه ويمارسه بشكل يومي، بحيث يحيله الى مجرد (فكرة) مهيمنة على سيرورة (التاريخ) بكل انقطاعاته وملابساته فحسب، و(رؤية) متحكمة بديناميات (المجتمع) بكل تناقضاته وصراعاته.

وفي الوقت الذي حولت فيه الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق (سلطانية – ثيوقراطية)، و(ملكية – ارستقراطية)، و(جمهورية - شمولية)، حاضر الإنسان العراقية الى جحيم حقيقي يفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، لم تفتأ أجهزتها البيداغوجية والإيديولوجية المتفننة في شتى ضروب الخداع والتضليل، من تزويق وتزوير (ماضيه) بمختلف أنواع (الاختلاقات) و(التلفيقات)، بحيث يبقى مشدودا"الى تلك الحقب الأسطورية والخرافية (الطوباوية) ومتعلقا"بها من جهة، وزاهدا"بما يجري في (حاضره) الفائض بالمآسي والطافح بالفواجع من جهة ثانية، مثلما يجهل أو يتجاهل ما سيكون عليه شكل (مستقبله) في القادم من الأيام من نذر ومخاطر من جهة ثالثة. هذا بالطبع دون تفرط تلك الأنظمة باستثمار الأرصدة الاعتبارية الضخمة التي تتوفر عليها وتحتكم إليها الثقافات (الفولكلورية) الملئية بقصص الأبطال الخارقين وحكايات السلف العظام، والتي غالبا"ما كانت (مؤسطرة) و(مؤمثلة) في العقل الجمعي العراقي الذي يمتاز بالطابع العاطفي والانفعالي. ولعل هذا يفسر لنا سرّ تهيب البعض من المؤرخين والباحثين ممن يتحلون بالواقعية في التحليل والموضوعية في التأويل، من الخوض في غمار هذه (التابوات) المعطلة للعقل والمكبلة للإرادة على خلفية إحاطتها بالممنوعات الاجتماعية والمحرمات الدينية منذ قرون.

والمفارقة أنه كلما عظم شأن الخطب الذي يحيق بحياة الإنسان العراقي وهو يجابه التحديات اليومية على مختلف الصعد والمستويات، كلما كان ميله لاستحضار (الماضي) بكل مناقبه ومثالبه، فضائله ورذائله أقوى وأشدّ، لا لكي يستقرأ الأحداث ويحلل المعطيات ويستخلص الدروس ويتعظ بالعبر، وإنما لكي يحتكم إليه في جدالاته البيزنطية ويستنجد به في صراعاته الدونكيشوتية، دون أن يراع الفوارق الزمنية والأبعاد المكانية التي تفصل ما بين العصور والحقب والمراحل، وما تنطوي عليه من اختلافات جوهرية في ميادين السياسة وحقول الاجتماع ومضامير الاقتصاد وأنماط الثقافة وتضاريس الجغرافيا. وهو الأمر الذي كلفه الكثير من الكوارث والمآسي ليس أقلها اجترار أوهامه وتكرار أخطائه وتواتر معاناته، للحدّ الذي أفقده حسّ الانتماء للواقع الذي يعيش والولاء للمجتمع الذي ينتمي، وبالتالي حصاد المزيد من حالات (الاغتراب) و(الاستلاب) و(الضياع) و(الانخلاع).

خامسا"- الخاصية المزاجية (اللامبدئية): سهولة التحول الإيديولوجي من النقيض الى النقيض

كنا قد ألمحنا ضمن فقرة الخاصية (النكوصية)، اتصاف العقل العراقي بصفات الانفعال والمزاجية، والمقصود بذاك ان صاحب هذا العقل حين يتعاطى مع معطيات الواقع وينخرط في حراك المجتمع، لا يشرع من حقيقة (الترابط) البنيوي بين الظواهر الطبيعية، و(التفاعل) الجدلي بين المكونات الاجتماعية، و(التكامل) الوظيفي بين معطيات الأولى وسلوكيات الثانية. وإنما يحدد مواقفه، ويبني تصوراته، ويقنن تصرفاته، انطلاقا"مما تمليه عليه الحالة (المزاجية) التي يمر بها ويشعر فيها خلال ظرف زماني أو مكاني معين. إذ أن بندول طبيعته السيكولوجية لا يتأثر بالقضايا التي لها علاقة بالقيم (الوطنية)، أو المثل (الأخلاقية)، أو المبادئ (الإنسانية)، أو المعايير (الحضارية). بقدر ما يميل هذا البندول باتجاه المنافع الشخصية والدوافع الفئوية التي تشكل - في حالة الإنسان العراقي - النوابض الخفية للشخصية العراقية الملتبسة.

والحقيقة ان لهذه الخاصية (المزاجية) أسباب تاريخية غائرة لا ترتبط فقط بكوارث (الحاضر) وما تسببت له من هوان فحسب، وإنما هي تنتمي الى مآس (الماضي) وما أورثته له من أحزان، حيث صعب على الإنسان العراقي إدامة الشعور بالطمأنينة والركون الى الاستقرار، في بيئة جغرافية - إيكولوجية طالما كانت قاسية عليه وعنيفة ضده، الأمر الذي طبعت شخصيته بطابع سيكولوجي يتسم بالخوف من الواقع المعيش والقلق من المصير المجهول. فبقدر ما كان هذا الإنسان يكافح لضمان وجوده من الاندثار والحفاظ على نوعه من الانقراض، بقدر ما كانت عوامل الطبيعة وعناصر الجغرافية تشعره بعجزه وقلة حيلته إزاء تطويعها لإرادته وتدجينها لحاجاته. وعلى ما تذكر كتب التاريخ والحضارة، فان معاناته وقلقه لا يقتصران فقط على ما تمخض عن تواتر الغزوات واستمرار الصراعات من دمار عمراني وخراب حضاري، بحيث كلما تقدم خطوة الى الأمام اضطرته تلك الغزوات والصراعات الى التراجع خطوات عدة الى الوراء فحسب، وإنما فداحة ما أصابه من جور الطبيعة القاسية وما لحق به من أضرار جراء ضراوة نوباتها الدورية كذلك. لاسيما تلك المتمثلة بتغيير مسارات نهري دجلة والفرات بشكل دائم، الأمر الذي يضطره الى هجره أماكن سكنه وترك أراض زراعته باستمرار، هذا بالإضافة الى ما كان ينوبه من خسائر مادية وبشرية خلال مواسم الفيضانات المدمرة وما ينجم عنها من مجاعات رهيبة وأوبئة فتاكة، ناهيك بالطبع عما تسببت به ظواهر أخرى لا تقل ضررا"مثل ؛ الجفاف والاطماء والملوحة.

وفي إطار هذه الظاهرة، فقد قدمت لنا تجربة الأحزاب السياسية العاملة في العراق (الشيوعية والقومية والإسلامية) منذ العقود الأولى للقرن الماضي وحتى كتابة هذه السطور، الكثير من الحالات التي تشي بأن قسم كبير من الأعضاء المنخرطين في تنظيمات تلك الأحزاب، انسلخوا في مرحلة من المراحل أو محطة من محطات نشاطهم السياسي عن أحزابهم السابقة، بحيث تحولوا من أقصى (اليسار) الى أقصى (اليمين) وبالعكس، دون أن ينتابهم أدنى شعور بالحرج جراء هذا الانقلاب المفاجئ والمحيّر. وربما هناك من يعزو هذه الظاهرة الى حصول نضوج (فكري) وارتقاء (ثقافي) بالنسبة للشخص المتحوّل من إيديولوجيا (اليمين) الى إيديولوجيا (اليسار)، هذا في حين ينظر الى الشخص الذي فضّل الخيار المعاكس – كأن يتخلى عن انتماؤه الشيوعي أو القومي السابق لصالح انتماؤه الإسلامي اللاحق – بمثابة نكوص معرفي وارتداد فكري وتقهقر حضاري. إلاّ أن كلا وجهتي النظر هاتين تخفقان في تشخيص الأسباب الحقيقية وتحديد الدوافع الفعلية التي تكمن خلف هذا التصرف، من حيث كونها تؤسس هذه الرؤية أو هذا التصور بناء على أحكام مسبقة لا صلة لها بالواقع.

ومن الجدير بالملاحظة ان الإشارة الى هذه الخاصة المعيارية لدى الشخصية العراقية، لا يراد منها (الانتقاص) من شأن هذه الشخصية أو الإحياء بأنها غير جديرة بالثقة، باعتبار كونها جبلت على الافتقار الى فضائل (المبدئية) الفكرية والأخلاقية، بقدر ما يراد منها التأكيد على أنها حصيلة (الاضطرار) الوجودي لمواجهة فرشة التحديات المتمثلة؛ بقسوة الجغرافيا، وعنف التاريخ، وتعسف السياسة، وتخلف الاقتصاد، وتطرف الاجتماع، وتعصب الثقافة، وتطيف الدين كذلك. بمعنى أن صيرورة هذه الخاصية هي نتاج ظروف قاهرة وشروط قاسية حتمت على الإنسان العراقي أن يراع ضرورة (التكيف) السيكولوجي مع ما تستدعيه هذه وتلك من مواقف طارئة وسلوكيات استثنائية، إذا ما أراد أن يتجنب الخسائر المادية والمعنوية والوجودية المتوقعة. وبتقادم هذه الحالة على مدى قرون وتراكم عواقبها النفسية، أضحى ما كان عابرا"ومؤقتا"في حياة هذا الإنسان شيء أشبه بالخاصية البنيوية القارة في اللاوعي، بحيث طبعت شخصيته الملتبسة بطابع (الشك) و(الحذر) من كل ما تضطره الحاجات اليومية - الآنية للتعاطي معه، سواء على صعيد العلاقات الشخصية، أو الارتباطات السياسية، أو الولاءات الإيديولوجية. بحيث يترك لنفسه مسافة آمنة يستطيع من خلالها الإسراع ب(التراجع)، ومن ثم تغيير المسار السابق في اللحظات الحرجة والانعطافات الحادة التي يستشعر أنها باتت تنذر بالخطر.

ولكي لا نبدو مجحفين وغير منصفين إزاء هذا السلوك المتردد والمتقلب الذي يبديه الإنسان العراقي خلال تعامله مع معطيات الواقع الاجتماعي، للحدّ الذي يكون فيه مدعاة للإدانة والاتهام ب(المزاجية) و(اللامبدئية)، فإن من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن مواقف وسلوك الحركات السياسية التي كان ينتمي إليها وينخرط في أنشطتها، كانت من العوامل المساهمة والمؤثرة في تكريس هذه الخاصية في سلوكه، ومن ثم وتغذيتها بكل ما يمنحها الديمومة والبقاء في وعيه. فمنذ أن أبصرت هذه الحركات السياسية النور على أرض الممارسة وهي تعاني ليس فقط (الانقسامات) و(الانشطارات) بين قياداتها المهووسة بزعامة أحزابها والاستئثار بنفوذها والاستحواذ على امتيازاتها فحسب، وإنما تخلل تاريخها المضطرب سلسلة من (المساومات) و(التحالفات) التي أضرت بمبادئها وأهدافها وبرامجها، بحيث لم تعد تحضى بتلك (الهالة) وتنال ذاك (البريق) الذي كان لها في السابق، وهو الأمر الذي وسم أغلب انتماءاته السياسية ب(الظرفية) وولاءاته الإيديولوجية ب(السطحية).

سادسا"- الخاصية الانشطارية (اللامعيارية): تعدد الانتماءات وتنوع الولاءات

إذا ما جمعنا ما سبق من الخصائص المعيارية السالفة بعضها الى بعض، فإن حصيلتها ستفضي الى خاصية أخرى مهمة توفرت عليها الشخصية العرقية، ألا وهي الخاصية الانشطارية أو (اللامعيارية). بمعنى أن اهتمامات الإنسان العراقي لا تنحصر في موقف واحد أو توجّه معين أو تصور محدد، بحيث يمكنك الاستدلال على ما يعتقد فيه أو يعتمد عليه أو ينتمي إليه، وإنما هو خليط من كل هذا وذاك بما يفضي الى التشويش والبلبلة. وربما هناك من يرى أن هذه الخاصية هي من الأمور الجيدة والايجابية التي ينبغي الدعوة لها والتشجيع عليها والانخراط فيها، بدلا"من أن ينظر إليها بمنظار النقد والتجريح، من منطلق ان ظاهرة (التعدد) و(التنوع) هي من المؤشرات الأساسية التي أضحت تدل على النضوج الفكري والتوازن النفسي والرقي الحضاري.

والحقيقة أنه لا تثريب على من يرى في ظاهرة (التعدد) و(التنوع) دليل عافية اجتماعية ونفسية وحضارية، ولكن بشرط ألاّ تكون هذه الظاهرة على حساب القضايا (المعيارية) التي هي بمثابة الأسس والركائز التي يقوم عليها مدماك المجتمع وتحدد مآل مصيره، وإلاّ فأنها ستتحول – عاجلا"أم آجلا"- الى عامل نشط من عوامل الاحتراب الاجتماعي والخراب الاقتصادي واليباب الحضاري. فهل أدلكم على نموذج أو تجربة تثبت لكم ذلك ؟! أنظروا الى حال المجتمع العراقي كيف تحولت ظواهر (التعدد) و(التنوع) في الأرومات القومية – الاثنية، والانتماءات القبلية – العشائرية، والمرجعيات الحضارية – الثقافية، والانحدارات الجهوية – المناطقية. الى صواعق شديدة الانفجار أحالت كيان المجتمع العراقي الذي كان يظن يوما"أنه كالبنيان المرصوص، الى شظايا متناثرة من الأقوام والملل والطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، لا يجمعها جامع سوى الضغائن والأحقاد والكراهيات.

ولعل ما يجعل من الخاصية الانشطارية (اللامعيارية) التي تتميز بها الشخصية العراقية مصدرا"لتعميق الخلافات والانقسامات القائمة، ومنبعا"لتزايد الكراهيات والصراعات، هي أن هذه الشخصية تفتقر لحد الآن – رغم باع تاريخها الطويل – الى ما يلم شعثها ويرمم صدوعها ويجمع شملها، على أساس سرديات تاريخية مشتركة، ورمزيات وطنية موحدة، وهويات حضارية واحدة. بحيث لا تمنحها فقط (المناعة) الفكرية والنفسية حيال شتى النعرات والعصبيات التي تعصف بها من كل صوب فحسب، بل وكذلك تمنحها (الصلابة) الوطنية والحضارية إزاء مختلف المحاولات الرامية الى تكسير إرادتها وشق صفوفها وبعثرة وحدتها، وهو الأمر الذي يفسر لنا سرّ استمرار معاناة ومكابدات هذه الشخصية من مظاهر (الهشاشة) البنيوية إزاء الصدمات، و(الرثاثة) الحضارية إزاء التحديات.

ومما فاقم من مساوئ هذه الخاصية وعمق تداعياتها على صعيد الوعي والسلوك الجمعيين، هو أن هذا (التفتت) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، اتسما – إن جاز لنا القول – بالطابع العابر للتاريخ (اللاتاريخي). بمعنى أنهما لا يخضعان لسيرورات التحقيب الزمني التي من شأنها تأطير الظاهرة أو الموقف بناء على مقتضيات الحالة القائمة، واستنادا"الى معطيات السياق السائد، بحيث يجاريان ما يتعرض له الواقع من تغييرات وتحولات، ويحايثان ما يطرأ عليه من تطورات انزياحات. وإنما يتخطيان حدود الملموس والمعيش في ذلك الواقع، ويتجاوزان على شروطه الموضوعية ويتساميان فوق خصوصياته الذاتية. ولذلك فليس من المستغرب بقاء هذه الخاصية (اللامعيارية) لصيقة في كينونة الشخصية العراقية كما الظل، رغم كل ما شهده المجتمع العراقي من تقلبات سياسية، وتغيرات اجتماعية، وتوجهات إيديولوجية، وتحولات تاريخية.

وعلى الرغم من مزاعم (الإصلاح) و(التحديث) التي روجت لها أنظمة الحكم السابقة في العراق، سواء منها (السلطانية) أو(الملكية) أو (الجمهورية)، فإن تحولا"نوعيا"في بنى الوعي وأنساق الثقافة وتمثلات الذاكرة، لم يطرأ على ما كان سائدا"فيها ومهيمنا"عليها منذ عشرات السنين إن لم تكن المئات أي تغيير أو تطور يذكر، الأمر الذي دأبت خلالها أجيال العراقيين المتعاقبة على مراعاة ما كانت تحمله من مضامين، والالتزام بما كانت تحضّ عليه من قيم، والخضوع لما كانت تمثله من رموز. ولهذا فقد حافظ أغلب العراقيين بشكل لافت على عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم المتوارثة أبا"عن جد، حيث كانوا حريصين على استمرارها وديمومتها لا في علاقاتهم الاجتماعية وتواضعاتهم العرفية فحسب، وإنما اجتافوها في وعيهم وتمثلوها في سلوكهم أيضا"، كما لو أنها واجب أخلاقي لا يجوز التفريط فيه أو فرض ديني لا ينبغي التهاون بشأنه.

وكما هو متوقع في مثل هذه الوضعية المأزقية، فقد لبثت الشخصية العراقية تعاني ليس فقط حالة (الازدواج) في مهاد وعيها وأنماط سلوكها، كما سبق للعلامة الراحل (علي الوردي) أن شخصها في وقت مبكر، وإنما الابتلاء ب(التشظي) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، بقدر ما تجسّد من ثقافات فرعية، وتحمل من هويات تحتية. ولذلك نجد ان الإنسان العراقي يعيش في حالة من (السيولة) و(الهلامية) الدائمة، بحيث يدهشك – في بعض الأحيان – حجم التناقض في مواقفه وعمق التعارض في تصرفاته، حتى لتظن أنه يعيش في عدة أزمنة (ماضي وحاضر ومستقبل)، ويقيم في عدة أمكنة (أرياف وقرى ومدن)، وينتمي لعدة جماعات (طبقية وقبلية وعشائرية)، ويحمل عدة هويات (دينية وطائفية ومذهبية)، ويجتاف عدة إيديولوجيات (شيوعية وقومية وإسلامية)، ويتبنى عدة ثقافات (فولكلورية وحداثية وما بعد حداثية) (الخ. والمفارقة أنه في كل هذا الكم الهائل من التناقضات والتعارضات والتقاطعات، لا يجد هذا (الإنسان – اللغز) ما يبعث على الحرج في نفسه، أو يثير الدهشة لدى الآخرين، ذلك لأنه مقتنع تماما"ان ما يعتقده به من آراء وما يفعله سلوكيات، لا يتعارض البتة مع ما هو سائد في مجتمع تآلف مع / وتواضع على ذات القيم والأعراف والتقاليد، حيث (اللامعيارية) فضيلة عظمى، و(اللامبدئية) امتياز كبير !.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

أعطى العِلم لتقنيات الحرب أكثر مما أعطى لتقنيات الرَّفاهية؛ فالشّرّ والخير لا يتساويان في النتائج. أباد اختراع الدِّيناميت، عندما دخل الحروب، مِن الحياة أكثر مِن الطُّرق التي شقها، ولم تكفِ جائزة «نوبل» تخفيفاً للأضرار التي أسفر عنها؛ لأنَّ الأمر لم يكن بيد العلماء، ولا الحكماء الفلاسفة، الذين أرادهم أفلاطون(قبل الميلاد)، في جمهوريته حكاماً، وبعده أبو نصر الفارابي(تـ: 339هج) في مدينته الفاضلة.

عودة على بدء، تنقرض مع أسلحة الدَّمار الشَّامل الحياة؛ أدواتها تجاوزت السُّيوف والرِّماح، والأحجار التي ترمى بالمنجنيقات، أسلاف المنصات العملاقة، المزودة بالمتفجرات الهائلة، التي تمحو النَّهار بإطفاء الشّمس. اختلفت أسلحة الدَّمار الشَّامل، حسب الأزمنة، ومعناها باختصار تحرق الأخضر واليابس. بل عند الحروب الصَّغيرة، بين معارضة وسُلطة مثلاً، أفتى فقهاؤها بجواز رمي السّموم في الأنهار والآبار، فيموت الجنود والفلاحون والأسماك، وصاحبها يبررها، ما زال فيها انتصار «المؤمنين» حسب عبارته، وجواز تفجير القطارات بما تحمله مِن أطفال ونساء؛ وعند الاضطرار جواز أكل لحوم المخالفين(احتفظ بكتب هؤلاء).

لكنَّ وجدتُ فناً قديماً في أسلحة الدَّمار الشّامل، تجاوز فتاوى هؤلاء، أنَّ أحدهم اقترح على قائده لاقتحام مدينة «نصيبين» العصية، بتوجيه مفارزَ تجمع العقارب مِن «شهزور»(كركوك اليوم)، فكانت مشهورة بها، وتُملأ بها جرار مع التراب، توضع في المنجنيقات، وترمى في وسط المدينة، فتقتل سمومها مَن تقتل، ويفرّ منها مَن يفر، وينشغل مَن ينشغل بتعقبها لقتلها، فيتم الاقتحام؛ وبالفعل حسب الرواية تم ذلك بنجاح(ابن أعثم، فتوح البلدان)؛ لكن للانتصار السَّريع ثمنه، فالعقارب لا تترك المنتصرين يهنؤون.

كتب الأديب السُّعوديّ ميرزا الخويلدي، في «الشّرق الأوسط»(الأربعاء 2025/6/25): «الحرب بين جاسم الصَّحيِّح وبريخت»، عن أماني الشّعراء في السّلم، وملامستهم لشرور الحرب على الحياة؛ والشّاعران عربيّ وأوروبيّ، ولكلّ منهما زمنه. وجدتُ مَن اعترض، في مكالمة معي، على الخويلدي، بعد إرسال المقال إليه لإعجابي به، ترك المعترض قضية السّلم والحرب، مهتماً كيف يضع الخويلديّ شاعره المشرقي الجزيري مع شاعر أوروبا الألماني بريخت؟! غير أنَّ الشّاعر المطبوع، إنّ كان شمالياً أو جنوبياً، واحداً في جوهر نصه عن الواقع، مع اختلاف لغته وقوام قصيدته، فـ «فضاعات» الحروب لا تختلف. فما قاله جاسم الصّحيّح تعبيراً عن ألم دفين على العمران؛ وأماني شعبه في المستقبل، و«الحرب حين تجيء/ تمحو الفرق ما بين السّنابل والقنابل/ والحرب حين تضيء/ تطفي شعلة الأحلام في دمنا/ وأحلام المشاعل...». قابل ذلك الكاتب بنص بريخت(1938) الذي كان قلقاً على ألمانيا وفلسفتها مِن تهور زعيمها: «يا جنرال دبابتك آلة جبارة/ تسحق الغابات...»؛ فالتعبير هو هو بحكم الأمنيات، والمعاناة واحدة. كانت وما تزال دواوين الشّعراء ملأى بقصائد السَّلام؛ والتحذير مِن الحروب؛ لكن إنَّ شرقوا وغربوا، وأجادوا القريض أو الحر أو المنثور، لم يتقدم أحدهم على «ميمية» زُهير بن أبي سُلمى(قبل الهجرة)، في محاولة درئه للحرب، وكانت بالأيدي، قبل اختراع المنجنيق، وظهور أفكار الموت الشّامل، تقليداً للطواعين وعظائم الأوبئة، وقبل استخدام الدّين فيها لتبرير فضاعاتها، وقد ورث في المكان جيل جاسم الصَّحيّح زهيراً؛ وهذا كان ردي على مَن انتقد الخويلدي، كونه قرن جاسماً ببريخت. مما قاله ابن أبي سُلمى في الحرب، التي لم تتعد أسلحتها السّيوف والرّماح، غير أنْه ذمها كأنها جرت بسموم العقارب وأسلحة اليوم: «فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها/ وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ/ فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ/ كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ»(الزَّوزنيّ، شرح المعلقات السَّبع)؛ وتعرفون كيف تعمل الرّحى الطَّحين، وكم مِن ميليشيا وجماعة مسلحة، أشأم مِن «أحمر عاد» (عاقر ناقة صالح)، فرضتها الحروب علينا. هذا، وحصل استخدام العقارب في الحرب قبل سبعة وعشرين وأربعمئة وألف مِن السِّنين، ولكم حِساب تطور أدوات الموت بعد ألف عام ويزيد.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كتب: كوري روبن

ترجمة: علي حمدان

***

الرأسمالية في طورها المتأخر مصطلحٌ غامض. قد يعني التأخر الموت أو النهاية، كما هو الحال عندما نتحدث عن جدي الراحل أو وقت متأخر من بعد الظهر. عندما استخدم المنظر الاجتماعي الألماني فيرنر سومبارت المصطلح لأول مرة في أوائل القرن العشرين، كانت الرأسمالية المتأخرة تعني نهاية الرأسمالية. ومع ذلك، فإن كلمة "متأخر" في صيغة التفضيل تشير أيضًا إلى التحديث أو أحدث التقنيات، مشيرةً ليس إلى زوال شيء ما، بل إلى صقله وتقدمه. في دراسةٍ للتطورات نفسها التي ذكرها سومبارت، ادعى الماركسي النمساوي رودولف هيلفردينغ أن الاقتصاد الناشئ في القرن العشرين كان ببساطة "المرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالي"، وهي عبارةٌ رددها لينين، الذي بذل جهدًا كبيرًا لتذكير أتباعه بأنه "لا يوجد شيء اسمه وضع ميؤوس منه تمامًا" بالنسبة للبرجوازية.

على الرغم من شعبيتها في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ الأزمة المالية عام 2008 وما تلاها من تمردات يسارية شعبوية، فإن الرأسمالية المتأخرة ليست فكرةً تُهيئ للثورة أو رؤيةً للتقدم. قد تُعبّر عن رغبةٍ في التخلص من الرأسمالية، لكنها في الغالب تُمثّل نظريةً للتحولٍ الذي لا يحقق التحول - أو ما هو أسوأ.

تقليديًا، اعتقد اليسار الاشتراكي أن الرأسمالية عرضة للأزمات - ليس فقط تقلبات الدورة الاقتصادية، بل أيضًا اضطرابات متزايدة الوطأة لا يمكن حلها ضمن النظام. مع مرور الوقت، لا بد أن تنتهي هذه الأزمات، "إما بإعادة بناء ثورية للمجتمع ككل"، كما تُعرّفها الصيغة التقليدية، "أو بالهلاك المشترك للطبقات المتصارعة". ورغم أنها ليست رؤية حتمية للمستقبل - فـ"الهلاك المشترك للطبقات المتصارعة" احتمال وارد - إلا أن نظرية الثورة هذه تعتمد على نظرية الأزمة.

وفقًا لسومبارت، قضت الرأسمالية المتأخرة على هذا الميل إلى الأزمة. فالتنظيم الحكومي للسوق والشركات؛ ونمو بيروقراطيات الإدارة؛ وصعود النقابات العمالية والتأمين الاجتماعي وتشريعات العمل؛ وتركيز الشركات وتنسيقها - كل هذه التطورات تُخفف من "التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي". ودون أدنى شك في حدوث ثورة أو دمار، تُحوّل الرأسمالية في طورها الأخير إلى "نظام اقتصادي يتلاشى أو يتراجع". بمعنى آخر، ستنتهي الرأسمالية، ولكن ليس بنهاية مدوية.

لم يتخذ أدورنو هذه الخطوة الأخيرة قط - نحو نهاية الرأسمالية - ولكنه استعاد تقريبًا جميع خطوات سومبارت. في خطاب مؤثر ألقاه عام 1968، أشار إلى أن الرأسمالية المتأخرة "اكتشفت موارد في داخلها" لم يتخيل الجيل الأول من الماركسيين وجودها في الرأسمالية: تحسينات في مستويات معيشة الجماهير، واندماج الطبقة العاملة في الطبقة الوسطى، والنمو المُدار للاقتصادات الصناعية، ونهاية تلك الأزمات التي كانت تُسبب صدمة للعمال وأصحاب الأعمال على حد سواء. من خلال هذه الإجراءات، تُؤجل الرأسمالية المتأخرة نهاية الرأسمالية "إلى الأبد". لن تنتهي الرأسمالية أبدًا.

يُعد كتاب إرنست ماندل "الرأسمالية المتأخرة" (1972) أكثر التأملات جدية واستدامة في هذا الموضوع. ينطلق الكتاب من فرضية أن النمو وإعادة التوزيع اللذين أدارتهما الدولة في حقبة ما بعد الحرب - "العصر الذهبي" أو "الثلاثينيات المجيدة" - اللذين اعتبرهما سومبارت وأدورنو أمرًا مسلمًا به، على وشك الانتهاء. رأسمالية ماندل المتأخرة هي ما يأتي بعد رأسمالية سومبارت وأدورنو المتأخرة. بعيدًا عن قلب مبدأ عمل الرأسمالية - السعي التنافسي لتحقيق معدلات ربح أعلى باستمرار من خلال إنتاج السلع واستغلال العمالة - فإن الرأسمالية المتأخرة هي "أكثر تعبيراتها تطرفًا". فبدلاً من إثارة العداء وتهدئة العمال، فإن الرأسمالية المتأخرة هي اللحظة التي "يتخذ فيها الصراع شكلًا متفجرًا" ويؤدي إلى "أزمة واسعة الانتشار". إنها السبعينيات، و"الحركة الثورية الجماهيرية للطبقة العاملة العالمية" "تقترب". كيف عرف ماندل ذلك؟

يقول ماندل إن النمو الاقتصادي وزيادة معدلات الربح لا يكونان بطيئين أو ثابتين أو مضمونين. لكنهما ليسا عشوائيين أيضًا. فهما يأتيان في "موجات طويلة" تمتد لأربعة أو خمسة عقود: من عام 1793 إلى عام 1847، ومن عام 1848 إلى عام 1893، ومن عام 1894 إلى عام 1939. قبل بداية الموجة، كانت كمية هائلة من رأس المال عاطلة عن العمل، تنتظر فتح قنوات الربح والاستثمار. ثم، فجأة، ولأسباب مختلفة - انخفاض أسعار العمالة بسبب الحرب أو البطالة أو الهجرة؛ اكتشاف المواد الخام والاستيلاء عليها من خلال الغزو الإمبراطوري؛ إنشاء أسواق جديدة في قارات غير مستغلة أو في مجالات الحياة الاجتماعية مثل الأسرة - يصبح الربح ممكنًا. وتنطلق الموجة.

مع تنامي الموجة، يزداد الربح والنمو بوتيرة أسرع فأسرع؛ فتطول فترات الازدهار، وتقصر فترات الركود. يستثمر رأس المال في الابتكارات التكنولوجية التحويلية ويقودها، ليس فقط في الآلات التي تقلل الحاجة إلى العمل البشري، بل والأهم من ذلك، في الآلات التي تبني "الآلات المحفزة" (المحرك البخاري، محرك الاحتراق، الحاسوب) التي تدفع وتوجه الإنتاج على نطاق واسع. كلما وفرت هذه الآلات المزيد من العمل، زاد الربح المُمكن تحقيقه.

ثم، مع بلوغ الموجة ذروتها، يتباطأ الربح والنمو؛ والآن تكون فترات الازدهار قصيرة، والكساد طويلًا. بعض أسباب التباطؤ طارئة - انخفاض التجارة الدولية أو ظهور منافسين جدد يقدمون أسعارًا أرخص - لكن السبب الأكثر إلحاحًا هو نفس الشيء الذي جعل الاستثمار مربحًا في السابق: إنتاج الآلات للآلات المحفزة. الإنتاجية التي يمكن استخلاصها من العمال غير متوقعة. إنها وظيفة قوة الرأسمالي، وموافقة العمال، ووجود أو غياب عمال آخرين أكثر يأسًا منهم ("جيش الاحتياطي الصناعي"). على النقيض من ذلك، فإن ما يمكن للآلات فعله ثابت بتصميم الآلة نفسها. كلما زاد اعتماد الرأسمالي على الآلة، قل تقلب ربحه. عندما يمتلك عدد كافٍ من المنافسين هذه الآلات، يكون هناك ربح إضافي أقل يمكن استخلاصه منهم. عندما تتجمد الأرباح، يفر المستثمرون. تنهار الموجة وتتراجع.

وفقًا لماندل، بدأت الموجة الرابعة من الرأسمالية عام 1944، وبلغت ذروتها عام 1966، وهي الآن تنهار في جميع أنحاء العالم. خلال النصف الأول من الموجة، وجد رأس المال فرصه في إعادة تسليح الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؛ وانتشار الأساليب الصناعية في جميع مجالات الاقتصاد وفي جميع أنحاء العالم؛ وتزايد الأتمتة نتيجة الثورة الرقمية؛ والعمالة الرخيصة الناتجة عن قمع الأجور في ظل الفاشية والحرب العالمية الثانية.

بحلول ستينيات القرن الماضي، أدى الجمع بين النقابات العمالية والاشتراكية القائمة فعليًا إلى رفع أسعار العمالة في العالم الرأسمالي وإغلاق بقية العالم أمام الاستثمار الرأسمالي. أدى التصنيع العالمي لإنتاج السلع الرأسمالية والاستهلاكية (وليس مجرد استخراج المواد الخام كما في القرن التاسع عشر) إلى تقارب مستويات الإنتاجية ومعدلات الربح عبر المناطق والدول والصناعات. كان المكان الرئيسي للعثور على هذا القدر الإضافي من الربح هو "الإيجارات التكنولوجية" المضمنة في الاحتكار القانوني للشركة لابتكاراتها التكنولوجية أو وقت بدء التشغيل الطويل (والموارد) الذي سيستغرقه المنافسون لتطوير تلك الابتكارات. كانت هذه هي الرأسمالية المتأخرة: شركات كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في اقتصاد عالمي تنافسي حقيقي، وتسعى وراء الريع التكنولوجي في جميع أنحاء العالم.

كان ماندل يأمل بوضوح أن تكون الرأسمالية قد وصلت إلى نهايتها. ففي خضم موجة الإضرابات العالمية وتزايد التضخم في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، بدا أن رأس المال المتأخر، على عكس سلفه في القرن التاسع عشر، لم يعد لديه ملجأ. لم تعد جميع الحلول المعتادة - تدخل الدولة، والسيطرة على الاحتكار، وسهولة الائتمان - مجدية. كان انخفاض معدل الربح أمرًا لا مفر منه. كانت الأزمة المنتظرة، والثورة الناتجة عنها، على وشك الحدوث.

ومع ذلك، كان هناك احتمال آخر. لماذا، إذا لم يكن هناك المزيد من الربح الذي يمكن العثور عليه في الآلة، لا يمكن لأصحاب العمل الحصول على المزيد من العمل من عمالهم دون دفع المزيد لهم؟ ربما اعتاد العمال على الأجور المتزايدة باطراد ومستويات المعيشة المرتفعة في حقبة ما بعد الحرب، ولكن هذا ليس قانونًا طبيعيًا. ماذا لو استطاع رأس المال إقناع العمال أو إجبارهم على قبول أجور ومستويات معيشة أقل؟ ما لم يكن قادرًا على "كسر مقاومة الأجراء" ورفع معدل ربحه، فلن ينجو رأس المال أبدًا من الركود الطويل القادم. طمأن ماندل نفسه بفكرة أن إعلان الحرب على العمال أمر "لا يمكن تصوره" دون تفكك هائل وعكس لتسوية ما بعد الحرب. وحدهم الفاشيون كانوا قادرين على كسر الحركة العمالية بهذه الطريقة. ولدت ونشأت الطبقة العاملة في راحة كينز، ولن تقبل بذلك أبدًا.

وبالفعل، فقد فعلوا ذلك، وما حصلوا عليه هو التقشف: لم تكن ثورة عمالية، بل ثورة مضادة قادها بول فولكر ورونالد ريغان، إلى جانب إدخال جيش احتياطي صناعي ضخم من العمال الفقراء في آسيا وأماكن أخرى. كان الركود طويلًا، بينما استمر انخفاض الأجور الحقيقية لفترة أطول. تلك كانت الرأسمالية المتأخرة التي يلمحها ماندل في مقاطع متفرقة من أعماله، والتي أصبحنا جميعًا نعيشها.

كتب فالتر بنيامين: "الرأسمالية لن تموت موتًا طبيعيًا". في لحظات التباطؤ أو الهزيمة، كان كثيرون من اليسار يأملون خلاف ذلك، متصورين انهيار الرأسمالية كنتيجة حتمية لعملها. في نهاية القرن التاسع عشر، أعلن كارل كاوتسكي، أحد أبرز منظري الاشتراكية الألمانية، أن "القوى الاقتصادية التي لا تُقاوم تؤدي، بيقينٍ من الهلاك، إلى حطام سفينة الإنتاج الرأسمالي". في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، لا يزال خليفة كاوتسكي الأكثر تشاؤمًا، فولفغانغ ستريك، يدّعي أن "الرأسمالية تواجه انهيارها" بسبب ميلها إلى التدمير الذاتي. لم تكن الطوباوية قط العيب القاتل لليسار. إن ما يُقوّض حقًا قدرته على الواقعية السياسية هو هذا الإيمان بقوة الكارثة المُنقذة.

بالنسبة لليسار المعاصر، ثمة أمل في أن يُخضع تغير المناخ الرأسمالية أخيرًا. وهذا أيضًا وهم قديم. في نهاية كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (1905)، يتساءل ماكس فيبر بحزن عن المدة التي سيصمد فيها القفص الحديدي للرأسمالية. يكمن الأمل الوحيد في التحرر في محدودية الوقود الأحفوري: ستهيمن الرأسمالية على سكانها "حتى يُحرق آخر طن من الفحم الأحفوري". هذا، وفقًا لسومبارت، كان سطرًا كان فيبر يُحب تكراره في حواراته الخاصة. لم يُعجب ذلك سومبارت. لم تكن هناك طاقة هيدروليكية وطاقة مد وجزر فحسب؛ بل كانت هناك أيضًا طاقة شمسية، والتي استُخدمت، منذ وقت مبكر يعود إلى عام 1902، في مزرعة نعام بالقرب من لوس أنجلوس. كان السؤال الوحيد للرأسمالية هو ما إذا كان يمكن تحويل هذا إلى ربح. تشير الأدلة من مصر وبيرو وتشيلي وجنوب إفريقيا إلى إمكانية ذلك. لا توجد أوضاع ميؤوس منها للبرجوازية.

لكن في منهج ماركس للأزمة والانهيار درسٌ لليسار. كتب ماركس أن معدل الربح لا يُحسم إلا بالصراع المستمر بين رأس المال والعمل، حيث يسعى الرأسمالي باستمرار إلى خفض الأجور إلى أدنى حدٍّ لها ماديًا، وتمديد يوم العمل إلى أقصى حدٍّ مادي، بينما يضغط العامل باستمرار في الاتجاه المعاكس. ويتحول الأمر إلى مسألة صلاحيات كلٍّ من المتصارعين.

الربح، أكثر من كونه مسألة اقتصادية، هو مسألة قوة. فعلى عكس الآلة، لا يمكن تحديد قوة العمال، إذا ما تضافرت، مسبقًا. يبقى مدى القوة التي يمكن للعمال ممارستها - ومقدار الربح الذي يمكن للرأسمالي استخلاصه - سؤالًا مفتوحًا، سيتم تحديده في سياق الصراع نفسه. في الأيام الأولى للرأسمالية المتأخرة، تعلم رأس المال هذا الدرس. وستحدد الأيام ما إذا كنا في الأيام الأخيرة للراسمالية أم في طورها المتأخر، ما إذا كان العمال تعلموا الدرس أيضا.

نيولفت ريفيو 20 يونيو 2025

ـ افق نهاية البشرية الارضوية: تتعاظم فعالية الافتراق بين الادراكية الغالبة السائدة، والواقع كما هو متحقق وسائر بحسب الديناميات الناظمه للظاهرة المجتمعية،  ومايمنحها خاصياتها ويعين منطوياتها وسر وجودها والى اين هي ذاهبه، الامر المتعلق بالدرجة الاولى وابتداء بالعراق وبنيته وكينونته التاريخيه، فالمجتمعات البشرية لم تصل درجة التبلور الضروري، ولم تكتمل اسباب الانتقال من طور "الصيد واللقاط" الى مابعده، الا بعد توفر اشتراطات اللاارضوية ومقابلها الارضوية في الشرق المتوسطي تحديدا، وفي موضعين نهريين ضمن هذا الجزء من المعمورة احدهما احادي بنهر واحد والاخر بنهرين، الاول متوافق مع العملية الانتاجية والعاملين في الارض، يفيض مع الدورة الزراعية، والمكان يتمتع  بالانسجام وبالحماية  الطبيعية من شرقه وغربة، فالوادي  النهري محمي  شرقا وغربا بالصحراء، ومن شماله بالبحر، بخلاف الموضع الاخر السومري المابين نهريني، حيث  الاحتراب الانتاجي وعملية الفيضان المخالف للدورة الزراعية، والميل التدميري النهري الاقصى، مع كل الاشتراطات المناخية والبيئية الطاردة صيفا وشتاء  وتربة،  اضافة لانفتاح جهات المكان الشمالية والشرقية والغربيه، وانصبابها السلالي من الصحارى والجبال الجرداء، حيث السيول البشرية بلا انقطاع، تظل نازله نحو ارض الخصب لتعزز حالة وظاهرة مايمكن ان يطلق عليه "العيش على حافة الفناء".

المهم والاخطر بصورة جازمه، ماينطوي عليه هذا الوضع من ديناميات وقوانين تشكل تاريخي تخص العملية المجتمعية ومستهدفاتها التي تتاسس معها، وتنبيء عنها من نوعها،  اولا من ناحية الطبيعة والديناميات المتصلة بها، في  موضع النهر الواحد التوافقي الانتاجي حيث  مجتمع الكيانية والدولة الاحادي المتجسد في الفرعون الاله، والاخر حيث الاصطراعية الانتاجية  وانتزاع اللقمه من فم الوحش الكاسر، لاتبقي من تآلف بين الارض  وبين من هم عليها، هؤلاء الذين يكونون ماخوذين بالبحث عن مسرب، وعن قوة مقابله تتجلى بصيغة السماوية، ونزوع المغادرة في اجواء تسقط فيها كل مظاهر اليدوية الارضوية الحاجاتيه، التملكية، والتمايزية السلطوية، وفي مقدمها الكيانوية، بمقابل التشاركية والتعاون  المحكوم للفزعة والنخوة،  يضاف لها نفي  وانتفاء اسباب التشكلية الكيانيه، لصالح كينونه منطوية ذاتيا على تعدي  الكيانيه المحلية نحو الكونيه، وكل هذه بالاحرى سمات وخصال كافية لان تجعل من المجتمع المشار اليه خصوصية و"نوعا" اخر غير ذلك المعاش، والذي يظل غالبا كنمطية ونموذج اشتراطات انتقالية، ومن ثم مفاهيم، مادامت اليدوية الانتاجية هي الغالبه،  مع مايرافقها وهو وليدها من  قصورية عقلية، تظل مستمرة بصيغة  العجزعن كشف النقاب عن، فضلا عن ادراك طبيعة المجتمعية اللاارضوية، ناهيك عن دلالاتها ومايترتب عليها، وما هي منطوية عليه كحقيقة شاملة مستقبلية ملازمه للظاهرة المجتمعية، ولدت بها ولازمتها  بغض النظر عن تعذر كشف النقاب عنها.

وليست الكينونه اللاارضوية لوحدها ما يظل مبعدا عن الارداك، فالظاهرة المشار لها تترافق مع نوع بنية اصطراعية تاريخيه تظل حاكمه لتاريخ المكان الذي تولد فيه، وبعدما يكتمل التشكل اللاارضوي بالاصطراع مع الطبيعة خلال قرون تكتمل معه مقومات الصنف المجتمعي اللاارضوي المرهون للتحولية اللاارضوية، ياتي دور الانصبابات البشرية النازله اليه من الجهات العليا ومن الجوانب، وهي مجاميع بنيتها ارضوية يدوية تغلبيه، مفعمه بالرغبة بالسيطرة،  تبدا بمجرد وصولها الى الحواف العليا لارض  السواد، بفرض منطقها الاحتلالي، غير مقدرة لطبيعة المكان، وخصوصا للمجتمعية ونوعها المباين، المختلف كليا، مايؤدي من يومها الى حصول حالة احتراب لاحل له، قبل ان تتمكن السلالات الهابطة من ادراك استحالة اخضاع المجتمعية السفلى عن طريق فرض منطق وملازمات البنية الارضوية عليها، الامر المستحيل والذي دونه فناء النوع الاسفل، ماينتهي الى ولادة خيارالمجتمعية العليا المتناسب مع الظرف، اذ تقام "دول امبراطورية مدينيه" محصنه اعلى واشد تحصين، معزولة بذاتها، تمارس الغزو الداخلي بهدف حلب الريع، المكلف للغاية،  وتعود الى داخل قلاعها واسوارها، مما يدفعها مع الوقت  للانكفاء الى وراء، بحثا عن تعويض عما هو غير متاح، وفي افضل الحالات مكلف بالحدود القصوى،  مع ان اسباب وموجبات الاصطراعية الازدواجية المجتمعية لاتنتهي، املا بالوصول  الى الافنائية التي تظل من اهم انشغالات ومهمات الدول المدن  الامبراطوريات، الا في احوال نادرة، عندما تكون الافاق العليا الى الشرق والغرب مفتوحه كليا، كما كان حال بغداد في طورها الاول، في حين كانت بابل اكثر انشغالا وتركيزا على مهمه دحر العالم الاسفل، وهذا مايجعل الوضع العراقي كخاصية، حال اصطراعية ازدواجية مجتمعية تاريخيه محكومة لمفعول وحدة الوسائل الاحترابيه مع تباين النمطية.

الامر الهام هنا وفي قلب الاصطراعية التاريخيه، اتسام هذه العملية باللاديمومه  وللااستمرارية بعكس الحال المصري الاحادي الدورة، التكراري الاجتراري، فالكيانيه الاصطراعية الازدواجية مابين النهرينيه، هي دورات وانقطاعات فنائية ذاتيه، الاصطراع الحاكم لها يفضي عند نقطه معينة من الاحتدام،  بالاضافه لفعل العوامل المحيطة المجافية الضاغطة، الى تاكل البنيه الازدواجية واضطرابها، وصولا الى الانهيار الدراماتيكي كما حل ببابل على عظمتها، ومن ثم بغداد عام 1258 وصولا الى القرن السادس عشر، عندما عادت اللاارضوية وانبعثت انبعاثها الثالث الراهن في ارض سومر التاريخية  ذاتها، مع ظهور"اتحاد قبائل المنتفك" عام 1530 جنوبا في ذي قار.

ومشهد كهذامن شانه ان يثير تساؤلات حول ظواهر ظلت مطوية وخارج الانتباه على مر التاريخ، من نوع الفارق الممكن  بين الطور اليدوي، والطور الاخر الالي بما يخص المجتمعية اللاارضوية، ومامتوقع من  متغيرات تطرا عليها، مالايمكن منطقيا التعامل معه بذات منظور الارضوية وممكنات تصور مفعول الالة عليها، بالاخص ابتداء، ابان الطور المصنعي، ومع ثقل ووطاة مفاهيم ومنظورات الارضوية اليدوية الطويلة الباقية اثارها وترسباتها، على الاقل مع بدايات الانتقال الالي، وهنا ينتظر العقل البشري ماقد يكون اهم تحد ظل قابعا  بين طيات العملية المجتمعية، واستمرمتمثلا في القصور الادراكي للظاهرة المجتمعية، بحصرها  بداهة ضمن وداخل اطار الارضوية لاغير، باعتبارها النموذج والحالة الاوحد، لابل الغاية الوجودية، مع مايترتب على كل ذلك من حصيلة ونتائج اعتقادية وتصورية دنيا احادية تابيدية، لظاهرة  كل مايتصل بها وبخصوصيتها  يقول بانها ليست خارج الفعاليه  والديناميات التحولية التاريخيه، المنطوية في  الازدواج المجتمعي المطرود خارج الوعي.

من هنا تذهب بنا اللحظة واشتراطاتها اليوم ومع الدورة الثاثة  اللاارضوية العراقية، وماقد  صادفها في حقبتها الثالثة الايديلوجيه الاخيرة، بعد القبلية الاولى، والانتظارية النجفية، من التقاء  مباشر بالانتقالية الانتاجية الالية مع بدايات القرن العشرين، وماينشأ من حينه من تفاعلية  افنائية، مظهرها الابرز سعي الغرب الدائب الى فرض نموذجيته ونوع تصوراته على موضع مخالف له كليا، ومايترتب على ذلك  ويتولد عنه من اصطراعيه( هي تكرار لمالوف وخاصية تاريخيه لاتتبدل ) تستمر على مدى قرن، هو الزمن اللازم من التفاعلية الضروري لتوقع بدء النطقية اللاارضوية، وحضور الذاتية الازدواجية اللاارضوية الباقية من دون الافصاح الذاتي المطلوب على مر التاريخ اليدوي، يوم كان يتعذر النطق الا بما يتوافق والاشتراطات الغالبة انتاجيا، ماقد جعل التعبيرية اللاارضوية تتخذ شكل النبوية الحدسية  الابراهيميه  وقتها، مكرسة الازدواج المجتمعي ضمن الشروط اليدوية ازدواجا كونيا، في حين تبدا اسباب النطقية العظمى العليّة السببية بالتشكل اخيرا، ضمن اشتراطات الانقلابية الاليه، مع انها تستهل في غير ارض الازدواج المجتمعي، في اوربا على الطرف الاخر من المتوسط حيث الازدواج الارضوي الطبقي، ليبقى الانقلاب الالي غير مكتمل، مفعم بالتوهمية الارضوية، بانتظار الوصول الى اللاارضوية والسعي لافنائها، فاذا هي نطقت فان الاله وقتها تصبح في موضعها ومكانها الذي وجدت لكي تحتله في المشهد المجتمعي التحولي الاكبر.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

تتخذ الاصطراعية اللاارضوية الارضوية بصيغتها الالية الحديثة كمحور رئيسي  على مستوى المشاريع، صيغة  مايمكن اعتباره "تباينا كيانيا وطنيا" فالغرب يقرن الانقلاب الالي بالبرجوازية وانتصارها ونموذجيتها الكيانيه الديمقراطية، على اعتبار المشار اليه قمة ومنتهى الممكن المجتمعي، يكرس لغاية عليا وهدف اسمى، على اساسه تقام الدول او حتى تفبرك في المجتمعات غير المنصهرة، خارج موضع الانقلاب الالي الاوربي، وهي حالة وطور من تاريخ الهيمنه الغربيه الحديثة، اتسمت بالميل الى صناعة الامم والدول، وهو ماكان العراق بمثابة حالة نموذجيه ضمنه كممارسه ضرورية لاسباب عملية، منها واقعيا كون هذا الموضع من المعمورة كان يمر بطور انقطاعي بين دورتين، وانه يخضع بناء عليه ومنذ 1258 مع سقوط بغداد، الى حالة من البرانيه مقرها بغداد عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، ظل مستمرا منذ احتلال هولاكو لبغداد، تتعاقب عليه السلالات والدول، واشباه الامبراطوريات ضمن اشتراطات يدوية عامه كانت ماتزال هي الغالبه.

هذا يعني بان العراق الحالي لم يكون قد تبلور وقتها، مع انه كان قد عرف مع القرن السادس عشر بدايات الانبعاثية التشكلية الراهنه جنوبا، كما هو الحال الموافق لبنيته وطبيعته الازدواجية المجتمعية واليات تشكله، وكالمعتاد ترد هنا مصر كمثال معاكس، وجدت  في حينه كما هي، كيانيه مكتملة محلوية، بينما العراق في طور تشكل  هو الثالث الكوني بحسب الخاصيات التاريخيه، يصعد متشكلا ضمن ظروف انغلاق الافق  الاعلى، والسيطره  البرانيه على  المدينه/ العاصمه رمز الدورة المنقضية المنهاره، واذ تنتهي فترة البرانيه اليدوية ويحضر  الانكليز، محل العثمانيين، يتغير نوع البرانيه من يدوية الى آليه مختلفة من حيث الوسائل والاغراض، وفي المقدمه على مستوى مشروع الكيانية والدولة،  وبعدما كانت البرانيه منذ هولاكو والخروف الاسود والخروف الابيض بلا مشروع من هذا النوع، جاء الانكليز يحملون معهم، وفي مقدمة عدتهم مفهوم "الدولة الحديثة" وماتقتضيه من كيانيه، جرت صياغتها ارتكازا على مقومات البرانيه المعاشه، وانطلاقا من مركزها المعتمد الباقي من الدورة المنهارة انطلاقا كالمعتاد من العاصمة المنهارة وماتحتها المستقل بلا اعلان، فاجملت الولايات التركية الثلاث، الموصل، وبغداد، والبصرة ضمن افتراضية كيانيه، اعتبرت واحده وموحده، وضعت لها مروية، وجرى ربط تشكلها المتوهم المفترض بالنظام الراسمالي العالمي،  من دون اي دليل، او محاولة تدقيق تاريخي في موضع لم يسبق له ان عرف الكيانيه "الوطنيه"،  مع عراقته البدئية التاريخيه،  ومع كل مايمكن ان يدل على كون الياته ظلت تعمل تاريخيا وفق مسارات مختلفة، ليس فيها او من بين مايميزها على اي صعيد كان، التوافق مع المشروع الجاهز الراهن الحديث المنقول بالقوة والاحتلال، مع مترتباته، الامر الذي كان يتطلب على الاقل شيئا ما من الاشاره او التنوية في اقل الاحوال.

وسواء على هذا الصعيد او اجمالي الوضع الناشيء وقتها فان مانصبح بصدده وفي غمرته من يومها، هو مايمكن ان نطلق عليه "اصطراعية الاليه المتناقضه" وهو مالاتعرفه بقية ارجاء المعمورة لانتفاء الاسباب والخاصيات التكوينيه، والقصد يذهب الى ماسبق تكرارا التنويه به من التباين النوعي المجتمعي بين لاارضوية وارضوية وعلاقة كل منهما  ونوع تفاعليته بحسب بنيته والياته معها، وهنا يفترض التوقف مليا  على وجه التعيين امام مايصل حد البداهة من مفاهيم ومنظور مكرس بخصوص الاله، او ماقبله، وعلاقة المجتمعية بها بما لايترك  اي مجال  للتفكير باحتمالية الاختلاف التفاعلي النمطي مع وسيلة الانتاج، وبما يضعها بموقع الاحادية غير القابله لاي احتمالية اخرى، هذا مع العلم ان ظاهرة انبثاق الاله في موضع من الكرة الارضية بعينه لم يكن صدفه ولا من باب البداهة.

وقد تخطر على البال  هنا  على سبيل المثال الاحتمالية الانتقالية مابعد اليدوية العراقية، ابان الطور العباسي، وفي قمه ماكانت بلغته بغداد من صعود في المجالات المختلفة اقتصاديا وعلى صعيد بدايات التهيئة للمصنعية، مع الغلبة  الفاصلة للعملية التجارية الريعية الكبرى العالمية، الممتده من الصين الى غرب اوربا، الامر الذي لم يولد تفاعليه مجتمعية احتدامية من شانها نقل الوضع برمته الى طور اخر، بالذات بظهور عنصر ثالث من خارج الاصطراعية الثنائية المجتمعية كما حصل في اوربا التي وصل اليها  عنصر التفاعلية من خارجها، ليولد ديناميات اصطراعية طبقية، انتهت الى انبثاق العنصر الثالث الضروري واللازم، كما قد حصل وتحول بعدها لظاهرة عالميه، ليعود متشكلا الى الاصطدام مع مصدر التفاعليه  ومنطلق التراكميه الراسمالية،  الذي ذهب بعد ان ادخل الراسمال الحيوي الضروري لاوربا لينهار منقطعا، صدوعا لوطاة تكوينه وبنيته التاريخيه الماخوذه لديناميات الاصطراعية المجتمعية لاالطبقية.

من البديهي بالطبع ان لايرد التساؤل المعروض في اعلاه جملة وتفصيلا، مادامت المجتمعية واحده بناء على القصورية العقلية الغالبه السائده، ومن ثم وبناء عليه، تماثل عمل الديناميات والاصطراعية والتفاعلية المجتمعية تاريخيا، الامر الذي يعني اليوم والان، انقلابا وثورة فاصلة كبرى، تقلب كل منظور واسس نظرة الكائن البشري للتاريخ وللظاهرة المجتمعية ومساراتها وماهي ذاهبة اليه. هذا مع العلم ان مانشير اليه ليس من القضايا الجاهزة، او الممكن بلوغها بيسر، او حتى بالمقارنه مع اصعب القضايا والموضوعات المتعارف عليها ارضويا حتى الان، ومع ان ماننوه به  قد بدا بالوقوع كممارسة حية في العراق تحديدا قبل قرن واكثر، الاان انتقال العقل في هذا الموضع من المعمورة الى حيث النطقية الكبرى، والتعرف الواجب على قوانين واليات العملية اللاارضوية بمواجهة الاله، ظل خارج البحث، وممنوعا على العقل العراقي الى اليوم، بينما المنظور الاخر الجاهز والمنقول من خارج المكان، غالب وفاصل بلا منافس.

ولنتخيل تاريخ هذه الانتقاله الكبرى الكونية المستجده وتعرجاتها  التي قد تصل الى مالا يوصف بحسب المتاح من وسائل حتى الان، الامر البديهي لان مانحن بصدده ليس من قبيل الاضافه او الاكتشاف ضمن عالم بذاته، ولا من ضمن لغته ومجمل بنيته ومرويته، بقدر ماهو عالم اخر، ولغه مختلفه نوعا، وطريقة في الادراكيه والمقاربة غير ماهو قائم، انه انتقال الى "عالم منتظر"، فكاننا اليوم ابان بدايات تبلور الظاهرة المجتمعية، قبل اجتراح الخطوة الاولى باتجاه الحياة والوجود الابتداء بصيغته اليدوية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

هذه كتابة لا ترضي – على الأرجح - كارهي إيران ولا محبيها، لكن ربما ترضي بعض الإيرانيين الذين تساءلوا تكراراً، ولا سيما في هذه الأيام: هل كان الذي جرى محصلةً لأخطاء متراكمة، أم كان قدراً لا مفر منه؟

أنا أصدق الإيرانيين إذ ينكرون سعيهم للتسلح النووي. كما أصدق زعم أعدائهم بأنهم كانوا يسعون له، رغم إصرارهم على النفي.

أزعم أنني أفهم خط تفكير أهل القرار: مخاوفهم، تطلعاتهم وتقديراتهم لقدراتهم. وأستطيع الادعاء أنهم لم يسعوا لإنتاج سلاح نووي، بل إلى التمكن منه، وهو ما سموه «إكمال الحلقة التقنية». ونعلم أن إغلاق هذه الحلقة يتم بتفجير نووي تجريبي أو قبله بقليل. عند هذه النقطة كان الإيرانيون ينوون التوقف. وإذا بلغوها، سيكون تصنيع السلاح النووي أو شبيهه (مثل قذائف اليورانيوم المنضب) مجرد قرار سياسي أو عسكري.

- هل لهم الحق في هذا... وهل لدول العالم، ولا سيما المحيط الإقليمي، الحق في الخوف من ذلك؟...

لا أظن الأمر مهماً جداً. فكلا الموقفين قابل للنقاش. لكنه سيكون مجرد إعلان سياسي، ما لم تسنده قوة مادية تهابها بقية الأطراف. هذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة. فهي لم تستند إلى تبرير قانوني في هجومها على إيران، بل استندت إلى صواريخ «توماهوك» وطائرات «بي-2» وقنابل تزن 3.5 طن من المتفجرات.

سواء رضينا أم غضبنا، فالمجتمع الدولي يتحدث كثيراً عن القانون والحقوق المتبادلة. لكنه يقدّر حقيقة أن حديث القوي عن تطبيق القانون، له جرس مختلف عن حديث الضعيف. هذا يشبه تماماً الفارق بين فقير يتحدث عن المليون ريال ومليونير يتحدث عن المليون.

زبدة القول أن النقاش في المبدأ لا جدوى وراءه، ولن يوصلنا إلى أي مكان. المفيد اليوم هو ما يسميه الاجتماعيون «العقلانية الأداتية»، أي وضع خطة عمل تستثمر الإمكانات والفرص التي يتيحها الظرف القائم، من أجل تحقيق أغراض مطلوبة على المديين القصير والمتوسط. وهذه للمناسبة أكثر شيء يفعله السياسيون البارعون.

في رأيي، أن الجانب السياسي للبرنامج النووي الإيراني قد انتهى بالضربة الأميركية. أنا لا أعتقد أنه انتهى مادياً. لكنه انتهى سياسياً، بمعنى أنه ما عاد مفيداً ورقةَ ضغطٍ على الأعداء، ولا برهاناً على الإنجاز يقنع الأصدقاء. أظهرت الحرب الأخيرة أنه كان مكلفاً جداً للمجتمع الإيراني، حتى لو كان محل فخر. ونعلم أن أول واجبات الحكومة الصالحة، هو تيسير حياة شعبها وليس الافتخار بالقوة المادية.

الجانب السياسي يكمن في إمكانية استعماله لتهديد العدو. وقد انتهى هذا العامل، بعدما اتضح أنه قابل للتعطيل بعمليات جوية، كالتي فعلها الأميركيون. لكن هذا ليس نهاية المطاف. فقد كشفت الحرب عن قدرات عظيمة لدى الإيرانيين، يمكن إعادة توجيهها لتطوير الاقتصاد والصناعة، مثلما فعلت كوريا، وتايلاند، وسنغافورة، وماليزيا والصين. لقد امتلكت هذه الدول قاعدة تقنية متطورة، فاستثمرتها في تطوير قدراتها العسكرية. إن جيشاً عظيم الحجم يستهلك طاقة البلد، لكنه عاجز عن مواجهة الأكثر تقدماً على المستوى التقني.

إنني أدعو إيران لتحديد 4 في المائة أعلى مستوى لتخصيب اليورانيوم. كما أدعوها لتكوين نادٍ دولي يراقب منشآتها، يضم الصين، وروسيا وجنوب أفريقيا، بديلاً عن مراقبة وكالة الطاقة الذرية التي تتأثر بتوجهات حلف «الناتو». أظن هذا عسيراً، لكن عليهم السعي إليه. الاقتصار على مستوى تخصيب 4 في المائة سيغنيهم عن منشآت عدّة، ويوفر عليهم أموالاً طائلة.

أخيراً، فقد أدهشتني سعة الخرق الأمني وسهولة تجنيد العملاء، رغم الضخ الآيديولوجي المكثف على مدار الساعة. هذا الخرق سيتفاقم إذا بقيت أسبابه، وهي التشدد الاقتصادي، أي ضيق الآفاق وطرق المعيشة، والتشدد السياسي، أي إقصاء من يعارضون ولاية الفقيه، والتشدد الآيديولوجي، أي مراقبة السلوك الشخصي للناس، والتشدد الأمني، أي المراقبة الشديدة والارتياب في كل مختلف، هذا التشدد خلق تربة خصبة سهلت على أعداء إيران تجنيد العملاء والمقاتلين.

ما لم تغير الحكومة الإيرانية نهجها المتشدد اقتصادياً وسياسياً وآيديولوجياً وأمنياً، فسوف يواصل أعداؤها تجنيد العملاء والمقاتلين.

الحوادث الأخيرة أضافت شيئاً إلى رصيد الحكومة الإيرانية. لكنها هدمت شيئاً آخر، هو الخطاب الآيديولوجي الذي يقوم عليه جانب من المشروعية السياسية.

ما لم يجر تفكيك التشدد الذي أشرت إليه، فإن الشقوق التي أصابت الخطاب، سوف تتحول خط انكسار متفاقماً، كان المفكرون الإيرانيون قد تحدثوا عنه كثيراً في السنوات الأخيرة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

ما من موضوع تتعدد وتتنوع اسبابه كموضوع الحروب التي تنشب بين الشعوب. وما من سؤال لم تكن له اجابة متفق عليها كسؤال: لماذا يصعب على البشر ان يعيشوا سلام؟!

ولأن هذا الموضوع يعدّ اهم موضوع يخص الأنسان، فانه شغل الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأجتماع بشكل خاص، وخرجوا بعدة نظريات لم يتم الاتفاق فيها على واحدة، وما يهمنا.. ان نسهلها على القاريء العراقي ونضيف لها ما يعدّ تنظيرا جديدا.

النظرية الماركسية

نرى هذه النظرية الكلاسيكية أن الحروب تنشأ نتيجة للصراع الطبقي والصراع على الموارد، خاصة في ظل النظام الرأسمالي. وترى أن الصراع الطبقي بين البرجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) (والبروليتاريا - الطبقة العاملة) يؤدي إلى توترات اجتماعية واقتصادية، وقد تتصاعد هذه التوترات لتشمل صراعات مسلحة. بالإضافة إلى ذلك، يسعى الرأسماليون إلى توسيع أسواقهم ومواردهم، مما قد يؤدي إلى صراعات بين الدول الرأسمالية للسيطرة على مناطق معينة ومواردها.

نظريات علم النفس التطوري

تعدّ نظريات علم النفس التطوري هي الأحدث، وتنظر في أسباب الحروب من خلال عدسة التطور، وتسعى لتفسير السلوكيات العدوانية والقتالية لدى البشر عبر آليات التكيف والبقاء والتكاثر. وترى أن بعض سمات السلوك البشري التي تظهر في الحروب يمكن ان تكون قد تطورت عبر الزمن لمساعدة الأفراد والجماعات على البقاء والتنافس على الموارد والتزاوج.

وتفترض هذه النظريات أن الحروب متأصلة في طبيعة الإنسان، وأنها نتيجة للتنافس على البقاء من خلال استنساخ الجينات. وتستعير من علم النفس التقليدي توكيده على دور الغرائز العدوانية، والصراعات الداخلية، والتحيزات، والأيديولوجيات، والصور النمطية الخاطئة بالبشر. وتنظر الى العدوان بوصفه آلية تكيف يتم تشكيلها عبر مئات السنين خلال المشاكل التي واجهها في الحروب، او تلك التي تشفرّت في جيناته.

النظرية البيولوجية

ترى هذه النظرية أن العنف البشري، بما في ذلك الحروب، جزء من طبيعتنا البيولوجية، مثلها مثل سلوكيات الحيوانات الأخرى... بمعنى ان غريزة الشر موجودة فطريا في الأنسان.. أي ان هناك دوافع فطرية تدفع الأنسان.. شاء أم أبى للقتال. وان من يرى أن الحروب تنشب بقرارات سياسية او بضغوط اجتماعية.. يغفل انها تأتي استجابة لتلك الدوافع الفطرية.

نظرية الحرب العادلة

تتناول نظرية الحرب العادلة (تبرير كيفية وأسباب خوض الحروب). ويمكن أن يكون التبرير نظريًا أو تاريخيًا. ويهتم الجانب النظري بالتبرير الأخلاقي للحرب والأشكال التي قد تتخذها أو لا تتخذها. أما الجانب التاريخي، أو "تقليد الحرب العادلة"، فيتناول مجموعة القواعد أو الاتفاقيات التاريخية التي طُبقت في حروب مختلفة عبر العصور. على سبيل المثال، تُعدّ الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقيتي جنيف ولاهاي، قواعد تاريخية تهدف إلى الحد من أنواع معينة من الحروب، والتي قد يلجأ إليها المحامون في مقاضاة المخالفين، ولكن دور الأخلاقيات هو فحص هذه الاتفاقيات المؤسسية للتحقق من تماسكها الفلسفي، وكذلك البحث في مدى ضرورة تغيير جوانب الاتفاقيات. قد يأخذ تقليد الحرب العادلة أيضًا في الاعتبار أفكار مختلف الفلاسفة والقانونيين عبر العصور، ويدرس رؤاهم الفلسفية للحدود الأخلاقية للحرب (أو غيابها)، وما إذا كانت أفكارهم قد ساهمت في مجموعة الاتفاقيات التي تطورت لتوجيه الحرب والحرب. (منقول بالنص)

وهناك نظريات اخرى، اهمها:

نظرية العولمة.. التي تركز على دور العولمة في خلق توترات وصراعات جديدة.،

ونظرية التغير المناخي.. التي ترى أن التغير المناخي قد يؤدي إلى صراعات على الموارد وشح المياه.

ونظريات الأمن الإنساني.. التي تركز على أهمية حماية حقوق الإنسان وتلبية الاحتياجات الأساسية للأفراد.

الحضارة.. سبب نشوب الحروب (نظرية عراقية)

مع ان الحضارة تعني التحّضر، والتحّضر يعني السلوك المهذب، فان عصر الحضارة كان عصر حروب، لأن تطور الحضارة يفرض او يخلق صراعات تؤدي الى حروب من اجل السيطرة على مصادر الطاقة والمواقع الاستراتيجية والمواد الخام القابلة للتحويل. والأخطر انها انتجت اسلحة فناء مرعب وسريع للبشرية باستخدام التكنولوجيا المتطورة بما فيها الفرط الصوتي والحرب السبرانية والذكاء الاصطناعي.

والحضارة.. هي السبب الرئيس الذي ادى الى انقسام الناس الى (يسار ويمين) بين المنتمين للدين المسيحي، والتطرف بين المنتمين للدين الأسلامي، لدرجة انها اوصلت الأنسان الى قتل اخيه لسبب في منتهى السخافة.. ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار.

والحضارة.. خلقت عاملين للحروب:

الأول: التنافس على صدارة التحّضر

والثاني: تعدد وتنوع (متع) الحياة.. الجسمية والجنسية و.. الرفاهية.

وبسببها ايضا حصلت ثلاث مفارقات:

الأولى: تهروء الضمير الأخلاقي وضعف الوازع الديني،

والثانية:دخول الدين في السياسة، واستغلال قادة سياسيين متدينيين لشعوبهم،

والثالثة: انتهاك قدسية الحياة.. باستسهال قتل الآخر.

ما يعني انها ناقضت مضمون جوهرها الذي يعني احترام قدسية الحياة، والتمتع بضمير اخلاقي ينعكس في سلوك مهذب.

والمفارقة.. ان الدراسات الأجتماعية اثبتت ان الشعوب البدائية تقل فيها الحروب.. ما يجعلنا نستنتج ما يشبه النظرية:

أن الحروب ستزداد بازدياد التطور الحضاري.. وأن مستقبل البشرية سيحدده من سيمتلكون آخر مبتكرات التكنولوجيا، بما فيها قتل الملايين.. ليس بالسيف ولا بالبندقية ولا بقنبلة نووية، بل.. بالأرقام!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

هل العالم بحاجة الى تعديل المروية المجتمعية الاليه؟  وكيف يمكن الذهاب الى تصرف من هذا القبيل بالضد من وطاة الهيمنه التاريخيه التغلبية للمروية الارضوية، راهنا  مضخما مع الانقلاب الالي الاوربي، وعلى اجمالي التاريخ اليدوي السابق؟ ليس من سبيل لهذه الجهه يمكن اتباعه غير المجازفة الخطرة، لابل الكبرى، تلك التي تذهب الى الغاء الاحادية الاوربية من دون ان يكون للالة اي مكان اخر عرفته، او  كان له اي شكل من حضور يمكن تلمسه والتدليل عليه، والقصد كما سبق التنوية احيانا خلال مقاربات سابقة، القول بان الانقلاب الالي حكمته من قبل ومن بعد تاريخيتان تستحقان مرويتين، اولى مرهونة للالة وفعلها المادي المباشر، انبثقت في  الموضع الازدواجي الاصطراعي الطبقي الاعلى ديناميات ضمن نوعه، اساسها  ومنطلقها فعل من خارج المكان، واخرى هي الحاصلة في الموضع الازدواجي  المجتمعي الاعلى ديناميات على وجه العموم كحالة انبعاثية ثالثة، هي مروية مسار ادراكي عقلي  مؤجل ومنتظر، تبدا كدورة انبعاث قبل إنبجاس الالة بعقود، عند القرن السادس عشر، في نفس موضع التبلور الاول المجتمعي اللاارضوي، في ارض سومر في مابين النهرين.

 يعني هذا اننا بصدد تاريخين ومجتمعيتين نوعا، كما هو حاصل واقعا لاسباب انتقالية تخص الظاهرة المجتمعية ووجودها، ومآلها كما هي منطوية في المجتمعية اللاارضوية بالذات، فالظاهرة المجتمعية هي ظاهرة لاارضوية كينونة، حين تتبلور  عند الابتداء تكون غير قابله للتحقق لاسباب قصورية عقلية مظهرها النقص في  الادراكية،  ومادية ناشئة عن تدني وسيله الانتاج المتاحة والممكنه في حينه بحسب صيغتها اليدوية الجسدية، ومترتباتها الحاجاتية،  وهو مالا يمنعها  من ان تكون محكومة لاليات  و ديناميات تحول تاريخي، ذاهبه الى اكتمال اسباب التحققية التحولية، الموهونه لقانون من التفاعلية الذاهبة بالمجتمعات الى  هدفها ساعة  توفر اسباب تحققه مع انقضاء زمن اليدوية.

 وهنا ننتقل من مجتمعية الى اخرى مختلفة نوعا على الصعد كافة، فالمجتمعية اليدوية نوع  آخر بنية وكينونة، مقارنة بالالية التكنولوجية، الاولى ارضوية جسدية، والثانيه لاارضوية هي تلك الابتداء المؤجل غير القادر على التحقق عند البداية، والباقي كظاهرة ازدواج مجتمعي  ماثلة في كيانيه لها دينامياتها الناظمة لحركة تاريخها دورات وانقطاعات، محكومة لاصطراعية ازدواجيه بين مجتمعيتين متحدتين لاتتوحدان، تمارسان حضورهما الكوني مع تبلورهما عبر الدورات التاريخيه التي تفصل بينها الانقطاعات والغياب،  من الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، الى الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وصولا للثالثة الحالية الاخيرة النطقية، المجال الاوحد المهيأ والمنطوي على اكمال اسباب وضرورات الانتقال الالي المجتمعي، بعدما تكون المجتمعية الازدواجية الطبقية  الارضوية اليدوية التي تعرف الانبجاس الالي قبل سواها، قد تفاعلت بكينونتها اليدوية مع الانقلاب المختلف عنها، والمباين لطبيعتها وبنيتها نوعا، لتنتج فترة من الانتقالية الاليه اليدوية رؤى ونموذج مجتمعي كياني.

  يعني ماتقدم وبغض النظر عن المتعارف عليه والشائع المكرس من قبل الغرب "الحديث"، ان الانتقال  من اليدوية الى الاليه ياتي محكوما لعملية انتقالية تبدا توهمية خاضعه لمتبقيات وقوة حضور اليدوية، بالذات بسبب ارضوية الموضع الذي تنبثق فيه لاسباب لاعلاقة لها بالخصوصية الموافقه للانقلاب النوعي التاريخي المجتمعي الحاصل، هذا مع الاخذ بالاعتبار  كون الحاصل حدث استثنائي انقلابي نوعي من مستوى التبلور المجتمعي الاول اليدوي، ان لم يكن اخطر منه بما انه منطو على انتقاليه نحو عالم اخر، فالمجتمعية الارضوية اليدوية هي استمرار للتاريخ الحيواني البشري ، وان يكن حالة انتقال  ومحطة اخيرة مابين الطور الحيواني والعقلي من تاريخ هذاالكائن، وافتراض انتقالية انقلابيه نوعية من هذا القبيل من الصعب تخيل تحققها في ساعتها على الفور، بالاخص اذا اخذنا بالاعتبار مادة الحدث مدار البحث، وتاريخها، ونوع اليات تشكلها وارتقائها  الطبيعي وشروطه.

  ولايمكن من ناحية ثانيه اساسيه، اهمال حقيقة الازدواج المجتمعي المغفلة وغير المكشوف عنها النقاب، مما لاينفي فعاليتها وحضورها بالاشكال الممكنه بحسب الفترات والمراحل، فاذا حل وقت الانتقال الالي، تغير دور ودرجه فعالية هذا الصنف المجتمعي حتما  لنصبح امام انتقال آلي ارضوي، واخر لاارضوي من شانه ان يقلب كليا مجمل الحالة الناشئة والنظر اليها والمتوقع منها، ونوع مترتباتها، وصولا حتى الى طبيعتها، فاذا نظر الغرب الارضوي الى الالة "مصنعيا" وبنى توهميته بخصوصها على اساسها، فان الموقف اللاارضوي لايقبل مثل هذه الاستعجالية الانوية الساذجه بحكم كينونته،  فالاله ليست المصنعية التي هي عتبه اولى وانفتاح لمسار في الوسيلة الانتاجية بعد المصنعية، تكنولوجيا بمحطات ومراحل، اولى تكنولوجية انتاجيه هي المعاشة اليوم، واخرى عقلية منفصله عن الجسدية، بما ينهي وقتها  على وجه التحديد صلاحية وامكان استمرار المجتمعية اليدوية الجسدية، وعندها تكون المجتمعية اللاارضوية قد بلغت الاشتراطات التحققية ماديا،  وهو ماكانت تنتظره منذ نشاتها الاولى في ارض سومر عند بداية تبلور المجتمعية، ليبقى الاهم او الركن الفاصل الثاني الانقلابي الادراكي التصوري، حين تنتقل التعبيرية في خطورة انقلابه عظمى، مابعد ابراهيمة، من "الحدسية النبوية الالهامية"، الى العلّية السببية،  وليصبح الانتقال الكوني اللاارضوي  من ساعتها شاملا المعمورة، بينما تكون المتبقيات الغربيه الارضوية قد فقدت زخمها، واقتربت من الانهيار النموذجي والتفكري.

 يحدث هذا  في مجرى العملية الانتقالية الكبرى الراهنه، ضمن اشتراطات الاصطراعية الافنائية، مع تكرار ظاهرة الانصبابات الغربيه الشرقية الى الشرق المتوسطي،  كبداية تفاعلية  شامله بعد التفاعلية الاولى الذاتيه البابلية السومرية، وظروف الاصطراعية  التغلبية التي مكنت بابل من امتلاك القدرات المقاربة لامكان افناء اللاارضوية السفلى، بسرقة منجزها اللاارضوي التالهي والسلوكي، وبالقوة، ماقد حفز اسباب اكتمال الرؤية المجتمعية اللاارضوية مجسده بالامبراطورية المضادة الابراهيمه المتحققه خارج ارضها، في حين لعب  الانصباب الفارسي الروماني مايلزم من تحفيز للاليات التعبيرية اللاارضوية  الضرورية، اليهودية النظرية، قبل  المسيحية والمحمدية العملية، كحالة اختراق كوني مضاد، عمت العالم حتى الصين والهند، وهاهي الانصبابية الغربيه الافنائية تتكرر اليوم كما متوقع، عند لحظة فاصلة على المستوى الوجودي، وبقدرات وامكانات نوعية هائلة غير مسبوقة، لتؤجج اسباب الاختراقية المضادة الثانيه، السببية العليّة.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في أوقات الوحشة، ليس لديك مناص سوى أن تعبر بحر الذكرى، وتقطع فجاج السنين، فهناك معاني وأحداث تشع عند الاجترار، ولذة ومتاع يحلو عند الاعادة، ليذهب عنك هذه الرتابة التي أمست ثاوية مقيمة، وليست مجرد طور خاطف لا يلبث أن يزول، ستظهر اغتباطك إذن، وأنت تمضي في هذا السفر الطويل اللذيذ، سفر لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، إنها رحلة طويلة بلا شك، ستعرف معناها، وتستبين غايتها، و تصل بها إلى نهايتها، وستدرك حينها وأنت تمعن في ظرفها، وكياستها، وبساطتها، أن قدرتك على الثبات، ومقاومة الأحداث، واهية ضعيفة، وانك وأنت غارقاً في لججها و زخمها، لا تسمع مطلقاً اصطخاب موجها، ولا هدير بحرها، ولا عصف ريحها،  كلا لن تسمع شيئاً من كل هذا، فعقلك وحواسك كلها، قد استرعى اهتمامها سائر تفاصيلها المثيرة، التي تملك عليك سمعك ونفسك، وتجعلك لا تبتغي شيئاً غير أن تقف عندها، وتحكم عليها.

ونفسك التي هي حتماً لم تكن الوحيدة التي تستقي من يم الذكريات، ولكننا نظن ونغالي في الظن، بأنها في طليعة المهج التي تأنس منها الميل إلى سجية الماضي، والاعجاب به، فهي تخضع له، ولا تجد عنه غنى ولا منصرف، هي إذن تصغي لتفاصيل أيامها الخوالي، وترتمي في أحضانها الدافئة، لأن أيامها التليدة تلك، ليست مثل حاضرها القاحل، حاضرها في الحق قاتم، موحش كئيب، تهيم فيه هذه النفس مجهولة وحيدة، حتى وهي وسط أهلها وعترتها، ويضنيها خمول اسمها، وبطلان مساعيها، ففي أيامها المنصرمة ما يحملها على الاعجاب بها، والتفكير فيها، أنس النفوس، وتعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، في تلك الحقب التي قضت واندثرت، الاشتمال والرعاية، والصون والعناية، كان قاصراً على اللهو الساذج، والعبث البريء، وآمالها التي لم يكن هاجسها قط تمكين يد، أو ترسيخ قدم، أو نصرة راية، أو تنضيد لفظ، أو إعلاء كلمة، مبلغ خواطرها، ومنتهى تجاربها، أن تلط بالمال، وتخيس بالعهد، وتذهب قليلاً عن الرشاد، ويضرب بينه وبينها الأسداد،  لأجل ذلك كانت تعود أدراجها إلى غابر عهدها، وتلتفت كثيراً إلى عقودها التي مٌحقت وتلاشت.

كانت نفسك حقاً تكبر سابق أيامها، وتذعن لها، وتمتثل لأوامرها ونواهيها، لأنها خلت من تلك الأحزان التي تحر الصدور، وتنكى القلوب، وتبكي العيون، وتصدع الأكباد، كان ماضياً  واضحاً جلياً، لا تستتر وراءه لوعة أدهشت الناس بأحاديثها، ومقالاتها، وصورها، ماضي لم تقبع فيه روحك حزينة كاسفة، يجثم بجانبها الأمل الذي أصابته جروحاً غائرة، يشكو شكاتها، ويتألم بآلامها، روحك التي تنتظر أن تتحفها الأقدار بمنن وعطايا، تبعث فيها ضروب الاحساس والشعور، احتشدت فيها، أوجاع راهنة، خلفت لها هذه القروح جوى واصب، وأسى مستقر، ما زالت هي غارقة في موسيقاه الشاجنة، وأناته الشجية.

حاضرنا إذن موسيقاه شاحبة، وأنغامها حزينة، موسيقاه نشاز لا يحتمل، ولا ينتظر أن يستجيب لها الناس، ويهرولوا إليها، لأنها ليست عامرة ولا مزدهرة، أو حتى آخذة في استكمال ازدهارها باتخاذ الوسائل التي تقيلنا من هذا العذاب الخالد، والعناء المقيم، ايقاع حاضرنا -أيها السادة- الذي لا يذوب رقة، أو يفيض حناناً، هو شدة  تسحق أرواحنا، وصخب تصطك منه أسماعنا، ودوي يضعضع ببهرجه، وضجيجه، صلات الحب، والعطف، والمودة بين البشر، نحن باختصار، في حاجة لأن نقرر لجاناً كثيرة، في مواضع مختلفة، فئات تتقن هذه الموسيقى، وتلم بأصولها، تصحح هذه اللجان، الفوضى التي تملأ أرجاء حياتنا، تصحيحاً علمياً دقيقا، هذه الطوائف المستنيرة، بعد أن تصحح نصوصها، وتقوم ما فيها من اضطراب، وتحريف، وخطل، عليها ألا تتباطأ في تمزيق أوصال هذه الموسيقى البغيضة التي راجت واتسعت، موسيقى  الصراع والحروب، والملاطم، وتستعيض عنها بموسيقى قديمة، عذبة، سائغة، تشعرنا بما كان لنا من إلفة، وبما حباه الزمان لنا من انسجام.

***

د. الطيب النقر

 

لطالما تغنى الغرب بحضارته، وادعى أنها قائمة على قيم الحرية والعدالة والإنسانية، لكن الواقع يكشف زيف هذه الدعاوى كل يوم. فها هي أربع عشرة طائرة شحن قادمة من أمريكا وألمانيا تصل إلى أرض المحتل، محملة بالعتاد الحربي، لتزيد من نار الصراع اشتعالاً، وتؤكد أن الحضارة الغربية ما زالت تعيش في عقلية الحروب الصليبية، تمد يدها بالسلاح والدمار حيثما أرادت، وتنثر خطابات السلام حيثما انتهت مصالحها. 

حضارة أم غزو؟ 

يقولون إنهم يحملون مشعل الحضارة، ولكن أي حضارة هذه التي تقوم على احتلال الأرض وسرقة الحقوق؟ أي حضارة تزعم أنها تنشر الديمقراطية وهي تدعم الاستبداد؟ إنها حضارة تناقض نفسها، فهي ترفع شعارات الحقوق الإنسانية بينما تبيع الأسلحة لمن ينتهك هذه الحقوق. إنها حضارة تلبس ثوب الفكر والتنوير، لكن عقلها لا يزال يعيش في القرون الوسطى، حيث القوة هي القانون، وحيث الغزو والاستعمار وسيلة للسيطرة. 

صدع الغرب رؤوسنا بحديثه عن حقوق الإنسان، لكنه لم يتورع عن دعم كل محتل، ولم يتردد في إشعال الحروب حينما تتعارض مصالحه مع مبادئه. فهل يمكن أن نثق بحضارة تضع سكيناً في يد القاتل، ثم تأتي لتمسح دم الضحية؟! 

عقلية الصليبي الجديد

ما الفرق بين الغزوات الصليبية التي اجتاحت المشرق منذ قرون، وهذه الطائرات التي تحمل السلاح اليوم؟ الفرق في الشكل فقط، أما الجوهر فهو واحد: عقلية الغازي الذي يرى نفسه سيد العالم، والذي يعتقد أن له الحق في تقرير مصير الشعوب. إنها العقلية نفسها التي أحرقت مكتبات الأندلس، ودمرت حضارات بأكملها في أمريكا اللاتينية، واستعبدت إفريقيا لعقود. 

ولكن التاريخ يعلمنا أن كل ظالم إلى زوال، وأن الشعوب التي تقهر لا تموت، بل تتحول قهرها إلى قوة تقاوم. فكما انتفضت الشعوب ضد الاستعمار القديم، ستنتفض الأجيال القادمة ضد هذا الاستعمار الجديد، الذي يتخفى تحت عباءة الاقتصاد والسياسة، لكنه في حقيقته لا يختلف عن سابقه. 

لا ينبغي للغرب أن يندهش حينما تتحول الشعوب التي عانت من قهره إلى قنابل موقوتة. فكل فعل يولد رد فعل، وكل ظلم يزرع بذور الثورة. لقد حوّل الغرب دولنا إلى ساحات حرب، فلماذا يعترض إذا ما انتقلت هذه الحروب إلى عواصمه؟ لماذا يتعجب إذا ما رأى أبناء المستعمرات السابقة يردون الصاع صاعين؟ 

إن القانون الطبيعي يقول إن الظلم لا يدوم، وإن الحضارات التي تقوم على القهر تسقط تحت ثقل جرائمها. والغرب، إذا استمر في سياسته هذه، سيجد نفسه يواجه عاصفة لن يستطيع صدها، لأن الشعوب التي تتعلم من التاريخ لا تنسى، ولا تغفر.

فالحضارة الحقيقية ليست في تراكم السلاح، ولا في فرض الهيمنة، بل في احترام الإنسان، في كل مكان. والغرب اليوم، بدعمه للمحتل وتزويده بآلات الدمار، يثبت أنه لم يتعلم من دروس التاريخ. فليتذكر أن الحضارات العظيمة لم تسقط إلا عندما تحولت إلى آلة للقتل، وعندما فضلت القوة على الحق. 

فهل يفيق الغرب قبل فوات الأوان؟ أم سيظل غارقاً في أوهام تفوقه، حتى تأتي رياح التغيير فتدمر كل شيء في طريقها؟ السؤال معلق، والإجابة تكتبها الأيام القادمة.

  تناقض القيم ووحشية الممارسة 

لا يكفي أن نقف عند حد تشخيص الداء، بل لا بد من تعرية جذوره، وتتبع مساراته الخفية التي تتخفى وراء خطاب براق، لكنه أجوف من الداخل. فالغرب الذي يتشدق بالحرية والديمقراطية هو نفسه الذي يدعم أنظمة استبدادية حينما تخدم مصالحه، وهو نفسه الذي يبيع السلاح لكل من يدفع، بغض النظر عن دماء الأبرياء التي ستسيل به. فأين هي المبادئ التي يرفعها الغرب شعاراً، إذا كانت المصالح هي التي تقود سياسته؟  

أتقن الغرب لعبة ازدواجية المعايير، فهو يدين العنف في مكان ويغذيه في مكان آخر. فها هو يحاكم مجرمي الحرب في محكمة الجنايات الدولية، لكنه في الوقت نفسه يمد إسرائيل بكل ما تحتاجه لمواصلة جرائمها في فلسطين. وها هو يرفع لواء حقوق المرأة في العالم العربي، لكنه يتجاهل معاناة النساء والأطفال تحت القصف الغربي في العراق وسوريا وأفغانستان. 

فكيف يمكن للعقل أن يتقبل هذا التناقض الصارخ؟ الجواب بسيط: لأن الغرب لا ينظر إلى هذه المبادئ إلا من خلال عدسة المصلحة. فإذا تعارضت المبادئ مع المصالح، طويت المبادئ جانباً، وإذا تطابقتا، رفعت رايات الفضيلة. وهذا هو جوهر النفاق السياسي الذي تمارسه النخب الغربية، والتي تريد أن تصدر للعالم صورة المنقذ، بينما هي في الحقيقة جزء من المشكلة. 

الاستعمار الجديد

لم يعد الاستعمار الغربي يحتج إلى جيوش غازية كما في الماضي، فقد اكتشف أدوات أكثر فاعلية وأقل كلفة: الاقتصاد، والإعلام، والثقافة. فالشركات العابرة للقارات تمتص خيرات الشعوب تحت شعار "الاستثمار والتنمية"، والإعلام يغزو العقول عبر صناعة الرأي العام، والثقافة تصدر على أنها "قيم عالمية"، بينما هي في حقيقتها إمبريالية فكرية تهدف إلى طمس الهويات المحلية. 

ولكن هل يمكن لهذا النموذج أن يستمر إلى الأبد؟ التاريخ يقول لا. فكما انهارت الإمبراطوريات القديمة تحت ثقل تناقضاتها، سينهار هذا النظام الجديد عندما تدرك الشعوب أنه لا يختلف عن سابقه إلا في الشكل. فالعنف الاقتصادي قد يكون أبطأ من العنف العسكري في إثارة الغضب، لكنه أعمق أثراً، وأشدّ تدميراً على المدى البعيد. 

بين اليأس والأمل 

قد يتساءل البعض: ما جدوى المقاومة في عالم يسيطر عليه الأقوياء؟ والجواب هو أن المقاومة ليست خياراً، بل هي ضرورة وجودية. فالشعوب التي لا تقاوم تُدفن حية، وتُسلب إرادتها، وتُحوَّل إلى مجرد أدوات في آلة الاستهلاك الغربية. لكن التاريخ يعلمنا أن كل محاولات القهر فشلت في النهاية، لأن إرادة الحياة أقوى من كل آلات الموت. 

لقد رأينا كيف انتفضت الشعوب في فيتنام ضد أعتى قوة عسكرية في العالم، وكيف خرجت الجزائر من تحت نير الاستعمار الفرنسي، وكيف تقاوم فلسطين منذ عقود رغم كل الدعم الغربي للمحتل. هذه الأمثلة تثبت أن الظلم لا يدوم، وأن الأمل لا يموت ما دام هناك بشر يؤمنون بعدالة قضيتهم. 

 هل من سبيل للخلاص؟ 

إن خلاص العالم من هذا النموذج الغربي المتوحش لن يأتي إلا بصحوة إنسانية حقيقية، تعيد الاعتبار للعدل والمساواة، وتنزع عن الغرب هالة الزيف التي صنعها لنفسه. فإما أن يعيد الغرب النظر في سياسته، ويعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإما أن يستعد لمواجهة عواصف الغضب التي ستجتاح عواصمه يوماً ما. 

أما نحن، فلا خيار لنا إلا أن نواصل الكفاح، بالكلمة والسلاح، بالفكر والمقاومة، حتى نسترد كرامتنا، ونحفظ لأجيالنا القادمة حقها في عالم أكثر عدلاً وإنسانية. فكما قال الشاعر: 

وإذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ

فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ

فهل نستطيع أن نكون نحن ذلك الشعب؟ الجواب بين أيدينا.

***

د. عبد السلام فاروق

الشرق الأوسط اليوم مسرح معقد تجرى عليه فصول من المأساة الإنسانية التي تتداخل فيها الأطماع بالعقائد، والذاكرة التاريخية بالحروب الحديثة، والهوية الثقافية بالانهيار الأخلاقي.

إنه عالم يبدو كما لو كان يحمل في أحشائه تناقضًا وجوديًا بين ما يريد أن يكون وما أجبر عليه. فهل ما نراه اليوم إلا نتيجة حتمية لصراع قديم بين التقاليد والحداثة، بين الانتماء إلى الماضي والانفتاح على المستقبل؟ أم أن هذه النار التي تحرق الأرض والعقل معًا هي ثمرة فشل حضاري في إعادة صياغة الإنسان قبل الحجر؟ 

لطالما كان الشرق الأوسط مهد الحضارات والديانات، ولكنه أيضًا كان ساحة للصراعات الدموية التي لا تنتهي. فها هو اليوم يعود ليقدم للعالم صورة مكبرة عن أزمة الإنسان حين يفقد بوصلة القيم. فالحروب التي تشتعل في إيران وفلسطين وإسرائيل واليمن والسودان وليبيا ليست مجرد نزاعات سياسية أو اقتصادية، بل هي أعراض لمرض أعمق: مرض الهوية المفقودة. 

الشرق الأوسط يعيش أزمة انتماء وجودية. فهو من ناحية يتشبث بتراث ديني وتاريخي عريق، ومن ناحية أخرى يصارع رياح العولمة والحداثة التي تجتاح العالم. وهذا الصراع يولد إما انغلاقًا متطرفًا يقدس الماضي ويحارب الحاضر، أو انسلاخًا كاملاً عن الجذور يجعل الإنسان ضائعًا بين ثقافات لا يعرف كيف يختار منها أو يرفض. 

الدين والسياسة 

لا يمكن فهم الصراعات في الشرق الأوسط دون الغوص في العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة. فالدين، الذي كان ينبغي أن يكون منارة للسلام والروحانية، تحول في كثير من الأحيان إلى سلاح يستخدم لتبرير العنف وإقصاء الآخر. والمأساة أن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي نتيجة لقرون من توظيف المقدس لخدمة المصالح الدنيوية. 

فها هي الجماعات المتطرفة ترفع شعارات الدين لتحارب باسمه، بينما تفرغه من كل معنى أخلاقي. وها هي الأنظمة السياسية – في إسرائيل وإيران- تستخدم الخطاب الديني لتبرير القمع أو التوسع. وفي خضم هذا التشويه للدين، ضاع الإنسان العادي، الذي لم يعد يعرف كيف يفرق بين الإيمان الحقيقي والأيديولوجيا السياسية المقنعة بثوب الدين. 

في هذا السياق بالطبع لا نستطيع أن ننكر أن للغرب دورًا كبيرًا في تعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو الهيمنة الحديثة. ولكن اللوم على الغرب وحده هو هروب من المسئولية. فدول الشرق الأوسط تدفع ثمن عجزها عن إنتاج نموذج حضاري خاص بها، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الانتماء والانفتاح. 

فلقد أصبح الشرق الأوسط ساحة لصراع القوى الكبرى، ليس لأنها قوية فحسب، بل لأن الضعف الداخلي جعل المنطقة عرضة للتدخل. فبدلاً من أن يكون الشرق الأوسط فاعلاً في التاريخ، أصبح رديفًا للتبعية والصراعات المستوردة. 

إن الحل لا يكمن في المزيد من السلاح أو في انتصار طرف على آخر، بل في إعادة بناء العقل الجمعي على أسس جديدة. نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن الانغلاق أو الذوبان، إلى تعليم يحرر العقل من الخرافة والاستبداد، إلى إعلام يبني ولا يهدم، إلى سياسة تضع الإنسان فوق كل اعتبار. 

بالطبع فإن الشرق الأوسط لن ينهض إلا إذا انتصر العقل على التعصب، والتسامح على الكراهية، والعدل على الظلم. وإلا فإن مصيره سيكون مزيدًا من الدمار والانحدار. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟ 

فخ التاريخ وعبثية الحاضر

إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الشرق الأوسط يعيد مأساته بطريقة أكثر عبثية من ذي قبل. فالحروب التي تشتعل اليوم ليست مجرد صراع على الأرض أو السلطة، بل هي تعبير عن أزمة وجودية تمس جوهر الإنسان في هذه المنطقة. فلماذا يعجز الشرق الأوسط، بعد كل هذه القرون من الحضارة، عن الخروج من دائرة العنف والتبعية؟ وهل يمكن لفلسفة التنوير أن تجد لها موطئ قدم في أرض تقتل فيها الكلمة قبل الإنسان؟ 

ضحايا الأصولية 

في الغرب، كانت الفلسفة والتنوير هما الجسر الذي عبرت عليه أوروبا من ظلام القرون الوسطى إلى عصر الحداثة. أما في الشرق الأوسط، فما زال العقل يحارب باسم الدين أو القومية أو الأيديولوجيا. فالفكر النقدي يوصم بالخيانة، والتنوير يتهم بالتبعية للغرب، والعقلانية تقابل بالتشكيك في النوايا. 

لقد تحولت الفلسفة في الشرق الأوسط إلى ترف أكاديمي يدرس في الجامعات بينما يحارب في الشارع. فالإنسان العربي، على سبيل المثال، ما زال يعيش في صراع بين ماض يقدس وحاضر يرفض. والنتيجة؟ ثقافة تناقض نفسها: تطالب بالحرية ولكنها ترفض التسامح، تنادي بالوحدة ولكنها تقسم نفسها على أساس الطائفة والقبيلة، تبحث عن الهوية ولكنها ترفض أن تسأل: من نحن؟ وما الذي نريد؟ 

الدولة الحديثة وسؤال الشرعية 

منذ سقوط الدولة العثمانية، حاول الشرق الأوسط أن يقلد نموذج الدولة القومية الحديثة، لكن التجربة كانت في معظمها فاشلة. فالدولة التي يفترض أن تكون تجسيدًا للإرادة العامة أصبحت في كثير من الأحيان أداة للقمع أو المحاصصة الطائفية. 

لماذا؟ لأن فكرة المواطنة لم تبن على أساس العقد الاجتماعي، بل على الولاء للطائفة أو العائلة أو الزعيم. وهكذا، تحول السياسي إلى شخصنة للسلطة، وتحول الوطن إلى ساحة للصراع بين الهويات الفرعية. فكيف يمكن لدولة أن تقوم إذا كان المواطن يشعر بأنه غريب في وطنه؟ وكيف يمكن للديمقراطية أن تنجح إذا كان معنى "الشعب" مقتصرًا على فئة دون أخرى؟ 

لا يمكن إنكار أن الغرب لعب دورًا في تعقيد أوضاع الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو السياسات الحديثة. لكن المشكلة ليست في الغرب نفسه، بل في عقلية التبعية التي جعلت بعض النخب تنظر إلى نفسها بعيون الآخر. 

فبعض المثقفين العرب، بدلاً من أن ينقدوا الغرب نقدًا موضوعيًا، انقسموا إلى فريقين: فريق يقدس الغرب ويعتبره النموذج الوحيد للتحضر، وفريق يرفضه كليًا ويحمله كل أسباب التخلف. وكلا الموقفين يغفل سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن للشرق الأوسط أن يجد طريقه الخاص نحو الحداثة دون ذوبان أو انغلاق؟ 

نحو ثقافة جديدة تقبل التناقض وتتجاوزه 

الشرق الأوسط ليس محكومًا عليه بالفشل، لكن خلاصه لن يكون إلا عبر ثورة ثقافية حقيقية. ثورة تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن العصبيات الضيقة، وتحرر العقل من الأوهام الأيديولوجية، وتجعل من السياسة أداة لخدمة الإنسان لا العكس. 

نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة ترفض الثنائيات الجاهزة (القديم/الحديث، الديني/العلماني، الشرقي/الغربي)، وتعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نعيش معًا رغم اختلافاتنا؟ وكيف نصبح جزءًا من العالم دون أن نفقد أنفسنا؟ 

هذا لأن الحضارات لا تنهض بالشعارات، بل بالإرادة الحرة والعقل النقدي. 

فهل نستطيع أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أم أن قدر هذه المنطقة أن تظل تدور في حلقة المأساة ذاتها؟ السؤال مفتوح، والإجابة ليست كتابًا يقرأ، بل تاريخًا يصنع. 

***

د. عبد السلام فاروق

في العراق على وجه التعيين، ينطوي مفهوم ونموذج "الوطنيه" المتداول على مخالفة كلية افنائية المقصد، لطبيعة المكان، الموضع العراقي الذي لم يعرف مطلقا في تاريخه البدئي الفاعل والمميز، مثل هذا النوع من التشكلية، او صنف التعبيرية، باعتباره نموذجا كيانويا اخر مخالف للمتعارف عليه، والغالب تاريخيا، بينما تجسد في ارض مابين النهرين نمط ازدواجية، امبراطوري/ لاارضوي،  بدءا ببابل، وقبلها اول امبراطور في التاريخ سرجون الاكدي "حاكم زوايا الدنيا الاربع"، ومقابله الامبراطورية اللاارضوية الدائمه الابراهيمه، وصولا الى العباسيين ومقوله الرشيد للغيوم "امطري حيثما تشائين فانت في ارضي"،ومقابله القرمطية والاسماعيلية والتشيع، وصولا للانتظارية "المهدوية" واخوان الصفا والمعتزله، وجملة التعبيرية، من الزنج الى الحلاجية، الى الخوارجيه والفاطمية  سليلة الاسماعيله.

وهنا تتداخل جمله من الظواهر المتناقضة والمتضاربه، ليس ممكنا على رغم كثرتها وقوة حضورها ان لاتعرض للمعالجة كشرط للتعرف على جسامة، ومدى التوهمية متعددة المناحي التي حلت على العقل البشري ابان الانتقال الالي عند بداياته الاولى، ماقد رافقه من تصور هو بالاحرى الممكن المتاح، ووليد المتوفر من القدرة الاحاطية العقلية في الموضع الاوربي الذي عرف قبل غيره الانتقال الالي، فما كان بالمقدور حينه الخروج عن نطاق الانيه والمكانيه المحدده كمنطلق للتعريف الانتقالي الواقع، بلا ايه احتمالية خارجها، او من الممكن ان تكون موصوله بها  وضرورية لاكتمالها كمستقبل، بحيث  ينظر للحاصل في حينه على انه عتبه بداية، وهذا جانب ليس بالعارض اطلاقا اثرا وحصيلة، يضاف له الاهم ربما، ذلك المتعلق بالمجتمعية وماهي بصدده، وصارت مع الاله مقبلة عليه كانقلابية، وهو مالم تقترب منه التوهمية الغربيه المشار اليها، فلم يخطر لها الاعتقاد بان المجتمعية يمكن ان تكون مجتمعيتان متعاقبتان، وان الاليه المنبثقة، تقابلها وسوف تنتج عنها مجتمعية اخرى، غير تلك القائمة والمتبقية ماتزال  من الطور اليدوي.

وهنا عند هذه الناحية الاساسيه تتجلى مسالة موروثة غاية في الاهميه والحضور،  اصلها حاضر في الطور الاول اليدوي، حيث انتفاء القدرة العقلية على ادراك الحقيقة المجتمعية، وهو ماقد ورد في اجمالي المفاهيم المواكبه للانقلاب الالي، وعلى راسها اخر العلوم "علم الاجتماع" بصيغته الابتدائية غير الموهلة لاجتياز معضله القصور التاريخي، وبالذات منها الوقوع على الازدواجية المجتمعية، وعلى وجه الخصوص، اكتشاف النوع الثاني المجتمعي غير ذلك السائد والمعاش، والباقي خارج التعيين، فضلا عن الادراك، مع مايمكن ان يثيره من ايحاءات ناظمه وحاكمه للتفاعلية المجتمعية تاريخيا، كما مستقبليا، ماكان من شانه الربط بين، ومزج تفاعلية الانقلابيه المجتمعية الاليه،بالاصل المجتمعي"الاخر"، اللاارضوي غير المماط عنه النقاب في ارضه تاريخيا، مع انه كان ومايزال حاضرا بصيغة اولى كونية  مخترقه لغالبية المجتمعات،  وان بصيغتها الابتداء الحدسية  النبوية المطرودة من عالم " المجتمعية" الى منفى " الدين"، ماقد ساعد على تكريسه  كونها لم تبلغ مرحلة التعبيرية "العليّة" السببيه.

يوجد الغرب قاصرا موضوعيا ازاء الانقلابيه الحاصلة بين ظهرانيه، بما يجعل من تلك منها محطتين، احداهما "مادية" في حال تشكل، والثانيه "ادراكيه" غائبه، ما يجعل من الانقلاب الالي مسارا تشكليا، وليس  لحظة انتقال اني مكتمل، تبدا معه الالة مصنعية قبل ان تتحول الى التكنولوجيه، ومن ثم الى التكنولوجيا العليا، وهي موجوده كي تنهي المجتمعية اليدوية، الارضوية الجسدية الحاجاتيه، لا لكي تمنحها ماتدعية من " تقدم" تكراري للصيغة الموروثة من المجتمعية اليدوية المنتهية الصلاحية، وبكلمه فان الاله تظهر في اوربا المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نوعها بفعل ازدواجها الطبقي،  لكي تنهيها نوعا ماعاد صالحا مع تبدل وسيلة الانتاج، من اليدوية الجسدية، الى "العقلية" مافوق الارضوية.

يترتب على جملة التداخلات القصورية الفائته حلول حالة من "الطور اليدوي من الانتقال الالي"، مع كل ماينتج عنه ويترتب عليه خلال المسار الالي الابتدائي من متغيرات ومنجز غير عادي سهل حالة التغلب المفهومي والنموذجي الغربي، اسهم في ذلك تماثل عموم النمطية المجتمعية على مستوى المعمورة  بدرجات مع النمطية والصنف الاوربي الغربي من حيث الجوهر، ماكان من المستحيل ان لايكون انعكاسه متناغما معها، ومع اجمالي الظاهرة الحداثية الغامرة المرافقه لها، بظل انكسارية وانقطاعية الظاهرة الازدواجية المجتمعية العراقية، بالاخص ابان الفترة او المرحله الاولى من اللقاء بين الغرب وحضوره المباشر، والمكان الذي  المختلف الذي وصله، بغض النظر عن نوعية الاستقبال غير العادي الذي عرفه الانكليز وحملتهم في غمرة الانتفاض الكبير الذي كاد ياخذهم الى الانسحاب، مع ان الحاصل كان " ثورة بلا نطقية" وقعت في حزيران عام 1920.

ومن ساعتها والعراق يعيش طور الاصطراع  الانقلابي الالي المكمل للعملية التاريخيه الانتقالية التحولية من اليدوية،  وعلى وجه التحديد الطور اليدوي منها، بكل مامثله من متغيرات استثنائية شامله، ومن قدرات مستجده، لم تمنع حقيقة كون الحاصل في هذا الموضع من المعمورة، هو بالاحرى الطور الحاسم من التاريخ الانتقالي الالي، وان ماسبقة وترتب عليه هو  الطور المادي الممهد للانقلابيه المجتمعية  المستجده، من المجتمعية اليدوية الارضوية الجسدية الحاجاتية الى المجتمعية العقلية، الامر الذي ظل ينتظر  خروج العقل البشري من شرنقة الارضوية والعجز القصوري الفادح بازاء المجتمعية، وبالذات نوعها الاصل البدئي، الممهد والاصل اللاارضوي.

ولم يكن متوقعا  بناء على ما تقدم ان لا تكتسح المروية الاوربية الانتقالية ماقبل الالية، والخاضعه لاشتراطات الموروث اليدوي اجمالي التعبيرية الظاهرة والمتداولة  عراقيا بحكم الغالب  الظروف الخاصة تاريخيا برغم الانبعاثية الاولية، بغض النظر عن المحركات الفعليه التي ظلت تلعب الدور الاساس في تعيين وجهه ومظاهر الاصطراعية الحاصلة بين اللاارضوية بحالتها الانقطاعية، والنمطية الانتقالية الغربيه بصيغتها الابتدائية، فكان ان سادت هنا لغة الطبقات والقومية والليبرالية كترجمة لواقع مجتمعي  اخر انبعاثي، كان هو المتحكم بتلك الظواهر المسماة "وطنيه"، فالشيوعية هنا هي شيوعية حمدان قرمط وكوراجينا المتعدية لشيوعيه ماركس الارضوية، والقومية تحركها اسباب الاصطراعية الذاتيه، ومفاعيل الانقطاع بين مستويين من المجتمعية، المنبعثة  اليوم في الاسفل لاارضويا، والبرانيه  وليدة التعاقبية على عاصمة الامبراطورية المنهارة من هولاكو، وكذا الليبرالية الشعبوية التي ذابت تلقائيا، في وقت كان بفترض ان تكون الاكثر فعالية وحضورا بعد ثورة 14 تموز 1958( المفترض انها برجوازيه)، هي اللاارضوية الثانيه غير الناطقة، التي اجهزت على،  ومسحت من الوجود، الكيانيه المركبة برانيا لاسباب احتلالية باسم "الدولة"، ومعها " الوطنيه الزائفة" الايديلوجيه الناطقة بغير لسانها، وخارج محركاتها وماهي ذاهبة اليه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

عاش العراق على مدى القرن المنصرم ماخوذا بوطاة ازدواجية برانيه، ترافقت مع الحضور الغربي المباشر، ومعه الحضور النموذجي الاسقاطي المفاهيمي كما عرف وتجسد فيما صار يعرف على انه "الحركة الوطنيه"، بتمثلاتها الايديلوجية المنقولة الثلاث الرئيسية، الطبقية الماركسية، والليبرالية، والقومية، وهي تيارات تبلورت واستقرت بالصيغ التي وجدت عليها، ارتكازا الى مروية الغرب عن "العراق الحديث" كما وضعها الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند، والذي يرهن تشكل العراق الحالي بالظاهرة والنظام الاقتصادي الراسمالي العالمي، واضعا له تاريخ بدء  وانطلاق محدد، هو العام 1831 مع الاحتلال التركي الثالث الذي ازاح اخر الولاة المماليك داود باشا، معتبرا الحدث المذكور بداية التشكل المجتمعي والسياسي للولايات التركية الثلاث، بغداد، والموصل، والبصرة وصولا الى السوق الواحدة، وقيام الحكومة المؤقته تحت الاحتلال الانكليزي عام 1920.

ووقتها لم يكن العراق يعرف، او هو متوفر على اية رؤية ذاتية، او تصور بالحدود الدنيا للكينونه الوطنيه التاريخيه، ذلك مع ان البلاد كانت قد شهدت بدايات التبلور التاريخي الانبعاثي الحديث الراهن منذ القرن السادس عشر، مترسما الخاصيات البنيوية التاريخيه للموضع المعروف بارض مابين النهرين، وهو مايخالف كليا المنظور ومفهوم الغرب وويرلند عن التشكلية التاريخيه "المجتمعية" وآلياتها، بالاخص في موضع وجد كاستثناء ونمطية خاصة مغايره للشائع على مستوى المعمورة، بما خص التشكل الذاتي، فالعراق يولد من الجنوب ليتشكل لاحقا امبراطوريا ازدواجيا نتيجه للاصطراعية الازدواجيه التي يتشكل منها، فارض مابين النهرين ليست ارض الكيانيه الواحدة الموحده، بل كيانيه اللاكيانيه الازدواجية الكونيه، مافوق الاحادية، المتعارف عليها تاريخيا كنموذج في حالتها الاعرق المصرية الشرق متوسطية، الاخرى النهريه المقاربة تبلورا زمنيا، والمفارقة نوعا للحاله العراقية.

وتحكم حالة العراق اليوم بالذات نقيصة تاريخيه تعمل لصالح المنظور الاستعماري الغربي نموذجا ورؤية، بالاخص مع انتقال اوربا الحديثة الى الانقلاب الالي، وماقد تمتعت به وبناء عليه من ارجحية وغلبة شامله على مستوى المعمورة، يقابلها في العراق واقع هو خاصية عامه شاملة، تميز علاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، ظلت تتمثل كحالة قصور وعجز بازاء الحقيقة المجتمعية الاهم، الامر الذي ظل يحكم الحالة في العراق اولا، فالنمطية والكينونة العراقية وتاريخها الاطول مقارنه بتواريخ المجتمعات، تظل خارج الادراك مع توالي الدورات والانقطاعات الحاكمه لتاريخ هذا المكان من المعمورة، فالعراق وجود بلا ذاتيه ولا تعرف على الذات، لانها فوق الطاقة المتوفرة للعقل البشري وقتها على الاحاطة الممكنه والمتاحة، الامر الذي استمر وكان متوقعا له ان يظل حاضرا اليوم، خصوصا وان العراق كان حتى حينه يعيش اشتراطات ماقبل الانقلابيه الآليه، تلك التي بدات في الغرب الاوربي بمعنى استمرار مفاعيل الطور اليدوي هنا، مقابل طلائع الحضور الغربي الالي المتاخر.

ولم يكن هذا كل ماقد لعب دوره لصالح الحضور الغربي وغلبته، فالعراق يوم وصلت طلائع الحملة البريطانيه الى الفاو عام 1914 صاعدة نحو عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، لم يكن في عزاو ذروة الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ولا حتى ايام الدورة الامبراطورية الاولى السومرية البابليه الابراهيمه، بل كان في حال انهيار انقطاعي، هو من خاصيات هذا المكان واصطراعيته المجتمعية الارضوية اللاارضوية، حل على المكان مع سقوط بابل، ثم عاد مرة اخرى مع انتهاء الدورة الثانيه بسقوط بغداد، وليس من المنطقي تصور امكانيه، او احتمال نشوء تجاوزية للقصورية الادراكيه التاريخية، تحت طائلة الانقطاعية الانحطاطية، اذا تحدثنا عن تمخض طال انتظاره ذاتيا، وعلى مستوى المعمورة.

وحين يكون العراق منهارا مقارنه بذاته وذراها التاريخيه الكبرى، والغرب في ذروة صعوده الحديث الالي، فان الحصيله تكون ساعتها محسومة حتما، حتى مع حضور العراق السابق على الغرب ونهضته قبل بدء الانقلاب الصناعي الالي بقرابة القرن، ومروره بلحظتين انبعاثيتين، اولى قبلية تبدا مع القرن السادس عشر، مع قيام "اتحاد قبائل المنتفك" في ذات ارض سومر عام 1530، وثانيه انتظارية نجفيه تبدا مع القرن الثامن عشر، بعد الثورة الثلاثية التي حررت العراق من جنوب بغداد الى الفاو عام 1787، فالمتوقع ان لاتكون التشكلية الحديثة الذاتيه العراقية ساعتها قابلة لان تحقق "النطقية" الغائبة المؤجلة المنتظرة خلال المحطتين اليدويتين انفتي الذكر، لتاتي الظاهرة الغربيه وزخم صعودها الالي النوعي التاريخي، متوفرة على كل الاسباب الضرورية لاكتساح المجال العائد الى الذاتيه والتعبير عنها.

وليس هذا وحسب، فقد يكون الاهم في المشهد المشار اليه، تمكن المسقط الغربي الشامل من غمط وتشويه نوعية وطبيعة الاصطراعية الفعليه الحاصلة، والتي نشأت وقتها بين الذاتيه العراقية والغرب واستعماره وغلبته النموذجيه، لتحولها من الجانب العراقي الى مجرد ازالة الاستعمار بوسائل الاستعمار، مع نية احلال النموذجية الغربيه محل الذاتيه التاريخيه، بمسح والغاء اي حضور ذاتي او وجودي ممكن، فضلا عن ان يكون ضروريا، لا بما خص العراق بالذات، بل على مستوى المعمورة، وبما يتعدى النموذجية والرؤية الغربيه للعالم واللحظة الانقلابيه الاليه.

وهنا تقع قصورية الغرب ومنظوره واجمالي تفاعليته مع الانقلابية الاليه بصيغتها الابتدائية المصنعية، والتي تعجز تكرارا للقصورية التاريخيه عن ان ترى في الانقلاب الالي، انقلابا مجتمعيا، تنتهي معه صيغة ونوع نمطية المجتمعات البشرية المتولدة ضمن اشتراطات الانتاجوية اليدوية، حيث المجتمعية الارضوية الجسدية الحاجاتيه، التي تنتهي صلاحيتها مع الانقلاب الالي ومساراته، وماهو ذاهب اليه من تحولية مجتمعية، تنتج عن تبدل الاشتراطات التفاعلية من مجتمعات (البيئة / الكائن البشري) الى (الكائن البشري / متبقيات البيئة/ الالة) الامر المباين والمختلف نوعا وحصيلة، عنده تنتهي صلاحية المجتمعية الاولى، بينما تظل حيه وفاعلة نمطية مجتمعية منطوية على مقومات التعايش والحضور الفاعل بظل التحولية الحاصلة، والاخذه بالمجتمعات البشرية الى "اللاارضوية".

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

أعيدُّ مقالةَ إخوان الصَّفا (القرن الرَّابع الهجريّ)، وما اقتبسه منهم أبو الفتح الشَّهرستانيّ (تـ: 548هج)، في خطورةِ النّزاع على الإمامة السّياسيّة على مدى العهود؛ وحتَّى اليوم بين المذاهبَ. ما يجري مِن سعار أدواته الأتباع، ومشغلوه خواص الطّوائف؛ نُذكرُ بالمقالة، لتقدير ما قدمه الزّيديَّة، وما نظمه الشّاعر ابن الحجَّاج؛ وما توسع به الشَّيخ مرتضى مطهريّ (اغتيل: 1979).

قال إخوان الصَّفا: «اعلم أنَّ الإمامة هي أيضاً مِن إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء؛ قد تاه فيها الخائضون إلى حجّجٍ شتى، وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدّماء، وهي باقية إلى يومنا هذا. لم تنفصل، بل كلُّ يوم يزداد الخائضون المختلفون فيها خلافاً على خلافٍ» (الَّرسالة الأولى من الآراء والدِّيانات).

قال الشَّهرستانيّ: «أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُل سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينيةٍ، مثل ما سُلَّ على الإمامة في كلِّ زمانٍ» (الملل والنِّحل). قيل ذلك في القرن الرّابع الهجريّ، ثم تجدد في السّادس الهجريّ، وقبله وبعده كان التحذير مِن الفتن، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

مرَّ أربعة عشر قرناً، على ما عُرف بالسّقيفة، وهو أمر حصل، منذ البداية، بين المهاجرين (أهل مكة) والأنصار (أهل المدينة)؛ والمذاهبُ لم توجد بعد. فقد نشأت بعد أكثر مِن قرنين، وما استقدمه المتخاصمون مِن قاع جب التّاريخ، يظهر كأنه السَّاعة، ولولا السّرف في الدِّماء، على أمر طواه الماضي، وطوت الأرض شخوصه، ما كتبنا المقال.

قال مطهريّ، وهو أحد أعمدة الإسلاميين الثّوار، مضى قبل تطبيق الولاية الدِّينيَّة: «علينا أنْ لا نرتكب مثل هذا الخطأ؛ بحيث ما أن تُطرح مسألة الإمامة، في السّياق الشّيعيّ، حتَّى نساويها بالحكومة، ونقول إنها تعني الحُكم، الوقوع في مثل هذا الخطأ يفضي إلى أنْ تكتسب الإمامة شكلاً بسيطاً ساذجاً (إلى قوله) مهمة عليّ بن أبي طالب دينية، ليست سياسيَّة» (مطهريّ، الإمامة).

يتطابق موقف مطهري- تلميذ المفسر محمد حسين طباطبائي (تـ: 1982)، المقصي لاهتمامه بالفلسفة (عيدان، شؤم الفلسفة عن النَّصريّ، مع الفيلسوف)- مع الرَّأي الزّيدي في شأن الإمامة، إنها ليست سياسية؛ اغتيل الشّيخ مطهري قبل إعلان الفقه سلطة سياسية، والسؤال هل كان يقبلها وفق رأيه في الإمامة؟

جاء في تراث الزَّيديّة: أنّ الإمام زيد (قُتل: 121هج) أجابة عن سؤال: «أكان عليّ إماماً؟»: «فلمّا قُبض رسول الله كان عليّ مِن بعده إماماً للمسلمين في حلالهم وحرامهم؛ وفي السُّنَّة عن نبيّ الله، وتأويل كتاب الله، فما جاء به عليّ مِن حلال أو حرام أو كتاب أو سُنَّة، أو أمر أو نهي، فردّه الرادّ عليه، وزعم أنه ليس مِن الله، ولا مِن رسوله، كان ردَّه عليه كفراً، فلم يزل ذلك حتّى أظهر السَّيف  (الخلافة)، وأظهر دعوته، واستوجب الطَّاعة، ثمّ قيّضه الله شهيداً» (الحميريّ، الحور العين). فإذا اعتبرت الزّيديّة المعتدلة الإمامة وراثةَ العلم الدّينيّ، كذلك اعتبرها مطهري خلافة النَّبيّ في أمور الدِّين؛ فهل كان متأثراً بالزّيديَّة؛ أم توصل إلى الرَّأي، بعد فحص النّزاع الطّائفي، فوجده بعيداً عن الدّين نفسه؟

بعد الزَّيديَة ومطهريّ لنا اعتبار أبيات الشَّاعر الحُسين بن الحَجَّاج (تـ:391هج) نظريةً، استشفها مِن الحياة. لِم لا؛ والحديث واضح المعنى: «إِنَّ مِنَ الشَّعْرِ لَحِكْمَةً» (الأصبهانيّ، حلية الأولياء). وفق ابن الحجَّاج الإمام في السّياسة لا سُنيٌ ولا شيعيٌّ، بل «خيرهم مَن رأى لباسي قد/ رثَّ وبان اختلالُه فكسانيّ/ هكذا مَذهبيّ وهذا اعتقاديّ/ وبهذا المديح يجري لسانِي» (الأسطُرلابيّ، درة التَّاج مِن شِعر ابن الحجَّاج)؛ هو مَن يدرأ المحنة عن مواطنيه، لا يزجهم في أتونها. أقول: لو حُسب لابن الحَجَّاج القصيد، ما منع المحتسبون شعره (ابن الأخوة، معالمُ القربةِ في أحكامِ الحِسْبةِ).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ليس لشيوعيه ماركس اي اساس فعلي، بالاخص بناء على ماهي مرتكزة اليه "طبقيا"، فحضور الاله يعني انتهاء الطبقات والصراع الطبقي، مع كل انماط وصنوف المجتمعية اليدوية البيئية الاولى، فاذا كانت "الفكرة" والتصورات المسقطه على المجتمعات قد غدت قابله لان تجد مايمنحها الفعالية الرئيسيه، فان ذلك ليس سوى فعل الاله المستجد مجتمعيا، وهو ماحدث في الغرب الاوربي الكلاسيكي باسم "البرجوازية"، او شرقا ابتداء من روسيا " اشتراكيا"، وصولا الى الامبراطورية الراسمالية الامريكية ومنحاها الرسالوي الكاذب، وهو مايعني اختفاء البرجوازية التي ان هي ظلت وماتزال موجوده وفاعلة، فليس ك "طبقة"، اي ليست مكونا ضمن مجتمع طبقي كينونة، بل بصفتها الموروثة مع تجددها وتغير فعلها المرهون لحضور الاله، وكذا فعل الفئات المجتمعية المولودة عن الحاصل، من تغير في البنيه المجتمعية، ومنها الانتلجنسيا وسعيها للتشكل المجتمعي الفعال، موحدة فكرة وفعالية "حزبيه" في نموذج "ماالعمل" اللينيني، خارج البنية الطبقية المدعاة، وبهدف ايقاف مفاعيلها، وصولا الى مجتمعية "الفكرة" مقابل غياب التاريخ المجتمعي والبنية الطبقية امريكيا.

وماتقدم لابد ان يوضع في الاعتبار الاول اليوم، تحت شعار "ازالة التوهمية الطبقية" كمدخل واجب نحو اعادة بناء التحولية، مع اجمالي المنظور المواكب للانقلاب الالي كما تهيأ للغرب ان يعيه ويستمر مكرسا اياه، بلا اي تبدل ضرورة، برغم تغير الاشتراطات الآليه، وعلى وجه الخصوص انتهاء المصنعية، الصيغة الاولى الافتتاحية منها، مع انتهاء الفعالية الاوربية ونموذجيتها لصالح النموذج الامريكي، نموذج "الفكرة" المرتكزه لقوة مفعول الاله بصيغتها الانتاجية من دون طبقات ولا تاريخ مجتمعي، ومن دون رؤية من طبيعتها، في الوقت الذي يستمر الارتكاز الى متبقيات المنظور الاول التوهمي الاوربي، نتاج المجتمعية الطبقية اليدوية تاريخيا بصيغته الطبقية، ليتحول الى اضافة توهمية قصورية، تحايثها القصورية الطبقية الاخرى البديل المفترض الماركسي، لنصبح بازاء ركام هائل من التوهمية الحالة على البشرية، وسط حالة من التناقض غير المسبوق مابين المعاش، والادراكية المتاحة.

يقف العالم بناء عليه وكضرورة قصوى، امام مهمة عدم الاستجابه لمقتضياتها من شانه اخذ العالم والوجود البشري الى الكارثة، فتعاظم التفارق بين الادراكية والواقع المادي، وبالاخص متغيرات وسيلة الانتاج النوعيه، من شانه ادخال المجتمعات البشرية في غمرة اضطراب شامل، اخذ الى الفنائية، فوسيلة الانتاج العقلي،" التكنولوجيا العليا" الموشكه على الحضور، سيرافقها بالطبيعه اختلال في وظيفة وفعالية الوسائل الانتاجية الارضوية الملائمه للجسدية والحاجاتيه، بينما تظهر للوجود علامات وجوب الانتقالية التحولية، ونوع الادراكيه المواكبه لها بما هي مجابهة لمازق وجودي اقصى، الكائن البشري ضمنه هو بالذات مادة متحولة، تحولها يفترض، لابل يشترط نمطا من استراتيجيات الانتاجية، وسبل العيش والانشعال الشامل الحياتي، مافوق ارضي، وفي المقدمه فوق توهمي من نمطية ذلك السائد اليوم وباق منذ ان انبجست الالة في المجتمعات الغربية الاوربية، وظلت ماهي عليه بلا تاريخ تشكلي مراحلي.

يمكن للعراق ارض اللاارضوية والازدواج الابراهيمه الحدسية النبوية الاولى، ارض الازدواج المجتمعي، ان يحضر اليوم" عليّا"، بعد اكثر من اربعة قرون من تاريخ التشكل الحديث الثالث من تاريخه المحكوم للدورات والانقطاعات بلا نطقية، بينما خاصية دورته الراهنه، المستمرة من القرن السادس عشربالاصل، هي "النطقية" المؤجله، والتي ظلت على مدى، الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، والى الساعة، خارج القدرة الاعقالية الادراكية المتاحة للكائن البشري، وصولا الى الانقلابيه الاليه الواقعه مع توهميتها الكبرى في المدى الازدواجي المقابل الارضوي الطبقي، بلا رؤية مطابقة، وبلا كينونه نمطية، ظهرت اليوم مع وصول الماركسية اللينينه الى ارض سومر التاريخيه لتكتسب خاصيات اعلى مما مرتكزه اليه، فالمجتمعية التحولية اللاارضوية اعلى منطويات من تلك التي افترضها ماركس ارتكازا لحالة الازدواج الارضوي الطبقي التي ينتمي اليها ، اي حال الازدواج الادنى، مقارنه بحال ونمطية الازدواج المجتمعي الموضع الفعلي من حيث الممكنات والمنطويات العليا النهائية التي لابد للانقلاب الالي ان يتمخض عنها مجتمعيا.

تنتمي الطبقية ومجتمعها الى الطور اليدوي من المجتمعية، وهي ابعد من ان تقارب منطويات الانقلابيه الالية التي هي بالاحرى تحول من المجتمعية الارضوية الاولى، الى المجتمعية الغاية اللاارضوية، ومن هذا الموضع، ينبغي ان نتوقع اطلالة الرؤية الضرورة التي تمثل الانقلاب الالي مجتمعيا، هي ومعها التكنولوجيا العليا العقلية، وهو ماظلت اللاااضوية تبحث عنه اليوم، بعد ان انهارت الشيوعية المنقولة والمصادرة من قبل اللاارضوية، وقت ان صار مع ثورة 14 تموز1958 من المحتم اللازم الانتقال الى " النطقية" بينما ظل الببغاويون الافندويون، واعادوا مجددا من باب العجز العقلي الادراكي محفوظات الطبقية الجاهزة الماركسية .

العالم والمجتمعات ماتزال بانتظار الانتقال التحولي الاعظم الالي، مع اعلان الانتقال من الجسدية اليدوية الحاجاتيه الى العقلية، ومن الارضوية التي ظلت غالبة منذ تبلور المجتمعية، الى اللاارضوية الموافقة لاعلى اشكال التحورية الاليه تكنولوجيا، حين تتلاقى الاشتراطات المجتمعية مع وسيلة الانتاج التي من نوعها ومطابقة لمنطوياتها، الامر الذي سياخذ العقل والجهد البشري نحو مفازات غير معروفة، ولم يسبق ان جرت مقاربتها حتى تخيلا، فاذا كان ابناء التحولية الطبقية الدنيا الابتدائية على توهميتها، قد اثبتوا انهم من اكثر بني البشر تفانيا ورغبة جامحه في تحقيق التغيير، وطرق باب اليوتوبيا الواقعية المتخيله، فالحرى بهم بالذات اليوم ان يكونوا في طليعة ومقدمه بني البشر الذين يقاربون الانتقال التاريخي الاعظم، وان يكونوا كما ظلوا يطمحون دائما الى الطليعية ومقدمة البشرية.

لقد حق الاعلان اليوم بملء الصوت: "من الشيوعية الطبقية"، الى "التحولية اللاارضوية" شعارا ومنهجية تفكير وعمل، ياخذ بالبشرية الى ماهي مهياة اليوم للذهاب اليه حكما موضوعيا، او توقع الخراب الاشمل من دون استبعاد الفناء.

ـ انتهى ـ

***

عبد الأمير الركابي

في الطريق الانتقالي الموصل مابين اليدوية وصيغتها المجتمعية، و الالية بصيغتها المتقدمه التكنولوجية اللاحقة على الالية المصنعية، لاتغيب المحركات النابعه من اللحظة والياتها، ولاالدفع الذاهب الى مابعدها مما صار راهنا بحكم طبيعة الساعه والمعاش ديناميا، وحيثما تكون الارضوية هي المحور والموضع الذي فيه تجري العملية الانتقالية بصيغتها الافتتاحية الاوربية، فان اجمالي الحاصل وقتها، ومنه بالطبع الجموح الى مابعد الارضوية، يظل محكوما للسقف الارضوي، وهو مايسري على اعلى اشكاله، وبالذات منها ذلك الذي يعتمد الاصطراع الطبقي محورا انتقاليا نهائيا، حيث تكمن التوهمية بصيغتها الاعلى، لتعدي الواقع واللحظة ممكنات العقل ساعتها، مقابل مابمقدوره ادراكه، طبقيا كاعلى احتمال، مع انه الادنى من تلك المجتمعية غير الناطقة بعد، الناظمه والمحركة الفعليه للانقلاب الحاصل.

ولو ان ماركس كان قادرا اوممتلكا القدرة على النظر في اشتراطات لحظته مجتمعيا، لما كان وقع في وهم الاعتقاد الطبقي وصلاحيتة، واجمالي الفعالية الطبقية وقانونها في غير وقتها، تماما في اللحظة التي صارت هي فيها خارج الفعل، مع بدء انتهاء وجودها، وهو ماقد عجز عن تبينه، فلم يدرك بان الاله تنهي التشكل البنيوي المجتمعي الاسبق بصيغته اليدوية، تلك التي هي نتاج التفاعلية البيئية /البشرية المنتهية، قبل ان يحضر عنصر ثالت من خارج نوع وطبيعة العنصرين الاولين التاسيسيين، لنصبح من حينه امام اعادة تشكل مجتمعي، هو حكما غير ذلك الذي عرفناه مع بدء مايعرف ب (التجمع + انتاج الغذاء)، وصار يعزز دور وفعالية "الفكرة" المدعمه بقوة الاله وفعلها الاستثنائي الفاصل بالنسبه للمعتاد، حتى بصيغتها الاولى المصنعية، كما حصل في روسيا من قبل تجمع من "الانتلجنسيا" الحزبيه، مع "ماالعمل" والمزج اللينيني للاستبدادية الشرقية والروسية القيصيرية بالنظرية الطبقية الاوربية، وصولا الى بدء انتهاء الطور المصنعي، ومايرافقه من نوع انتاجية، عند بدء الطور الانتاجي التكنولوجي الامريكي، ماكان من شانه تفكيك البنيه البيروقراطية الروسية، وطريقتها الاحادية المتكلسه مجتمعيا، ومع تجميد الصراع الطبقي، ذهنيا كشرط للانتاجية.

ويصعب الى حدود غير مالوفة ولا سابق لها، الخوض في مناحي التوهمية الانتقالية الالية وضخامتها وتشعب حضورها، ليصبح هذا المظهر من اهم لوازم وموجبات الانقلابيه الاليه قبل، وكشرط لتحققها، وخروجها من ربقة متبقيات الطور اليدوي، الساريه مفاعيله الى اليوم، مايوجب اعادة قراءة عسيرة ومضنية الى اقصى الحدود، املا في اعادة رسم المروية الحداثية والانقلابيه التاريخيه الاليه والمجتمعية، وتواليها، مابين الاولى الارضوية الجسدية اليدوية، واللاارضوية العقلية الموافقة لاشتراطات الانقلاب الانتاجي، من اليد الى العقل.

فنحن هنا واليوم بصدد تبدل في الطبيعة البشرية وماظل غالبا عليها ابان الطور الانتقالي الطويل "الانسايواني"، قبل التحول لعالم "الانسان" خارج الجسدية، مع مايواكب ذلك من انقلابيه كلية في المعاني والدلالات والمقاصد والمعتقد، بين مامعتبر هو الحقيقة التي لاغيرها، ومايترتب عليها من احادية نهائية، اذا ذهبت كحتمية ختامية، وامكان بحسب ماركس وبالحدود القصوى، الى الشيوعية، فان المقترح يكون حينها قتلا للديناميات المحركة، وللاليات المجتمعية التصارعيه الموجوده من ضمن الكينونه المجتمعية وحقيقتها الجوهر، الذاهبه الى مابعدها، والى العبور عنها الى عالم آخر مباين ليست غرضيته ومحور انشغاله، ولن تظل "انتاج الغذاء "، بل انهاء الانتاجية عن طريق قتل الحاجاتيه في الكائن البشري عقليا، عدا عن التحكم باجمالي التفاعليات البيولوجيه الجسدية، وماتنطوي عليه من ممكنات متعدية للوجود المادي، ولعملية الموت الجسدي، بالاخص في جانبها الاستبدادي الجسدي  الذي فرض على العقل ماليس من طبيعته، وحقيقته الوجودية الخلودية.

يعني ماتقدم ان العالم والوجود البشري اليوم على مشارف الثورة العقلية الحداثية التحولية العظمى، المتعدية كليا لمتبقيات الارضوية، التركيز الاساس والمحور فيها، هو عملية ايقاظ الخلايا العقلية النائمه، اي الجزء الاعظم غير الفاعل من العقل البشري بسبب الاشتراطات اليدوية الجسدية وغلبتها، وهو ماقد غدت ممكناته واردة بحكم التبدل الحاصل في العنصر الالي في طوره التكنولوجي الانتاجي الراهن، وافاقة العقلية التي هي مهمه كبرى ارادية وجهادية غير مسبوقه، ولم يعرف مثلها، او مايمكن ان يشابهها، من افعال الكائن البشري المكرره على مدى تاريخ فعاليته الدنيا الماضية.

لقد صار الحاكم للكائن الحي اليوم هو الذهاب الى العوالم او الكون الاخر غير المرئي، وقد شارفت صلاحية وضرورة الكوكب الارضي كممر على الانتهاء، ومعها المجتمعية الانتقالية التحولية السارية الى الان بانتظار الساعه. حيث سيكون من الحتمي ان يمر الكائن البشري من هنا فصاعدا باضطرابية عظمى، هي الاخرى غير مشهودة، لم يسبق تخيلها، مايجعلنا بصدد التفكير والبحث عن بارقة او احتمالية بدئية انقلابيه فردية، او من قبل مجموع من البشر يمكن ان يكونوا مهيأين اكثر من سواهم، كنواة بدء الانقلابيه العظمي الحالة على الكوكب الارضي، وفي هذا الاطار، قد يكون من الوجيه النظر الى متبقيات الشيوعية الماركسية التوهمية وقد دخلت منذ بضعة عقود تازمها الاخير، وصارت خارج الزمن والحقيقة، بينما الانهيارات شرقا كما قد وقعت في الاتحاد السوفياتي، وغربا كما هو متوقع من هنا فصاعدا، مع المنتظر من الاضطرابيه الشاملة ل" المجتمع المفقس خارج الرحم التاريخي" والذي من دون تاريخ بيئي ولا طبقات، الامريكي، مامن شانه لفت الانتباه للحقيقة التحولية العظمى، مابعد الطبقية المنتهية الصلاحية، على امل اعتماد المنحى التحولي المجتمعي، بدل الطبقي العارض، واللاارضوي، محل الجسدي اليدوي الارضوي.

لاشك ان ارجاء المعمورة سوف تهتز يوم يعلن عن بداية وانطلاق اول اجتماع تداولي لاارضوي، يقرر بموجبه الشيوعيون الامميون من العالم اجمع، تبني التحولية الكونية العظمى اللاارضوية العقلية، بغية وضع الاسس والموجبات والاسباب الضرورية والممكنه، مع الواجبة الابتداع والكشف، بناء على الظروف والاشتراطات الناشئة، بالضد من كل ماله علاقة بالمنظومات العقليه والتنظيميه الارضوية، دولا وقوميات وكيانات، و انتاجية ارضوية، وكل هذا ولاشك سوف يستوجب عملا من نوع فريد وغير مالوف، لاينبغي التوقف دونه، او قبول العزوف عنه، او عدم المسارعه لجعله مهمه المهام الكبرى.

وفي العراق حيث تتزايد الدلائل والاسباب القائلة بانتهاء المجتمعية الارضوية، مع الافتقاد الكلي لاي مرتكز كياني او تنظيمي وطني، فضلا عن الاساس التصوري، فان الانبعاثية اللاارضوية هنا تاخذ مدى مختلفا، موصولا بالتجربة الحية المعاشة الراهنه المقترنه بالمقدمات الالية الانتقالية، وحضور الغرب المباشر الى هذا الجزء من العالم، وماتسبب به من صعودها قبل انتكاسها،مابين الثلاثينات والستينات، وصولا الى اللحظة الحالية، حيث الاستحالة الكيانيه المجتمعية تاخذ بالحلول على مستوى المعمورة، وممكنات واحتمالات الانقلابيه العظمى، تتحول الى حقيقة موضوعية راهنه ومخرج.

ـ يتبع الحلقة الاخيرة ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

يحصل الانقلاب الالي ابتداء في الموضع الارضوي الازدواجي الطبقي كمقدمه وعتبه اولى ضرورية قبل اكتمال  الانتقال الالي ومغادرة الطور اليدوي كليا، وهو مايظل متاخرا بانتظار التفاعلية المجتمعية مابين ارضوية ولا ارضوية هي الطرف المعني بالعملية الانتقالية الكبرى كما كان الحال ابتداء، يوم تبلورت المجتمعات في ارض سومر جنوب مابين النهرين بعد مرحلة انتقالية مابعد "الصيد واللقاط"، فلم تصبح المجتمعية متبلورة الا ضمن الاشتراطات فوق الارضوية الدالة على مابعد يدوية، وعلى ماتوجد المجتمعات لبلوغه بعد الطور اليدوي، وهو مايظل العقل البشري دونه قاصرا وعاجزا عن ادراك منطوياته، فضلا عن كشف النقاب عنه وعما مضمر فيه، لتظل الارضوية ومنظورها ومفهومها للحياة والوجود، ارضوية هي الغالبة مادامت اللاارضوية غير قابلة للتحقق الاني في حينه، لنقص في الوسائل المادية والادراكية الضرورية.

 ومع  مايحكم اللاارضوية من ديناميات الدورات والانقطاعات والاصطراعية الازدواجية اللاارضوية الارضوية، كما هي مصممه من قبل الطبيعة والبنيه النمطية في الطريق الى التحقق مابعد الارضوي، تنتهي الدروة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية بالاحالة الى الدورة القادمه باعلان "الانتظارية"، ويصير التاريخ من يومها محكوما للعبور من هيمنة الارضوية  مع تحقق شرط الانتقال من اليدوية، وهو مايوكل الى الازدواجية الارضوية الطبقية الاوربية فتح الباب باتجاهه، بعد ان تقوم الازدواجية اللاارضوية واقتصادها التجاري الريعي العالمي ومركزه  العاصمه الامبراطورية بغداد، بتهيئة الاسباب للاصطراعية الطبقية على الطرف الاخر من المتوسط، تلك المسدودة النهاية لان تدخل زمن التفاعلية القصوى الاصطراعية، وصولا لانبثاق العامل والعنصر الثالث من خارج العملية الاصطراعية الطبقية، حين ينتقل المجتمع ساعتها من تفاعلية وديالكيتيك (البيئة/ الكائن البشري) وهو مايتوافق مع الطور اليدوي، الى (البيئة / الكائن البشري / الالة) مايعني انبثاق مجتمعية اخرى غير تلك التي ظلت قائمه ومستمرة حتى حينه.

  ويعني ذلك وهو مالم يتم الانتباه له او ملاحظته، بدء  عملية  تبلور وظهورالصيغة الثانيه من المجتمعية، الامر الذي لايمكن توقع انبثاقه فورا من دون  مسار تفاعلي تاريخي، يبدا باستمرار الغلبة الموروثة من الطور المنقضي الارضوي  على مستوى الرؤى والمنظور ومايتعلق بجوهر وحقيقة الالة وانعكاسها على المجتمع، فينظر الى الحاصل وكانه تتابع بديهي من "اليدوية"، الى "الالية"، بمعنى التبدل في الوسائل وحسب، وهو ماسيحكم ويظل غالبا على الرؤى الاوربية،  مع ضخامة المنجز المتحصل من الانقلابيه الاليه، بحكم تسريعها للاليات المجتمعية، ومايرافقه من تعاظم قدرات وقوة مفعول في المجالات كافة، الامر الجدير بتهيئة الغلبة شبه المطلقة للتفكرية والنموذجيه الغربي على مستوى المعمورة، خصوصا وان الغرب الاوربي هو موضع الانبجاس الالي الابكر، سوى انه الموضع الازدواجي الاعلى ديناميات اصلا ضمن نمطيته ونوعه المجتمعي الارضوي.

 هكذا تحتل المروية الاوربيه للواقع الحاصل مكان الحقيقة التوهميه الكبرى، تظل مستمرة لمايزيد على الثلاثة قرون، تتركز خصوصا مع القرن التاسع عشر الذي عرف اكتشاف الاصطراع الطبقي وشكل التحولية النظري المواكب له، والمستند اليه، بمنظور الارضوية الآنيه قبل الانتقال الى المجتمعية المفارقة لليدوية، ومابعدها نوعا وفعالية واستهدافات، واذ تتشكل رؤى ونظرة من نوع الماركسية، فان العامل الفعال الدافع فيها يكون  متعديا لها وناتجا عن دفع العنصر الجديد الفاعل في البلنيه المجتمعية، الذاهب ابعد من نطاق الارضوية ومنظورها التحولي الارضوي، ممثلا بالانتقال المفترض الى الشيوعية انطلاقا من المرحله الاولى بين المراحل التاريخيه الخمسه، بدءا من الشيوعية الاولى.

  وهكذا تعطي اللاارضوية في المرحلة اليدوية رؤية ونموذخا من عملية الانتقال الآلي متعديا له، وذاهبا الى مابعده، وماهو موصول بالمرحلة الحالية الانتقالية، من اليدوية في طورها النهائي المكتمل، بعد ان تسقط وتنتهي متبقيات الموروث القصوري الارضوي الموروث، ومع هذا فان الظواهر الانتقالية على توهميتها تاخذ بعدا غير عادي على مستوى الاعتقاد والقناعات والممارسة، بينما تنشا ظاهرة لم يسبق ان قاربها من حيث الامتداد الكوني الاعتقادي، غير الابراهيمة اللاارضوية بصيغتها النبوية الاولى، مع تبلور الحركة الاممية وامتداد احزابها الموحدة التصور والاعىتقاد والوسائل، الامر الذي  لايمكن حتى مع اقتراب الرؤية المشار اليها من انتهاء الصلاحية، ان يعامل خارج الاطلاقية الاعقتادية خارج الانقلابيه المجتمعية، كما هو حاصل الان بعد انهيار التجربة الروسية والمعسكر المسمى بالاشتراكي، فلا يخطر على البال نوع  التحولية الفعلية مابعد الارضوية اليدوية المتلازمه مع الانتقال الالي، والمتلازمه معه.

  هذا مع ان المنظور التحولي الارضوي، يلتقي متداخلا مع اللاارضوية المنطوية على اسباب الانقلابيه الالية مع شرط مغادرة اليدوية النهائية، واذ تتوزع الماركسية نظريا على اوربا وعمليا تطبيقيا افتراضيا  لينينيا في الحالة الروسية، فانها تصبح لاارضوية مع بلوغها ارض التبلورية الاولى اللاارضوية في العراق، فاذا بها في موضع يتعداها افقا ومنطوى وغاية، واذا بالحقيقة المجتمعية التاريخيه البدئية تتعدى الموضوعات النظرية الجاهزة المنقولة، وفي موضع يفترض انه "ديني" قبلي بنية، تخترق اللاارضوية كل الاعتبارات لتحيي كوراجينا وحمدان قرمط، والاسماعيليين والخوارج والانتظاريين، مؤكده قرب التحقق النهائي، خلال ثلاثة عقود انتهت بعدد شهداء ومعتقلين يعادلون ضعف عدد اعضاء الاحزاب الشيوعيه في الشرق الاوسط، في وقت حضرت فيه ابان ثورة 14 تموز حاله من الانقلابيه الكبرى الغامرة سحقت الصيغة الافنائية المسلطة عليها من الاحتلال الغربي البريطاني ونموذحها، مع مرويتها التوهمية كدولة، لتصطدم بالقصورية التاريخيه مكررة عند المحطة الاخيرة ماقبل التحققية، فاذا بالنظرية الجاهزة المعتمده تسقط في امتحان  فتح  بقوة"ضرورة النطقية الغائبة" باعتبارها هي التحولية العظمى المؤجله، وبينما يخرج يوم 1/5/ 1959 مليونا ونصف المليون متظاهرة ليس اقل من نصفهم اميون، في مجتمع لم يتعد عددا السبعة ملايين يطالبون "حزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم(ي) يرفع الافندويون شعارات "مهام الثورة الوطنيه" مقررين الانفصال عن شيوعية اللاارضوية الى الشيوعيه  الارضوية عجزا وقصورا وانبهارا بالمتحقق الغربي بلا نظر للواقع بل باتخاذ خيار معاكسته والعمل ضد آلياته .

 ومن يومها والشيوعية تبحث عن المنظور اللاارضوي التحولي حيث الانقلاب الاعظم الكوني، وحيث يبدا المتغير الشامل على مستوى المعمورة متطلبا من هنا فصاعدا انتقالا الى الطور الثاني من التحولية المجتمعية، تنزع عنده التحولية الارضوية الدنيا الماركسية اللينينيه، وهو مايفترض بالقوى حاملة لواء التحولية الانفة الى اليوم، ومنذ البيان الشيوعي ان تبدا باعتبارها النواة العالمية الجاهزة والمهياة لان تتعرف عليه، تحت عنوان الانتقال من " التحولية الارضوية" الى "التحولية اللاارضوية"، بناء على، ووفقا لحكم الانقلابيه التاريخيه المجتمعية الموافقه للقانون المجتمعي،  التحولية  غير المزال عنها النقاب، ودالة القصورية العقلية التاريخيه الاكبر .

  ـ يتبع ـ   

***

عبد الأمير الركابي

 

نحن الآن في عصر «الثورة الصناعية الرابعة». أطلق هذا الاسم في 2016 بوصفه تعريفاً للتحول العميق الناجم عن ثورة الاتصالات والذكاء الاصطناعي، وتوسع التقنيات الرقمية الذي قلّص المسافة بين المادي والافتراضي.

هذا ليس مجرد اسم يطلق لغايات إجرائية أو بلاغية. تنسب «الثورة الصناعية الأولى» إلى اختراع المحرك البخاري في 1765، ومنذئذ شهد العالم آلاف الاختراعات والكشوف العظيمة. لكننا نتحدث عن أربع ثورات صناعية فحسب. لأن اسم الثورة الصناعية لا يطلق إلا حين يتيقن العلماء أن حياة البشر بكاملها تتغير.

نسمي التحولات الكبرى «ثورة» لإيضاح طبيعتها الواسعة والسريعة. فهي ليست نمواً تدريجياً، بل هي تحول انقلابي شامل، يتحرك بتسارع ملحوظ، على مدى زمني قصير نسبياً. أما وصف الثورة بالصناعية، فمبرره أن حقيقة التقدم تتجلَّى - وفقاً للمفكرين - في تحول البشر من استعمال الأشياء الموجودة إلى ابتكار وصناعة أشياء جديدة. فالفتوحات الصناعية هي جوهر فكرة التقدم. لا بأس بالإشارة هنا إلى أن هذا المفهوم يقترب كثيراً من نظرية توماس كون، المفكر الأميركي المعاصر، الذي جادل بأن العلم يتطور على نحو انقلابي، وليس بشكل تدريجي، وأنه حين تحدث الثورة العلمية، فإنها تجرف معها البنى العلمية والاجتماعية، والمعايير التي كانت سائدة قبل ذلك.

نحن إذن نطلق اسم «الثورة الصناعية» على السنوات التي شهدت تحولاً جذرياً وكاملاً في وسائل الإنتاج ومحاور الاقتصاد في كل بلدان العالم، وتحولاً لامس تفاصيل حياة الأفراد والجماعات دون استثناء. الثورة الصناعية الأولى أدخلت الآلة في الحياة اليومية، فتغلبنا على قيود الجغرافيا، مع القطار والباخرة. كما استطعنا حمل الأثقال التي كانت مستحيلة في الماضي. وفهمنا العلاقة بين الماء والهواء، وما يترتب على تحويل الماء إلى ما يشبه الهواء أو العكس.

حسناً... اسأل نفسك الآن: كيف ستكون حياتك لو لم نعرف الصين واليابان وأميركا وأوروبا؟ وكيف ستكون حياتك من دون المنتجات التي تأتينا من تلك البلدان؟ وهل كان هذا ممكناً لو لم نعبر المحيطات؟

ربما نحتاج لتخيل الحالة المعاكسة كي نفهم الصورة بشكل أوضح: تخيل أنك استيقظت صباح غد، فأخبرك الناس أن مصادر الوقود والطاقة ستنقطع مدة عام واحد فقط، وبالتالي فلن يكون في البلد كهرباء ولا آلات. أقترح عليك أن تنفق 3 دقائق في الإجابة عن سؤال: كيف سأعيش عاماً كاملاً من دون كهرباء أو وسائل نقل أو أجهزة اتصال أو وقود. ثلاث دقائق تكفي للتوصل إلى جواب.

كان كارل ماركس قد أكد على اختلاف ذهنية الفلاح عن زميله العامل في المصنع. وعدّ عمال الصناعة قوة تغيير، لأنهم تغيروا فعلاً أو أنهم في طريق التحول. وأرجع هذا الاختلاف إلى التفاعل اليومي للعامل مع قنوات الحداثة، من خلال المكائن وما تعنيه من مفاهيم ونظم عمل تنتمي للعصر الحديث، بخلاف الفلاح الذي كان - حتى ذلك الوقت - يقوم بعمله مستعيناً بالحيوانات فحسب.

كرّر هذه الفكرة أيضاً عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، حين لاحظ الفرق بين عمال المصانع البروتستانت، ونظرائهم الكاثوليك الذين احتفظوا بالحرف التقليدية. ورأى أن العالم يتغير بوضوح في الجانب الأول، بينما يبدو ساكناً في الثاني.

نعلم الآن أن كل نظام اقتصادي ينتج ثقافته الخاصة ومنظومة معاييره، كما ينتج نظام العلاقات الداخلية بين أعضائه. وبالاعتماد على هذا وذاك، فإنه يقيم عرفه الخاص ونظام توزيع مصادر القوة والسلطة فيه. الاقتصاد الصناعي له ثقافته وأعرافه، مثلما كان لسلفه الرعوي والزراعي أعرافه.

لا تمكن استعادة العصر السابق للآلة، ولا العصر السابق للكهرباء أو الهاتف، كما لا يمكن استرجاع العصر السابق للكمبيوتر، لأن الأعراف التي سادت حين ذلك، تلاشت فعلياً أو ما عادت قادرة على الحياة في ظل التحول الجاري.

أنا وأنت وكل الناس يتغيرون، لأننا جميعاً نريد العيش في عصرنا. ولو حاول أحدنا أن يصطنع نظام معيشة يشبه العصور السابقة، فلن يكون سوى شيء قريب مما يفعله رسامو الكاريكاتير، حين يتخيلون شيئاً يشير إلى الواقع، لكنَّه بعيد عنه جدا.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

مع حدث من نوع الانهيار الذي لحق ب "الاتحاد السوفياتي" عند نهايات القرن المنصرم، دخلت مسالة الادراكية البشرية لحظة فاصلة اخرى من لحظاتها المواكبه لعملية الانتقال الالي ومامترتب عليه من مواكبه تصورية وادراكية، يفترض بها الذهاب الى حيث تتم مغادرة الاثار والمتبقيات اليدوية الشديدة الوطاة،  اخذا بالاعتبارطول امدها، ورسوخها المجتمعي والتصوري الادراكي،  الامر الذي كان متوقعا له ان  يولد توهمات آنية، بنت لحظتها، شاعت اوربيا حيث الانبجاس الالي الاول في مجتمعية ارضوية، لتعم العالم مولدة عملية تفاعلية انتقالية نوعية كبرى، كان لابد لها من ان تاخذ المدى اللازم من التشكلية الاضطرابية، وصولا الى ماهو مطابق فعلا للانقلاب المبتديء بالانتقال الى الالة المصنعية الافتتاح، مع مترتباتها وممكناتها وماتتيحه المجتمعات الارضوية من ممكنات ادراكية.

وفي موضع هو مجتمعيا "ازدواج طبقي"، كان من المتوقع ان تبزغ تحت طائلة المتغير الحاصل، والاحتدامية الطبقية المتولدة عنه بسبب طبيعته ومترتباتها المعاشة، القفزة الكبرى غير العادية وعيا، ومحاولة ادراك، تجلت مع القرن التاسع عشر بنظرية "الصراع الطبقي" كمقاربة غير عادية لمامفترض  ومنتظر من العقل البشري، ومن قبيل الانتقالة، التي  تقارب وعي الذات، والذهاب الى عالم ادراك الشروط المعاشة والتاريخانيه الكامنه وراء الظاهرة المجتمعية، بما اوحى وكان الكائن البشري لم يعد "يصف" وحسب  ماهو فيه ومايعيشه، بل صار معنيا وقادرا على "تغييرة"، بما انه قد قارب  الكشف عن القانون الخفي  القابع وراء المجتمعية والياتها، ومحركها التاريخي الذاهب الى الغرضية او الهدف المضمر في الظاهرة مدار البحث.

وفي المقاربة التوصيفية، تتخذ الافتراضية المقصودة كما وضعها ماركس، لحظة توحي بالانتقال البشري، من طورتاريخي  يعود بدءا الى الخلية الاولى وما قد تبعها من تحولات الكائن الحي الحيوانيه، وصولا الى الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية، حين ظل الكائن الحي محكوما بلا وعي، ومن دون مشاركة بما هو مقرر عنه من خارجه، وماتضطلع به عوامل الطبيعه و "ديالكتيكها" كذاتيه مغفله، غير مدركة لاليات وجودها، الامر الذي استمر قائما حتى بعد انبثاق العقل وماقد مر به، وصولا الى التبلور المجتمعي الاول البدئي، على مدى  الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، الى ان كان الانتقال الى الاله،  وقد جاء لينهي طورا استمر لمليارات السنين من التشكلية الحياتيه البشرية، الكائن البشري والحي فيها مجرد موضوع خارج الادراكية الذاتيه، يبدا مع "المادية التاريخيه" طورا وزمنا مختلفا كليا، كان الكائن البشري فيه، يصير مهيئا  للحضور الفاعل بما يتعلق بذاته ومسارات وجوده.

هذا يعني انه قد غدا من الوجيه اعتبارمانشير اليه كمنجز على مستوى الوعي، بمثابة انقلاب اكبر، يفوق من حيث الاهمية والدلالة حتى انبثاق العقل وحضوره بعد ملايين السنين التي لاتحصى التي قضاها وهو مضمر ومدفون تحت وطاة الغلبة الجسدية الحيوانيه المطلقة، وتتجلى هنا وبهذه المناسبه، حقيقة متعلقة بالعقل، كما باجمالي البنيه البشرية و " ازدواجيتها" غير المكشوف عنها النقاب كخاصية كينونة، يستدل عليها بمتابعه الحضور العقلي الانبثاقي الاول، عندما يظهر العقل ويصير حاضرا  بعد طول انطواء، وصولا للحالة الافتراضية الاعلى التي يتحول عندها الى قوة ادراك للذاتيه البنيوية الفردية البشرية والمجتمعية، بعد الطور المجتمعي بصيغته الاولى اليدوية الارضوية الجسدوية، وغلبتها اشتراطات وممكنات على العقل المستجد الحضور بعد ملايين السنين من تاريخ الغلبة والهيمنه  السابقة المطلقة للجسدية وللاليات الطبيعية البرانيه ومتبقياتها، باعتباره محوروغرض عملية النشوء والترقي وليس الجسد.

ولاشك بان المطمح الماركسي المرتبط بالانقلابيه الافتتاحية الالية قد رسم بحدود ماهو متوفر له، وما قد نطق عنه وبناء لاشتراطاته، افقا متعديا لنطاقه بذاته متوجها الى منطويات ابعد، ماثلة في الكينونه الاليه البشرية المطابقة للمنطوى الابعد الوجودي البشري، علما بانها قد ولدت متوافقه معه ومن قبيل الدلالة غير العادية عليه، ومع قوة  مفعول الجانب الطبقي، الا ان  الذهاب  الاقرب للقطعية  باتجاه الغرضية والهدف النهائي  المكتوب، والمصصمه بنيه المجتمعية لكي تبلغه، هو جانب ابعد من المادة المباشرة، مرتهن للحيوية  والديناميه الوجودية الاشمل، وهي هنا قد لاتكون مرهونه فقط بساعتها وبالعناصر التي ارتكزت لها واللحظة التي ايقظتها، ومع اخذ  مجمل الاليات والمحركات المجتمعية كوحده، تاتي التحولية الطبقية الاولى الاوربية كافتتاح وعتبه اولى،  واشارة الى التحولية العظمى مابعد اليدوية اللاارضوية، لم تكتمل ملامحها بعد.

لقد حدث مالم ينتبه له احد في ساعته والى الان في الموضع اللاارضوي الرافديني اليوم، حين تمازجت التحولية الابتدائية الطبقية، بالبنية التحولية اللاارضوية لتنتج شيوعية مختلفة عن تلك التي عرفها العالم في القرن العشرين، بما في ذلك تحولها الى اطار واساس لانقلابات كبرى، تحولت الى نظم فاعلة ومؤثرة على مستوى المعمورة، ادخلت العالم طورا من "القطبيه" منع الاستبدادية النموذجية الراسمالية من ان تكون مفردة،هذا في حين غاب عن الملاحظة مرة اخرى جانب هام وظاهرة  حرية بالتوقف،  ماكانت لتوضع بالاعتبار مع ماكانت تقتضية من انقلاب في المنظور والرؤية، مابين حال غالب في حينه محكوم للتحولية الطبقية الارضوية، وديناميات التفاعل بين التحولية المذكورة، والاخرى التي ماتزال مطوية مع انها هي الجوهر الذي اليه تؤول العملية التحولية المجتمعية البشرية، مع الانتقال من اليدوية الى مابعدها، الامر الذي كانت ساحته ارض مابين النهرين ارض اللاارضوية.

وقتها كان المنطق السائر والقابل للاعتماد يقول يوم وجدت نواة الشيوعية اللاارضوية في الناصرية، ارض سومر التاريخيه الانبعاثية الراهنه الثالثة "المنتفك" بالطبقية المعممة على العالم، على اعتبار ان "تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريح صراع طبقي" بحسب موضوعه ماركس الشامله القاطعه، مع استحالة التفكير بكون "تاريخ المجتمعات ماهو الاتاريخ انتقال تحولي من المجتمعية الارضوية الجسدية الى العقلية" وهو القانون الاساس الناظم للوجود البشري وقد اقترب بعد العتبه الاولى من الانقلاب الالي، من مابعد مجتمعية ارضوية، ومنها  وفي مقدمها الطبقية الاوربيه، موضع الافتتاح  التحولي الانتهائي للمجتمعية الارضوية على مستوى المعمورة، بانتظار انتهاء مفعول الطور المصنعي من الانقلاب الالي، وبحكم الانتقال الى التكنولوجي بحقبه وتعدد انواع فعاليته.

وقتها كان" فهد" يوسف سلمان يوسف، يجد في لنين والبلشفية مرتكزا للتمايز عن شيوعية العاصمة "الافندوية"، عاجزا موضوعيا عن التمييز بين "شيوعيه لاارضوية عراقية" نتاج الكينونه والبنية المجتمعية اللاارضوية، وشيوعيه هي بالاحرى مااعتقده بانه ليس لينينيا او ماركسيا بحسب الفارق بين " مناشفه" و"بلاشفه"، وماقد فرق بين عنصرية بكراسه " حزب شيوعي لااشتراكيه ديمقراطيه"، ففهد وامثاله ونوعه ليسوا ابناء واقع، ومسار تفكيرهم ليس انعكاسا لحقيقتهم المجتمعية،  بقدر ماهم ابناء "نظرية" و"انموذجية كيانيه" مستجلبة مستعارة جاهزة، من خلالها يصطنع الواقع، وتجري عملية اخضاع نمطيتة  مع صنفها التاريخي  الاستثناء، غير المكشوف عنه النقاب،  الباقي متعديا لما متاح للعقل البشري من قدرة على الاحاطة.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

إنها المأساة ذاتها التي تعود إلى مسرح الوعي العربي بين الفينة والأخرى، كالفيلم السينمائي الذي أعادت قنوات الفكر العربي عرضه مراراً، لا لأن فيه من الجودة ما يستهوي النفوس، بل لأن فيه من الإثارة ما يجذب المشاهدين، ويملأ جيوب المنتجين. وهل يهم أولئك المنتجون ما يحدث من معارك فكرية تدور رحاها في صالات العرض أو مقاهي المشاهدة؟ كلا، فالمهم عندهم هو الربح المادي، أما الحقيقة الفكرية فتبقى أسيرة هذا الصراع المصنوع .

أتحدث هنا عن قضية الكاتبة فاطمة ناعوت، لا لأنني أريد الدفاع عن رأيها، فإني لا أتبناه ولا أؤيده، بل لأنني أريد أن أناقش ما أسميته "محنة العقل" حين يواجه المقدس. لقد رأت ناعوت في شعيرة الأضحية ما وصفته بـ"المذبحة" السنوية"، فوقع عقلها - ذلك العقل المحدود بطبيعته البشرية – في فخ الافتتان الذاتي، فلم ير إلا ما تتصوره قدراته الضيقة، ولم يستطع تجاوز إدراكه الخاص إلى الحكمة الإلهية التي قد تكون وراء هذا التشريع .

ولعل ما دفع ناعوت إلى هذا الرأي هو ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من تشويه لصورتها على يد جماعات التطرف والإرهاب، تلك الجماعات التي تصور الإسلام على أنه دين القتل والذبح.

لكن هذا لا يبرر عدم تحرز الكاتبة في عباراتها، ولا يعفيها من مسئولية التدقيق في كلماتها لئلا تفتح الباب أمام سوء الفهم .

عقلية القطيع الفكري..

أما "عقل المحنة" فهو ذلك العقل الجمعي الذي يتحرك كالقطيع حين يسمع صوتاً يخالف المألوف. وما إن يصدر رأي فردي حتى تتحرك جيوش هذا العقل الجمعي لسحق الفرد وتدميره، وكأنهم كهنة معبد قديم يحرسون قداستهم المتوهمة. إنهم لا يكتفون بمجرد الرد على الرأي المخالف، بل يسعون إلى إهدار كرامة صاحبه وإنسانيته .

شجرة الكفرة وحجارة المؤمنين!

لقد حولت هذه المعركة المفتعلة الكافر - في نظر المتطرفين - إلى شجرة مثمرة ينتظرون ثمارها ليتاجروا بها، وحولت المؤمنين إلى مجرد رماة أحجار مسمومة. أليس من العجيب أن نرى آلاف التعليقات التي تخرج أصحابها من دائرة الأخلاق الإسلامية التي أمرنا الله بها؟ أين هم من قوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم"؟

دعوة إلى التأمل..

على "عقل المحنة" أن يراجع نفسه، وعلى رجالات الفكر أن يتدخلوا قبل أن تتحول كل أزمة فكرية إلى مذبحة إعلامية. وفي الوقت نفسه، على الكاتب أن يدرك محدودية عقله البشري حين يتناول المقدس، فلا يغتر بذاته، ولا يتصور أنه قادر على إدراك كل الحكمة الإلهية الكامنة وراء التشريعات الدينية .

لقد أخطأت ناعوت بلا شك، وحاولت توضيح موقفها، لكن الافتتان الذاتي حال دون ذلك. والدرس الذي نتعلمه هنا هو أن علينا أن ندرك حدود عقلنا البشري حين نخوض في المسائل الدينية، فلا نغالي في اعتراضنا، ولا نغلو في ردنا على المعترضين .

المحنة والمحاكمة..

ما أشبه معارك الفكر اليوم بمعارك الكهنة في المعابد القديمة، حيث يحاكم كل من تجرأ على مساءلة المقدس، لا بالحجة والبرهان، بل بالتكفير والتشهير. فـ"فاطمة ناعوت" لم تكن أول من وقع في هذا الفخ، ولن تكون الأخيرة، لأن المشهد يتكرر كلما تجرأ عقل على طرح سؤال، أو عبر عن رأي يخالف السائد. والسائد هنا ليس بالضرورة الحق، بل هو ما تكرس في الأذهان بفعل التلقين والترديد، حتى صار مقدساً لا يمس.

لقد وصفت ناعوت الأضحية بـ"المذبحة السنوية"، فكان رد الفعل كمن ألقى حجراً في مستنقع آسن، فتناثرت حوله كل مخلوقات الظلام، لا لتناقش، بل لتهاجم. وهنا تكمن المفارقة: فبينما يدعي المدافعون عن الدين أنهم يحمونه، فإنهم في الواقع يحولونه إلى ساحة للصراع، حيث تسحق العقول قبل أن تفحص الحجج.

لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا أن كل حركة فكرية تقدمية واجهت مقاومة شرسة من قبل حراس التقليد. فسقراط أُجبر على شرب السم لأنه "أفسد الشباب"، والحلاج صُلب لأنه تجرأ على القول بـ"أنا الحق"، وابن رشد نُفي، وكتبه أُحرقت. واليوم، لا يختلف الأمر كثيراً، إلا أن أدوات القمع تطورت من السيف إلى "التكفير الإلكتروني"، ومن المحارق إلى "الفضائيات".

والسؤال الذي يجب أن نطرحه: لماذا هذا الخوف من النقد؟ هل الدين ضعيف إلى درجة أنه ينهار أمام سؤال؟ أم أن المشكلة في فهمنا للدين، الذي حولناه من رسالة تحرير للعقل إلى مجموعة من الطقوس التي لا يجوز المساءلة عنها؟

الخطيئة الكبرى

المشكلة ليست في أن ناعوت قد تكون أخطأت في التعبير، بل في أن المجتمع لا يسمح حتى بالخطأ. فما إن يُطلق أحدهم رأياً مخالفاً حتى يُحاصر بجيش من "المفتين" الذين يحكمون عليه بالكفر قبل أن يفهموا ما قال. وهنا يتحول النقاش من حوار فكري إلى محاكمة دينية، حيث يُستدعى التاريخ كله ليدين فرداً تجرأ على كسر التابو.

والأخطر من ذلك أن هذه الآلية لا تُستخدم فقط ضد "الليبراليين" أو "المتشككين"، بل حتى ضد علماء الدين أنفسهم إذا خالفوا السائد. فكم من عالم اتهم بالزندقة لأنه فسر آية بتفسير جديد، أو لأنه تجرأ على القول بأن بعض الأحاديث ضعيفة؟

هل يمكن الخروج من هذا المأزق؟

إن الخروج من هذه الدائرة يتطلب أمرين:

1. الاعتراف بحق الاختلاف: فالدين ليس ملكاً لفئة دون أخرى، والنقاش حوله يجب أن يكون مفتوحاً لكل عاقل، دون اتهامات مسبقة.

2. الفصل بين النقد والتكفير: فليس كل من انتقد شيئاً في التراث الديني كافراً، وليس كل من طرح سؤالاً خائناً.

أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسنظل ندور في حلقة مفرغة: كلما طرح أحدٌ فكرة، هاجمه القطيع، وكلما هاجمه القطيع، زادت الفجوة بين العقل المفكر والجمهور المُفَكر فيه.

العقل سيف ذو حدين

العقل نعمة، لكنه قد يكون نقمة إذا تحول إلى أداة قمع بدلاً من أن يكون أداة تحرير. وناعوت هنا ليست أكثر من حلقة في سلسلة طويلة من الصراع بين من يريدون التفكير بحرية، ومن يريدون أن يُفكروا الآخرين نيابة عنهم.

فهل نستطيع أن نخرج من هذه المعركة بأقل الخسائر؟ الجواب يعتمد على ما إذا كنا مستعدين لأن نعترف بأن الدين أقوى من أن يهزه سؤال، وأن العقل أقدس من أن يُسجن في زنزانة اليقين الجمعي.

***

عبد السلام فاروق

من نافلة القول أن نذكر قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) بما يؤكد أن الإنسان محاسَبٌ شرعًا على قوله، مثلما هو محاسَبٌ على عمله، وهنالك آيات أخرى وردت في القرآن الكريم أشارت إلى مذمومية القول وأثره السلبي على فئة من المجتمع بتألبيه لهم على الشر بشتى مجالاته أو ترويجه، وقوله تعالى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) لَدليلٌ على ذلك الذم القرآني.. والأحاديث النبوية والمأثورة عن عترته والصالحين كلها تؤكد هذا الجانب.. وحين تؤكد أهمية القول وأثره وترتيب الأثر عليه في حال أدى إلى الخير من نفعٍ في مختلف المجالات، أم أدى إلى الشر من إضرار في مختلف المجالات، إنما تؤكد لنا بوضوح قيمة الإنسان وما يصدر عنه وأثره في مختلف الأحوال.

ولذلك فلا بد للإنسان - الذي يستشعر فعلاً واقعا إنسانيته - من مراعاة نفسه أولا قبل الآخرين بما يصدر عنه من قولٍ يعلي شأنه ويرفع مقامه في نظر الآخر، حتى حينما ينتقد ظاهرةً سلبيّةً في نظره، لا بدّ له من إيلاء الاهتمام بهذا القول الذي يصدر منه، فيحسب ألف حساب له من إيصاله للآخر - الظاهرة التي ينتقدها أو الشخص المنتقَد - بطريقة ذكيّة ولمّاحة في طرحها بما يُشعِر المنتَقَد بقيمته واحترامه من قبل الآخرين وأهميته لهم..

ونصل إلى عصر التكنولوجيا، عصر الازدهار الرقمي، عصر الذكاء الاصطناعي، الذي ينبغي أن يساوقه ازدهار أخلاقي من بني الإنسان صانع التكنولوجيا، والذي تحقق على يديه ما نشهده من ازدهار رقمي، وذكاء اصطناعي يفترض أن يعادله فطنةٌ في الطبيعة الإنسانية تؤتي أكلها عليه بأن يحسب لقوله الصادر عنه، ما يحسبه من تأثير مضاعف في الآخرين، فإن كان القول في السابق يذهب مع الريح فور انطلاقه من الفم، وتتناقله الألسن ولا يملك صاحبه في حال انتشاره بين الناس إلا الندم لما فيه من إساءة أو تشهير أو تشويه سمعة بالباطل، مثلما كان للشاعر في العصر الجاهلي أن يصرح بذلك في قوله:

نَدِمْتُ على شَتْمِ العشيرةِ بعدَما

     مضَى واسْتَتَبّتْ للُرواةِ مَذاهبُهْ

*

فأصبحتُ لا أسطيعُ رَدّاً لما مضى   

     كما لا يَرُدّ الدَرّ في الضِرعِ حالبه

فإن التقنية الرقمية في عصرنا الحالي تُضاعف ذلك الأثر السلبي على القائل قبل المقول فيه، فلا يمكن - والحالة هذه - إلا أن يرتقي الإنسان في خطابه الذي يُطلقه من خلال منصّته الرقمية، بمراعاته الآخر فيما لا يمسُّ جوهر إنسانيته، ولا يقدح بأمور أخرى لا تمت بصلة إلى أصل الظاهرة معرض الانتقاد، وإلا انكشف قوله ذاك، عن حقدٍ دفين يمارسه بعنوان "الانتقاد" ففي كبسة زر واحدة يمكن أن تسقُطَ في مروئتك، قبل أن تُسقِط الآخرين بحُبالة ذلك القول، وبمنشورٍ واحد غير منضبط في انتقاده يمكن أن يُتيح الفرصة لمن هبَّ ودَبَّ من أشخاص يشاهدون ذلك المنشور، بالتمرُّغ في وحلٍ من القذارات اللفظيّة عبر تعقيبهم عليه في خانة التعليقات، علمًا أنَّ المسيء من هؤلاء، إذا أراد الإساءة وأضمرَها في سِرِّه، قد لا ينتظر المنشور المنفلت عن الذوق الرفيع، بل لديه الاستعداد الكامل أنْ يُلقي قمامته اللفظية في أينع المنشورات وأبهاها منظرًا وجوهرًا، بمعنى أن لا يكون فعلُ مثل هؤلاء المُسيئين في كل الأحوال، حُجّةً تُسوِّغُ للمعترضين على هؤلاء بالامتناع من نشر النقد الهادف والبنّاء، أو تدفعهم لنُصحِ الآخرين من عدم التصريح بانتقاداتهم الهادفة بحُجّة أن هؤلاء المسيئين سينتهزون الفرصة السانحة؛ ليمزِّقوا المنتَقَد - شخصًا كان أم جماعةً أم ظاهرةً - شرَّ مُمزَّق، فهذا ما يعني السكوت المُطبِق عن ما يستحقُّ الحديثُ عنه أو تسليط الضوء عليه، ويدفع ذلك إلى تفاقم مثل تلك الظواهر، أو بمرور الزمن تندرج ضمن المعايير الأخلاقية أو الأعراف المُتّبعة في هذا المجال او ذلك السياق؛ وذلك بسبب السكوت عنها، وعدم تنبيه الغافلين على خطورتها...!

وإذا تمّ لنا تشخيص أهمية القول وأثره في الآخرين، سلبًا كان أم إيجابًا، فإنه في الوقت نفسه - على أي حال - يمثِّل مسبارًا يكشف مصداقية صاحبه من عدمها، ومن ثراء ثقافته من فقرها؛ هذا لأن الثقافة بوصفها "مجموعة من الصفات الخُلُقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه" بحسب تعريف المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي لها، موجودة على أي حال عند الجميع، ولكنها تكشف من يدّعي هذا الوصف اللطيف في مدلوله العُرفي بين الناس، ومن يُمارسه في سلوكه ومواقفه مع الآخرين، إذ يمكن لأي مُنصفٍ إدراك زيف ادّعاء هذا الوصف، لمن يكشف قوله - نشرًا أو تعقيبًا على الآخرين في أقوالهم في الواقع وفي العالم الافتراضي عبر منشوراتهم - عن نزعة أحادية تقوده إلى التعميم في إطلاق الأحكام بحق من يختلف معهم، فيسرد مصفوفةً من الأوصاف الجاهزة بحقِّهم في كلا الحالين - الرضا أو السخط - أو تنحدر به الخصومةُ غير النبيلة، إلى القدح في الأعراض، ورمي الجماعة كلِّها في خانة الإساءة وتشويه السمعة وطمس الحقائق.

أقرأ يوميًّا وبشكلٍ مستمرٍّ، ما يتداوله الناس عبر منصّاتهم الافتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت بديلا عن المقاهي والنوادي والملتقيات التي كان لها حضورها الواضح في المشهد الاجتماعي لا العراقي فحسب، بل العالمي، بفعل تطور التكنولوجيا الحديثة في ميدان التواصل الرقمي، فلا أجدُ إلا النادر من بين تلك "المنشورات" ما يُدلِّل على فهم جيد لخصوصية الآخر في نقد منجزه أو موقفه، إذ الأحكام الجزافية التي تجنح إلى لغة الإطلاق والعموم بما فيها من حمولة ساخطة تضع الجميع - سواء أكان جميع الأفراد في هذه الدولة أو هذه المنطقة أو هذه الجماعة أو تلك الشريحة، أم كان جميع المنجز من دون تخصيص أو حصر مدة زمنية أو موضوع معين ينتمي إليه ذلك المنجز - في سلّةٍ واحدة، وعنوان واحد، وحكمٍ واحد، ومعيارٍ واحد، وتشخيصٍ واحد، كل هذه الأحاديات، تكشف بصورةٍ أو بأخرى عن ضيق ذرعنا بالآخر، وعن نرجسيّتنا التي تُملي علينا هذه التصوّرات الأحادية، وقليلٌ جدًّا من ينفلت من خندق التفكير الأُحادي الذي بمقتضاه يدع فرصةً للآخر أن يختلفَ عنه، أو يسوِّغ له اختلافه عنه في ذلك الموقف، أو ذلك المنجز الذي بحسب تلك الظروف ما كان له أن يكون كذلك. لا سيّما اذا كانت تلك الظروف ضاغطةً بشِدّة تُملي على صاحبها ذلك الاختلاف، أو ذلك النشوز في نظرنا، وبما أدّت إليه من نتائج على ذلك الموقف لذلك الشخص أو لتلك الجماعة.

كتبتُ يومًا منشورًا يسلّط الضوء على خطاب أحد كبار علماء الدين والفلسفة والدراسات العقلية في زيارته للمشاهد المُشرّفة في العراق، يتحدّث فيه مع جمعٍ غفير من طلبة العلوم الدينية، وبعد ترحيبي بهذه الزيارة، قلت إن كلامه فيما يخص توجيه طلبة العلم أن يستلهموا كل المعارف والعلوم من تراث النبي وآله الطاهرين لا الدينية والأخلاقية فحسب، بل كذلك في مختلف المجالات من علوم فلك ومجرّات، وعلوم إنسانية تطبيقية أخرى، في هذا الخطاب إجحاف بحق الآخر الغربي الذي نختلف معه في الدين مثلا وفي بعض العادات والتقاليد التي لا تنسجم وطبيعة الدين الذي نعتزّ بالانتماء إليه، ولكن لا يعني ذلك أن نتقاطع بصورة مطلقة مع منجزه في علوم التكنولوجيا التي لولاها لما كان للمسلمين من مختلف المذاهب يتواصلون الآن فيما بينهم عبر تلك المنجزات، فلا بأس من الاستفادة ممّا توصّلوا إليه من منجزات ترتقي بواقع المسلمين في ديارهم، ولا بأس من نقل تلك الخبرات التي توصّلوا إليها في بلادنا التي تئنّ من الخراب في مختلف المجالات، وليس تلكم المنجزات المعرفية التي توصل الغرب إليها حكرًا عليهم في ظل انفتاح السوق العالمية على مختلف بقاع الأرض، وانفتاح جامعاتها لكل من يريد أن يستفيد من علمائهم وما توصلوا إليه من نتائج مبهرة في مختلف المجالات العلمية، فهل مثل هذا الخطاب الذي يُطلقه هذا العالم الكبير المُبجّل في منجزه، بضرورة الاكتفاء الذاتي من تراث النبي وآله في كل المجالات المعرفية ومن دون تخصيص، ينسجم وروح المدوّنة الدينية التي لو تأمّلنا فيها بتدبّر، لما وجدناها تنهج هذا المسلك، فالنبيُّ في معركة الأحزاب، قد استحسن فكرةً أتى بها الصحابي سلمان استلّها من ذاكرته حين كان في بلاد فارس، وهي فكرة الخندق، هذه الفكرة ليس عليها مسحة دينية، أو لم تخرج من بودقة تراث النبي وآله الطاهرين، ولكنها فكرةٌ عمليّة أدّت أثرها الستراتيجي لجماعة المسلمين وحفظتهم من الإبادة الجماعية التي يمكن أن تحصل لهم على يد جموع الأحزاب من الكفرة المناوئين لهم، لم يتردد الرسول في استحسانها، بل سارع إلى تنفيذها، ولم يقل إنها فكرةٌ خرجت من عقلٍ مجوسيٍّ يعبد النار والعياذ بالله.. ! وفعلُهُ هذا إنما يُترجم لنا مدى انفتاحه لمنجز الآخر الذي يصبُّ في نفع الناس ومصلحتهم العامة، وحفظهم قدر الإمكان من الهلاك، وهو ترجمةٌ عملية لأخذ الحكمة أنّى كان مصدرُها، وأيًّا كان صاحبُها. وانتقادي فقط انصبَّ على هذه الجزئية من خطابه، وعلى قضية أخرى طرحها تتصل بهذا الشأن وهي: "أسلمة المعرفة" التي لم تُثبت الوقائع العملية ولا التاريخية ولا العقلية مصداقية هذه القضية، فهي ليست إلا تعبيرٌ عن متخيّل الجماعة التي ترغب أن تكون للمعرفة الإنسانية هويةٌ بنكهة الانتماء الديني الذي تعلنه إزاء الديانات الأخرى.. وهذا لا يعني بخس قيمة منجز هذا العالم الجليل في المجالات المعرفية التي طرقها وألّف فيها، فأحسن وأجاد، ولكن في هذا الموضع من خطابه لا أتفق معه بحسب ما أراه ولعله هنالك توجيهٌ آخر يفنّد ما توصّلتُ إليه، وهو أمرٌ طبيعيٌّ أنْ أُحسِنَ في التقاطي هذه الجزئية فأُسلِّطَ عليها الضوء، أو لا أُحسِن بوقوعي مثلا في استدلالٍ خاطئٍ أدّى بي إلى الوهم أو اللبس، كذلك الأمر يمكن أن يقع فيه أيُّ شخص، وليس هنالك كمالٌ عند الإنسان بصورة مطلقة في جميع المجالات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ولكن ما يؤسف أن أَجِدَ بعض الذين عقّبوا على هذا المنشور، إما أن يُعمِّمَ في نظرته "التقديسية" لهذا العالم الجليل القدر، فيُمعن في تخطئته لي من دون أن يكشف لي بدقّة موضع الالتباس الذي يدّعيه في كلامي الذي ينتقد هذا الموضع من خطابه، وإما أن أجد في التعليق على هذا الموضوع، من يُعمِّم في نظرته "التدنيسية" لهذا العالم الجليل القدر، منطلقًا إما من عقدةٍ طائفية تضادّه بالتوجه المذهبي، وإما من عقدة من الدين أصلاً، إذ لا يعترف أمثال هؤلاء بشيء اسمه دين ناهيك عن لواحقه، من قبيل: رمز ديني، عالم دين،.. الخ فيُمعن هؤلاء بإطلاق الأحكام الجزافية انتقاصًا لا بهذا الموضوع الذي تمّ تشخيصُه، بل بكل ما يتّصل أو يمثّل أو يعبّر عن المجال الذي ينتمي إليه أو يشتغل فيه، والحال نفسه أجده بأقدار قد ترتفع أو تنخفض من التطرُّف في إطلاق الأحكام على أي مجال أو ظاهرة تنتمي إلى أي مجال من المجالات الحياتية المعيشة، فحين يتم التعرُّض من قبل أحدهم إلى ظاهرة في الميدان السياسي، تجد الأغلبية ممّن يتفاعل حول هذه الظاهرة، لا يملكون زمام عقولهم، في تشخيص من المتسبب في هذه الظاهرة..؟ وما العوامل التي أدت إليها..؟ وما الآثار التي تؤول إليها فيما بعد..؟ ولكنهم لم يقصِّروا في تقصير الجميع، ووصف الجميع بوصفٍ واحد، وهذا الشأن نجده أيضا في الحديث عن ظاهرة مجتمعية، أو ظاهرة ثقافية، فمثلا تجد الذين يكتبون قصيدة النثر دائما ما يُطلقون أحكامل عامة حول الشعراء الذين يكتبون القصيدة ذات الشطرين - المُصطلح عليها عرفًا وليس واقعًا بالقصيدة العمودية - بأنّ هؤلاء منبريّون وأن قصائدهم قصائد سلطة، وأن شعرهم هو الذي أتاح للسلطة من التغطرس والعنجهية، وأن قصائدهم ما هي إلا تقليد واجترار لمن سبقهم، ...الخ من أوصاف جاهزة، في قبال اتّهامات جاهزة يُردّدها الكثير من ممثلي الشعر بشكله الموروث، أن هؤلاء - شعراء قصيدة النثر - لعجزهم عن مجاراة الشكل التقليدي للقصيدة كتبوا هذا الهراء - بحسب وصفهم - وأن أكثرهم - وبعضهم يرى الجميع - يعجز عن كتابة جملة مفيدة صحيحة من حيث التركيب النحوي، وأنهم يقلدون الغرب في كتابتهم هذا النمط من الشعر، ..الخ وهكذا الحال في من يشخص ظاهرة في الشأن الرياضي، أو الشأن الاقتصادي، أو الشأن الترفيهي، ..الخ تجد الذين يتطرّفون في تعقيبهم إما بالذمِّ والقدح والانتقاص، أو بالمدح والتنزيه وتصويب المُتحدِّث بأي طريقةٍ وإن كانت على حساب الحقيقة والوضوح..!

وختامًا أقول ما بدأ الجاحظ به كتابه "البيان والتبيين": اللهم إنّا نعوذُ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذُ بك من التكلُّفِ لما لا نُحسِن كما نعوذُ بك من العُجب بما نُحسِن، ونعوذُ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العِيِّ والحَصَر".

***

د. وسام حسين العبيدي

هناك امور كثيرة ومختلفة يحتاجها المواطن الواعي في هذه الوقت ليكمل اختياراته المصيرية في الانتخابات القادمة من خلال الصحوة التي يراد بها الاحياء والبعث والتجديد والتي لها مسؤولية تحدد علاقة الشخص بذاته وتحدد علاقته مع الآخرين ومع مكونات الحياة، والاختيار والمسؤولية هما مفاهيم مترابطة في حياة وهي يستوجب بها حِراك ينهض بأخلاق وسلوك الفرد والأسرة والمجتمع والأمة نهوضاً حقيقياً لا شكلياً لكي لا يكون حِراك يضر ولا ينفع يهدم ولا يبني يخرب ولا يصلح.

ويمكن اللجوء الى الوعي الظرفي في الكثير من الحالات باعتباره أساسًا جوهريًا في اتخاذ قرارات الناجحة عبر مجموعة واسعة من المواقف، التي تشمل الكثير منها حماية حياة الإنسان والممتلكات، بما في ذلك تطبيق القانون، والرعاية الصحية، والاستجابة لحالة الطوارئ، وعمليات القيادة والسيطرة العسكرية، والجهات مشغلة نظام النقل، والدفاع عن النفس وإدارة المؤسسات العامة والخاصة. ويُعتبر الوعي الظرفي غير الكافي أحد أبرز العوامل السببية الرئيسية في الحوادث المنسوبة إلى الخطأ الفردي. وفقًا لنظرية الوعي الظرفي الخاصة والإنسان يحتاج عند مواجهة موقف خطر إلى امتلاك عملية اتخاذ قرار دقيقة ومناسبة بما في ذلك إدراك الأنماط ومطابقتها، وتشكيل المخططات المعقدة والمعرفة النمطية البدائية التي تساعد على اتخاذ القرارات الصحيحة.

لا شك ان الاختيار هو عملية تحديد واختيار واحد من بين خيارات متعددة، فهو القرار الذي يتخذه الفرد بناءً على تفضيلاته وقيمه وأهدافه وظروفه الخاصة، ويعكس القدرة على التفكير وتحليل الوضع واتخاذ القرارات الصائبة وأفضل أنواع القرارات والاختيارات الحياتية الشخصية تتمحور دائمًا حول ما هو بنّاء وايجابي ومجزٍ للإنسان، وبخاصة ما يؤدي الى تطوير شخصيته الى الأفضل وجعل حياته الخاصة ذات قيمة ويستحق العيش فيها بشكل بنّاء.

تشمل القرارات الصغيرة اليومية والقرارات الأكبر والأكثر تأثيرًا مثل اختيار الوظيفة أو شريك الحياة، واختيار الأصدقاء وحتى اختيار السعادة والفرح أو اختيار الصراعات ويمتلك الأشخاص الذين يتمتعون بأعلى مستويات الوعي القدرة على إدراك المعلومات ذات الصلة بأهدافهم وقراراتهم، فضلًا عن قدرتهم على دمج هذه المعلومات لفهم معناها أو أهميتها، إلى جانب توقع السيناريوهات المستقبلية المحتملة أو المرجحة. تلعب هذه المستويات العليا من الوعي الظرفي دورًا جوهريًا في اتخاذ القرار الاستباقي ضمن البيئات المتطلبة.

الإنسان بطبيعته لا يستطيع الإقدام على فعل أمر دونما قناعة أو سبب يدفعه للقيام بشيء ما وهنا يظهر قوة الاختيار والتي هي أداة قوية تمكننا من تشكيل حياتنا وتحقيق أهدافنا؛ فعندما نفهم ونستخدم هذه القوة بشكل صحيح يمكننا أن نكون مسؤولين عن مصيرنا الشخصي ونحقق رضا أكبر، وتعزز الشعور بالتحكم الذاتي والاستقلالية، وتساهم في تحقيق النجاح والسعادة في حياتنا. وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر على قوة الاختيار؛ في التعليم له دور، والمعرفة بمجموعة متنوعة من المعلومات والثقافات يمكن أن توسع الآفاق وتمنح وجهات نظر مختلفة، والعوامل البيئية المحيطة بالفرد يمكن أن تؤثر، وضغوط المجتمع، الثقافة، العادات والتقاليد، والتأثيرات الاجتماعية والثقة بالنفس والاعتقاد في القدرة الشخصية يمكن أن تعزز قوة الاختيار.. فلعل البعض يسأل نفسه في لحظة ما عن الذي يجعلنا ان يتخذ قرارات أصلا هي اختيارات ليست مجرد طفرات عادية، بل هي لحظات فارقة يمكن أن تغير مسار الحياة إلى الأبد. قد تكون لها لحظات تؤثر على حياة الإنسان سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو المهني او الاجتماعي، حتى يمكننا القول بأن كثير من أجزاء حياتنا سلسلة قرارات واختيارات، وهذه القرارات تتفاوت أهميتها؛ منها ما هو مصيري، اختيار شريك الحياة، واختيار الجامعة أو التخصص أو اي عمل دون غيره، وفي المقابل هناك قرارات لا يعبأ لها الشخص، ان القرارات السليمة تعني القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على تحليل شامل للموقف، والاعتماد على المعلومات المتاحة، وتطبيق الخبرات السابقة، لتشمل هذه العملية تحديد المشكلة، وجمع المعلومات، وتعين الخيارات، وتحليلها، واختيار الأفضل، وتنفيذ القرار المناسب، ثم تقييم النتائج بعد ذلك

***

عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي

تتزايد باطراد الاسباب وموجبات مغادرة متبقيات الوعي الارضوي اليدوي وقوة رسوخه مع استمراره خارج زمنه بعد حصول الانتقالية الاليه بصيغتها الافتتاحية، وثمة من الدلائل ماصار يوجه النظر الى الازدواج البنيوي البشري العقلي/ الجسدي، ومنه ماقد تبين مؤخرا من استمرار عمل النظر وبالذات السمع مابعد الموت وحتى بعد الدفن*، بعد توقف القلب والرئتين وانتهاء الفعالية الجسدية، والاكتشاف الاخير مازال لم ياخذ بعد مداه على مستوى النظر الى الحقيقة الجسدية البشرية، مع تدني مثل هذا النزوع او الرغبة في الخروج من وطاة الاحادية الجسدية المهيمنه، والطاغية على الوعي البشري، من ضمن اجمالي القصورية الادراكية العقلية الحاكمه لعلاقة الادراك ومامتاح منه حتى اليوم للظاهرة المجتمعية والبنية التكوينيه البشرية الفردية.

وحتى لو تمت ملاحظة الاكتشاف الاخير، فان المتوقع يبقى كما معتاد على مستوى مايعود الى التحليل من زاوية الاحادية الجسدية، من دون اية احتمالية من شانها ان تفتح الباب الى المضمر في التكوين البشري ( العقلي / الجسدي)، خارج الالحاق المتعسف للعقل بالجسد على انه عضو مماثل لبقية اعضائه، كما ترى المجتمعية والاعقالية الارضوية الجسدية، بالذات ابان الطور المتلائم معها تصورا، عندما كانت الانتاجوية اليدوية هي المسيطرة، مع استمرار متبقياتها واثرها برغم وقوع الانقلاب الالي، وبداياته الحاصلة الى الان، ولعل مما يزيد في استمرارية المنظورالجسدوي، انتفاء الارث او اي شكل من اشكال التاسيس، وان بحدوده الدنيا لما يناقضه على مدى التاريخ المجتمعي، بغض النظر عماقد حفل به المنظور المقابل اللاارضوي المعروف بالديني على هذا الصعيد من مخالفة للاحادية الجسدية.

هذا مع العلم ان ماقد توفرت عليه الرؤية اللاارضوية لهذه الجهه، ظل خارج الاحتساب حتى بالنسبة ل "المؤمنين" الذين هم في العمق من الارضويين الاحادويين، فلم يؤخذ بالاعتبار تميزا، ولا جرى التوقف عند الخرق العمري، كما يتكرر في الرؤى اللاارضوية مثل العيش لعدة قرون كما الحال مع نبي مثل نوح، او ابراهيم الذي عاش لاكثر من قرن ونصف، والاهم في هذا المنحى التجربة الهامة الاخطر التي ارتبطت بالسيد المسيح، وعودته من الموت، ومن ثم انتقاله الى السماوات العليا، بما يعني كسر قاعدة "كل نفس ذائقة المو ت"، ورغم القفزة الهائلة في مجال النظر الى الوجود الجسدي بحسب المنظور اللاارضوي، الاان الرؤية المقصودة هنا لم يتسن لها ان تذهب الى ابعد مما قد نوهت عنه، ودللت عليه من دون اثبات، بما انها كانت ماتزال في طورها الحدسي الالهامي النبوي، ماقبل العلّي.

وياخذ الموت والعلاقة به موقعا رئيسيا في الرؤى والتفكرات البشرية البدئية ومابعدها حتى الساعة، سواء بصيغة التساؤلات الملحمية الكبرى عن الخلود مثل "ملحمه كلكامش"، او اجمالي العلاقة بالعالم الاخر لدى المصريين، وبالذات اصرارهم على اعتماد المنظور والتصرف الجسدوي بحكم نمطيتهم الاحادية النموذجية، عن طريق التحنيط للابقاء على الجسدية كرمزية خلودية، مع انها هي مصدر امتناع الخلود، وعلى هذا المنوال يظل المنظور الارضوي الجسدوي محدودا وقاصرا، بحكم عجزه التكويني عن مغادرة الجسدية واحاديتها المانعة لاية ممكنات خارج المعاش والملموس، مايجعل من مناسبات واشكال تجلي الرؤى اللاارضوية، لوحدها الجديرة، برغم حدسيتها، بالاشارة الى مايمكن ان يعتبر من قبيل نبذ الاحادية الجسدية البيولوجية الصرفة.

ان دالات التفارق بين الموت والحواس، ومنها النظر والسمع الحالية، هي افتراق عملي بين الجسدية والعقل، تنتج في الخلاصة وساعة الموت الجسدي "موتان" ولحظتان، احدهما غير متشكل لدرجة تمنحه الاستقلالية ومن ثم الحضور الذاتي، لقصور في البنيه سببها طغيان الممكنات الجسدية ابان طور من التاريخ المعاش، هو بلا شك الطور اليدوي المكرس للجسدوية، مع ان التصورية الاخرى كما تتبدى في اللاارضوية، تاخذ الى مايمكن اعتباره حياة معاشة بقوة حضور العقل، مع العلاقة المترتبه على ذلك بالزمن والجسد، فالحياة مع الحضور العقلي الفعال هي تلك التي تفسر طول عمر نوح وابراهيم، كما تفسر تلك الوثبه الكبرى كما هي معروفة في الجموح النبوي المسيحي، فلا جسدوية مفردة ممكنه في مثل هذه الاحوال بدون العقل وحضوره الحياتي الاستثنائي الخارق ابان الزمن الارضوي الجسدوي.

هذا الحاصل اللاارضوي وماقد تبين مؤخرا من انفصال بين الحواس العقلية والجسد، يمكنه ان يوحي بامكانيه صارت الان، وبعد ماهو حاصل من تقدم على صعيد الممكنات، وبالاخص التكنولوجية مابعد الاليه المصنعية، ممكنه في الغالب، بحيث يفتح بابا من التدخلية ضمن الازدواج، مابين العقل والجسد، هذا ونحن نعرف بان العقل غير مستعمل بكل طاقته وممكناته، وان المستعمل منه لايتعدى الخمس عشرة بالمئة، بمعنى بقاء الجزء الاعظم منه خارج الفعالية بسبب النوع التفاعلي الارضوي اليدوي المحدود، وهو ماصار واجبا تجاوزه بتهيئة اسباب التحفيزيه العقلية، وايجاد السبل المساعدة على ايقاظ الجزء الكامن غير العامل من العقل، مع مايعنيه ذلك ويجب ان يؤدي اليه على صعيد تقليص الاستبدادية الجسدية وحكمها على العقل، في مجال الموت بالذات كما قد ظل غالبا الى الساعة.

والجدير بالملاحظة بما خص الظاهرة اللاارضوية ومناسبات خرقها للمتعارف عليه، خروج الحالة المقصودة من النطاق الاني التي تسمح بغلبة الجسدية المطلقة على العقل، مثل حالة النبي نوح وهدفه المستقبلي البعيد جدا، بينما هو ينتظر الطوفان محضرا "السفينه"، او حالة النبي ابراهيم، و مهمة وضع ركائز المنظور اللاارضوي خارج ارضه، بما يوحي بان خروج المستهدف العقلي من نطاق الجسدية المعتادة وذهابه الى ماهو ابعد منه هدفا (1). عنصر حاسم في تحديد طول الحياة الجسدية، مايفتح الباب امام مسالة زيادة حضور العقل وايقاظ الخلايا النائمة غير المستعمله بسبب الممكن اليدوي اليوم، باعتبارها مدخلا لبدء ازاحة الهيمنه الجسدية البيولوجية البحته في هذا المضمار، هذا عدا عن الممكنات العقلية المتوقعه من يقظة مايزيد على الثمانين بالمئة من الطاقة الادراكية العقلية النائمه، وهو مالايمكننا تخيله، او مقاربة مايمكن ان يتولد عنه وعيا، او نوعه ودرجة فعاليته، ومنه امكانية التحكم العقلي بالفعالية الجسدية، بما يغلق المستشفيات والمختبرات، ويصرف مايعرف بالاطباء وعياداتهم ومعهم المغسلين والدفانه، وقراءة الفاتحه على روح الاموات.

والاهم ان يكون او ان يبدا الكائن البشري بخرق الفكرة الراسخه عن "الموت" ودكتاتوريته الجسدية على العقل، وهو مايتطلب قبلا وحكما الاعتراف بالازدواج الجسدي / العقلي في الكينونة البنيوية البشرية، وكونها حالة ابتداء وانتهاء،اوله جسدي، ومنتهاه عقلي، بما ان المجتمعات والكائن البشري تحديدا، يعيش اليوم حالة انتقال مابين الحيوانية و"الانسانيه" المسقطة اكراها واعتباطا على الكائن الانتقالي الحالي "الانسايوان".

***

عبد الأمير الركابي

..........................

 "من الأمور المثيرة للعجب، هو إثبات دراسة علمية أجريت في جامعة كولومبيا البريطانية ونشرتها مجلة Scientific Reports عام 2022 حول «حاسة السمع لدى البشر عندما يقتربون من الموت»، إذ أوضحت أنه بموت الإنسان تتوقف كل حواسه ما عدا حاسة السمع، إذ تستطيع الأذن أداء وظيفتها من خلال ما يسمى بالمكروفونات المجهرية للقوقعة cochlear microphone، وهي تستمر في العمل من 6 لـ12 ساعة بعد الوفاة، وفقًا لما ذكره موقع haltaalam. ."/ نقلا عن جريدة الوطن المصريه/ 26/5 / 2025.

(1) بالامكان في الغالب تطبيق هذه القاعدة على البشر بصورة عامه بحيث نجد في الغالب، ان اصحاب الاعمار الطويلة ومن يعمرون، هم اولئك الاقل انحباسا عقليا داخل الجسدية ووطاتها الانيه، والامر لهذه الجهه يحتاج بالطبع لمراقبة وتدقيق.

غالبا"ما يرتبط وجود الفئات الاجتماعية التي تشعر بالغبن والمظلومية تجاه حقوقها الاقتصادية والثقافية والدينية بسياسات التهميش المتعمد والإقصاء القسري، التي تمارس ضدها من قبل الجماعات الحاكمة والمتسلطة، من حيث احتكار هذه الأخيرة لمصادر القوة العسكرية والثروة الاقتصادية والهيمنة الإيديولوجية. ولسنا هنا نجانب الصواب حين نقول بان هذه الحالة الإنسانية كانت موجودة في الماضي والمرجح أنها ستبقى في المستقبل أيضا"، طالما كان (العدل) غائبا"و(المساواة) معدومة بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد، كما حصل ويحصل لحد الآن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة.

ولعل من أسباب شعور هذه الفئات بالضعف وقلة الحيلة إزاء من يسومها صنوف الظلم ويذيقها طعم الحرمان من حقوقها الطبيعية والثقافية والإنسانية، هناك مجموعة من العوامل نوجز أبرزها على النحو التالي:

العامل الأول - من الملاحظ ان التأكيد على وجود هذه الفئات والجماعات وإبراز خصائصها الثقافية بشكل مبالغ فيه، غالبا"ما يقترن بالمجتمعات الانقسامية (المأزومة) تاريخيا"وسياسيا"واقتصاديا" وحضاريا"، والتي عادة ما يغيب عنها القانون، وتشيع فيها الفوضى، وتنتهك فيها القيم، وتستباح فيها الحريات. الأمر يسوق الجميع للاحتكام الى شريعة الغابة حيث القوي يأكل الضعيف، والكبير يسحق الصغير. بالتالي يتسلط ويتنمر فيها الأول على الثاني بدافع من الأصوليات الكامنة والمعلنة، وهو ما يجعل تلك (الأقليات) تميل الى تكتل عناصرها وعزل كياناتها والمنافحة عن رموزها وسردياتها، بغية الحفاظ على وجودها والدفاع عن حقوقها.

العامل الثاني - في الغالب يكثر وجود هذا النمط من الجماعات المظلومة في المجتمعات التي تحكمها الأنظمة السياسية ذات الطابع الشمولي والدكتاتوري، والتي من سماتها السلبية محاباة بعض الجماعات على حساب جماعات أخرى، ليس من باب الدفاع عنها والتعاطف معها وإنما بغية احتوائها وتدجينها من جهة، وإضعاف قوى الجماعات المنخرطة في أنشطة المجتمع المدني والسيطرة عليها من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يفضي الى حرمان تلك الجماعات من حق المشاركة في الأمور الخاصة بالشأن العام من جانب، وتضييق مجال حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والدستورية من جانب ثان.

العامل الثالث - إذا ما تفحصنا جميع الحالات التي تشعر من خلالها جماعة معينة بالحيف والمظلومية، سنجد أنها تشمل كل الذين ينتمون الى ما يسمى ب(الأقليات) الدينية والاثنية في المجتمع الانقسامي، الذين غالبا "ما يكونون أهدافا" مرشحة للتمييز والحرمان من حق المواطنة، فضلا"عن معاملتهم كغرباء في وطنهم وطارئين على مجتمعهم، بحيث يجري التعاطي معهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة يكفيهم تقاسم الجغرافيا الوطنية مع أقرانهم من الدرجة الأولى.

العامل الرابع - في معظم الحالات التي من هذا القبيل نلاحظ ان هذه الفئة تتسم بقلة (العدد)، مقارنة ببقية الفئات والجماعات الأخرى التي تنافسها في الحقوق الاقتصادية والواجبات الاجتماعية. بحيث ان هذه الحالة الاستثنائية تضعها تلقائيا"في موضع (الأقلية) المحكومة مقابل (الأكثرية) الحاكمة، سواء على صعيد حيازة عناصر القوة وامتلاك مصادر الثروة، أو في مجال مواجهة الجماعات الأخرى المختلفة عنها في الانتماء أو الولاء، وهو ما يستتبع شعورها الدائم بالاستبعاد الاجتماعي والتهميش الاقتصادي والإقصاء السياسي. 

العامل الخامس - في بعض الأحيان نلاحظ أن سبب الشعور بالضعف السياسي ومعاناة المظلومية الاجتماعية من قبل هذه الفئات (الأقليات)، لا يقتصر فقط على كونها تمثل الفئة (الأقل) عددا"مقابل الفئة (الأكثر) عددا"في المجتمع فحسب، وإنما أيضا"لانعدام قدرتها على حيازة عناصر (القوة) المؤثرة والفاعلة من جهة، والاستحواذ على مصادر (الثروة) التي تمكنها من فرض شروطها كما هو متاح لخصومها ومنافسيها من جهة أخرى. 

والحال، إذا ما تساءلنا عن الشروط والمعايير التي يمكنها إنهاء هذه الحالة أو على الأقل التخفيف من وطأتها، فان الخطوة الأولى في هذا المجال هي تبني خيارات الفكرة (الديمقراطية) التي تقوم على ثوابت إرساء قواعد (العدل) و(المساواة) بين جميع أعضاء المجتمع، دون النظر الى أصولهم القومية والعرقية، أو انتماءاتهم الدينية والمذهبية، أو طبيعة ولاءاتهم السياسية والإيديولوجية. وإنما الركون الى مبدأ (المواطنة) الحضارية حيث الجميع ينعمون بالحقوق الاقتصادية والثقافية والدينية على قدم المساواة وتكافؤ الفرص.  

***

ثامر عباس

 

كنت صغيرًا حين كنت أحضر مع أقراني دروس المسجد في حينا، وكان هناك معلمٌ متميزٌ يأتينا بين الحين والآخر، يحمل معه أفكارًا غريبةً ومثيرةً للجدل، منقولةً من كتب ناصر بوربيرار. كان يتحدث عن تاريخ إيران المختلف، الذي يتحدى كل ما تعلمناه في المدرسة والكتب الرسمية، ويكشف حسب رأيه التزوير الكبير في الرواية الفارسية التقليدية. كنت أنصت باهتمامٍ حين يذكر أن الاخمينيين لم يكونوا أبطالًا، بل غزاة مدعومين من اليهود، أو حين يشكك في وجود زرادشت والأفيستا، معتبرًا إياها أساطير مُختلقة بعد الإسلام وجاءت لتنافس العرب والمسلمين أو لخلق هوة بين العرب والفرس. كانت هذه الأحاديث تثير ضحك البعض واستهجان البعض الآخر، لكنها أثارت فضولي بشدة. لماذا كل هذه الجرأة في الطرح؟ ولماذا يُعتبر كلامه خطيرًا إلى هذا الحد؟

هذا الفضول قادني لاحقًا إلى البحث عن كتب بوربيرار، مثل "اثنا عشر قرنًا من الصمت" و"جسر على الماضي"، لأكتشف عالمًا مختلفًا عن التاريخ الإيراني، مليئًا بالأسئلة المحظورة والنقاشات الساخنة. كانت كتاباته صادمةً حقًا، خاصةً حين يتحدث عن دور اليهود في تشويه التاريخ، أو اتهامه القوميين الفرس بتزوير الحقائق لخدمة أجندات سياسية. شغفي بهذا الكاتب أرغمني أن ازوره في طهران في المعرض الدولي للكتاب قبل ١٣ عام لأشكره على ماقدمه وبأنه جعلني أبحث دائما عن الروايات المخفية وراء السرديات الرسمية ولن أنسى يومًا حديثه لي حين قال: "التاریخ کذبة متفق عليها وحتى تاريخكم العربي التقليدي فيه الكثير من الشوائب التي سأعرضها قريباً !" ، لكن القدر لم يمهله ليكمل هذا المشروع ؛ ربما لو امتد به العمر، لكان قد قلب الطاولة على المزيد من المسلمات التاريخية، ولأثار عواصف فكرية أكبر. لكن حتى بما قدّمه، ظلّت أفكاره شوكةً في حلق من يرفضون مراجعة التاريخ بعين نقدية.

احتراماً وخدمة لهذا الكاتب القدير حاولت أن ألخص افكاره ونظرياته التي جاء بها فيه كتبه ومحاضراته لأقصر الطريق للقارئ المهتم:

1. نقد السلالات الحاكمة قبل الإسلام (الاخمينيون، الأشكانيون، الساسانيون)

- يعتبر بوربيرار أن هذه السلالات الثلاث (التي حكمت إيران لمدة 12 قرنًا قبل الإسلام) كانت غريبة عن المنطقة، ولم تكن من السكان الأصليين لنجد إيران أو بلاد ما بين النهرين.

- يصفهم بأنهم قوم استعماريون استخدموا القوة والعنف (الرمح الفارسي) لطمس الحضارات الأصلية، مثل العيلاميين والميديين والعرب وغيرهم.

- يشكك في إنجازاتهم الحضارية، قائلًا إنهم لم يتركوا أي أثر ثقافي أو فني أو ديني يُذكر مقارنة باليونانيين أو الرومان أو حتى العرب الحفاة الجاهليين (كما يسميهم البعض) وكل ما لديهم جاء بعد دخول الإسلام المنطقة.

2. دور اليهود في تشويه التاريخ الإيراني:

- يرى بوربيرار أن المؤرخين الغربيين (خاصة اليهود) هم من روّجوا لصورة إيجابية عن الاخمينيين، وخاصة قورش الكبير، كـ "محرر" و"مؤسس لحقوق الإنسان"، وذلك بسبب خدماتهم لليهود وفقًا للنصوص التوراتية.

- يعتبر أن اليهود قاموا بتضخيم دور الاخمينيين كجزء من مؤامرة لتقسيم العالم الإسلامي وخلق عداء بين العرب والفرس.

3. تشكيكه في الشخصيات والأحداث الأسطورية:

- يشكك في وجود شخصيات مثل زرادشت وكتابه "الأفيستا"، ويعتبرها أساطير مُختلقة بعد الإسلام لمواجهة الهوية العربية الإسلامية.

- يرفض الروايات التقليدية عن الحضارة الفارسية قبل الإسلام، مثل حكايات "بزرجمهر الحكيم" أو الموسيقي "باربد"، ويعتبرها من صنع الشاهنامة (ملحمة الفردوسي).

4. نقده للخطاب القومي الفارسي المعاصر

- ينتقد المؤرخين القوميين الفرس (مثل زرين كوب ومجتبى مينوي) لتبعيتهم للمؤرخين الغربيين وترويجهم لخطاب معادٍ للعرب.

- يعتبر أن الحركة الشعوبية (التي ناهضت الحكم العربي في العصر العباسي) كانت مدعومة من اليهود وبقايا الساسانيين، ويهاجم "الشاهنامة" لكونها أداة سياسية وليست عملًا أدبيًا محايدًا وبأن منشدها مجرد شخص كان يرتزق من هذه الأبيات.

5. إشادته بالحضارات الأصلية في المنطقة:

- يمجّد حضارات ما بين النهرين (السومرية، البابلية، العيلامية) ويعتبرها أصل الحضارة الإنسانية، متهمًا الاخمينيين بتدميرها.

- يؤكد أن إيران كانت موطنًا لشعوب متعددة (عرب، عيلاميون، ميديون...) تعايشت بسلام قبل الغزو الاخميني.

6. ادعى بوربيرار أن قورش لم يكن قائدًا فارسيًا أصيلا، بل كان مدعومًا من اليهود وفقًا لنصوص التوراة، حيث جُلب من منطقة شمال البحر الأسود (القوقاز) لتحرير اليهود من السبي البابلي وتدمير حضارة بابل انتقامًا لهم !

- رأى أن التوراة هي المصدر الوحيد الذي يذكر قورش بشكل صريح، بينما تفتقد المصادر الأخرى أدلة مادية على وجوده قبل ظهوره المفاجئ كقائد.

7. رفضه للعرق الآري والهوية الفارسية التقليدية:

- يعتبر فكرة العرق الآري ملفقة، ويقول إنه لم يكن هناك شعب اسمه "الفرس" (بارس) قبل الاخمينيين.

- يشكك في اللغة البهلوية (لغة الساسانيين) ويعتبرها لغة بدائية لا ترقى لمستوى الحضارة.

8. مواجهته لمؤامرة الصمت والتهديدات:

- تعرض بوربيرار لهجوم من القوميين الفرس، الذين اتهموه بـالكفر القومي، لكنه رفض الترهيب ودعى إلى حوار وطني يعتمد على الأدلة الوثائقية.

إذن: بوربيرار قلب التاريخ الإيراني رأسًا على عقب، ورفض الرواية الرسمية التي مجدت الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام، واعتبرها سردًا مزورًا لخدمة أهداف سياسية؛ وكتاباته هدفت إلى كشف ما اعتبره تزويرًا تاريخيًا مدعومًا من الغرب واليهود، وإعادة الاعتبار للحضارات الأصلية في المنطقة..

***

سعيد بوسامر

يونيو ٢٠٢٥

غالباً ما يرتبط اللون الأبيض بالنقاء والبراءة والصفاء والسلام، وأحياناً ينظر إليه كرمز للفراغ، أو الصفحة البيضاء، قبل الخلق أو الفعل، مما يربطه بالعدم أو الفراغ فلسفياً حين تمتد دلالاته إلى مجالات أخرى.

نفسياً يمنح اللون الأبيض شعوراً بالاتساع، الراحة والهدوء، وأحياناً يشعر البعض بالعزلة والانفصال أو التعالي. في الفن التشكيلي يلجأ الفنان إلى اللون الأبيض كوسيلة للتعبير عن المطلق أو التجريد، وللتخلص من التفاصيل والرجوع إلى الجوهر عند الرسامين الحداثيين.

من منظور جدلي، لا يُفهم الأبيض إلا بوجود نقيضه الأسود، هنا ندخل في مفاهيم الفلسفة: الخير مقابل الشر، النور مقابل الظلام.

كل هذه الدلالات والرمزية في اللون تبدو منطقية ومقبولة غير بعيدة عن سياقاتها، بيد أن اللون يتخلى عن مدلولاته تلك ليذهب إلى أبعد من ذلك في السياقات السياسية والاجتماعية، اللون هنا يعني السلطة والسيطرة، والتفوق في بعض الأيديولوجيات العنصرية، أو النقاء العِرقي، ما يكشف عن إساءة استخدام رمزية اللون.

ما يدعو للتساؤل في هذا الصدد عن معنى اهتمام الاوربيين والأمريكان على وجه الخصوص، في احتجاز رهائن من البيض مثلاً في أي مكان العالم. أمام حدث من هذا القبيل تنشغل الحكومات ووسائل الاتصال والرأي العام في متابعة ما ستسفر عنه عملية الاحتجاز، وتتعالى أصوات الاحتجاجات والمناشدات انتصاراً لقيمة الإنسان الأبيض.

هذا الاعلام لا يهتم بمصير آلاف القتلى والمشرّدين من أبناء غزّة وجنوب  لبنان، وعمليات الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني أو شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتلك المآسي التي تغيب تفاصيلها في خضم الاحداث الكئيبة، هذا ينقلنا إلى القرارات الكبرى والخطيرة التي تتجاهل الانعكاسات السلبية على مصائر الأفراد، ربما لو كان المحتجزون من لون آخر، ما كان الأمر يثير اهتمام البيض، واختلفت النتائج وردود الأفعال. حتى في خلال أرقام الضحايا، لا تعني مئات الآلاف من القتلى أمام عشرات فقط من الطرف الآخر. هذا كلّه لا يهم، فليكونوا عرباً، أو أفارقة، أو هنوداً، ماذا يهم ؟

الحق، أن الغرب الأوربي والأمريكي، عنصري في جوهره، علينا أن ندرك هذه الحقيقة، إن دلالة لفظ " الإنسان " تعنيهم هم، بينما يدفعون الشعوب والقوميات الأخرى خارج الدائرة. البيض يعني الجنس الأبيض، يعني أبناء الغرب تحديداً.

ولأن الأبيض هو الأقوى اقتصادياً، وتكنولوجياً، تحولت مقاييسه إلى أسس يحكم بها العالم.

يتوجّه الجيش الروسي بأوامر من غورباتشوف ليقمع أهل أذربيجان، وأوزبكستان وغيرهما من الجمهوريات التي يسكنها مواطنون أما سمر أو صفر، أو أقل بياضاً، يسقط مئات القتلى والجرحى، فلا يتحرك "الأبيض جداً"، أي الغرب، كما أن غورباتشوف الذي يتصور أنه أبيض، يحاول جاهداً أن يجعل من الاتحاد السوفييتي تابعاً للسيد الأبيض! هل هي صدفة أن اسم مقر الرئيس الأمريكي الأقوى في عالم اليوم، هو البيت الأبيض.

مؤخراً استقبل فيه الرئيس الأمريكي ترامب نظيره رئيس جنوب أفريقيا، في مشهد مشحون بالتوتر، وجّه ترامب اتهامات مثيرة للجدل، مدعياً قتل المزارعين البيض في جنوب أفريقيا، أثناء اللقاء عرض ترامب بطريقة مسرحية صوراً ومقاطع فيديو لدفن البيض، تبين أنها لم تقع في جنوب أفريقيا، إنما في جمهورية الكونغو!

عندنا في العراق بناية كئيبة تسمى "القصر الأبيض" بناها الملوك قصراً للضيافة عام 1934، تعددت وظائفها، وتبدلت استخداماتها وفقاً للتبدلات الدراماتيكية في الوضع السياسي ونظام الحكم في العراق. تحولت إلى بناية تابعة لأمانة العاصمة بعد سقوط النظام الملكي، وفي أواخر الستينات صارت متحفاً عسكرياً تابعاً لوزارة الدفاع، وفي تسعينات القرن الماضي تحولت إلى متحف للفنانين، ومنتدى ثقافي.

من المفارقات المثيرة أن القصر الأبيض استقبل عدداً من ضيوف العراق من الملوك والرؤساء العرب في فترات مختلفة، كان آخرهم الرئيس اليمني عبد الله السلّال عام 1967، أثناء إقامته في القصر أبلغه شامل السامرائي وزير داخلية العراق في العهد العارفي الثاني، أن انقلاباً عسكرياً أطاح به في صنعاء. فما كان من السلّال إلا البقاء في القصر الأبيض لمدة سنتين، لغاية استقرار الوضع في بلاده.

في التصوف فهمٌ مختلف للألوان، والأرقام. يقولون أن الأبيض أصل كل الألوان، هل هذا صحيح وفق قاعدة الطيف الشمسي؟ طبعا الإجابة لا، لأن الأبيض لا يعدّ ضمن قائمة الألوان، كذلك الأسود يظل أصلاً لكل الألوان، وربما كان الأقدم، لأن النور ينبعث من العتمة، فالسواد أصل، وينبغي أن ندرك أن الأبيض لا يمكن له وجود بصفته إلا بوجود الأسود، والعكس صحيح، وبدرجات اللونين تتكامل الإنسانية.

هذا التنوع بالدلالات المتناقضة يمنح الأبيض بعداً فلسفياً آخر، هو ما أدركه الشرق بثقافاته، بحضاراته، بعمقه الإنساني، وهذا ما لا يريد للغرب الأبيض جداً أن يقتنع به. لست عنصرياً ولن أكون، ولا أدعو إلى المواجهة بمنطقهم، ولكنني أقول بالتصدي لأية محاولة لمحو هويتنا حتى يفيقوا ويدركوا أن الإنسانية لا يمكن أن تكتمل إلا بامتزاج كل الألوان.

***

جمال العتابي

 

غالبا ما ترد على أسماعنا عبارة شائعة يتداولها الجميع بلا أدنى حرج مفادها ان (التاريخ يعيد نفسه)، وذلك كناية عن الأحداث الساخنة والوقائع الصادمة، التي يعتقد الناس أنها تعيد نفسها وتكرر ذاتها بصورة دورية رغم اختلاف الأزمنة وتوالي الحقب، كما لو أن الكرونولوجيا التاريخية تدور ضمن حلقات كونية مغلقة ما أن تشارف على النهاية حتى تبدأ من جديد. والحال هل - يا ترى - حقا"ان في ظاهرة تشابه الأحداث وتماثل الوقائع التي نصادفها في حياتنا الاجتماعية، ما يدلّ على كونها بمثابة عودة أبدية ونقطة شروع مستأنفة لأفعال وأحداث التاريخ، أم هي تجل (عرضي) لضرب من ضروب الصدف العديدة التي تقتحم وجودنا وتفرض حضورها الخاطف على نحو غير متوقع وغير مقصود ؟!.

لنتفق منذ البداية على حقيقة أن التاريخ كما يتبدى بصيغة (سيرورة) لا يعيد نفسه أبدا"ولا يكرر ذاته بالمطلق، من حيث كون طبيعته منوطة بحتمية القوانين الموضوعية الخارجة عن إرادة البشر والمستقلة عن رغباتهم والعصية على توقعاتهم، والتي من خصائصها أنها تؤطّر وتسيّر معطيات الوجود الطبيعي والإنساني على حدّ سواء. وإنما الذي يحدث في هذا السياق هو حصول ما يمكن اعتباره (تشابه عرضي) لبعض الظروف الخاصة والأوضاع الفريدة التي تفضي، في بعض الأحيان، الى حصول مثل هذه الظاهرة أو تلك، الأمر الذي يعتقده البعض انه كناية عن عودة للتاريخ . وهو الأمر الذي يرجح أن تترتب عليه وتتمخض عنه جملة من العواقب والتداعيات الضارة، التي ما كان لها أن تنبثق لولا الإيمان بهذا التصور السطحي والاعتقاد الساذج.

ورغم شيوع هذه الظاهرة في معظم مجتمعات العالم سواء منها المتقدم حضاريا"أو المتأخر، إلاّ أن كثرة وجودها وتواتر حصولها لا تلاحظ بنفس المقدار أو الكثافة بالنسبة لكلا النمطين من المجتمعات، ناهيك بالطبع عن تنوع مصادرها وتباين سياقاتها، تتناسب طرديا"كلما كان المجتمع المعني متموضعا"داخل أطوار حقب سوسيو - تاريخية قديمة وراكدة. أي بمعنى أن فرص تكرارها واحتمالات وقوعها تزداد بمعدلات مضاعفة كلما كان مستوى التطور الحضاري والإنساني للمجتمع المقصود يشير الى كونه لا يزال يرسف في أغلال التخلف والانحطاط، نظرا"لإعاقة السيرورات وتعطل الديناميات المسؤولة عن حراكه وتقدمه ؛ إما  لأسباب داخلية أو عوامل خارجية أو كليهما معا".

والحال ما هي الأواليات والسياقات والمعطيات التي توهمنا بأن الأحداث والوقائع التاريخية التي سبق وأن كانت قائمة في أزمان سالفة وفاعلة في ظروف مختلفة، تظهر أمامنا كما لو أنها وليدة الحاضر وثمرة من ثمار تناقضات واقعه وصراعات جماعاته والتباسات تمثلاته، بحيث نبيح لأنفسنا – بلا أدنى تحفظ – إطلاق الأحكام المرتجلة على ما يجري أو يحصل، باعتبارها خاصية غامضة جبل عليها التاريخ ليمارس هذا الضرب من (الاستعادة) الدورية ؟!. والحقيقة ان تفسير هذه الحالة يستدعي منا التحلي بالعقلية والمنهجية التاريخية المقارنة، التي من شأنها تسليط الأضواء على أوجه التشابه والاختلاف ما بين ظروف وأوضاع ودوافع صيرورة الحوادث أو الظواهر التي حصلت في الفترات التاريخية السابقة، وبين نظيراتها التي يعتقد أنها (تماثلها) في عوامل التكوين والصيرورة في الفترات التاريخية اللاحقة. وهو الأمر الذي من شأنه أن يجنبنا الوقوع في فخاخ (المغالطة) التي من عواقبها حملنا على إسقاط كل ما يجري أو يقع من أحداث في الزمن (الحاضر)، على ما وقع وجرى من أحداث في زمن (الماضي)، بحيث لا نعود نرى في تنوع سيرورات التاريخ وتعدد زمنياته سوى حلقات منسوخة أو متكررة.

وإذا ما حاولنا مقاربة واقع العراق الحالي – خصوصا"بعد واقعة السقوط - وما يجري فيه من أحداث وما يشهده من وقائع، سنلاحظ ان المجتمع العراقي يعيش (حاضره) القائم كما لو أنه عاش في (ماضيه) المنصرم بكل ما فيه من سيئات وقباحات، سوى انه توجد بعض الاختلافات القليلة والتباينات الطفيفة بين هذا الزمن وذاك. ولذلك نجد أن المدّ (البدوي / العشائري) الذي كان مسيطرا" في الزمن السابق حين كانت (القبيلة) أقوى من (الدولة)، استعاد عافيته واستأنف نشاطه كما لم يحظى به من قبل في الزمن اللاحق حيث (القبيلة) و(الطائفة) وأخواتها تتحكم بمقاليد (السلطة). هذا في حين أن عوامل الاحتقان (الطائفي / المذهبي) التي تسببت بالكثير من التصدعات والانقسامات والصراعات في العهود التاريخية الماضية، اشرأبت عناصرها بنشاط وحيوية لم تكن تتمتع بهما من قبل، بحيث تبدو مفعمة بكل ما يؤجج الأحقاد المتراكمة والكراهيات المتفاقمة في الوقت الحاضر.

وهكذا، فعلى الرغم من ان المجتمع العراقي تبدو عليه علائم (التطور) في مضمار السيرورة (التاريخية)، إلاّ أنه لا يفتأ يمارس ضروب (التقهقر) في مضمار السيرورة (الحضارية). أي بمعنى انه كما تقادم وتعاظم وجوده في (التاريخ)، كلما تراجعت وتلاشت حظوظه في (الحضارة)، كما لو أنه يعكس عجزا "عضويا"أبديا" عن التوفيق بين كلا المضمارين الإنسانيين. وعليه حين يقول الإنسان العراقي المفجوع بماضيه، والمقموع بحاضره، والمخدوع بمستقبله إن (التاريخ يعيد نفسه)، فهو لا ينطق عن الهوى بقدر ما يعبر عن واقع (حاضر) مرير أبى إلاّ أن يذيقهم طعم الذلّ والهوان، كما أذاق آبائهم وأجدادهم من قبل شتى صنوف البؤس والحرمان. وعلى هذا الأساس تبدو صيغة القول بأن (التاريخ يعيد نفسه) لوصف الأحوال والأهوال، أقرب الى الواقع المعاش منها الى الافتراض المتخيل !.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

العـراق.. نمذجة تطبيقية بتقنيات الذكاء الاصطناعي

تركز جغرافية الرعي على دراسة الأنماط المكانية للرعي وتوزيع المراعي وتتناول أنواع الحيوانات المُرَبّاة والعوامل البيئية المؤثرة على الرعي مثل المناخ والتربة والغطاء النباتي، وتُعد مراعي الأغنام من أبرز المراعي في البيئات المحلية الجافة وشبه الجافة والتي تشكل مصدراً حيوياً لغذاء ودخل المجتمعات الرعوية وتتسم بتحملها للجفاف ونقص الغذاء والتنقل الموسمي.

الحياة البيئية لرعي الأغنام:

رغم التطور الاجتماعي المعاصر واندثار الكثير من المهن التقليدية لا زالت حياة الرعي قائمة في بعض الأماكن وتمثل نمطًا فريدًا من العيش يتطلب الشجاعة والمعرفة والصبر، لأنها تربية وحماية ورعاية مستمرة لكائنات ضعيفة تعتمد بشكل كامل على راعيها الذي يمتلك جانبًا رمزيًا في كثير من الثقافات المجتمعية التي ترتبط بالبساطة والتأمل والانتماء للأرض، ورعي الأغنام من أقدم وأبسط أشكال الحياة الريفية حيث ورد ذكر الرعي في كثير من النصوص الدينية والأدبية فالعديد من الأنبياء في بداية حياتهم رعاة أغنام، مثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم والنبي موسى عليه السلام.

تمتزج في حياة الرعي البساطة بالتحديات اليومية ويمارس العديد من الناس هذه المهنة في مناطق الريف والبادية حيث تشكل مصدر الرزق الأساسي كما تعبر عن التراث والعادات القديمة، يبدأ الراعي يومه في وقت مبكر من الصباح قبل شروق الشمس ليقود قطيعه إلى المراعي ويختار الأماكن التي تتوفر فيها الأعشاب والمياه، ولديه دراية جيدة بطبيعة الأرض والطقس ومصادر الخطر مثل الحيوانات المفترسة أو الطرق الوعرة، وفي كثير من الحالات يعيش الرعاة حياة التنقل خصوصا في المناطق الصحراوية أو الجبلية لأنهم يتبعون مواسم الأمطار والمراعي الخضراء متنقلين من مكان إلى آخر بحثًا عن الطعام والماء للقطيع، ان هذه الحياة تتطلب صبرًا وجلَدًا كبيرين حيث تنشأ علاقة مميزة بين الراعي وقطيعه يتعرف من خلالها على كل قطيعه تقريبًا ويلاحظ ما إذا كان هناك مريضًا أو ضعيفًا، كما يستعمل الراعي صفيرًا أو نداءً خاصًا لقيادة الأغنام ويعتمد في كثير من الأحيان على الكلاب المدربة للمساعدة في الحراسة والتوجيه، ان رعي الأغنام ليس أمرًا سهلًا فرغم طبيعته الهادئة يواجه الرعاة عدة صعوبات مثل تقلبات الطقس وقلة الموارد والحيوانات المفترسة.

أساليب رعي الأغنام:

تختلف أساليب رعي الأغنام بحسب البيئة الجغرافية وفي الدول العربية تمارَس عدة أساليب للرعي ابرزها؛ الرعي التقليدي (البدوي أو الترحالي) ويُمارَس في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية مثل البادية الأردنية والبادية السورية وبادية العراق وصحراء النوبة (مصر- السودان)، ومناطق عدة  في المغرب والجزائر، ويقوم هذا الأسلوب على التنقل الدائم بحثًا عن الماء والمرعى. أما الرعي شبه المستقر وهو مزيج بين الترحال والاستقرار فينتشر في المناطق الزراعية الهامشية أو الجبلية كما في شمال العراق وجنوب لبنان وجبال الأطلس وشمال المغرب. وينتشر أسلوب الرعي المستقر (التربية المكثفة أو الحديثة)  في الدول الخليجية وفي الضواحي الحضرية لبعض المدن حيث يتم تربية الأغنام في حظائر مغلقة (زرائب) ويُعتمد على الأعلاف المصنعة ومياه الآبار أو عبر الأنابيب.

تدهور مهنة الرعي:

بالرغم من ان مهنة رعي الأغنام من أقدم الأنشطة الاقتصادية التي مارسها الإنسان والتي تستند إلى معرفة بيئية معمّقة ومهارات متوارثة تُشكل عنصرًا جوهريًا في الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات الريفية والبدوية وعموم الاقتصاد التقليدي، الا ان المرحلة التي اعقبت اكتشاف النفط شهدت تغيرات جذرية لهذه المهنة سواء في مواقعها او في أهميتها الاجتماعية وبالتالي تدهور المهنة، ومن أبرز أسباب التدهور التصحر وبالتالي ضعف وتلاشي المراعي نتيجة لكل من؛ التغير المناخي، والتوسع العمراني للمدن في الأراضي الرعوية، وانتقال العمالة الرعوية الماهرة نحو الوظائف الحضرية، وضعف الدعم الحكومي، وزيادة أسعار الأعلاف والأدوية وكلف النقل، والاضطرابات والنزاعات وتهجير السكان.

يتمثل أثر إيرادات النفط على مهنة الرعي في؛ إعادة تشكيل أولويات التنمية لتصب في اتجاهات حضرية وصناعية، فالاعتماد على العائدات النفطية تسبب في تراجع أهمية الزراعة والرعي وضعف التمويل لصالح القطاعات الخدمية والمدنية، وتغليب استيراد المنتجات الحيوانية على الإنتاج المحلي، إن إيرادات النفط رغم أنها ساعدت في تطوير البنية التحتية وتحسين مستويات المعيشة؛ الا انها ساهمت بشكل غير مباشر في تهميش مهنة الرعي وتربية المواشي، وبسبب ذلك أصبحت معظم الدول العربية تعتمد على الاستيراد لتلبية الطلب المحلي من اللحوم ومنتجات الالبان، مما قد يعرض الأمن الغذائي للخطر في حال حدوث اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية.

النمذجة التطبيقية لرعي وتربية الأغنام:

باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للمدخل المكاني (البيئي) - الزماني والتحليلي لتربية وإنتاج الأغنام في العراق، وعبر مقارنة إحصائية لتربية الأغنام في العراق ما بين عام 1950 وآخر البيانات المتاحة لعام 2022؛ اتضح ان السلالة الرئيسية للأغنام في عام 1950 كانت سلالة العواسي المعروفة بقدرتها على التكيف مع الظروف البيئية القاسية وإنتاجها الجيد من الحليب واللحوم، وفي عام 2022 تطورت تربية الأغنام لتشمل سلالات متعددة مثل العواسي والنعيمي والكاراكول والهمداني مع تزايد عمليات التهجين لتحسين الصفات الإنتاجية. واستنادا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) فأن مستوى تربية الأغنام في العراق عام 1950 سجل 12,574,600 رأس، وفي عام 1978 سجل 9,7 مليون رأس وفقًا للمسح الحكومي، وفي عام 1990 سجل 8,6 مليون رأس، اما في عام 1995 فقد انخفض العدد إلى خمسة ملايين رأس، وتُظهر هذه البيانات أن عدد رؤوس الأغنام في العراق كان في أعلى مستوياته عام 1950 ثم شهد انخفاضًا تدريجيًا في العقود اللاحقة خاصة بعد عام 1990 نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية، وفي أحدث الإحصائيات المتوفرة حول تربية وإنتاج الأغنام في العراق بلغ عدد رؤوس الأغنام عام 2022 حوالي 7,495,200 مليون رأس، وعدد الأغنام المذبوحة حوالي 2 مليون رأس من الأغنام لإنتاج حوالي 47,1 مليون كيلوغرام من اللحوم، وبلغ إنتاج حليب الأغنام  حوالي 58,6 مليون كيلوغرام.

ان نتائج تحليل العلاقة بين العائدات النفطية وعدد رؤوس الأغنام من خلال منظور إحصائي يغطي الفترة 1950-2022 تُظهر؛ علاقة عكسية واضحة كما تؤكد تحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي وإهمال القطاعات الزراعية الحيوية وعلى رأسها تربية المواشي، ففي عام 1950 بلغ عدد رؤوس الأغنام حوالي 12,574,600 رأس مليون بينما كانت عائدات النفط لا تتجاوز 0,3 مليار دولار، ومع ارتفاع العائدات النفطية إلى نحو 20 مليار دولار في عام 1980 انخفض عدد رؤوس الأغنام إلى أقل من 9 ملايين، اما في عام 2022 فقد وصلت عائدات النفط إلى نحو 70 مليار دولار، في حين بلغ عدد رؤوس الأغنام في ذات العام حوالي 7,495,200 مليون رأس.

هكذا تشير النتائج إلى انه؛ بالرغم مما أحدثته طفرات العائدات النفطية من تغييرات بنيوية في المجتمع فأن عائدات النفط في العراق لم تُستخدم بفعالية لدعم وتنمية تربية الأغنام بل ساهمت في تراجعها، وعليه لابد من وضع استراتيجيات وطنية لإعادة الاعتبار للثروة الحيوانية ضمن السياسات الاقتصادية الشاملة، ودعم مهنة الرعي لأجل ضمان الأمن الغذائي وصون التنوع الثقافي وحماية البيئة من التصحر، اذ إن مهنة رعي الأغنام ليست بقايا من الماضي بل هي عنصر حي من التراث الاقتصادي والثقافي يجب الحفاظ عليه وتعزيزه ضمن رؤية تنموية متوازنة.

إن إعادة الاعتبار لمهنة رعي الأغنام يتطلب جهودًا تكاملية تشمل؛ إعادة هيكلة الدعم الحكومي بتوفير الأعلاف والتأمين البيطري، وتحديث هذه المهنة بأساليب علمية وتقنية لتحسين أساليب التربية والتسويق، وحماية المراعي وتُنظّيم الاستخدام المستدام للأراضي الرعوية، ودعم صناعات الألبان والأصوف والجلود.

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي، أستاذ أكاديمي

.......................

المراجع:

1. https;//www. tridge.com

(Global Agriculture Data Platform)

منصة/ رقمية للبيانات الزراعية العالمية.

2. https;//www. woah. org

بيانات منظمة الصحة الحيوانية العالمية. (WOAH)

 

كيف نظر هادي العلوي إلى الصدام بين الجواهري والحصري وما السياق الحقيقي لذلك الصدام.. فقرات من مقالة تنشر كاملة لاحقا: جدل الهويات والمواطنة الحديثة: بمناسبة الجدل المثار أخيرا حول الأصل القومي للشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري، وتصدياً لما يقوله بعض المدمنين على تكرار المعلومات والمقولات القديمة دون جهد نقدي، سأحاول أن أتناول هذه القضية بشكل مختلف يريد مقاربة الحقيقة ليس إلا، محاولاً النأي عن أجواء المناكفات السائدة وعن الأحكام الباترة القاطعة ودونما مساومة على الحقائق والوقائع. وسآخذ بنظر الاعتبار إننا نعيش في عصر تطورت فيه مبادئ المواطنة الحديثة حيث غدا الحصول على الجنسية وحق المواطنة في أية دولة معاصرة وديموقراطية يقيم فيها الإنسان قضية إجرائية لا أكثر.

يشهد بذلك آلاف العراقيين، ومنهم غالبية ساسة وحكام العراق اليوم، الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم هرباً من بطش الأنظمة الشمولية أو بسبب الحصار الغربي الجائر المفروض على العراق في التسعينات قد تحصلوا على جنسيات الدول الأوروبية التي أقاموا فيها لبضع سنوات. فيما يتحصل أبناؤهم عليها بمجرد ولادتهم على أرض تلك الدولة الأوروبية - أعرف عراقياً ولدت زوجته ابنتهما في الطائرة وهي في أجواء إيرلندا، وقد ثُبت ذلك لدى السلطات الجوية الإيرلندية. وأرسلوا إليه لاحقا جواز السفر ووثائق الهوية الشخصية الخاصة بابنته لاحقاً بالبريد في الدولة التي يقيم ويعمل معنا فيها وهي الجزائر، ولعله الآن يقرأ كلماتي هذه. وبالمقابل أعرف عراقياً آخر تزوج من سيدة لبنانية وأقام في لبنان هو زوجته وأطفاله ولم يحصل على الجنسية اللبنانية له أو لأطفاله حتى يومنا هذا لأسباب تتعلق بالموازنات السكانية الطائفية في بلد قائم على الهويات الفرعية الطائفية منذ تأسيسه، أي بعد أكثر من عشرين عاما - وأعتقد أن هذه الحقائق جديرة بأن تلفت انتباهنا الى ضرورة تناول جديد ومنفتح لقضية المواطنة والجنسية وحق الإنسان الأول في أن يعيش في بلد ولد فيه واكتسب جنسيته بعيدا عن الهذيانات القوموية المصعَّدة والطائفية المجيَّشة نفياً وتأكيداً لأصول الناس وحقوقهم في المواطنة والجنسية.

موقف العلوي صديق الجواهري: بداية، سأذكِّر بموقف رفيقي الراحل هادي العلوي وكان على علاقة صداقية بالشاعر الراحل الجواهري، وقد حدثني عنه في أكثر من رسالة شخصية أحتفظ بها كلها في أرشيفي الشخصي، كما سأعرض سريعا موقفي القريب من موقفه من هذا الموضوع:

حين كتب العلوي مدافعاً عن الجواهري ومنتقداً ساطع الحصري فهو لم يدافع عن عروبة الجواهري، ولم يتطرق لأصله القومي قط، كما إنه لم يؤكد إنْ كان أصله عربياً أو فارسياً بل أكد أمرين:

الأول، أن الجواهري شاعر عراقي عظيم وليس معلماً إيرانياً - كما وصفه ساطع الحصري في مذكراته - وأنه أكبر شاعر معاصر من شعراء العربية في الشعر العمودي "القريض".

والثاني هو أن الدافع الأولي الذي دفع ساطع الحصري ليتهجم على الجواهري وينفي عراقيته وعروبته هو دافع طائفي تمييزي يعتبر الشيعة العراقيين فُرساً أو إيرانيين من دون تفريق بين الهويتين (الفارسية والإيرانية)، رغم أنَّ تشكيلات الشيعة العراقيين القبيلة والعشائرية القحطانية والعدنانية معلنة ومعروفة للقاصي والداني. إن هذه الطائفية امتزجت آنذاك بنوع من العنصرية القومية العروبية السلالية التي كان الحصري من دعاتها، وقد انتقل الحصري إليها من التعصب لتركيا والتتريك بعد سقوط السلطنة العثمانية. وكان الحصري محركاً أو مشاركاً في أكثر من حدث ذي مضمون طائفي استفزازي في التعليم العراقي في العهد الملكي من ذلك "أزمة النصولي سنة 1926".

سياق الخلاف بين الجواهري والحصري: ضمن السياق ذاته، سياق الخلاف المعروف بين الجواهري والحصري، وهو سياق كما نحاول أن نبين طائفي وليس قوميا، يمكن أن نضيف أن الحصري الذي يجيد اللغة التركية تماما كان في أواخر عهد السلطنة العثمانية موظفاً في مناصب إدارية رفيعة في كل من اليونان وبلغاريا التابعتين للسلطنة، وكان آنذاك من دعاة التتريك (المتعصبين للعنصر التركي الطوراني والذين حاولوا فرض اللغة والهوية التركيتين على جميع شعوب السلطنة وفي مقدمتهم العرب ولكنهم فشلوا) وقد نشر الحصري عدة مقالات بقلمه في الدعوة إلى التتريك في مجلة «تورك أوجاني» بتوقيع شبه مستعار هو "م. ساطع".

قلتُ، لم يتكلم الراحل العلوي عن الأصل القومي للجواهري حين كان الشاعر حياً. وكانت تربطه به علاقة صداقة وإعجاب ومتابعة نقدية والسبب هو أن الشاعر الجواهري نفسه لم يدافع عن أصله الفارسي، كما لم يقل قط إنه عربي الأرومة، ولم يعلن شجرة نسبه، إنْ كانت لديه واحدة موثوقة، للرد على خصومه. ولكنني أتذكر أنني قرأتُ أنه شكك بالمقابل بعروبة الحصري، وقال إنه حين أقام لفترة في اليمن (حيث ولد الحصري سنة 1879) وسأل هناك عن قوم الحصري وعشيرته فلم يجد لهم أثرا ولم يجد أحدا يعرفهم بلقبهم هذا. ولكن كلام الجواهري هنا، لا يعول عليه، لأنه يدخل في باب رد الفعل العاطفي وغير موَّثق، بل ربما يأتي كشهادة متشنجة أو كمعايرة مضادة ضد خصم وقد يكون للغضب والإحن الشخصية لكلا الرجلين - الحصري والجواهري - دورها فيه.

الجواهري شاعر العرب لا الشاعر العربي؟ توقفت طويلا عند حقيقة أن الجواهري ومريديه لقبوه بلقب "شاعر العرب الأكبر" حتى صار لقبه الأشهر والأوحد. ولم يقل هو أو غيره إنه "الشاعر العربي الأكبر"، مع أن الفرق كبير بين معنى العبارتين؛ فعبارة "شاعر العرب" تحيل إلى المِلكية والإضافة قبل أن تحيل إلى أشياء أخرى؛ كأن نقول سيبويه عالم العرب وهو ليس عربياً، أما المتنبي فلا يمكن إلا أن نقول "الشاعر العربي". رغم أن النسبة الى القومية لم تكن شائعة أو موجودة قديما، بل كانت النسبة الى العشيرة منتشرة أكثر منها كالحمداني والخزاعي وإلى المنطقة ومسقط الرأس كالمعري أو إلى الحبيبة كجميل بثينة ومجنون ليلى...إلخ، ومنهم من اكتفى بالكنية دون الخوض في هذه المعامع كأبي نؤاس، ومنهم من غلبت عليه صفته الجسدية كالبحتري أي قصير القامة مع أنه معروف من وجوه قبيلة تنوخ الطائية. فهل كان مُطلِقُ لقب "شاعر العرب" يعي هذا الفرق ويقصده؟

بالنسبة لبعض القوميين العروبيين كالبعثيين وغيرهم فالأمر محسوم، والجواهري عندهم إيراني، وهذه خطوة على طريق التشكيك بعراقيته كما قلنا. أما بالنسبة لبعض الطائفيين الشيعة الذين يعتبرون الجواهري رمزاً من رموز طائفتهم الأكبر مع إنه صاحب أقسى قصيدة هجاء ضد الطائفية السياسية والقومية السلالية العنصرية معا، وأعني قصيدة "أي طرطرا تطرطري..." سنة 1946، فهؤلاء الهادفون إلى إعلاء رايتهم الطائفية وهويتهم الفرعية على حساب الهوية الوطنية العراقية والحضارية العربية هم الوجه الآخر للعُملة التمييزية كالقوميين السلاليين بالضبط لأنهم ينكرون إيرانية أو فارسية الرجل من دون نقاش، حتى أن بعضهم نقله من قومية إلى أخرى حتى لا يقول إنه من أصول فارسية فقال إنه "كردي فيلي" كما فعل القاضي جعفر الموسوي خلال محاكمة صدام حسين.

القوميون إذن يجردون الجواهري من عراقيته بدعوى إيرانيته والطائفيون يجردونه من إيرانيته لإثبات عراقيته. رغم أن عراقية أي شخص ليست مشروطة بالعروبة ولا بالإسلام؛ ففي العراق التعددي هناك العرب الذين يمثلون الغالبية السكانية الكبرى وتصل نسبتهم إلى 85 بالمائة، والعراقيون الأكراد والسريان "الآراميون" والتركمان والمندائيون والفرس ويكاد المكونان الأخيران للأسف ينقرضان. ودينياً، هناك العراقي المسلم والمسيحي والصابئي وغيرهم، ولكن الطائفيين الشيعة غالباً لا يقولون إنَّ الجواهري عربي، وإذا قالوها فبتردد ولعثمة ومن دون أدلة وتوثيق حتى الآن.

وعندي إنَّ محمد مهدي الجواهري شاعر عراقي عظيم، وأعظم من كتب الشعر العربي الكلاسيكي "العمودي- القريض" في القرن العشرين ولعدة قرون خلت وصولا إلى قرن صفي الدين الحلي في القرن الثالث عشر وهو أحد شوامخ السردية الشعرية العربية العراقية الكلاسيكية، ولكني لا أرجح أن الجواهري عربي، وأما أمر جذوره الإيرانية فمحسوم بماضي أسرته طوال خمسة قرون في إيران قبل مقدمهم إلى العراق، وقد تكون أصوله القومية فارسية وقد لا تكون فهذا أمر لا سبيل لإثباته إلا على سبيل الترجيح والظن في الوقت الحاضر.

ربما نجد السبب في إخفاء أو تنكر العراقيين ذوي الأصول الفارسية لأصولهم، كما يقول الشاعر العراقي الفارسي المعاصر محمد الأمين الكرخي. الكرخي كتب لي في رسالة شخصية ما معناه؛ أن العراقيين الفرس وجدوا أنفسهم مضطرين للتنكر لأصولهم الفارسية خوفاً من التمييز والإقصاء ضد الفرس في العراق، وخصوصا من قبل القوميين العروبيين وجمهورهم. وكمثال على هذا الاضطرار أخبرني الكرخي إنه سمع من أحد أقرباء الشاعر الجواهري أنَّ عائلتهم ليست إيرانية (لاحظ أنه لم يقل ليست فارسية، والخلط جائز لدى العامة بين المضمونين المختلفين فالإيراني قد يكون عربياً في الجنوب أو كرديا في الشمال أو فارسيا ولكن الفارسي هو فارسي فقط). وقد عاشت العائلة في إيران خمسمائة عام، وقبلها كانوا يعيشون بجبل عامل في لبنان كما أسلفنا.

هذه المعلومة التي يطرحها هذا القريب، ورغم أنها ليست دقيقة من حيث الصياغة فالجواري بمعنى من المعنى ليس إيرانيا لأنه عراقي ولكن هذا لا يمنع من أن تكون جذوره إيرانية، لا تؤكد - هذه المعلومة -أنهم ليسوا فرساً، كما قلنا، بل ليسوا إيرانيين وهي معلومة تصطدم بطول الفترة التي تقول إنهم عاشوها في إيران لمدة خمسة قرون والتي تجعل إيرانيتهم تحصيل حاصل هوياتياً، وقبل هذه الخمسة قرون كانوا يعيشون في لبنان وهذا يعني أنهم من أوائل الشيعة الاثني عشرية في لبنان.

وكل هذا الكلام يحتاج إلى فحص نقدي دقيق وأدلة ساندة ملموسة ليست في متناولنا الآن. ونجد استثناءات نادرة في هذا الصدد كما في حالة المؤرخ والأديب العراقي جعفر الخليلي الذي اعترف بأصوله الفارسية - والعهدة على الصديق الشاعر محمد المين الكرخي - سيما وأنه خلد مأساة المهجرين العراقيين الفرس والكرد الفيلية من العراق في عهد النظام البعثي السابق وحكى هو شخصياً عن مأساته العائلية وتهجيره من بلده العراق وكيف افترس ذئب والدته العجوز في البرية وهم منفيون على الحدود بين العراق وإيران في رواية بعنوان "قرى الجنة".

الفرس العراقيون مكون مهم: إنَّ الكلام هنا عن العراقيين ذوي الأصول الفارسية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، هو عن مكون عراقي مهم وليس عن عائلة واحدة أو مجموعة أفراد من بضع عوائل. أي إنهم لم يكونوا مجموعة أفراد محدودة، ولا علاقة لهم عرقيا بالكرد الفيلية الذين يحسبون عليهم جزافا من قبل السلطات أحيانا، بل هم مكون عراقي قديم ومهم. فبحسب الإحصاء الذي أجرته الدولة العراقية سنة 1947 واقتبسه حنا بطاطو في ثلاثيته الضخمة عن العراق نجد أن عديد الفرس العراقيين كان بحدود 52000 نسمة أي أن نسبتهم كانت 1.2 بالمئة من مجموع السكان العراقيين وهي نسبة تفوق نسب بعض المكونات العراقية الصغيرة والمعترف بها اليوم. فهم مثلا أكثر من الأيزيديين والصابئة والشبكيين جميعاً. وهم كانوا آنذاك أكثر من التركمان السنة الذين كانت نسبتهم آنذاك تصل إلى 1.1 بالمئة من السكان، ولكن إذا أضفنا إليهم التركمان الشيعة فتصل نسبتهم إلى 2.0 بالمئة، "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية - ص 60- حنا بطاطو". ولكن ماذا تقول وثيقة نجفية مهمة بخصوص جذور عائلة الجواهري؟ هذا ما سنتوقف عنده في الجزء الثالث من هذه المقالة قريبا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

وضع احد اهم اعلام التفكير الغربي الحديث هيغل للعقل مسارا تتابعيا  موحدا اياه من  الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، وهكذا يصير الغرب على مستوى التجلي العقلي وسيرورته، الاعلى والقمه منذ الاغريق، فكيف اليوم، علما بان الراسمالية قد ارتهنت حسب اهم "علماء" الاجتماع الغربيين(1) الى التعبيرية اللاارضوية الدينيه "البروتستانتيه"، والسؤال الذي يظل معلقا هنا هو لماذا لم تصبح الفلسفة اختراقية مجتمعية  على مستوى العالم، وظلت مجالا نخبويا مقارنه بالدين الممارسة الحياتيه الشاملة، بحيث نتوقع سؤالا اخر هو لماذا لاتكون التعبيرية تعبيريتان منفصلتان، لاارضوية مجتمعية ابراهيمة شرق متوسطية هي ظاهرة كونيه شاملة، تقابلها تعبيرية ارضوية تظهر في اعلى المجتمعية الازدواجية الطبقية الاعلى ديناميات ضمن صنفها  الارضوي الاحادي.

ان مايسقط من اللوحة ويخلخل بنيتها على مستوى الادراكية البشرية لهذه الجهه، هو القطع بنهائية الطور الفلسفي الثاني بعد الاغريقي، المترافق مع الاله، واعتباره الخاتمه الكونيه غير القابله لاية احتمالية  اخرى، وهو ماجرى تكريسه اليوم بكل  ما  متاح من طاقة بحيث غدا من المستحيل كليا التفكير باحتمالية الطور الثاني "الديني" المجتمعي اللاارضوي، بحكم التبدل الانقلابي من اليدوية الى الالة، بحيث نتوقع انتقالا من الحدسية النبوية الى العليّة على سبيل المثال، لندخل باب  "العلم" و "العقلانيه" اللاارضوية، بدل الارضوية الغالبة والمكرسه.

ليس بمقدور العقل الاحادي الارضوي ادراك، فضلا عن قبول فكرة الازدواج المجتمعي،  وحين يذهب الغرب الحديث للكشف عن الحقيقة  الازدواجية الطبقية  التي  ظلت غائبة  حتى القرن التاسع عشر، فانه يبادر الى تعميمها على العالم، مستبعدا كليا احتمالية ان تكون هنالك "ازدواجية" اخرى غيرها،  من نوع "الازدواجية المجتمعية"  التي هي خاصية المجتمعية الشرق متوسطية، وهي السبب وراء، والمحرك الدينامي الذي اليه تعود التعبيرية الكونية اللاارضوية الاختراقية للمجتمعات الاحادية، نبويا حدسيا ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي.

هنا نكون امام اهم واكبر نقص يرافق عملية الانتقال الالي بصيغتها الابتدائية الاولى، ومارافقها من ردة فعل عائدة الى نوع المجتمعية التي انبثقت بين ظهرانيها، كمفتتح بواية مسار ذاهب الى الاكتمال ماديا، وعلى مستوى الوعي، مابين الالة المصنعية الاولى والتكنولوجيا الانتاجية والعليا العقلية الوشيكه، وماتتطلبه من نمطية اعقالية ضرورية، الكينونة المجتمعية ليست قاصرة دونها،  الامر الذي يتم نفيه ابتداء بالتركيز  على الحاصل الابتداء على انه الغائية والنهاية المرجوة من الانقلاب الفاصل الواقع، الامر الموحي بالمحدودية الادراكية ونقص الخيال المتوافق مع الحقيقة المجتمعية ومنطوياتها الثرة، والمتعدية للمنظورات والملموسات التبسيطية الاقرب الى الطبيعة الجسدية اليدوية، وثقل ترسبها من الطور المجتمعي المنقضي.

والاهم في اللوحة المشار اليها اعلاه، ليس فقط ماقد ولدته القصورية الاوربية ومتبقياتها، فالخطر لهذه الجهه هو ماقدحصل كانعكاس متماه مع الظاهرة الغربيه وماتقوله عن نفسها، وماهو واقع بحكم المتغير الالي وما رافقه من منجز هائل، وهو ماقد حل على موضع الازدواج المجتمعي الشرق متوسطي اللاارضوي،  ولابد ان ناخذ بالاعتبار بما خص هذا الموضع من العالم، كونه يوم وقع الانقلاب الالي الاوربي، كان في حال انقطاع بين الدورات،  وهذه عادة ما  يتلازم معها الانحطاط، فالمنطقة الازدواجية المجتمعية محكومة مثلها مثل الازدواجية الطبقية، الى المراحل التي توافق كينونتها وبنيتها، فهي خاضعه لقانون الدورات والانقطاعات، اكثرها تجليا في الموضم الازدواجي  البؤرة في ارض مابين النهرين التي كانت قد انهارت دورتها الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية مع القرن الثالث عشر، وعادت للانبعاث بلا نطقية مع القرن السادس عشر.

ووقتها لم يكن من المتوقع لهذا الموضع ان ينهض معبرا عن ذاته  بناء على، ووفقا للاشتراطات الناشئة الاليه الحديثة، خاصة وانه لم يسبق ان عبر عن ذاته بحسب ماكانت تتيحه اشتراطات الطور اليدوي "عليّا"، فكانت تعبيريته وقتها "حدسية نبوية" ايحائية، لتبقى مسالة ادراك الذاتيه مؤجله، بانتظار التفاعلية الناشئة عن الانقلاب الالي ومايترتب عليه،  وفي مقدمته التشبهية بالغرب قوميا، ووطنيا، ثم طبقيا، احاديا ارضويا، مع كل مايلازم ذلك من متغيرات المتغير الالي، وانعكاساته الشاملة الابتدائية كما تنطق بها الارضوية الاحادية، بصيغتها الطبقية.

ومع ان المنطقة كانت قد عرفت من جهتها بداية الانبعاث  الحالي الحديث الثالث في ارض سومر جنوب العراق قبل الانقلاب الالي، عند القرن السادس عشر، الا ان ذلك لم يرافقه النطق اللازم، وظل مبعدا من الادراكية والوعي بحكم استمرارمفعول اليدوية التي كانت سائده هنا، في حين عمت المنطقة امثولة مصرية مع محمد علي الالباني، على اعتبار مصر هي البنية الوطنيه النموذجية الاقرب الى الكينونه الغربية الاوربية،  وان من دون دينامياتها، كما  وجدت انطلاقا من الجزيرة العربية موضع الثورة الكبرى الاسلاميه، بدايات الدعوة "القومية" بتحفيز براني،  وصولا الى الطبقية العامة بناء على التاثر بالانقاسامات الحاصلة في البنية الغربية دوليا، وحالة  القطبيه العامة للكوكب، ماقد منح فكرة الطبقية الماركسية فعالية عالمية.

هذا ماكان بمستطاع العقل الازدواجي واللاارضوي الشرق متوسطي ان يتمخض عنه، خلافا لحقيقتة، لابل للحقيقة الانتقالية التحولية المجتمعية الكونية المتلازمه مع الانقلاب الالي، ومساره، وماهو ذاهب اليه من انتقال من الجسدية اليدوية، الى الاليه التكنولوجية العقلية، فالانقلاب الالي يبدا بالاكتمال مع الرؤية النطقية اللاارضوية  الثانيه المطابقة لمنطواه، ووقتها يصير العالم ماخوذا بالانتقالية العظمى، الى العقل، مع بدايات تحرره واستقلاله عن الجسدية، الامر المرهون للقفزة اللاارضوية الثانيه العليّة، مابعد الابراهيمه النبوية الموافقة والمتطابقة مع اشراطات اليدوية والغلبة الارضوية.

نحن ازدواج مجتمعيتان، مانراه وماقد وصل الى الانهيار الشامل على الصعد كافة دولا وتيارات واتجاهات متشبهه  ببغاويا بالغرب الابتدائي،  هو  انهيار الارضوية ضمن تكويننا  اي الجزء القابل للتماهي  مع الغرب القصوري،  وهو البداية والاشارة التاريخيه الكبرى لانبثاق  التعبيرية العظمى التحولية الازدواجية اللاارضوية، تلك التي ستاخذ الكائن البشري الى المستقبل المقرر له، والحاكم لوجوده والياته التاريخيه، وهو مما" لاعين رات ولا اذن سمعت".. فلنوجه النظر الى هناك، الى حيث يقبع السر الكوني المجتمعي الاعظم المغفل كنقيصة وعي وادراكية كبرى "انسايوانيه"ظلت غالبه الى اليوم.

***

عبد الأمير الركابي

...........................

(1) مثال كتاب "ماكس فيبر" الهام  فوق العادة "الاخلاق البروتستانتيه وروح الراسمالية"/ مركز الانماء القومي/ ترجمة محمد علي مقلد.

مع بدء امكان تجاوز القصورية العقلية التاريخية المرتبطة بالطور اليدوي والموصولة به، جاء الغرب المسمى ب "الحديث" وعصره ليكرس المفهوم القصوري ذاته عن الظاهرة المجتمعية، مع فارق هام تمثل في اعلان الغرب ان الكائن البشري ظل قاصرا عن وعي الحقيقة المجتمعية، وانه هو، واليوم قد سد هذه النقيصة الاساسية في الوعي، وفي علاقة الانسان بذاته وبالوجود، وبالفعل فلقد طرق  من تصدوا لهذا المجال باب الظاهرة المجتمعية وصاروا يعالجونها، وذهب البعض منهم الى  التعرف على خاصية مهمه للغاية كانت مغفلة وغائبة، هي الطبقية والصراع الطبقي، الامر الذي  شجع على الاعتقاد بان المجتمعات محكومة لقانون تاريخي تحولي، ماخوذ بالعودة على بدء، من "الشيوعية" البدائية الاولى كمرحلة تاريخيه الى "الشيوعية الاخيرة " العليا، وان هذا السياق محكوم لحتمية تاريخية لاخروج عنها. لكل هذا فقد كان من البديهي ان يقع الكائن البشري تحت طائلة الانبهار بالمنجز غير العادي، مقارنه بالمتعارف عليه ابان الطور اليدوي المنقضي من تاريخ المجتمعات البشرية ومستوى ادراكيتها.

ولم يكن واردا على العموم ولاكان من الممكن ان يخطر على البال، احتمال من نوع  ان يكون ماقد حصل في هذا المجال  وقتها وحتى الان، من قبيل الافتتاح بعد طول غلبة لنوع من التفكير، وانه بالاحرى خطوة اولى، ليس من المستبعد انطوائها على شيء من النقص وعدم الكمال، بالاخص بما يتعلق بميدان المجتمعية بالذات، مع الانتقالة الالية الفجائية وانعكاساتها على الاليات المجتمعية في اللحظة الواقعه، مع الاخذ بالاعتبار طريقة عمل العقل واشترطات انتقالاته بحسب المتغيرات الفاصلة، علما بان اهم النواقص الادراكية بما يخص الجانب المجتمعي كما تتكرس يدويا، تلك التي تعود الى الجزم الراسخ باحادية النمطية المجتمعية كما يتلقاها الكائن البشري عيشا وتلمسا، بظل الاشتراطات اليدوية الجسدية على مدى القرون من تاريخ التبلور المجتمعي.

والملفت هنا والجدير بالنظر، كون الانتباهة الغربية الحديثة للظاهرة المجتمعية لم تتعرض لهذه الناحية الاساسية بالذات، وحين اسس مايعرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، فان ماظل طاغيا عليه وعلى منجزه حكم المجتمعية الاحادية المطلق، في الوقت الذي كان المطلوب اولا وقبل كل شيء، وحتى يصير "علم الاجتماع" علما، وليس محاولة تجريبية ابتدائية، ان توضع مسالة النوع المجتمعي في راس الاهتمام البحثي، بحيث يتم التساؤل: "هل المجتمعات احادية ام ازدواج؟" الامر الذي لم تكن بعض الدالات عليه معدومة كليا، او من الصعب او المستحيل العثور على مامن شانه لفت الانتباه اليها، لو ترفر مستوى اخر من الحساسية الادراكية.

من المنطقي بعد هذا ان نميز بين "علم اجتماع" ارضوي احادي، و"علم اجتماع" هو "علم الاجتماع" المقصود والضرورة التاريخيه العقلية الكبرى، تلك التي عندها يكون الانقلاب الالي قد اكتملت عناصره فعلا، مايعني افتراض حلول فترة انتقالية وسطية، بين الطور اليدوي والالي على مستوى الادراكية العقلية، الامر الاقرب للبداهة بعد الزمن اليدوي واثره، وتغلبه الكاسح، مع مايتميز به الكائن البشري كينونة  وطبيعه من خضوع للاعتياد، عدا عما يترتب على عدم اكتمال الاسباب المادية الضرورية للانتقال العقلي المطلوب، في الساعة والاوان الانقلابي المادي بصيغته الاولى، قبل اكتمال  باقي صيغه  مابعد الالية المصنعية.

والظاهرة الابرز الحرية بالتوقف، ان "علم الاجتماع" الاوربي  اخر العلوم  قد نظر الى الظاهرة الدينيه بذات الطريقة التي ظل ينظر لها بها ابان الطور اليدوي، فلم يجر البحث في اصولها ومايقف خلفها من اسباب ومحركات وكينونة مجتمعية، ويصل الامر هنا الى ابتداع مايعرف ب "علم الاجتماع الديني" من دون اية بادرة دالة على احالة الى الظاهرة المجتمعية اللاارضوية، والى الازدواج المجتمعي مافوق الكيانوي المحلي،  بما ياخذ الى الاصل، والى الحقيقة الكبرى الاساس التي من دونها لن يكون للمجتمعية تعريف، ولا ادراك لازم  يخص طبيعة وجودها،  ومقاصدها  كحقيقة انتقالية تحولية.

مجتمعيتان، اولى هي اللاارضوية، وهي محددة الوجود في موضع بذاته من الكرة الارضية مع مجاله التشكلي الاوسع الشرق متوسطي، واخرى غالبة لغلبة الوسيلة الانتاجية الاولى اليدوية الجسدية ومواكبها العضوي، المجتمعية الارضوية، المحكومة للقصورية الادراكية على مدى وجودها، برغم كونها الغالب الكاسح نوعا ومفاهيما ودرجه ادراكية، مايضعها لاسباب عقلية تشكلية بموقع البداهة كنموذج احادي، علما بان النموذجية الاخرى اللاارضوية اعلى  بما لايقاس تحققا وكينونه واليات، تظل تنكر وتستمر مزاحة من عالم المجتمعية والوعي بها، مادام بالامكان بحكم طبيعتها وسبل وجودها، طردها خارج الحقيقة المجتمعية الملموسة الى الماوراء والغيب، زيادة في تكريس الاحادية واطلاقيتها النموذجية.

ومن الغريب ان لا يقف الغرب بحداثته وعصرنته مع ماقد حققه من قفزة في المجالات المختلفة عند الشرق المتوسطي، برغم تفاعله التاريخي معه، على سبيل التوقف عند ظواهر بارزة واوليه، من نوع مصدر" الدين" الذي يخترق الغرب،ولماذا جاء من موضع بعينه، اذا كان هو كما يتعمد تعميميه مع نكران منطقة انبثاقه والبنية التي نجم عنها نبويا تتابعيا محددة مكانيا، فلا يسال لماذا في هذا الموضع بالذات،  بحثا عن الظاهرة الاكثر كمالا في التاريخ على الصعيد اللاارضوي ابراهيميا، مايتعارض مع رغبة الغرب الحديث في الحاق العالم بالموضع المتمتع اليوم بقوة مفعول الاله بصيغتها الاولى، وجعله بالتقصد الخارج عن "العلمية" و "العقلانية" المدعاة،  قوة وموضعا  للمركزية الاوربيه التي تصادر الراهن والتاريخ، بتكريسها رؤية للوجود والاليات المجتمعية البشرية، احادية، خارجه عن الحاصل تاريخيا، بحيث لم يحصل ان طرح في الغرب الحديث سؤال عن لماذا  الشرق المتوسط موجود في الغرب وبين تضاعيفه المجتمعية مسيحيا وليس العكس، والامر هنا  يتعدى الدلالات المجتمعية الى مايعرف ب "الدين" كما جار النظر اليه،  لتسقط ضرورة السؤال الصريح، لماذا ياتي الدين من الشرق المتوسطي وليس العكس.

والاهم من كل هذا ومايعين نطاق وحدود "العلمية" الغربية المقصودة كون   الغرب لم تخطر له اليوم وفي غمرة الانقلاب الكبير الشامل، فكرة من نوع "احتمالية مابعد الابراهيمة"  مع افتراض  ان تنتمي لما يعتبر "علموية لاارضوية"، بما يضعها بموقع الطور التحققي  المرتهن لمفعول تبدل الاشتراتطات بما انها ظاهرة تاريخانيه، لم تنشا جاهزة ولا جامده بالاصل، وكما  الحاصل وقتها ضمن اشتراطات اليدوية التي كانت مفروضه على الغرب نفسه ومفاهيمه، وكيفيات تعامله مع ذاته والوجود، ومثل السؤال المشار اليه كان خارج العقل الغربي كليا وبالمطلق طبعا، مادامت ايه فكرة تخص الظاهرة المجتمعية اللاارضوية الابراهيمه لم ترد على البال كي تبرر، او تشجع على مابعدها، ومامن شانه تكملتها.

***

عبد الأمير الركابي

"وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الانسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر..."

هذا ما قاله المفكّر الألماني هيغل، وهو يصلح مدخلاً لبحثنا الموسوم "ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية". والمقصود بذاكره الألم "ذاكرة الضحايا وذويهم"، إن كانوا قد فارقوا الحياة، و"ذاكرة المجتمع" التي توجّعت بسبب ما عاناه الضحايا وذويهم والمجتمع ككل من آلام تركت تأثيراتها اللاحقة، والتي تحتاج إلى معالجات تنسجم مع قيم العدالة من جهة، وتستشرف إعادة بناء المجتمع على نحو سليم من جهة أخرى كي لا يتكرر ما حصل من استلاب للضحايا وحقوقهم الإنسانية، لاسيّما تعريضهم لآلام مبرحة، تظلّ محفورة في الذاكرة الجمعية.

وسؤال الضحايا هو سؤال قلق وليس سؤال طمأنينة، وهو سؤال ضيق وليس سؤال رهاوة، بقدر ما هو سؤال شك وليس سؤال يقين، والسؤال يولّد اسئلة، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ وكيف السبيل إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر؟

وقد ابتدع الفكر الحقوقي الدولي وعبر تجارب مختلفة فكرة العدالة الانتقالية، التي تُعتبر ذاكرة الألم إحدى أركانها كي تكون في دائرة الضوء، ولا يلفّها النسيان، لذلك كثيراً ما يتكرّر في الحديث عن العدالة الانتقالية: نغفر دون أن ننسى، وتلك المسألة مهمة وضرورية كدرس للأجيال المقبلة، ولكي نتابع المقصود بذاكرة الضحايا (ذاكرة الألم)، لا بدّ من التعمّق في مفهوم العدالة الانتقالية، فما المقصود منها؟

ما المقصود بالعدالة الانتقالية؟

العدالة الانتقالية مفهوم ما يزال غامضاً أو ملتبساً، خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به "الانتقالية" فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية (الجنائية) المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟

وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق واعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون بهدف تحقيق المصالحة الوطنية المجتمعية.

لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي رافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح واقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرّر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي.

وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الاصلاحية الضرورية وسعي لجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة وذويهم، فضلاً عن إبقاء الذاكرة حيّة مجتمعياً، فيما يتعلّق بالانتهاكات السابقة، والهدف هو الحيلولة دون تكرار آلام الماضي. ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم ما يسمّى ﺑ "العدالة الانتقامية"، التي تقود إلى الثأر والكيدية، الأمر الذي يجعل دورة العنف والألم مستمرّة

قد يتصوّر البعض أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب.

ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والانسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطيء في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيّما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسيس وبخاصة بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية، وبخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بنوشيه ضدّ حكومة سلفادور ألندي المنتخبة.

ومنذ السبعينيات وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.

كما شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وثمة تجارب غير مكتملة أو مبتورة لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية، وخصوصاً كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي.

ولا بد من ادراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.

قد يعتقد البعض أن وصفة العدالة الانتقالية لوحدها ستكون شافية لإصلاح الأوضاع وإعادة الحقوق وانتهاج سبيل التطور الديمقراطي، خصوصاً بتسليط الضوء على ذاكرة الألم، لكن مثل هذا الاعتقاد غير واقعي ان لم يترافق مع اعتبار العدالة الانتقالية مساراً متواصلاً لتحقيق المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والمجتمعي والقضاء على بؤر التوتر والارهاب والعنف، وصولاً إلى انجاز مهمات الاصلاح المؤسسي والتحوّل الديمقراطي.

وبالرغم من حداثة التجربة التاريخية للعدالة الانتقالية، الاّ أنها أكدت انه لا توجد تجربة انسانية واحدة ناجزة يمكن اقتباسها بحذافيرها، بل هناك طرقاً متنوعة ومختلفة للوصول اليها وتحقيق المصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي، ومثل هذا الاستنتاج يعنينا على المستوى العربي، فلا يوجد بلد عربي يمكنه الاستغناء عن مبادئ العدالة الانتقالية وصولاً للتحوّل الديمقراطي، خصوصاً وأنها بحاجة إليه بهذه الدرجة أو تلك لوضع المستلزمات الضرورية للإصلاح والتحوّل الديمقراطي ووضع حد للانقسام والتمييز المجتمعي.

ان مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون، الامر الذي يحتاج تأهيل وتدريب وتطوير للأجهزة الحكومية وبخاصة القضائية والتنفيذية بما فيها أجهزة الشرطة والأمن.

***

عبد الحسين شعبان - باحث وأكاديمي

..........................

- نص محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي السنوي الموسوم "ذاكرة الألم في العراق" بدعوة من كرسي اليونيسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية التابع لكلية الآداب في جامعة بغداد 16 نيسان / أبريل 2025 (برعاية من العتبة العباسية في كربلاء).

 

تزخر البيئة الغربية، بحكم طبيعتها الداعمة للبحث العلمي والابتكار، بعشرات بل مئات من العلماء والباحثين من اصول عراقية، ممن اثروا ميادين شتى باكتشافاتهم ونظرياتهم التي تقدم البشرية وتحل مشكلاتها. ومع ذلك، وفي مفارقة مؤلمة، يبقى هؤلاء النجوم المهاجرة طي الكتمان في وطنهم الام، لا يكاد يذكرهم احد او يحتفي بانجازاتهم العظيمة.

هذه الحقيقة القاسية تضعنا امام تساؤل جوهري: لماذا يهمل العراقيون هؤلاء الكفاءات الفذة، وقلما ما نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم، بينما تكال عبارات التقدير والاحتفاء، بل والتجميل، لشخصيات سياسية في المهجر. ان هذا الاهمال ليس مجرد نسيان عابر، بل هو اغفال لثروة وطنية حقيقية، وتهميش لمصدر فخر لا يضاهيه اي منصب سياسي او جاه زائل.

لطالما ظل العراقيون، بحسب ما تشير اليه ملاحظة احد الاصدقاء، مفتونين بالسلطة والجاه والمنصب. هذا الافتتان يتجلى بوضوح في مقاييس التقدير والاعتراف التي يتبناها المجتمع. ففي الغرب، حيث التنافسية عالية ومتطلبات المنصب شديدة، ايهما اصعب واكثر مشقة وجهدا: المنصب الذي ياتي عبر حزب فائز بالانتخابات، او المنصب العلمي والتميز باكتشاف او نظرية تقدم البشرية وتسعدها وتحل مشاكلها؟ الاجابة البديهية ان الانجاز العلمي الحقيقي يتطلب سنوات من الجهد المضني والبحث الدقيق والمثابرة والتفاني، وغالبا ما يكون الهدف الاسمى منه هو خدمة الانسانية جمعاء، وليس فقط تحقيق مكاسب شخصية او حزبية.

ان المنصب السياسي، وان كان يتطلب جهدا، فانه غالبا ما يكون مرتبطا بعوامل مثل الشعبية والعلاقات والقدرة على المناورة السياسية، والتي قد لا ترتبط بالضرورة بالقدرة على بناء المجتمعات وتقدمها. ومع ذلك، تتجلى المفارقة المؤلمة في مجتمعاتنا بان العلماء العراقيين الحقيقيين، الذين يكدون وينتجون في صمت، لا يحظون بالذكر او التقدير الذي يستحقونه، فهم لا يسعون خلف الاضواء بل خلف الحقيقة والابتكار.

في المقابل، لا نكاد نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم الا اذا كانوا محتالين وادعياء كمثل مكتشفي دواء للسرطان او اكتشاف يهز صرح العلم. هذه الظاهرة تعكس خللا عميقا في اليات التقدير لدينا، حيث ينجذب الجمهور نحو العناوين المثيرة، حتى لو كانت زائفة، بينما تهمل الجهود العلمية الرصينة والموثوقة.

ان العلماء الحقيقيين، على عكس السياسيين الباحثين عن السلطة والجاه، هم من يبنون حقا مجتمعات المستقبل. انهم يساهمون في تقدم الطب والهندسة والتكنولوجيا والفنون، ويدربون اجيالا جديدة من العقول لتواصل مسيرة البناء والابتكار. وبينما يجهد هؤلاء ويبذلون قصارى جهدهم لتقديم اضافة نوعية للبشرية، نجد ان الاهتمام ينصب على شخصيات سياسية. ان هذا التحيز يضع العراق في موقف لا يحسد عليه، فبدلا من الاحتفاء بمن يرفع راية العلم والتقدم، نجد انفسنا نتجاهلهم لصالح اشكال اخرى من "الانجاز" غالبا ما تكون سطحية او حتى ضارة.

لقد اصبح اسم المعمارية العراقية العالمية الراحلة زها حديد ايقونة للانجاز والتميز، وبحق. فاعمالها الفنية والهندسية غيرت وجه العمارة العالمية، ومنحت العراق فخرا لا يمحى. ولكن، يبدو ان ما لم يكن بمنزلة زها حديد او بانجازاتها، فهو لا يستحق التقدير الذي يحظى به شخصية سياسية عراقية في المهجر، سواء كان له انجاز حقيقي او بدونه. هذا المعيار، وان كان يهدف الى تسليط الضوء على عظم انجازات زها حديد، فانه يكشف عن مشكلة اعمق في مقاييس التقدير لدينا.

ان حصر التقدير في "ايقونات" عالمية بهذا الحجم، مع تجاهل عشرات او مئات الانجازات العلمية والبحثية الاخرى التي قد لا تكون بنفس البريق الاعلامي ولكنها لا تقل اهمية وتاثيرا في مجالاتها، هو اجحاف بحق عدد كبير من العلماء العراقيين. هؤلاء العلماء قد لا يبنون صروحا معمارية، ولكنهم يكتشفون ادوية منقذة للحياة، او يطورون تقنيات حديثة، او يقدمون نظريات جديدة تغير فهمنا للعالم. والادهى من ذلك، ان هذا المعيار المتشدد للتميز العلمي يقابل بتساهل غريب في تقدير الشخصيات السياسية. هذه المعايير المزدوجة تحرم العراق من الاحتفاء بقاعدة واسعة من العقول المبدعة، وتوجه رسالة سلبية مفادها ان السياسة، حتى وان كانت مشوبة بالفساد، قد تحظى بتقدير اكبر من العلم والتفاني في خدمة البشرية.

علماء العراق في المهجر ليسوا مجرد افراد ناجحين في بيئاتهم الجديدة، بل يمثلون ذخر العراق الحقيقي وفخره المستدام. انهم سفراء صامتون لقدرات العقل العراقي على الابداع والابتكار، وانجازاتهم تضيء دروب التقدم البشري. ان الاوان لان نغير نظرتنا، وان نخرج من غواية المناصب السياسية الزائلة الى تقدير الانجازات العلمية الخالدة.

يجب ان نفهم ان التقدم الحقيقي لاي امة يبنى على سواعد علمائها ومفكريها، وليس على تقلبات المشهد السياسي. لذا، فاننا ندعو الى ضرورة انصاف العلماء العراقيين في المهجر. هذا الانصاف لا يعني فقط مجرد ذكر اسمائهم، بل يتطلب جهودا منظمة لتوثيق انجازاتهم، وتسليط الضوء عليها في وسائل الاعلام والمنصات التعليمية، وتنظيم فعاليات لتكريمهم، وربما حتى انشاء جسور للتواصل والتعاون بينهم وبين المؤسسات التعليمية والبحثية داخل العراق. الاحتفاء بهؤلاء العلماء سيغرس الأمل في نفوس الأجيال الشابة داخل العراق، ويلهمهم للسير على خطاهم في دروب العلم والمعرفة، بدلا من الانجراف نحو بريق المناصب الزائلة. فالعراق لن ينهض ويستعيد مكانته الا بتقدير ورفع شأن عقوله، اينما كانت. انهم كنز العراق الاغلى، ومصدر فخره الذي يجب ان يزهو به امام العالم.

***

د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس في جامعة دبلن

لعل سائل يسأل؛ ما علاقة المدينة بالصراعات التي يستعر أوارها بين جماعة (السلطة) الحاكمة من جهة، وبين جماعات المعارضة المحكومة من جهة أخرى، حتى يمكن إقحامها في أتون تلك الصراعات الدائمة الافتعال والمستمرة الاشتعال ؟!. وللإجابة على ذلك نقول؛ ان هناك أكثر من سبب أو دافع يجعل من (المدن) أهدفا "مرشحة لانتقام المعارضة من السلطة والتنكيل الرمزي بسلطانها، وذلك باللجوء لتخريب أبرز معالمها العمرانية والمعمارية، وإلحاق الضرر بشتى مظاهرها الحضرية والتاريخية، لاسيما تلك التي تحمل دلالات تتعلق بالذاكرة الاجتماعية وتحيل الى الهوية الثقافية، أو ما يسمى بالسرد الانثروبولوجي الفرنسي (أماكن الذاكرة).

وإذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقبول لهذه الظاهرة الغريبة، وبحثنا بصورة معمقة عن الدوافع والبواعث التي تجعل منها سلوكا مبررا وتصرفا مشروعا من وجهة نظر المعارضة، فإننا سنكتشف ان مواقف السلطة الحاكمة وما تمارسه من أساليب ضد خصومها ومعارضيها، هي المسؤول الأول ليس فقط عن حصول هذه الظاهرة من قبل الجماعات الموصومة بالمعارضة وحسب، وإنما إيغار صدور مكوناتها بمشاعر الحقد والكراهية لكل ما يمت بصلة لكل ما تحويه تلك المدن من معالم حضارية وشواهد تاريخية. ذلك لأن صانع القرار السياسي في هذا النمط من المجتمعات الموبوءة بالتخلف، لم يترك أو يخلق ثيمة ذات دلالة تشعر أفراد هذه الجماعات بكل ما يحبب لديها الانتماء للمدينة الحاضنة، ناهيك عن كونه يسعى لتجريدهم من كل ما يشدهم للولاء الى رموزها التاريخية والحضارية والعمرانية. ولعل الباحث الانثروبولوجي (مايك كرانغ) كان على مطلق الصواب حين ذكر في كتابه المعنون (الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية)، أنه (إذا تم تقويض العلاقات بالأماكن، سيتم من ثم تقويض الجماعات وهويات الناس).

ولعل ما يعمق إحساس الجماعات المعارضة بالغربة المكانية ويشعرها بفقدان الهوية الإقليمية للجغرافيا الوطنية، رغم كونها تعيش – وربما ولد معظمها فيها - داخل المدن وتمارس حياتها الأسرية والقرابية والاجتماعية منذ أجيال، هو ان صاحب السلطة يبدو مهووس بشخصنة كل ما تحويه المدن من معالم ذات قيمة عمرانية أو حضارية، حتى ولو كان تاريخ انجازها يقع خارج فترة النظام القائم. لا بل ان رمز هذا الأخير قد يتمادى في بعض الأحيان الى استثمار وتوظيف الرصيد الاعتباري الذي غالبا "ما تتمع به بعض النصب أو المعالم التاريخية التي سبق وأقيمت داخل المدن منذ زمن بعيد، بحيث يراد لها أن تكون بمثابة امتداد عضوي ورابط دلالي لطموحات ورغبات الحاكم المعاصر، كما حصل في أكثر من مناسبة ضمن إطار التجربة العراقية السابقة، لاسيما تلك الدلالات التي حملتها مقولة (من نبوخذ نصر الى صدام حسين بابل تنهض من جديد)، والتي كانت الرائجة في وسائل الإعلام الرسمي للنظام السابق.

وفي إطار مثل هذه السياسية التي تحاول تجيير (الذاكرة التاريخية) الخاصة بالمدينة المعينة لصالح شخصية الزعيم السياسي، بحيث تبدو كما لو أنها بلا قيمة ولا اعتبار ما لم يصار الى اقترانها بكيانه الشخصي المشحون بمظاهر الهيبة الكاذبة والكاريزما المزيفة، فإن سيكولوجيا الجماعات المعارضة لا تفتأ تعمل على تجريد المدينة من طابعها الجغرافي – المكاني المستقل، مثلما سلخها عن مضامينها التاريخية والحضارية والوطنية الشاملة، ومن ثم النظر إليها كتجسيد لجبروت الدولة المهيمنة وطغيان السلطة الحاكمة. وهكذا تشرع الممنوعات العرفية والممانعات الأخلاقية التي كانت سابقا "تلزم الأطراف المعنية على احترامها ومراعاتها بالتآكل شيئا"فشيئا"، وتحلّ محلها مشاعر فائضة بالكراهية ونوازع طافحة بالانتقام ليس فقط من شخص الحاكم الذي يمثل هرم السلطة ورمزها الأعلى فحسب، وإنما حيال كل ما يقترن به أو يمتّ له بصلة سواء على صعيد المؤسسات أو الكيانات التي يمثلها، أو على صعيد الانتماءات والولاءات التي يجسدها.

ولعل من أبرز مظاهر كراهية المعارضة لرموز السلطة شيوعا"، هي توجيه مشاعر الازدراء ونوازع الانتقام نحو المدينة التي تجسّد قوة الحاكم وتعكس سلطانه – غالبا "ما تكون العاصمة – بحيث ان سلوك الانتقام المتمثل بالتخريب العمراني المتعمد والتدمير الحضري المقصود، لا يقتصر فقط على فترات الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار النظام المسيطر وسقوط الحكومة المهيمنة، كما حدث لمدينة (بغداد) عقب الغزو الأمريكي عام 2003 فحسب، وإنما يسري كذلك على فترات الهدوء الاجتماعي والاستقرار السياسي التي يكون خلالها الحاكم في أقوى حالاته. وذلك بانتهاج كل ما من شأنه التقليل من شأن المعالم التاريخية رغم قيمتها، والشواهد الحضارية رغم أهميتها، والنصب المعمارية رغم جماليتها. ومن ثم تعمّد إهمالها والإساءة إليها بشتى الطرق والأساليب حتى ولو بتركها عرضة لعوامل التآكل والاندثار دون حماية أو رعاية، مع توافر القدرات والإمكانيات على تقديم المساعدة اللازمة وإصلاح ما لحق بها من أضرار، خصوصا "وأنها نشأت في بيئات وتربت على قيم غالبا "ما كانت توحي بانعدام أية وشيجة تربطها بها وتشدها إليها.   

***

ثامر عباس – باحث عراقي  

 

دردشة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء

 جمعتني مقابلة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء اللامعين الذين درسوا واستكملوا تعليمهم وعملوا في الغرب وهم الآن يرأسون مواقع قيادية في بلادنا العربية وفي فلسطين تحديداً، دار هذا اللقاء الذي يسلط الضوء على مواطن القوة والضعف في كلا الحالتين ما بين الشرق والغرب من العمل الوظيفي والمهني، حيث ينظر الغرب إلى القيادة على أنها مبنية على الثقة وتفويض الصلاحيات بين المسؤول والمرؤوس، وتُمنح للموظف حرية اتخاذ القرار ضمن نطاق عمله دون تدخل سافر له، بل تعطى له الصلاحيات ويُنظر إليه كشريك لا كسلطة قهرية تقمعه أو تريد أن تمارس سلطتها السلبية عليه. أما في الشرق (وتحديداً في فلسطين) تعتمد الإدارة على الهرمية والمركزية الشديدة، حيث يتدخل المسؤولون في التفاصيل الصغيرة مهما كانت درجة أهميتها أو قلتها، مما يضعف الحرية الإدارية ويثقل النظام الإداري بالتضييق على الموظف والإنشغال غير المبرر لجهود الإدارة ومهامها الوظيفية التي ينبغي أن تقوم به وتؤديه على أكمل وجه.

فعلى سبيل المثال عندما يريد رئيس القسم في أية دائرة أن يتخذ في إعطاء إجازة أو الخروج لمؤتمر أو نشاطات خارج المنظمة، قد تتطلب موافقة من أعلى المستويات، وقد تكون الأمور سلسلة وأن الموظف قد غطى عمله بوجود بديل أو ترتيبات لا يتراكم ولا يتسبب بأية فوضى أو تاخير، مما يولّد البيروقراطية والتوتر بين الموظفين والإحتقان وردود الأفعال السلبية التي قد تسهم في غياب للفرص المتاحة ، وعدم إعطاء مساحة للموظف أن ينمي نفسه ويطورها نحو الأفضل، فيشعر ساعتها بعدم بالراحة والطمأنينة من أن العمل لا يحرص على توفير سبل الراحة وتوظيف القدرات على أكمل وجه وصورة مشرقة إيجابية قد تعود بفائدة نوعية على الموظف والعمل التي يتواجد فيه. ولا ننسى المحاباة الشائعة بين الموظفين، فمن هو قريب من الإدارة العليا يعتبر نفسه محظوظاً ويتم التعامل معه بأريحية وسلاسة يفتقر لها آخرون؛ حيث تُمنح الفرص حسب القرب من صانع القرار، مما يُنتج بيئة غير عادلة تفسد العلاقة الاجتماعية والروح النفسية للموظفين، وتقلل من الأداء والروح الكامنة في النفوس التي تشعر بالظلم والتعامل بوجهين لا يرى لها مبرراً أو سنداً موضوعياً أو قانويناً أو إنسانياً وأخلاقياً.

بلا شك هناك نموذج للقيادة الشاملة والتشاركية ومنها على سبيل المثال لا الحصر مؤسسات مثل "روابي" التي تطبق نموذج "win-win" حيث يكون لصغار الموظفين دور للتفويض واتخاذ القرار، مما يعزز الإبداع والانتماء لدى الموظفين. وتجد المؤسسات في الغرب تُبنى على نظم حديثة ومتأثرة بالتدريب والإدارة الحديثة التي تسهم في إتباع نظريات القيادة المؤثرة الفاعلة في صناعة أجيال قادرة تشعر بالثقة والإنسجام في العمل ولديها حس المسؤولية والاعتماد على الذات ويتم تدريبهاعلى القيادة المستقبلية حتى تصنع الفارق عندما يكتمل بنائها وتطويرها.

ومن الجوانب المهمة تلك الحماية القانونية وحقوق الموظف في الغرب، حيث يحرصون على حماية الموظف بالقانون من الاستغلال أو الضغط بعد ساعات العمل. يمكنه تجاهل الإيميلات في العطلة دون عواقب، والعيش بعد الدوام بحريته الشخصية والعائلية ويعتبرونها ملك شخصي له، لا يتدخلون فيه أو ينزعجونه أثناء نهاية الدوام بمطالب أو اجتماعات الكترونية والسهر المتأخر من الليل، بل يحق للموظف أن يرفع قضية ويستطع أن يكسبها عندما يتعرض للضغوط أو الاستغلال والتعب الجسدي أو النفسي في العمل، وتلجأ المحاكم على تعويضه المادي المجزي بدل ما تعرض له من تهديدات أو تجاوزات بحقه الذي قد يؤثر في صحته ونفسيته.

بالمقابل تعتبر العلاقة بين المدير والموظف في المجتمعات العربية قائمة على "المونة" أو أحيانًا القهر، ويتعدى العمل إلى حياة الموظف الشخصية، تنغيصاً وقهراً وتعباً دون مراعاة لخصوصيته أو نفسيته وظروفه العائلية والاجتماعية أو المادية.

وقد تلمس أن السمات النفسية والاجتماعية للقيادة في الغرب تؤمن بالتوريث المهني وتخريج قادة جدد، وتحفز على الاستقلالية وبناء أجيال قادرة على القيام بالدور والعبء الذي يوضعون به، كفاءاً وعلماً ومهارة وخبرات مستنيرة قائمة على العلم والتجربة والإنفتاح المعرفي وتدفق المعلومات ونقلها بكل أريحية وسهولة. أما في الشرق فالقيادة تخشى المنافسة الداخلية وتعتبرها تهديد لها مستقبلاً، وقد تعمل على كبح الموهوبين خوفًا من منافستها وتجريدها من مكانتها والكرسي التي تجلس عليه. فهناك ضعف في بناء وتنمية الأجيال القيادية الجديدة، واحتكار للمناصب من نفس الأسماء لعقود وسنوات دون تأهيل أو تدريب للقيادات الشابة القادرة على القيام بالدور المنوظ بها.

فغياب فرص القيادة للشباب لا تعطي مكاناً للكفاءات في النمو والتطور، ما لم "تفرض نفسها وتكون مسنودة من دوائر صنع القرار. فهناك إنكار داخلي من النخبة القديمة للاعتراف بالكفاءات الجديدة.، بل تقمعها وتحاربها وتطفشها وتغيبها من خلال هشاشة الدور التي تكلف به، أو يتم إهمالها وعدم تدريبها للوصول إلى مراكز متقدمة في القيادة قادرة على أداء الدور والمهمة.

فالمقارنات في تحمل المسؤولية في الغرب والعالم العربي واضحة وجلية، فالمسؤول في الغرب إذا فشل يعترف به ويتحمل المسؤولية وقد يستقيل ويحل محله شخص كفء وصاحب دراية وخبرة قادرة على إنجاح المؤسسة والمنظمة التي يعمل بها، أما في بلادنا العربية يتم تحميل المسؤولية للآخرين وإسقاطها على الطرف الضعيف لكي يحفاظ المسؤول على المنصب الذي يشغله.

أما الأبعاد العاطفية والاجتماعية، فالعاطفة حاضرة بقوة في المؤسسات العربية، وهناك ترابط اجتماعي، فالروح الاجتماعية التي يعيشها الأفراد والجماعات، وفي ظل الاحتلال والقهر والظلم الذي يحدث ترى المساندة والتعاطف والدعم ، وخصوصاً في الأزمات والطوارىء، إنما غير مدروسة أو ضمن ثقافة مؤسسية، أما في الغرب، العاطفة أقل، لكن القانون والعقلانية يحكمان العلاقات الإدارية، وقد تجد المسؤول عندما يشعر الموظف بالظلم يسنده ويقف في صفه ويدعمه، وكأن الثقافة المؤسساتية تسهم في توفير الدعم والمساندة للموظف كي يؤدي عمله بحرية وراحة وأن له حقوق وعليه واجبات يؤديها ويقوم بها.

خلاصة القول:

الحوار يعكس الفجوة بين الفكر الإداري الغربي والعربي، من حيث المركزية، منح الصلاحيات، العدالة، والمأسسة، ويقدم نقداً صريحاً للواقع العربي الذي يعوق الإبداع ويمنع توليد جيل قيادي جديد، مقابل نموذج غربي يشجع على تمكين الأفراد وتوريث القيادة بثقة ومأسسته.

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

24/5/2025

نموذج "الوطنيه" و"القومية" بصورة عامه،  وما يتصل بها من اشكال كيانيه مجتمعية  واهمها الامبراطورية، هي النموذج المطلق المعروف على مستوى المعمورة، فهو الواقع الحاصل والمدرك المعاش، على وجه التحديد ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي البشري، حيث التطابق بين النموذج الكياني والطور المعاش ومايرافقه ويكون موافقا لاشتراطاته من طاقة عقلية على الادراك مجتمعيا، ومعلوم ان النموذجيه لهذه الجهه شرق متوسطية نهرية حيت تبلورت المجتمعات ابتداء، بالذات في الموقع النيلي حيث التوافقية البيئية النهرية الانتاجية القصوى، وحضور النيل في خدمة العاملين في الارض فيضانا  موافقا للدورة الزراعية،  وحيث المكان مؤمن ضد الغزو شرقا وغربا وشمالا، من الصحاري شرقا وغربا، والبحر شمالا، ماقد افضى لقيام مجتمعية مجسده في الدولة الاحادية السكونية التكرارية، بلا مراحل او حقب ذاتيه، وهنا تتجسد الوطنيه الراسخه الفرعونية، تقابلها لاحقا من صنفها تعبيرية  كيانية اخرى هي الواقعه على الطرف الاخر من المتوسط، دينامياتها الاعلى ضمن نوعها مصدرها الازدواج الطبقي الذي هو الاخر نتاج الوضع الانتاجي البيئي.

ومابين المصرية والاوربية،  تذهب النموذجية مدار البحث الى الحد الاعلى الممكن من تكريس نوعها،  بالاخص مع انبثاق الاله بصيغتها الاولى المصنعية على الضفة الاخرى المتوسطية، اذ تتحول القومية/ الوطنيه الى  ايقونه كيانوية مجتمعية غامرة، مع انها كما مفترض، كان عليها ان تضطلع بمهمه البحث عما هو غير مدرك من احتماليات، لم تكن من حيث الابتداء التاريخي اقل حضورا واهمية استثنائية من تلك النهرية الاحادية النيليله، وهو ماقد وجد في الموضع النهري الثنائي للنهرين بدل النهر الواحد، بما يوحي وكان الابتداء المجتمعي مع تبلوره الاول قد دل على ثنائية نوعية، اولى كيانوية محلوية نيلية، وثانيه متعدية للكيانوية، كونية الطابع ابتداء، محكومة للفنائية وللادوار الانبعاثية والانقطاعات، تمر بدورة اولى سومرية بابلية ابراهيمه، وثانيه عباسية قرمطية انتظارية، وثالثة تحققية راهنه مستمرة من القرن السادس عشر، هي نموذجية "وطن كونية" مطروده من الادراك والوعي البشري اليدوي، وخارجه، تظل تستبعد من الحضور من قبل النموذجية الغالبة السائدة، ومايواكبها من مستوى  ونوع ادراكية.

وحيثما كانت المجتمعية هي ( البيئة + الكائن البشري)، تتشكل ضمن تلك  التفاعلية، فلقد كان من البديهي  ان تلحظ التفارقية البيئية بين النيلية والرافدينيه، حيث تغرق الثانيه تحت وطاة وطائلة المجال الحياتي البيئي الطارد ابتداء، واساسا من النهرين المجافيين التدميريين المخالفين للدورة الزراعية،  واجمالي الشروط المناخية، حيث الانتاجية اصطراع وانتزاع للقمة من فم الوحش الكاسر، ولايتوقف الامر عند هذا الحد، فارض التبلورية الاولى مفتوحة شمالا وشرقا وغربا على السيول البشرية النازلة نحو مامعروف بارض الخصب، من الجبال الجرداء والصحارى، بما يجعلها مصبا بشريا لايتوقف، به تكتمل اللاارضوية والنزوع غير المتوافق معها، بل الذاهب الى الاعلى نحو السماوات كمخرج من حالة العيش على حافة الفناء، خلال المرحلتين الاولى التبلورية النمطية المجتمعية بالاصطراع مع البيئة حيث تتشكل النمطية اللاارضوية،  والثانيه الاصطراعية مع الانصبابات البشرية الارضوية، النازعه للهيمنه والغلبة المستحيله، والتي تعادل مساوية الفنائية النوعية في هذا المكان.

وليست البدئية الازدواجية المشار اليها بلا دلاله ولا غرضية مجتمعية وجودية، فاللاارضوية لاتوجد اعتباطا مثلما هي الحال بالنسبة للارضوية المحكومة لليدوية الحاجاتيه الجسدية، وهنا عند هذا المفصل الحاسم، تقبع اهم  مسالة في الوجود الحي ومساره، تتعلق بالعقل ومساره التشكلي منذ ان ظهر بصيغته الابتدائية مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، بعد عشرات ملايين السنين من الكمون، ومن الوقوع تحت طائلة وغلبة الجسد  الحيواني المطلقة، بما يدل بصورة قاطعه بان عملية النشوء والارتقاء الحيوي، عقلية، الجسدية فيها ليست الغاية بقدر ماهي وسيلة، وان الجسدية لها نهاية تتوقف عندها ولاتعود قابلة للتطور، هي تلك التي ينتصب عندها الكائن الحي وينطق، فالعضو البشري يبلغ عندها قمه ومنتهى ممكنات تطوره،  خلافا للعقل الذي يستمر تطورا وصولا للاستقلال والتحرر من وطاة الجسدية في غمرة التفاعل مع اخر صيغها واشكالها المجتمعية اليدوية الجسدية، ووطاتها الحائلة بين العقل وادراك الحقيقة المجتمعية، وعلى وجه التحديد منها، المجتمعية اللاارضوية موضع ومجال انتقال العقل من الغلبة الجسدية الحاجاتية، نحو ذاتيته وعالمه الخاص، الامر المشروط  بمرور العقل بالطور المجتمعي الارضوي وغلبته ابان الطور اليدوي، وصولا الى الوثبة العقلية الثانيه، بعد تلك الانبثاقية الاولى الابتدائية، السابقة على الاستقلالية العقلية الضرورة.

ولا ترد التحققية المجتمعية المتعدية للكيانيه الارضوية  التي لاتتحقق الاكونيا، على البال، وليس لها من حضور بما في ذلك الاحتمالي او المستقبلي، من نوع القول بان المجتمعات تتحقق في الابتداء" وطنيا/ قوميا" وصولا الى التحقق الكوني اللاارضوي، ذلك في الوقت الذي تكون فيه الصيغة اللاارضوية الكونية مجتمعيا، في حالة تكرارية"فنائية" غير تحققية، مثالها الرافديني يتراوح بين الدورات والانقطاعات، من دورة اولى سومرية بابلية ابراهيميه، الى الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وانهيار بابل وبغداد، من دون اي انتباه لاحتمالية ان يكون هذا المسار متوافق مع طبيعه المجتمعية  وما يحكمها، وانه مسار له انتهاء واحتمالية تحقق، مايجعل من الكيانوية المجتمعية "وطنيه / قومية" يدويا، و "وطن كونية" انتهاء، مع الانتقال من الانتاجوية اليدوية الى مابعدها، وهو مالايمكن تصوره مادامت  المجتمعية المقصودة اصلا، غير موعاة نوعا ونمطا، بناء لاستمرار قصورية العقل بازاء الظاهرة المجتمعية الغالبة ابان الطور اليدوي.

وثمة لهذه الجهه حالة انكار قصورية فاضحه الجهالة، تضع العقل البشري في ادنى مستوى لجهة الادراكية المجتمعية واقعا ومآلا، تلك التي تنفي حضور اللاارضوية ضمن العملية التاريخيه، مصغرة اياها وطاردة  لفعلها الهائل الجبار احيانا، مثل فعل اللاارضوية شرق متوسطيا بازاء الانصباببة المجتمعية المزدوجة، الغربية الشرقية، الرومانيه الفارسية واحتلالهما الطويل لهذا الموضع من المعمورة، وماانتهتا اليه من انكسار على يد اللاارضوية بصيغها العملية، المسيحية والاسلاميه، فلا يرد على بال احد على الاطلاق، كون الحدث الاختراقي الكبير المضاد المشار اليه، لم يحدث على يد القوى الارضوية الفرعونية او البابلية،  علما بان المنطقة كانت ستزول وتمحى كينونة ووجودا، لولا ردة الفعل الاستثنائية الكبرى "المجتمعية" اللاارضوية في منطقة الازدواج المجتمعي الكونية نموذجا، تلك التي ادخلت اللاارضوية بين تضاعيف المجتمعات البشرية من الصين الى اوربا انطلاق من مجرد زاوية صحراوية معزولة،  ومائتي الف مقاتل حاف.

***

عبد الأمير الركابي

 

حينما كانت  ضرورات التعبيرية اللاارضوية تتجه الى الاعلان كانت اشتراطات اليدوية والقصورية العقلية الغالبة تستدعي نوعا من تعيين المصدر بظل حال من التفارق الازدواجي  احدهما غالب والاخر منكر وغير وارد ادراكا، ولا شك ان مانتحدث عنه هو " تاريخ" واليات وشروط كانت تفعل فعلها في غمرة الاصطراعية اللاارضوية الارضوية ذاتيا في موضع الاذدواج كما على المستوى الاعم لاحقا، وحيثما كانت الظروف تنضج وتتهيا الاباب للنطقية غير التحققية فان عالم اللاارضوية يكون بحاجه الى الاعلان عن مصدره الذي هو "السماء" و "والوحي" اي السيرورة مابعد اليدوية الارضوية الحاكمه والناظمة للوجود والتي هي خارج الادراك كليا.

ولامعدى هنا من ان تحضر القوة الخارقة العليا الخالقة والمطكلقة القدرة حتى توازن وتفرض على الارضوية حضورها مع ان الاخيرة تفلح اخيرا في تقليص مجال الرؤية المجتمعية الاخرى وتدفع بها خارج المجال المجتمعي المعاش والملموس محولة اياها ل " الدين" وهكذا تتولد الاليات الناظمه للاصطراعية الازدواجية مكرسة المجتمعية الارضوية مع الاختراقية اللاارضوية  الحاضرة في الكينونة البشرية، ونحن قد صرنا على دراية بالتفاعلية القائمه بين الافكار والواقع ومايعرف بالبنى التحتيه والفوقية والاشتراطات التي تواكبهما وان كان هذا الباب من المعرفة قد ظل كما متوقع  احاديا لايرى من التفاعلية جانب الازدواجية والحضور العقلي،  فضل يسقط من الاحتساب جانب الاشتراطات اللاارضوية وحضورها ومايعين وجهتها نحو مالاتها، ولا احد يبحث من هذه الناحية او يمكنه ذلك في ابنى اللاارضوية التحتيه وماتؤل اليه فوقيا الامر النتعدي لما متاح للعقل البشري من قدرة على الاحاطة حتى اليوم.

لماذا وبناء لاية محركات يذهب شخص جزيري ابن صحراء معزولة، غير معروف باي تميز خاص، للعبور الى العالم اللاارضوي، ويكون في غمرته واجمالي نطقيته، ويكون احد عبقرياته  الاختراقية المميزه، بينما هو يرفع رايه الوحي والتوجيه اللاارضوي السماوي، وكذا موسى الذي هو سرجون الاكدي، او السيد المسيح، وهم الثلاثة الاختراقيين العمليين بعد الطور الاول التحضيري الممتد من ابراهيم الى موسى، والمتفاعلين وجودا وفعلا مع الانصبابة الرومانيه الفارسية، اختراقا مضادا  للامبراطوريات الاحادية الارضوية، يحضر  اللاارضوية  واقا ازدواجيا من الصين الى  اوربا، هذا ليس ثمة من شك بان جانب الاليات التاريخيه المتعلق بالمجتمعية اللاارضوية مايزال خارج البحث تماما، ومن ثم خارج الادراكية البشرية المتوفرة الى الان، الامر الذي لايلقي بالاحرى بظله الثقيل على مجرد ادراك ديناميات ظاهرة مجتمعية اساسية، بظل  الحال الراهن حيث الغلبة المطلقة للمنظور اليدوي بحلتة التوهمية  الالية الحداثية العصروية الاوربية الغالبة والكاسحة، النافية كليا لاحتمالية الحضور اللاارضوي، بالاخص مع استشراء ظاهرة الوطنية الزائفة، والرغبة الجامحة في لبس معطف الاخر.

ليس العراق ولا الشرق المتوسطي تعبير واحد هو مامعاش على مستوى الافكار والدول منذ حلت انعكاسات الانقلاب الاوربي الالي، وماقد حصل من حينه الى اليوم لم يكن مجرد انعكاس احادي على المنظور والمتعارف عليه ظاهرا على مستوى المجتمعيات في المنطقة، مع اغفال الديناميات اللاارضوية عموما وفي موضع اللاارضوية الاساس حيث الانبعاثية الحديثة السومرية  التي تبدا مع القرن السادس عشر، مستبقة الانقلاب الالي الاوربي، لتظل في حال تفاعل على مدى يزيد على اربعة قرون خارج الملاحظة، فضلا عن الادراك، بينما تحضر مظاهر التشبهيه الارضوية الايديلوجية  والنموذجية المصرية ومثالها محمد علي الالباني او القومية  بلا آليات والطبقية بلا طبقات ولا بنية اولاتاريخ طبقي.

كيف يجوز النظر الى موضع من العالم حكمته وقررت تاريخه ظاهرتان وقوتان برغم القفزة "العلمية" الحداثية العقلانيه، احاديا وعلى انه مجرد كينونه وبنية ارضوية ممثله في الظاهر والملموس المعاش اليومي، بلا تحر في الديناميات الاخرى التي هي تكوين بنيوي اثبت تاريخيا حضوره الحاسم والفاصل، من دون اسقاط الاحتمالية التاريخيه "التطورية" بما يعني  البحث اليوم في "اللاارضوية الالية"، لا تلك الاولى الابراهيمة  الحدسية النبوية المطابقة للطور اليدوي من التار يخ المجتمعي، مع مايقتضية المطلوب المسقط من الاعتبار من قلب لكل ماهو متداول من منظور يخص المتغير الاخير الانتقالي الحاصل كابتداء، من اليدوية الجسدية الى الالية التكنولوجية العقلية، خلافا للمفهوم والمنظور الاوربي التوهمي عن الالة ومنطوياتها.

يبقى الفاصل الخطير هنا بين الانطقية والنطقية المقرونه بخروج العقل البشري من قصوريته التاريخيه المجتمعية وعجزه عن ادراك الحقيقة الازدواجية، فهل القرون الاربعة الواقعه على اللاارضوية الحديثة السومرية الرافيدينه، قابلة او هي منطوية على مايمكن ان ياخذها الى النطق بظل انتهاء الاحادية الارضوية عالميا وعراقيا بالدرجة الاولى مع بدء انهيار الدول الارضوية وقرب زوالها وحلول التازم الاعظم المجتمعي العاليم الناجم عن التفارقيبة المتنامية بين وسيلة الانتاج مافوق الجسدية " التكنولوجيا العليا" والجسدية اليدوية وقرب حضور الانتاجية العقلية، لقد تجلت اللاارضوية  العراقية ثلاث مرات بلا نطقية في ثورة العشرين في القرن العشرين وفي ثورة تموز 1958 وفي عام 2019 مع انتفاضة تشرين المذبوحه.

ليست بابل ولا الفرعون من حرر المنطقة من الرومان والفرس وليس ماقد ساد من اشكال حداثيات  وايديلوجيات ونظم  برانيه في المنطقة هي القوة القابلة للتفاعل مع الانقلابية التوهميه الغربية وانعكاساتها او العنصر التكوني الدال على المنطقة وكينونتها وبنيتها، علما بان هذا الجزء من العالم قد تحول اليوم ومنهنا فصاعدا الى بؤرة انقلابيه نوعية تاريخيه وليست اوربا المؤقته الحضور والطارئة غير المؤهلة بنيويا للتفاعل الضروري مع الانقلاب العقلي بعد البدئية  الجسدية  وقد بلغ نقطة الانعطاف الفعلي اللاارضوي العقلي، باتظار الرؤية الكونية التي تبدا اليوم ومن هنا فصاعدا بانتظار معركة مفهومية هي الامضى والمختلفة كليا ونوعا عما عرفه التاريخ البشري .. وموضع الانطلاق الصعب هو ارض مابين النهرين المنهارة والتي تفنى اليوم فاءها الاخير النطقي التحولي.

ـ انتهى ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

كيف يسيطر الذكاء الاصطناعي على عقولنا؟

توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، تُوظَّف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وعي الأفراد وتوجيهه تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة والأفكار الرأسمالية، وخصوصًا تمجيد الحضارة الغربية، وبشكل أكثر تحديدًا القيم الرأسمالية الأمريكية. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين والمستخدمات، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وغيرها، ويتم تصميمها بحيث تُغذّي الأفراد بمحتوى يتماشى مع القيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها وافكارها.

على سبيل المثال، وفي معظم المنصات الرقمية، تُعرض الإعلانات والمحتويات الترويجية التي تُشجّع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة، والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة، والاستهلاك، وأنماط الحياة الفاخرة كمعيار للحياة "الناجحة". مثال آخر على ذلك هو خوارزميات محرك البحث "غوغل"، التي تُصنّف النتائج وفقًا لمنطق السوق والإعلانات المدفوعة، لا وفقًا للأهمية الاجتماعية أو الفكرية أو العلمية للمحتوى. فعند البحث عن مفاهيم مثل "النجاح"، "التنمية الذاتية"، أو حتى "السعادة"، تظهر النتائج الأولى مرتبطة بشركات تطوير الذات، ودورات مدفوعة، ونصائح استهلاكية تقوم على الفردانية والربح، في مقابل تغييب أو تهميش التحليلات العلمية الرصينة والأفكار اليسارية والتقدمية، بل وحتى عدم اظهارها ويعني حضرها بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في العديد من الحالات.

يؤدي هذا إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية. ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى زمني طويل، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها أدوات محايدة. إن هذه السياسة تُشكل خطرًا بالغًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وتُسهم هذه الأساليب والسياسات الدقيقة في تكريس الهيمنة الرأسمالية أكثر فأكثر، وتعزيز ولاء الجماهير وخنوعها للنظام القائم.

تفكيك المهارات البشرية وتعميق الاغتراب والاستلاب الرقمي

إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا إلى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.

يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات قد يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية.  ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه.

في هذا السياق، يعاد إنتاج الاغتراب الانساني في شكل رقمي جديد، حيث ينفصل الإنسان عن ملكاته العقلية والإبداعية، ويجد نفسه محاصرًا ضمن منظومة تقنية تسلبه قدرته على الفعل المستقل، تمامًا كما كان العامل الصناعي مغتربًا عن منتوجه في ظل الرأسمالية التقليدية. ومن الممكن أن يتحوَّل الإنسان تدريجيًا إلى كائن خاضع للخوارزميات التي تُوجِّه تفاعلاته اليومية، وتحدد له ما يقرأ، وما يشاهد، وحتى كيف يفكر. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى خلق أجيال تفتقر إلى القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل مستقل، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي وسيطًا أساسيًا بين الفرد والعالم والمحيط الخارجي، مما يعزز تبعيته لأنظمة وشركات ودول يسيطر عليها رأس المال.

إن هذا الاغتراب الرقمي لا يقتصر فقط على الجانب الإنتاجي، بل يمتد إلى مستوى أكثر خطورة، وهو اغتراب الإنسان عن ذاته، عن وعيه، وعن علاقاته الاجتماعية، حيث تتحول هويته الفكرية والثقافية إلى مجرد انعكاس للخوارزميات المصممة لخدمة السوق.

الخطورة هنا لا تقتصر على فقدان المهارات الفردية، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الوعي الجماعي بطرق تتماشى مع متطلبات السوق الرأسمالية. إذ تُضعف قدرة الأفراد على التنظيم، والمقاومة، والمطالبة بالتغيير الجذري، من خلال دفعهم تدريجيًا إلى عزلة رقمية فردية، تُختزل فيها التفاعلات الإنسانية ضمن منصات تتحكم في تدفّق المعلومات وتُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية بما يخدم منطق الهيمنة.

الإدمان الرقمي

في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير دراسة علمية أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا عام 2020 إلى أن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يُحدث تغييرات في الدماغ تشبه تلك التي يسببها إدمان المخدرات، وتحديدًا في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرارات والسيطرة على السلوك، حيث تُصمَّم هذه الخوارزميات خصيصًا لجذب انتباه المستخدمات والمستخدمين وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكن.

وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الترفيه، والأنظمة الرقمية الأخرى ليست مجرد منصات للخدمات، بل هي أدوات تُستخدم بشكل واعٍ لتعزيز التبعية السلوكية والفكرية، حيث يتم استغلال البيانات الضخمة لفهم دوافع الأفراد والتلاعب بها بطرق تخدم المصالح الاقتصادية للشركات والدول الكبرى. إن هذا الإدمان الرقمي لا يقتصر فقط على تضييع الوقت أو التأثير على الإنتاجية، بل يمتد إلى خلق نمط جديد من الاستلاب نتيجة الادمان، حيث يفقد الأفراد تدريجيًا قدرتهم على العيش خارج الإطار الرقمي. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر.

تستغل الرأسمالية هذا الإدمان بطرق متعددة، حيث تستثمر في تطوير تقنيات تُحفِّز السلوك الإدماني لضمان استمرار المستخدمين والمستخدمات في التفاعل المستمر مع المنصات الرقمية وبأشكال مختلفة، وتتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، حيث يتم توليد الأرباح من خلال الإبقاء على الأفراد في حالة دائمة من الاستهلاك السلبي، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة، وقد يؤدي ذلك إلى تآكل قدرتهم تدريجيًا على التفكير المستقل والعمل الجماعي.

نوع من العبودية الرقمية الطوعية

تتعمق الهيمنة الطبقية عبر تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تكنولوجية إلى وسيلة لإعادة إنتاج أنماط السيطرة الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية. وقد يؤدي استمرار هذا النموذج إلى كوارث إنسانية، إذ يفقد الإنسان تدريجيًّا قدرته على مواجهة التحديات المعقّدة، ويصبح رهينًا لتقنيات تتحكّم فيها نخبة رأسمالية والدول الكبرى.

وما يجعل هذه السيطرة أكثر خطورة هو طابعها الطوعي، حيث يُدفع الأفراد، بفعل التلاعب الخوارزمي والرغبة في الراحة، إلى الانخراط في هذه العبودية الرقمية دون إكراه مباشر. يُمنح الإنسان وهم التحكم والاختيار، بينما تُوجَّه قراراته بشكل غير محسوس نحو مسارات مُعدّة مسبقًا تخدم مصالح الرأسمالية. ولا ينبع هذا الخضوع من اقتناع واعٍ، بل من اعتماد متزايد على تقنيات تُشكّل بديلًا اصطناعيًا للعلاقات البشرية والعمليات الذهنية المستقلة، مما يُنتج حالة من الاستلاب الرقمي، حيث يتماهى الأفراد مع أدوات تحكّمهم بدلًا من مقاومته.

إذا استمرت هذه الديناميكية دون مواجهة جماعية قائمة على وعي يساري تقدمي، فقد يتحوَّل الذكاء الاصطناعي الحالي من مجرد أداة في يد الرأسمالية بشكل تدريجي إلى نظام بديل للعقل البشري، يُدار عبره الحياة اليومية، مما يفرض شكلاً جديدًا من العبودية الرقمية الطوعية، حيث يصبح الأفراد محاصرين ضمن أنظمة تكنولوجية تحدد أدوارهم وسلوكياتهم، وتقيِّد قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بشكل مستقل، بل تدفعهم إلى قبول هذه الهيمنة كواقع حتمي لا يمكن تجاوزه.

تمرد الآلة وسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشرية

لطالما رسمت التوقعات المستقبلية صورًا لعالمٍ تُحكم فيه البشرية بواسطة الآلة، حيث يفقد الإنسان سيطرته على التكنولوجيا التي صنعها، ليصبح مجرد ترس في منظومة لا تخضع لإرادته، بل تخدم مصالح القوى المسيطرة. هذا السيناريو، الذي كان في الماضي مجرد افتراضات فلسفية أو تصورات سينمائية في أفلام الخيال العلمي، أصبح اليوم أكثر واقعية في ظل التطورات الهائلة للذكاء الاصطناعي، وغياب أي ضوابط قانونية دولية فعّالة تُنظّم وتؤطّر عمله.

إحدى الإشكاليات الكبرى والخطيرة التي يطرحها تطور الذكاء الاصطناعي هي احتمالية تطوير نفسه بحيث يتجاوز الذكاء البشري، وتحوله إلى كيان مستقل بذاته، خارجًا عن سيطرة البشر، بل ومسيطرًا عليهم. فمع تجاوزه حدوده البرمجية الأصلية، قد يصبح الذكاء الاصطناعي منظومة تتخذ قرارات مصيرية بشكل مستقل، تُفرض على البشرية في الاقتصاد، السياسة، والحياة اليومية وغيرها، دون أي رقابة بشرية. في ظل الرأسمالية، يتم تطوير الذكاء الاصطناعي لخدمة تراكم رأس المال وتعزيز الهيمنة الطبقية ويخضع لمنطق المنافسة الشرسة، مما يجعل فقدان السيطرة عليه أمرًا ممكنًا ومحتملاً وخطيرًا، خاصة أنه يتطوّر بسرعة هائلة تفوق سرعة تنظيمه وتأطيره ضمن قوانين دولية وضوابط مجتمعية. إذ يتم تصميمه كأداة بقدرات هائلة دون أي "قفص" يحدّ من انفلاته إذا أُسيء استخدامه أو خرج عن السيطرة، مما قد يحوله إلى قوة مستقلة تعمل ضد مصالح المجتمع بدلًا من خدمته.

هذا السيناريو لم يكن غريبًا عن السينما، حيث تناولت العديد من الأفلام هذه الفكرة، مثل «المدمر»، حيث تبدأ الآلات حربًا ضد البشر بعد وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى من الوعي الذاتي، و«ماتريكس»، الذي يعرض عالمًا تُستعبَد فيه البشرية من قِبل الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم البشر كمصادر طاقة، و«أنا، روبوت»، الذي يناقش فكرة تمرد الروبوتات ضد البشر بعد اكتسابها قدرات تفكير مستقلة. لن يكون «تمرد» الذكاء الاصطناعي مجرد سيناريو خيالي، بل ستنعكس نتائجه في سياسات تُفرض عبر أنظمة رقمية، دون أي اعتبار للحاجات الإنسانية. وما نشهده اليوم ليس هيمنة روبوتات على البشر بالشكل الكلاسيكي المتخيل حتى الآن، ولكنه قد يتطوّر نحو نموذج جديد من السيطرة الرقمية، قائم على الأتمتة الشاملة وتحكم الخوارزميات في الحياة اليومية، حيث تتحول المجتمعات إلى كيانات تُدار وتُسيطر عليها أنظمة وآلات ذكية.

***

رزكار عقراوي

...................

* مقاطع من كتابي” الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟” الرابط المجاني للكتاب:

https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3

عُقدت ببغداد القمة العربيَّة (34)، وكانت أول القمم قمة «الإسكندريَّة» (1946)، والعراق كان حاضراً، وأولها ببغداد (1978) على أثر زيارة الرَّئيس أنور السَّادات وخطابه في الكنيست الإسرائيليّ، ومنها صار التّفاوض إلى الوحدة بين دِمشق وبغداد، بعد قطيعة استخدم ماء الفرات سلاحاً فيها، وسرعان ما انتهى كلّ شيء، بإعلان ما سمّي بالمؤامرة في حفلة قاعدة الخلد الشّهيرة (1979).

بعدها استضافت بغداد القمة العربيّة (مايو 1990)، وقبل انعقادها بأيام أُعلنت الوحدة الاندماجيَّة بين عدن وصنعاء، فحضر الرئيس الشّمالي ونائبه الجنوبيّ. فمما شاهدناه على الشّاشات، أن قام معمر القذافي، وخاطب الحضور أن يقتفوا أثر هذين الشّابين-العبارة له- لتعلن الوحدة العربيّة. لكنها شهور ويدب الخلاف، وانتهى الاندماج بحرب (1994).

غير أنّه لو تقدم غزو العراق للكويت، إعلان الوحدة اليمنية (20/5/1990)، فما كان اندماجاً كاملاً ولا جزئياً، أي ما أعلنت الوحدة مِن الأساس، فقد وقع الغزو (2 أغسطس 1990)، وظلّ العِراق يعيش الحصار والحملة الإيمانيَّة، فسُحقت الثّقافة سحقاً، ليخرج هذا البلد العريق مِن مقياس العراقة، ولم يبقَ من تاريخه ما يمت بصلة لرقي وتقدم، ثم يحرق ما تبقى منه الإرهاب وسلاح الفصائل، ومكاتب الأحزاب المالية.

استضاف العراق بعد (2003) قمتين عربيتين (2012)، والتي نحن بصددها (2025)، لم تحضر الأولى سوريا، بسبب المقاطعة، والعقوبات التي فُرضت عليه، بعد حوادث (2011)، وكان خطاب العِراق آنذاك العمل على إعادتها، بعد أن هدد، قبل ذلك، بتقديم شكوى ضدها لتسريب الإرهاب إلى بغداد، ثم سرعان ما صار رئيس وزراء العراق آنذاك حريصاً على الدفاع عن النّظام السوريّ.

اختلف الأمر، صار رئيس الوزراء الأسبق (2012) ضد عودة سوريا، وقال عن دعوة الرّئيس السوري، قبل أيام من عقد القمة: «أرفض زيارة الشرع جملة وتفصيلاً» (وكالات الأنباء)، والفصائل المسلحة أخذت تُهدد، وليس بالضَّرورة يكون الصراخ سبباً لعدم الحضور، فالعديد مِن الرؤوساء أنابوا عنهم.

لكنَّ المفاجأة، أنَّ هذه القمة جاءت بجديد، فخلاف العادة، في المؤتمرات السابقة، يحشي المسؤولون العراقيون خطاباتهم عبارات الثناء على «الحشد الشّعبي» و«المرجعية الدّينية»، والتضامن في الكبيرة والصغيرة مع الجار الجنب. جاءت كلمة رئيس الوزراء، هذه المرة، المصلحة العراقيّة الصِرفة، معلناً موقف العراق إلى جانب سوريا، والمحافظة على استقرارها ودعمها، ولم تمنعه الزوبعة ضد الرئيس اللبنانيّ، فأعلن عن مساهمة العِراق بعشرين مليون دولار لإعادة إعمار لبنان، ومثلها لغزة المنكوبة.

كان المثير أكثر، لو عُقدت هذه القمة ببغداد، قبل سنتين أو أقل، لكان التصرف مع اليمن بأحد أمرين: إما دعوة الجماعة «الحوثيّة» ممثلةً لليمن، أو لا يُدعى اليمن مِن الأساس، ولكن بخطوة صحيحة تمت دعوة المجلس الرئاسي اليمني، وحضور رئيسه رشاد العُليميّ، الذي ألقى خطاباً جرّم فيه الميليشيا «الحوثية» بالاسم، وطالب بإلغاء الميليشيات كافة، وسط ارتياح عام، وبالتأكيد، لم يُصر إلى ذلك، إلا بعد حوادث (2024) قاصمة الظهر للجماعات المسلحة، وبها لم تعُد بغداد حريصةً على خطاب ديماغوجي، بدّد ثروات ودِماء، فما قدمه رئيس وزراء العراق كان خطاب دولة، وليس خطاب وكيل إطار أو حشد، ، لهذا أعطى العِراق، ومن القمة العربيّة، ومِن بغداد، أنه لم يعدّْ يستسيغ هتاف: «أتيناك يا صنعاء، أتيناك يا بيروت، أتياناك يا دِمشق...»، شعار كلّف العراق الكوارث الثِّقال.

أقول: كان وصول قائد «فيلق القدس» إلى العراق، قُبيل انعقاد القمة، ليس على العادة مرتدياً ثياباً مدنيّة، متخلياً عن بذلته العسكريّة، برسالة وبشارة بأنَّ الدُّنيا بدأت تتبدل. قد لا يرضى الكثيرون عني، ولستُ مع أحد، إذا قُلتُ سمعتُ في خطاب رئيس الوزراء البيت الفواح بالوطنيَّة: «أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي/ فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ» (الجواهريّ، ذِكرى المالكيّ 1957)، كونوا لوطنكم ولو بالكلمة، فتكاد هذه البلاد الحبلى بالمعالي، تضيع بسلاح وقرارٍ منتميْن لغيرها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم