صحيفة المثقف

قراءات نقدية

مقدمة: القصيدة كفضاء لمساءلة المعنى

في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات وتسقط الرموز من عليائها، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ جمالي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الأمل واليأس، المعنى وسقوطه.

إنّ قصيدة “محكومٌ عُمري” للشاعر جورج عازار تندرج في هذا المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك. قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانطفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

في هذا النص، تنهار رمزية الفينيق—رمز البعث والأسطورة—وتسقط فكرة الخلاص الشعري في وجه تجربة داخلية صريحة تنكر الخلود، وترى في الأمل كذبة كونية كبرى، تُصاغ فقط كي نُطيل لحظات البقاء أمام الهاوية.

فما هي الرؤية الفلسفية التي تُملي على الشاعر هذا الموقف من الرموز والأساطير؟

وكيف تُعيد القصيدة مساءلة علاقتنا بالذات، بالموت، وبالكتابة؟

وما وجوه التداخل بين الهمّ الوجودي والرمزي والنفسي والاجتماعي في بنيتها؟

تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه القراءة استنطاقها عبر مقاربة متعددة الأبعاد: فلسفية، رمزية، عبثية، نفسية، وأسطورية.

ظلال الذات في خراب المعنى

ليست القصيدة وصفًا للحزن، بل تجسيدًا لانهياره داخليًا. إنّها تجربة من التشظي بين صوتٍ يبحث عن معنى وصدى يردّد الفراغ.

حين يقول الشاعر إنّ الأمل مجرد “حقنة مورفين”، لا يُسقط فقط فكرة الخلاص، بل يجرّد اللغة من ادّعاء الإنقاذ. كأنّ الحرف هنا لم يعد وعدًا، بل اعترافًا بمرارة الهباء.

يتسرّب الرماد من بين الكلمات، لا ليخفي النار، بل ليكشف أنّها لم تشتعل أصلًا. هنا لا يحترق الفينيق… بل يتواطأ مع الخيبة.

لا أحد يأتي من جهة الأبد

في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على انتظار. الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.

الحنين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من وهم. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن حضن.

الهجرة هنا ليست حركة، بل حالة. غربةٌ لا تشبه المنفى، بل المنفى داخل الذات.

من رماد الأسطورة إلى فراغ الأسئلة

يتكئ الشاعر – في تهكمٍ رمزي – على “الفينيق”، فيكشف زيف بعثه. هذه الأسطورة التي طالما كانت معبراً نحو النور، تنقلب إلى قناع شاحب يغطي جثة الأمل.

لا تجدد في هذا الحطام، لا بداية تليق بنهاية مجروحة، لا ميلاد بعد الموت، فقط دورة متكررة من الخيبة.

من خلال هذا التمزّق الرمزي، تفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجودي عارٍ: هل كان البعث دومًا كذبة شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق الخرافة كي لا نموت قبل موعدنا؟

الذات كغريبٍ في مراياها

“تتبرأُ مني ذاتي”… عبارة واحدة تختصر انفصام الشاعر عن صورته. ليست الذات هنا بيتًا، بل صدًى مشوّشًا في أروقة غريبة.

ما يظهر ليس ما يعتمل. والشاعر – وإن كتب – لا يسكن اللغة، بل يحفر فيها مجازًا هاربًا من الانطفاء. لا هو ذاته، ولا هو الآخر. كأن كل تعرّف على الذات، يُفضي إلى غربة أعمق منها.

رؤى فلسفية تتقاطع بين العدم والمقاومة

تُطلّ القصيدة من شرفة أسئلةٍ قديمة/جديدة، تتقاطع فيها الفلسفة الوجودية، والعبثية الكاموية، والنقد الرمزي، دون أن تدّعي أنها تجيب.

- عند نيتشه، تنهار القيم عندما تُصاغ بوصفها أوهامًا مريحة. وهنا يرفض الشاعر رمزية الفينيق كما رفض نيتشه فكرة “العزاء” القيمي.

- وعند سارتر، يغدو الإنسان حراً، لكن هذه الحرية عبء، لأنه مطالب بخلق معناه. الشاعر في “محكومٌ عُمري” لا يجد بيتًا، لا في اللغة ولا في الزمن. إنه كائنٌ منفي من المعنى، مطالب بالكتابة داخل الصمت.

- أما كامو، فنجده بوضوح في الموقف الأخير: لا جدوى… ومع ذلك، نكتب. لا معنى… ومع ذلك، نواجه العدم بحرفٍ لا يصدأ.

مقاربات متعددة الأبعاد

1- المقاربة الوجودية:

يغدو النص بُعدًا وجوديًا مكثفًا، يستبطن قلق الإنسان أمام هشاشة العالم. الحياة هنا ليست سلسلة من الأحداث، بل وعيٌ دائم بمحدوديتها، وانعدام قدرتها على منحنا يقينًا.

2- المقاربة العبثية:

الأمل يُعالج كمخدر. فكرة البعث تسقط رمزيًا. الزمن بلا خطية، والأحلام “أشلاء”، والبيت يلفظ… في بنية كهذه، لا يبقى إلا العبث.

3- المقاربة النفسية:

الداخل متصدع. الروح في “طقوس عزاء”، والذات تعلن انفصالها عن ذاتها. إنها تجربة ما بعد الانهيار، حيث تصبح الكتابة بديلاً عن الفهم.

4- المقاربة الرمزية الأسطورية:

جلجاميش، الفينيق، الحمام… رموز تتحوّل إلى مرايا محطّمة. لم يعد الحمام سلامًا، بل غيابًا. لم يعد جلجاميش منتصرًا على الموت، بل ضائعًا في سؤالٍ لم يلقَ جوابًا.

الأسلوب الشعري: لغة التمزق والعمق

يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة “محكومٌ عُمري” مرآة لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوب مكثف ينسج بين الشعرية والفلسفية. يختار الشاعر لغةً متقطعة أحيانًا، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل “حقنة مورفين” و”عتْمة الداخل” و”بقايا قزم داكن السواد”، تعبيرًا عن فراغ يلف الروح وينسف الأمل.

القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطي تقليدي، بل تستخدم التكرار والتضاد بين الأمل واليأس، الغربة والانتماء، الحياة والموت، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصة متماسكة بل حالة تذبذب دائم.

وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استدعاءًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرار لا ينكسر على الكتابة رغم الخراب.

خاتمة: ضد النسيان… مع الذبول

القصيدة لا تحتفي بالنجاة، بل بالتسمية. لا تبشّر بخلاص، بل تُعلن عن مقاومة الهشاشة بالكلمة.

حين يخوننا الفينيق، لا يبقى لنا سوى الذكرى.

وحين يُجرّد الأمل من سلطته، تُولد الكتابة من رحم العدم، لا لتُنقذ، بل لتُبقينا شهودًا على سقوط الأساطير.

هكذا تتحوّل “محكومٌ عُمري” إلى شهادة شعرية في زمنٍ لم يعد يؤمن بالخلاص، لكنها رغم ذلك، تُصرّ على أن تقول: “لن أذبل”.

تحية للشاعر جورج عازار، وللفنان كميل يعقوب، على هذا التواطؤ العميق بين الشعر والتشكيل، بين جلجاميش الإنسان وقلق الإنسان المعاصر.

***

بقلم: د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة في الأنثروبولوجيا

30 جوان 2025

 

يسعى الكاتب الفرانكفونى د. محمد طعان للغوص بمكامن الكتابة من خلال مستويين في لغة الكتابة: السردية والتصويرية المكثفة للنص الروائى، الذي رسمه لنا في شخوص روايته «سيد بغداد». والكاتب لو سبرنا غور حياته الشخصية لوجدناها متشظية في عوامل الانتقال بين بيروت وأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهى حالة سبغت جسد روايته وحولته إلى عالم من الغرائبية الممزوجة بالانطباع الاثنى والمذهبى أحيانا أخرى. وهنا فهو يشدو بروايته سيد بغداد أنغامه متنقلًا إلى عالم السردية الكلاسيكية للرواية العربية تارة، وإلى التناغم الفطرى للنص الدينى العفوى الذي يفرض وجوده بين أسطر الرواية تارة أخرى. قد تجد عنوان الرواية يأخذ بمداه نحو تأويلية توحى للقارئ من الوهلة الاولى أنه كاتب عراقى عاش بين العشائر العراقية المتمركزة في الجنوب من العراق، أو ربما معتنق أحد مذاهبها وذلك لكونه يشير إلى شعائرها في أكثر من فصل في الرواية. إلا أن (أهل مكة أدرى بشعابها) فلو اطلع الكاتب وعاش الحقيقة بين هذه العشائر الجنوبية من العراق واطلع عن كثب على تفاصيل حياتها، لاكتشف الاعمق مما تناوله من تفاصيل روايته، وأدرك عمق العلاقات الاجتماعية وخصوصيتها وتقاليدها وموروثها المذهبى في الشعائر الدينية لتلك العشائر، تحديدا وهو يتناول قضية ثورة سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب في واقعة الطف (مدينة كربلاء 170كم جنوب بغداد في عام 61 للهجرة). متناولًا منها البعد الانسانى، وكيف ينتصر الحق على الباطل، في دعوة للسعى في صورة الانتماء للعسكرى الأمريكى جيمى إلى عشائر الأهوار ومناصرة الحق لهم، كما هو الحال كمعادل موضوعى في شخصية الحر الرياحى الذي ترك جيش يزيد بن معاوية وانتمى إلى جيش الحسين بن على.

لقد استخدم في روايته تقنيات تعدد الاصوات وتخالف المنظور، وتوظيف الرسائل والمذكرات وتحريك الصورة المشهدية لتركيز اللقطة النصية في الحوار، حتى يرتقى للقيمة الكبرى للعادات والتقاليد والأعراف لدى هذه العشائر الجنوبية.

وبالتالى سيكون الاقرب منها في رسم الوصف والسرد وإعطاء البعد الانسانى للشخصية وحركتها داخل البناء الروائى، فضلا عن الاقتراب من دقة الوصف خصوصا عندما يحدد شخصية السيد، وهى الشخصية المحورية التي تعتبر من الاشراف لدى هذه العشائر ويكون نسبه (نسب السيد) عائدًا إلى آل بيت النبى محمد (ص) إلا أن الكاتب تجده ينسب هذه الشخصية (السيد) إلى عشائر الفريجات أو العبيدات وهاتان العشيرتان ليستا من الاشراف!!، كما هو الحال في وصف المكان وتسميته المكررة خطأً للبعض منها كمقهى الزهراوى والاصح مقهى الزهاوى (نسبة إلى الشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى المتوفى 1930) أو قوله مسلم بن عقيل بن ابى طالب هو ابن خال سيدنا الحسين والاصح ابن عمه.. فضلا عن عملية خلط الراوى بين أحداث ثورتى تموز في 1958 وتموز 1968. إن الراوى محمد طعان يختزل الكثير من الرؤى في شخصية البطلة آمنة التي تسعى للبحث عن زوجها الذي كان ضحية المقابر الجماعية في عهد النظام السابق لحكم صدام حسين، فهى تضمر في داخلها لواعج لماضى يتوزع بين الحنين لحبها البريء، وتضحيتها لزوجها الضحية في الوقت نفسه، وصراعها الداخلى الذي يؤطر سلوكها والسعى للتجرد منه.لان آمنة هذه الفتاة الغجرية التي كانت تعيش في دار غجرى وفى حى يسكنه الغجر في احدى أطراف العاصمة بغداد والذى يلهو معها وطبان، تلك الشخصية التي أغمرنا بها الراوى وتسليط الضوء عليه، حيث كان هذا الاخير وزيرا للداخلية في عهد النظام السابق وقد تعلق بآمنة مذ كان يتردد على بيت امها بذلك الحى الغجرى.. فضلا عن ارتباطها بزميل زوجها واللقاءات معه للبحث عن زوجها ومساعدته لها المتكررة، والسفر بين بغداد حيث يعمل فيها هذا الاخير والعودة إلى الأهوار في جنوب العراق عند العيش مع والد زوجها السيد، هذا الارتباط المحورى أن صح التعبير عنه، والتنازع النفسى الداخلى، يقودنا إلى ادراك النمو والتطور الهارمونى والدراماتيكى للشخصية، التي تنساب إلى المتلقى بانتقالات فنية، هنا استطاع الراوى تذويب لغته السلسة والشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركة والتدفق والشجون التي تطلقها آمنة وهى تنصاع إلى شخصية وطبان المحاصرة لشخصيتها، ومراقبته لها حيث تشاء من التنقل بين بغداد والأهوار في جنوب العراق.

إن مثل هكذا شخصيات كما يصفها عالم النفس يونغ، شخصية تفرز رواية من داخل رواية، فهى بحكم مركب النقص الذي يكون في تكوين شخصية آمنة، وتنازع النفس البشرية بين البيئة الغجرية التي كانت تعيشها، والانتقال إلى الأهوار والشعور القسرى الذي يلاحقها من وطبان، كفيل بأن يخلق دراما لرواية قائمة لوحدها.

وعندما تتوزع الرواية بين آمنة والسيد والعسكرى الأمريكى جيمى، تتشظى صور الأحداث بطريقة غير عشوائية بل تشظى من النوع الابداعى للراوى أو الكاتب المتمكن من توظيف أدواته في البناء الروائى لعبور اللحظات غير المرغوب فيها وتجاوزها، في أسلوب التصور الفنتازى للاحداث وللزمن الذي يسقطه الكاتب، متجاوزًا الترهل في ديناميكية الحركة التصاعدية للأحداث.. لذا يعطينا الكاتب انطباعًا من الوهلة الاولى وحتى الاخير بأننا امام مشاهدات تنطوى على احداث عاشها الروائى بواقعية سحرية صورها لنا عن الأهوار في جنوب العراق، والموروث الشعبى الذي يخاطب به شخصية السيد للعسكرى الأمريكى جيمى وكيف تحول الاخير باعتناق الدين الاسلامى..

قد يعزو ذلك إلى الإيحائية التي أراد بها الروائى من خلال شخصية العسكرى جيمى باعتناقه الإسلام بأهمية الدين الاسلامى وبرائته مما يحدث الان من ردود افعال على شبكات التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) من تطرف فكرى وارهاب وأحزاب اسلامية.. ليؤكد أن المتطرفين فكريا هم أخطر من مرتزقة، وأن ما عاشه العسكرى الأمريكى جيمى خلال فترة غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كانت أكبر خدعة أمريكية، عززت لديه مفهوم كذبة دولته العظمى، بأن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل، وأن ما عبثت به القوات الأمريكية بالشعب العراقى اثبتت له بالدليل القاطع أن أمريكا لا تحمل أي مفهوم عن حقوق الإنسان وأن الإنسانية براء منها، والذى جاءت به تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولست أدرى أن كان الكاتب د. محمد طعان قد شهد بنفسه ما عاشته بغداد بعد الغزو الأمريكى لها، أو قام بزيارة جنوب العراق والأهوار والعشائر العراقية التي تنتشر هناك، واطلع على الأعراف والعادات والتقاليد والشعائر الدينية فيها، لاتضحت له حقائق كثيرة وتصورات ربما مغلوطة عن ذلك العالم، عندما لا تتوازى فيه الجرعات المعرفية من ثقافات بين مجتمع إلى آخر، ففى البلد الواحد تختلف العادات والطقوس من شماله عن جنوبه، وبلد كالعراق، تتعدد فيه الديانات والقوميات والمذاهب والاثنيات، وبلد عريق صاحب تاريخ وحضارة، الذي كان موئلًا للكثير من القبائل التي سكنته وتسكنه حتى يومنا هذا، ومسرحًا للحروب والغزوات عبر التاريخ، يحتوى من عادات وقيم وأخلاقيات وطقوس شتى. ويقتصر أثره على هذا الحماس المشبوب لإصلاح العالم بسلاح الدين كما يتوهم المتعصبون، ولكن هذه الإشارات الثاقبة التي لا تتسنى ملاحظاتها إلا لمن تأملها بإمعان تدل على خبرة الكاتب الوثيقة بهذه العوالم وقدرته على توظيفها في سياقاتها الطبيعية بتلقائية عجيبة.

إن المؤلف قد استطاع تذويب لغته السلسة الشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركية والتدفق وحكى بها شجون شخوصه وخواطرهم ونقدهم للحياة في مستوياتها المختلفة.

فإذا كان فن الرواية كما يصفها خورخى بورخيس بانها كتبت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل إلى ذروة الفعل الانسانى، إلا أن رواية «سيد بغداد» باختلافنا مع الرأى السابق، فإنها أعطت للقارئ العربى نموذجا يحاكى الواقعية والسحرية والتنبؤ، بأن هنالك مخططا يقود العالم نحو التطرف والصراعات والانقسامات والتحديات، ليس على مستوى قيام الحروب بين دول العالم، وإنما حتى على صعيد الحروب من الاجيال الرابعة والخامسة فيما سيبقى الفن الروائى راصدًا للوجع الإنسانى الذي شهد العديد من المعالجات المعقدة لانعكاسات واقع عربى سلبًا أو إيجابًا وسريع التحول في مفاصل الحياة والإنسان ذاته.

***

د. عصام البرام

..................

* شاعر وكاتب وباحث عراقى عمل في السلك الدبلوماسى بوزارة الخارجية العراقية وهو شاعر وكاتب سياسى وأكاديمى وحائزعلى لقب المثقف العربى لعام 2015 وعضو اتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب مصر وأتيليه القاهرة واتحاد المؤرخين العرب وحاليا وزير مفوض بالجامعة العربية

(زاهي حوَّاس، وجو روجان: نموذجَين)

ليست براعة التصوير الفنِّي والتشكيل الشِّعري وليدة الحضارة العَرَبيَّة بعد الإسلام، لدَى العبَّاسيِّين أو الأندلسيِّين، فحسب، بل تجد نفثاتها المدهشة قبلئذٍ لدَى شعراء الجاهليَّة ومخضرميهم. هكذا قفز بنا (ذو القروح) إلى رمال العصر الجاهلي. قلت:

ـ مثل ماذا؟

ـ لا تستعجل على رزقك! سيأتيك بالأخبار من لم تزوِّد!

ـ هات!

ـ لقد تَصِل الصُّورة في الشِّعر القديم أحيانًا إلى تشكيل لوحاتٍ فنيَّة، لو عزوتها إلى المدرسة السُّرياليَّة، لما بدوت مبالغًا. خذ نموذجًا على هذا الذي نزعم من بيتٍ واحدٍ بسيط لـ(عمرو بن معدي كرب)(1)، يصوِّر فيه فَرَسه، قائلًا:

يَقُـولُ لَـهُ الفَوارِسُ إِذْ رَأَوهُ

نَرَى مَسَـدًا أُمِـرَّ عَلَى رِماحِ

فهو، في أربع كلمات «مَسَدٌ أُمِرَّ عَلَى رِماحِ» ينقل إليك صورة أبلغ من لوحة (الفِيَلة The Elephants)، التي رسمها الإسباني، رائد الفن السُّريالي، (سلفادور دالي Salvador Dali ، 1904- 1989)، عام 1948، إذ أراد- على ما يبدو- التعبير عن المفارقة بين خِلقَة الفِيْل الواقعيَّة وصورته المتخيَّلة. أو قل: بين كثافة الواقع وتسامي الخيال. وإنْ تمخَّضت لوحة دالي في النهاية عمَّا هو أقرب إلى عبثيَّة الدلالة مقارنةً بلوحة (عمرو بن معدي كرب)، الجامعة بين الواقعيَّة والسُّرياليَّة؛ حين يتحوَّل الفَرَس، ضمورًا وسُرعة عَدْو، إلى حَبْلٍ أُمِرَّ على رِماح.

ـ ما إنكار التفوُّق على الإنسان القديم إلَّا عادة مزمنة.

ـ تجلَّى من شواهدها مؤخَّرًا في ما جرى في تلك الحلقة التهريجيَّة التي ظهر فيها عالم الآثار المِصري (زاهي حوَّاس) في مواجهةٍ إعلاميَّةٍ، «بودكاست» كما تُسمَّى.

ـ أو (برود كاست) حسب رواية الفنان (حسن عسيري)!

ـ هذا أفضل تعريب! إذ يبدو أنَّ العَرَب قد عجزوا عن أن ينطقوا بمقابل لتلك التسمية «بودكاست»، وهم عمَّا دونها أعجز. ولو اقترح عليهم أحدٌ استعمال (مواجهة إعلاميَّة) بدل «بودكاست»، لما راق لهم هذا؛ حتى لا يزعلوا سيِّدهم اللُّغوي والحضاري!

ـ المهم؟

ـ كلُّه مهم! كانت تلك المواجهة غير المتكافئة مع المهرِّج الأميركي المعروف (جو روجان Joe Rogan)، ذات دلالات حضاريَّة. ولا تجنِّي في وصف جو بالمهرِّج، فهو كذلك بالفعل، شكلًا ومضمونًا، يذكِّرك بأبطال المصارعة الحُرَّة من المهرِّجين خلال القرن الماضي. لقد ظلَّ روجان هذا طوال الوقت مُصِرًّا على أن يسلِّم معه الآثاريُّ المِصْريُّ (زاهي حوَّاس) بخزعبلات غَرَبيَّة حديثة، حول بناء الأهرامات. مكرِّرًا أنَّ ثمَّة إيطاليَّين ما، لله دَرُّهما- ويكفي أنهما أوربيَّان ليُحكَم لهما بالعدالة والعِلميَّة، شاء من شاء وأبى من أبى- زَعَما أنَّ الأهرامات مبنيَّة على أعمدةٍ ضوئيَّة، بدعوَى أنها التُقِطت صُوَر لتلك الأعمدة الوهميَّة عبر الأقمار الاصطناعيَّة!

ـ يا حلاوة!

ـ إلى غير هذا من الخيالات غير المثبتة عِلميًّا، ولا المعقولة، بأيَّة أقمار. بل يبلغ التهريج أحيانًا في هذا السياق الهزلي إلى الزعم أنَّ بُناة الأهرامات إنَّما هم كائنات فضائيَّة، جاءت فبنتها ثمَّ انصرفت، ربما لتبني أهرامات أخرى على كوكبٍ آخر.

ـ ثمَّ يقال إنَّ العقل الغربيَّ عقلٌ عِلمي!

ـ الخرافة هنا لا حياء فيها، ما دامت تحقِّق هدفًا!

ـ وهو؟

ـ هو أن يقال إنَّ الشرق، و(أفريقيا) بالذات، من المستحيل تصوُّر أنها كانت ذات حضارة قبل آلاف السنين بهذا الحجم؛ فإنما الحضارة غربيَّة حصرًا، منذ الأزل وإلى الأبد، رُفِعت الأقلام وجفَّت العقول!

ـ غير أنَّ الأعجب هنا جاء عن ضجَّة الإعلاميِّين العَرَب!

ـ هؤلاء دراويش يستثيرون الشَّفقة حقًّا! ربما يضجُّ دُيوكهم اليوم لسبب، وغدًا يضجُّون لسببٍ آخَر نقيض! وأعني الأسباب السياسيَّة أو الأيديولجيَّة. إذْ شَنُّوا هجومًا على عمِّهم (حوَّاس)، منكرين عليه أشدَّ الإنكار زهوه، واعتزازه بنفسه، فقد كان جديرًا أن يقبِّل يدي (جو روجان)، وحسبُه شرفًا أنه ظهر معه!

ـ لعلَّه كان يؤزُّهم إلى ذلك بالأحرى ما عبَّر عنه المثل الشعبي »الفرنجي برنجي»، المشخِّص لعُقَد الخواجة فينا.

ـ خليطٌ من العُقَد. فكان طبيعيًّا جِدًّا أن لا يقدِّموا للمتلقِّي فكرةً عِلميَّةً واحدة، مع أو ضد. سِوَى أنَّ (حوَّاسًا) حاسَ اللقاء، وكان يدخِّن بشراهة أثناء المواجهة، أو أنه ظهر متعجرفًا، وكان ينبغي أن يستغلَّ اللِّقاء ليقدِّم دعايةً إعلاميَّةً سياحيَّةً جذابة لـ(مِصْر)، لا تُعوَّض، ولو على حساب اقتناعاته، وليَغُر التاريخ والآثار والعِلم في ستِّين داهية، المهم نيل شهادة حُسن السيرة والسلوك من العم سام...!

ـ وهم في المقابل لم يلحظوا الطَّرَف الذي يدافعون عنه، بجسده المستحيل إلى سوادٍ قاتم، لكثرة الرسوم الموشومة عليه، أكثر من أيَّة جداريَّة هيروغليفيَّة مِصْريَّة.

ـ لا تنس أنه في لقائه بـ(حوَّاس) كان يغطِّي جسده، ربما لكيلا يبدو هو الآخَر تمثالًا مليئًا بالوشوم والكتابات التصويريَّة، الدالَّة على أنَّه أكثر بدائيَّة من تماثيل قدماء المِصريِّين.

ـ ولا شاهدوا فيه أيضًا فوقيَّته وتعاليه وعجرفته؛ لأنَّ »الفرنجي برنجي» دائمًا وأبدًا.

ـ هكذا هي جمهرة الناس، مع الأسف، يعجبها الآخَر، مهما فعل بها، وتزدري أبناء أوطانها، ملتمسةً لازدرائهم كلَّ سببٍ وحُجَّة. ومن شِيَم الناس أن يقفو غالبًا مع الباطل، حيثما كان، ومع الضَّلال، حيثما وُجِد، ومع المثير للعواطف والخيالات والأكاذيب، وإنْ رفع بها عقيرته مجنونٌ رسمي.

ـ شريطة أن يكون مجنونًا فرنجيًّا طبعًا.

ـ فيما يقفون للحقِّ والعقل والعِلم بالمرصاد، ولا سيما حين يصدر من أبناء البلد.

ـ والأدهى لديهم حين يُنكِر ابنُ البلد مقولات »الفرنجي البرنجي»، وأنها محض هراء.

ـ أمَّا حينما يتجرَّأ على القول: إنَّ غير »الفرنجي البرنجي» كان لديه ذات يوم مثل ما لدَى »الفرنجي البرنجي» أو أفضل منه، ربما منذ القِدم، فهو هنا قد كفر، وفجر، وتمرَّد على ثقافة القطيع، ولا بدَّ، إذن، أن يقام عليه حَدُّ الرِّدة عَلَنًا، وإنْ معنويًّا. وعندئذٍ سيُرمَى بالجهل، والتخلُّف، وأنه قد بات فضيحةً بجلاجل أمام الغرب المتقدِّم، كيف لا، وقد شوَّه صورتنا الحَمَليَّة الوادعة في حضرة السيِّد الأبيض؟ الذي كان يجب دائمًا أن نحظى بشرف التأمين على ما يبخِّرنا به من أضاليل، عمدًا أو جهلًا!

ـ أمَّا (جو روجان)، فمهرِّجٌ يمينيٌّ متطرِّفٌ معروف، وهُمُ كُثْر!

ـ وفوق هذا لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالآثار، ولم يقرأ عن الموضوع، حتى لمجرَّد التحضير للمقابلة، كأيِّ إعلاميٍّ يحترم عمله. بل إنه كان لا يعرف اسم الضيف نفسه؛ فإذا هو يدعوه (زاوي)، بدل (زاهي)!

ـ ما موقعه من الإعراب، إذن؟

ـ موقعه من الإعراب: (مفعول لأجلهم)؛ محمَّلًا بما حُمِّل به من أوزار القوم، ليلقيها كيفما اتفق. إنَّما جاء لإيصال أصوات هلوسيَّة تنتاب منذ سنوات صديقه الحميم الصحفي الاجتماعي الإنجليزي Graham Bruce Hancock، الذي له خلافاته القديمة والحادَّة مع (زاهي حوَّاس). وما هذا اللقاء الأخير إلَّا حلقة لمحاولة تصفية الحسابات، بصورةٍ غير مباشرة، عبر وسيطٍ صديق، وهو روجان.

ـ كلُّ من تابع الضجَّة الإعلاميَّة، بالإنجليزيَّة أو بالعَرَبيَّة، ومهما اختلف مع (حوَّاس)، لن يجد كلمةً واحدةً عقلانيَّةً في الموضوع المثار ضِدَّه.

ـ هما تياران، يا صديقي، عَرَبيٌّ وأجنبيٌّ، عَرَبيٌّ له خطابٌ متشنِّجٌ مسيَّس، مؤدلَج، تراه يَرْدَح بمناسبةٍ وبغير مناسبة، يمنةً ويَسْرة. وتيارٌ غربي، غنيٌّ عن التعريف، في نظرته العنصريَّة ومواقفه من المختلف في هويَّته أو حضارته أو لونه. وأمَّا جَلْد الذات العَرَبيَّة من العَرَبيِّ احتفاءً بكلِّ ما هو غربي، وإجلالًا لكلِّ ما هو أميركي، فليس بجديدٍ ولا بغريبٍ على ولاء العُربان للرُّوم. وولاء العُربان للرُّوم عريقٌ جِدًّا، منذ ما قبل الإسلام. حاول الإسلام اقتلاع جذوره، لكنه عاد أقوى من ذي قبل. ولذلك، لن تجد إلَّا كلامًا مجَّانيًّا، من مثل، إنَّ هذا الخواجة أكبر صاحب «بودكاست» في العالم، وعنده عشرون مليون متابع، وقال: إن ذلك كان أسوأ لقاء...

ـ يا للهول!.. «يا شماتة أبلة أمريكا فينا»! ما علاقة «أكبر...»، و«قال...» بالحقيقة والتاريخ والآثار أصلًا؟!

ـ وما أكثر الناس، ولو حرصت، إلَّا من عيِّنة هؤلاء!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1995)، شِعر عمرو بن معدي كرب الزُّبَيدي، تحقيق: مطاع طرابيشي، (دمشق: مجمع اللُّغة العَرَبيَّة)، 77/ 8.

شظايا الذوات في طاحونة بقايا وطن

توطئة: من الواضح أن بعض المؤولات الإظهارية المشكلة للتمفصلات النسيجية في البناء الموضوعي لنصوص مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، تعد بذاتها ذلك التجسيد العضوي الذي من خلاله تتم اختيارية المحاور الموضوعية في دليلها ودالها الحكائي الذي يتمثل ويحاكي علاقات واستعادات هي من الخصوصية الموضوعية والدلالية الموحدة . فالقاص العيساوي في موضوعات أقاصيص مجموعته موضع دراستنا يتوقف عند موضوعة ذات إطارية دينامية تتوحد من خلالها سباقات (الحادثة ـ الحبكة ـ التبئير) خلوصا نحو تلك الدائرة الانتاجية من فرضية معادلات الخلق النصي، وما تقتضيه توالدات البنيات الزمكانية المؤطرة للمادة القصصية من (رؤية ـ فضاء ـ صيغة) وعلى هذا النحو واجهتنا الصنعة القصصية في مواطن مستويات الكتابة لدى العيساوي، وكأن البعض منها لا يعادل مقدار الأثر الموضوعي في الواقع المتخيل، ذلك لأن طبيعة الكتابة للنصوص القصصية حلت في ملفوظات لم يحسن القاص جيدا في سبكها ولا من ناحية ما من خلال مستويات جاذبية التخييل في شرايين النصوص، بل جاءت مندرجة ضمن حكايات وبنيات تتوسل لذاتها للأبعاد القصدية والإيحائية للنص.

ــ البنية السردية والمأثور الحكائي

يشكل الإيحاء والتعمق في السمات الهواجسية في السرد القصصي، ذلك الممكن الملازم لبلاغة المادة السردية في القص . فمثلا تواجهنا قصة (أوجاع ذكرى) وقصة (عنق الزجاجة) بما يوفر دورا موضوعيا هاما في مجال الفكرة والرؤية، ولكننا عندما نعاين في تمفصلات الإجرائية السردية، نكتشف أن القاص قد بذل جهدا جهيدا في رصد أفكاره، دون أن يحول من معالجات السرد القصصي إلى أداة مبطنة بالمعنى المغاير والمتفرد، بل أنه أخذ في كل حساباته فرض أهمية وقائعية الموضوعة دون أدنى التفاتة إلى مستوى تقانة التخييل ومدى ما يشغله من الوظائف المتعددة في المعنى المؤول . ربما أنا لا أقصد من جهة هامة بأن تجربة القصص في المجموعة لا تحمل أدنى حالة تأثيرية في مستوى الإبداع إجمالا، لا أبدا أنا أقصد أن القاص العيساوي في جملة نصوصه وخطاباتها كان من اللازم عليه تأثيث فضاءات نصه بتقانات حبكوية أكثر مساءلة في أبعادها المكبوتة والضمنية في شواغل الكتابة السردية المفترضة . هناك مثالا في حيثيات قصة (أوجاع ذكرى) ثمة مفترضات غير محكومة بصدقية عين الواقع الزنزاني، إذ نلاحظ تلك الشاشة التي تظهر للمعتقل بصورة فجائية، على حين غرة كشف لنا السارد منذ عدة سطور بأن السجين: (الظلام الحالك جدا .. لا أستطيع أن أميز أصابع يدي . / ص7) بما يدلل على أن طبيعة المكان تعود إلى مزايا موحشة من الأساليب البدائية من التنكيل، فكيف حال حدوث اشتغال هذه العارضة السينمائية التي تعرض كيفية تعذيب السجناء، فهذا الأمر ما يدل بذاته أن طبيعة المكان عائدة إلى دولة أوربية مثلا، وليس في إبراز ما قام به القاص من أحداث موصوفة سلفا في مستهلات القصة كـ: (أشباح تدور حولي وأنا معصوب العينين . / ص7) كما وهناك من المواقع الحسية للشخصية ما لا يتوافق مع زمن وظروف المعتقل بحد ذاته كحالة ما في السرد أيضا: (لا أعرف ما يخبئه القدر لي في لحظات قادمة ؟ ــ الأصوات، التي تبعث القرف قي نفسي انتهت فجأة استرجعت شريط الأحداث ليومي منذ الصباح .. على عادتي تأنقت، تعطرت، تأملت نفسي في المرآة . / ص8) بمثل هذا النوع من التحول داخل ذاتية السجين (صورا بشعة لأنواع التعذيب ــ وبين هذا وذاك سياط تهوي على الأجساد تقرع أبواق الألم . / ص8) لا أعتقد من جهتي من ناحية ذاتية أن من يعتاش مثل هذه الأجواء الكابوسية له القدرة على استعادة شريط يومه حتى وأن كان الأمر مباحا قبل عملية الاعتقال . إذن هناك حالات غير مدروسة نفسيا وعاطفيا في مواضع بعض الأحداث في النص، ولكن القارىء للقصة ذاتها قد يتفاعل مع باقي بنادات المتن السردي، حيث يقوم الفاعل الذاتي في قصة (عنق الزجاجة) وقصة (ذئاب رحمية) وقصة  (عروس شنكال) بجملة أفعال تقترب من مغالاة المتخيل وانحسار صدقية الواقع، فمثلا هناك المصادفات الغريبة في قصة (ذئاب رحمية) والمنظور المباغت في حالات قصة (عنق الوجاجة) والقصة الأخرى التي تقترب من الفضاءات الرومانتيكية في (عروس شنكال) . عموما لا أود الإضافة والتعليق حول بعض ثغرات النصوص القصصية في المجموعة (أنقاض وطن) سوى القول أن موضوعات القصص ما هي إلا تجليات تسعى إلى رصد دلالات مرحلة الأرهاب ومرحلة النظام السابق في العراق، ولو حاولنا قراءة قصص المجموعة الأخرى كـ (أورتار العود ـ طائر الجنة ـ رقية العصر ـ عقدة الماضي ـ حافة الانهيار ـ أزهار بين الصخور) وقصص أخرى أشد ولوجا في دواخل الذات الناظمة وإلى أغوار منظورات العلاقات التفاعلية المأساوية التي راحت تسجل أشد مظاهر التقهقر للفرد الإنساني بين ثنائية (أنقاض = وطن) وصولا إلى أشد حالات السرد والتبئيير للأحداث والشخصيات المذابة في أفضية الذاتية والموضوعية المرسومة في آفاق بانوراما الخارج والداخل .

تعليق القراءة:

تتجلى الأحداث القصصية في مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، ضمن ممارسة متمحورة في كثرة الاسترجاعات والاستبطانات التي كانت تمارسها الشخصية الساردة والتي يقتضيها المقام السردي كحالة زمنية متمايزة بضمير المتكلم الذي يستعين في سرده بضميري (المتكلم ــ المبئر) وصولا إلى صيغة الشخصية المركزية التي تعد بمقام الفاعل الذاتي الذي يطرح أغلب حالات التوجس والخوف من المصير المجهول كما عاينا ذات الأمر في حال قصة (عطف الموتى) وقصة (موعد) وقصة (شروق الشمس) وقصة (خفايا الجسد) . عموما ما تم التركيز عليه في أقاصيص (أنقاض وطن) هو الاستفاضة بالوعي الفردي المأساوي المحفوف في كافة تفاصيل المحتوى المتني والمضمر في النص القصص، وقد يرتبط الاحساس بالشخصية القصصية في مجموعة العيساوي في كونها ذلك البناء النفسي للسارد المشارك، حيث تنعكس رؤيته الداخلية المعبدة تجاه سياق السرد بتلك اللغة الأكثر شفافية وبساطة وعمق في نقل أحوال وملامح صورة الفرد القاهرة في أبنية أخيلة ورؤى أرتبطت ومصير يبوح به السارد المشارك عن الملامح المأزومة للذوات الشخوصية في فضاءات أنقاض وطن .

***

حيدر عبد الرضا

قراءة رمزية هيرمينوطيقية في مرايا فرحان الخطيب

مقدمة تأويلية: في "قطوف الشعر" لا نقرأ قصيدة فحسب، بل نصّاً يتناوب فيه الشاعر على التماس الجمالي مع المطلق، ويتخذ من الشعر ملاذاً للذات، ومرآةً كونية للوعي. القصيدة ليست مجرد تأمُّل شعري في فعل الكتابة، بل تشييدٌ رمزي للذات عبر اللغة، وانبثاقٌ وجودي للكينونة في لحظاتها الأكثر هشاشة وأناقة. يتكئ الشاعر على إيقاع داخليّ رقيق، ويعبر بين رموز الحلم، والأنوثة، والطفولة، والموت، ليجعل من الشعر طريقًا نحو المطلق، ونحو الخلاص الإبداعي من شقاء الحياة.

البنية الأسلوبية – الشعر كذات ناطقة

يبتدئ النص ببيت افتتاحي يضع الذات الشاعرة في مركز الكون يقول الشاعر فرحان الخطيب:

"ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي

فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ".

الأسلوب هنا تصريحي تقريري، لكنه لا يخلو من فخامة رمزية، حيث تُقام علاقة احتواء بين الذات والشعر، فليس الشعر مكاناً خارجيّاً بل مسكناً داخليّاً، وكأن الشاعر يعيد تشكيل "أناه العليا" لتكون وعاء الخلق، لا مجرد ناقل للمعنى. وهذه العلاقة ليست زهواً، بل إعلان وجوديّ يقول: "أنا الشعر، ومن دوني لا مكان له."

القصيدة تميل إلى استعمال أفعال حيوية: (أقطف – أداري – يجيء – يطل – طرّز)، ما يمنح النص حركة ديناميكية، تُخرج القصيدة من التأمل الخالص إلى الفعل الشعري الإبداعي المتجدد.

البنية النفسية – الشعر كبديل عن الألم

يتجلّى في القصيدة خطاب نفسيّ مزدوج: من جهة، الشاعر في حالة نرجسية إبداعية، يرى ذاته مركزاً للشعر؛ ومن جهة أخرى، هناك اعتراف خفيّ بالهشاشة والتعب يقول الشاعر الخطيب: " يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري، بوحُكَ الثرُّ عن شقاء الحياةِ" .

في هذا البيت يُوجَّه الخطاب إلى الحياة باعتبارها كياناً يتقاطع مع الشاعر في المعاناة. الشعر هنا هو رد فعل نفسي عميق على شقاء الوجود، محاولة لمداواة الصدع الداخلي عبر التجميل اللغوي: "طرّز شعري". ثم يعلن الشاعر الخطيب مرارًا عن تلك الجدلية بين الرغبة في الصعود والألم المصاحب له ، يقول: " يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ

من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ" .

الصعود هنا رمز للتسامي، للارتقاء عبر الكلمة، ولكن هذا الصعود محفوفٌ بالمعاناة والرغبة واللذة، في آن. الشاعر لا يهرب من الحياة بل يستدرجها إلى القصيدة، فيفككها رمزيّاً ليعيد تركيبها على نحوٍ جمالي.

البنية الرمزية – الشعر ككائن مركّب

القصيدة تزخر بالرموز التي تتنقل بين الطبيعة، والأنثى، والطفل، والموت. كل بيت تقريباً يحمل طبقة رمزية قابلة للتأويل، يقول الشاعر فرحان الخطيب:

"وبناتُ الأفكار عندي صبايا

يتحممنَ في ضُحى المفرداتِ" .

الفكرة هنا لا تأتي بصورة ذهنية، بل ككائن أنثويّ حيّ. "بنات الأفكار" لسن مفاهيم عقلية، بل صبايا يتحممن، أي أن الشاعر يمنحهن بعداً جسديّاً وحسّياً. هذا التمثيل الرمزي للفكر كأنوثة يمزج الجمال العقلي بالجمال الجسدي، ويجعل من الشعر تجربة حسّية عقلية في آن. يقول:

"يا غزالاً من الكلامِ تشظّى

بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ".

الغزال هنا رمز للجمال الهارب، للحقيقة التي تتشظى، وللكلمة التي لا تثبت على معنى واحد. هذه صورة شديدة العمق في توظيفها الهيرمينوطيقي: الكلمة ليست وعاءً لمعنى نهائي، بل تفرُّق دائم، وهي بذلك مرآة للشاعر نفسه، المتشظي بين لغاتٍ ومعانٍ.

التأويل الهيرمينوطيقي – القصيدة كنصّ مفتوح على إمكان المعنى

إننا في هذه القصيدة أمام نص مفتوح التأويل. القصيدة تقول، لكنها تترك لنا أن نفهم. لا تُغلق أفق المعنى، بل تتوسّله وتتجاوزه. نقرأ:

" إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ

وحكايا على ضفاف المماتِ".

الشعر هنا ليس شيئاً محدّداً، بل "بعض"، أي جزء من مجهول أكبر. إنه تموّج وغنج (دلال أنثوي)، ثم سرد يمسّ حدود الموت. نحن في فضاء تأويلي بين الحياة والموت، الجمال والفناء. هذا التوتر هو ما يمنح النص قوته الوجودية.

وفي بيت ختامي مؤثر يقول الشاعرالخطيب:

"أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي

كالعصافير للرّياضٍ لآتِ".

هنا تتخذ القصيدة بُعداً أنطولوجياً خلاصياً. فالشعر، رغم المأساة، هو ما يبقينا أحياءً، وما يجعلنا نغنّي للعالم حتى في أوقات التلاشي. إننا نغنّي كما تغنّي العصافير، لا لأن الواقع ورديّ، بل لأن الغناء مقاومة، وانتظار لفجر يأتي.

الإيقاع والموسيقى – سيمياء الصوت والمعنى

القصيدة مكتوبة على بحر الكامل (وهو بحر الانسياب والعنفوان)، ما يمنحها انسيابية موسيقية تُوازي جمالية الصور. تكرار القوافي المنتهية بـ "اتِ" (المكرماتِ – الجهاتِ – الفاتناتِ – الأمنياتِ – ناضراتِ...) يصنع إيقاعاً طقسيّاُ، وكأن الشاعر الخطيب يرتّل الشعر كما يُرتّل صلاة. الموسيقى هنا ليست مجرد تجميل لغوي، بل بنية سيميائية تمكّن من تفعيل الأثر الجمالي للمعنى.

خاتمة:

الشعر بين الذات والكينونة

في "قطوف الشعر" لا ينشد فرحان الخطيب العالم، بل يُنشئه. يصوغ من الشعر ليس حكاية فقط، بل وجوداً بديلاً، يتجاوز الحياة العادية نحو الحياة الشعرية. إنه شاعر يؤمن بأن الشعر ليس وسيلة، بل غاية في ذاته، مرآة للذات، وجسر إلى العالم الآخر، حيث "الغزل، والموت، والطفل، والغابة، والبوح" يجتمعون في قصيدة واحدة.

إن هذه القصيدة عملٌ تأويليّ بامتياز، تنفتح على معانٍ لا تنفد، وتدعو القارئ إلى مقاربتها لا بوصفها منتجاً لغويّاً، بل ككائن حيّ يتنفس الجمال، ويرتجف من الألم، ويواصل الغناء، لأن لا شيء يبقى غير القصيدة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

قطوف الشعر

ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي

فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ

أقطفُ الشعرَ من جنونِ رياحي

وأداريهِ من دُوَارِ الجهاتِ

وبناتُ الأفكار عندي صبايا

يتَحممنَ في ضُحى المفرداتِ

إنّهُ الشّعرُ نجمةٌ في خيالي

ومرايا توشوشُ الفاتناتِ

كل فجرٍ يجيءُ ضوءاً شفيفاً

وندىً بين وارف الأمنياتِ

كل صبح يطلُّ ورداً وعطراً

من جنانٍ مُخضلّةٍ ناضراتِ

**

يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري

بوحُكَ الثّرُّ عن شقاء الحياةِ

يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ

من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ

يا غزالاً من الكلامِ تشظّى

بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ

إنّه الشّعرُ للمحبّينَ جسرٌ

من هديلٍ يسندسُ الأغنياتِ

إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ

وحكايا على ضفاف المماتِ

نامَ طفلاً على وسادة عمري

وأفقْنَا على رؤىً عابساتِ

كم رأينا، ولم نكنْ نتمنّى

صورَ الموتِ في مُدَىً دامياتِ

أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي

كالعصافير للرّياضٍ لآتِ

الشاعر العراقي فارس مطر.. أردتُ القلب من الجسد إلى الجوهر

يأتي النص القصير:

 "‏حسناً أيها الجسد،

لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر

ماذا بعد الحلمة؟

كنتُ أريدُ الأبعد،

أردتُ القلب..

القلب". ليمنحنا مشهداً شعرياً مكثفاً في لغته، عميقاً في دلالاته، يتحرك من الجسد نحو الروح، ومن الرغبة نحو الحب، ومن اللمس الفيزيائي إلى لمس الوعي. ينتمي النص إلى نمط الكتابة الشعرية المعاصرة التي تراهن على القصر والتكثيف والإيحاء، وتفتح مجالاً للتأويل الوجودي والعاطفي في آنٍ واحد.

التوتر بين الجسد والمعنى

في هذا النص، لا يُقدَّم الجسد كغاية، بل كبداية طريق نحو شيء أعمق. فالسطر: "لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر" قد يُفهم بدايةً كفعل جسدي أو شهواني، لكن سرعان ما يُجهض هذا الفهم في السطر التالي: "ماذا بعد الحلمة؟"، وهو سؤال يتحدى الجسد ويبحث عمّا وراءه.

بهذا يتحول الفعل من مجرد اقتراب جسدي إلى بحث روحي، وهذا ما يعبّر عنه النص بـ "كنتُ أريد الأبعد، أردتُ القلب".

إننا هنا أمام حركة عكسية: لا تندفع من القلب نحو الجسد كما هو مألوف في حالات الحب الشهواني، بل تبدأ من الجسد لتصل إلى القلب، في رحلة تقشير لطبقات الإنسان وصولاً إلى الجوهر.

-- : الأسلوب والتكثيف اللغوي. يمتاز النص بأسلوب شعري مكثّف، لا يستخدم البلاغة التقليدية أو الصور المزخرفة، بل يذهب مباشرة إلى المعنى، ولكن بلغة مشحونة بإيحاءات حسية ووجدانية في آن. فكل سطر يُبنى على سابقه، بتصعيد داخلي: يبدأ بالنداء: "أيها الجسد"، ثم يأتي الفعل: "وصلت يدي...". ثم الانكسار بالسؤال: "ماذا بعد؟".

ثم البوح بالرغبة الحقيقية: "أردت القلب".

هذا التصعيد لا يهدف إلى إحداث إثارة بل إلى كشف داخل الذات: حركة من الخارج إلى الداخل، من الفعل إلى التأمل، من اللذة إلى الوعي.

البعد الفلسفي – الإيروس كطريق إلى الروح

النص يستحضر نوعاً من الإيروس الفلسفي، أي الحب الذي يبدأ من الحواس لكنه لا يتوقف عندها. وهذا يذكّرنا بـ تصور أفلاطون في "المأدبة" عن الحب الذي يبدأ من جمال الجسد، ثم يصعد تدريجياُ نحو جمال الروح والفكر.

إن سؤال: "ماذا بعد الحلمة؟"، هو تحدٍ للغريزة، ومحاولة لتجاوزها، من خلال رغبة في "معرفة" الآخر لا امتلاكه، وفي الوصول إلى "القلب" لا الجسد فقط. إنها محاولة لأنسنة الرغبة، أو جعلها طريقاً لاختبار الحقيقة لا الاستهلاك.

مقارنة بنصوص مشابهة

أ. محمود درويش في "أحبك أكثر":

: أحبكِ أكثر..

لا أعرف ماذا أحبُّ فيكِ.. هل هي الزرقة التي لا تراها؟ أم هو الحزن الذي يتخفّى في ضحكتكِ؟"

مثل هذا النص، يتجاوز درويش الشكل الخارجي للمرأة ويغوص في تفاصيلها الداخلية، اللا مرئية، كأنه يردد المعنى ذاته: الجمال الحقيقي ليس في الخارج بل في العمق.

ب. أنسي الحاج في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":

"أحبكِ لأنكِ تلمسين العالم لا بأصابعكِ بل بقلبكِ" .

أنسي، ككاتب يتقاطع مع الإيروتيكا الوجودية، يرى في الجسد بوابة إلى ما هو أبعد. وهذا أيضاً ما يفعله النص الذي بين يدينا، ولكن من زاوية الذكر الذي يريد ألا يقف عند الجسد بل يطلب جوهر الإنسان.

البنية النفسية للمتكلم

النص لا يتكلم بلسان عاشق عادي، بل يبدو صوت الذات الشاعرة هنا مأزوماً بوجوده، لا مكتفياً باللذة، بل يبحث عن معنى، عن "قلب" يحسّ أنه مفقود أو بعيد. هناك جوع روحي خلف الفعل الجسدي. وهذا يمنح النص طابعاً سيكولوجياً يتجاوز الغرض العاطفي.

في الختام:

في هذا النص القصير، يلتقي الجسد بالروح، والرغبة بالحب، واللمسة بالسؤال. لا يكتفي المتكلم بالفعل الحسي، بل يتجاوزه نحو التأمل، فيجعل من العلاقة مع الجسد تجربة وجودية، لا لحظة غرائزية. بذلك ينضم النص إلى سلسلة من الكتابات الحديثة التي تسعى لفهم الإنسان لا من الخارج، بل من الداخل: من القلب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة -  برلين

.........................

نص القصيدة

‏حسناً أيها الجسد،

لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر

ماذا بعد الحلمة؟

كنتُ أريدُ الأبعد،

أردتُ القلب.. 

القلب

***

ميلانو / إيطاليا

 

منطلقات السيرة الذاتية، تحتاج الى خبرة وكفاءة في هندسة لسردها وترتيبه أحداثها في صياغة تملك ابداع فني في التكوين، في ذكر أهم الأشياء الحساسة والمؤثرة في فعلها السردي الدراماتيكي الصاعد الى الذروة، في السليقة الشعورية في الكشف والبوح، في المشاعر الحسية الداخلية، التي ظلت راقدة في الذهن والشعور، وينبغي افراغها وسكبها بصياغة الفن الروائي الحديث، لذلك السرد الروائي، برع في ترتيب هذه ا الانثيالات الشعورية الذاتية، ربما شيء مختلف عن المألوف، بأن أغلب الروايات، السيرة الذاتية، عن أحلك مرحلة سياسية مرت في تاريخ العراق، هي فترة حكم البعث المتسلط بالإرهاب والطغيان، والمواطن تحت مجهر عدسة رجال الأمن، في المراقبة والترصد، أغلب هذه الروايات جاءت على لسان رجل أو بصيغة المذكر، ولكن هذه الرواية جاءت بلسان امرأة بصيغة المؤنث، التي عاشت هذه الذكريات بالمعايشة الفعلية واليومية، كانت في عين الترصد والمراقبة، لان زوجها نجا من قبضة الدولة البوليسية، واختار طريق الغربة في بلغاريا / صوفيا) وكانت السلطات الامنية اعتقدت بأن زوجها لم يتحمل فراق زوجته وهي حامل كان لديهم يقيناً بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم، كأنهم لم يفهموا !!) ص26. لذا فنحن إزاء ذكريات واقعية حدثت فعلاً، تمثل بخطوطها العامة، وجع الوطن. وجع النضال السياسي والحزبي، وجع الغربة في ظروفها الصعبة وفي أماكن مختلفة العراق. بلغاريا / صوفيا. اليمن الجنوبي) حتى المناخ مختلف كلياً، من درجة السخونة العالية العراق. اليمن الجنوبي) الى درجة التجمد 10 درجات تحت الصفر بلغاريا / صوفيا)، بدون شك هذا التكيف صعب في هذه الأماكن المختلفة، تحتاج طاقة لتحمل اكثر من الواقع الاعتيادي، لكن السارد العليم، بطل الاحداث الروائية، تعلمت وتربت من عائلتها، الام والاب، خصال التحدي والشجاعة والثقة بالنفس، إن قدرة الصياغة السردية تجعل القارئ يفهم ويدرك مدى قساوة سنوات العجاف، سواء داخل العراق، وفي الغربة والمنفى ايضاً، جسدت فيها مشاعرها الذاتية بسليقة حرة منطلقة من أعماق الشعور الذاتي ، هذا يشير اننا بصدد امرأة مناضلة ومكافحة تتحدى الظروف بكل تضاريسها المختلفة، رغم الوجع والالم الداخلي، لذا صفحات السرد الروائي. هي ازمنة التحدي، رغم هواجس القلق والتوجس والحيرة، ان هذه الرحلة الطويلة، في رحلة المنافي الطويلة، هي رحلة المجازفة والمجازفات الدائمة والمستمرة، منذ ان وطئت قدميها في ارض مطار صوفيا، ولم يكن زوجها في استقبالها، وذهبت الى الفندق وحدها، وهي تحمل حقيبة الكتف فقط، وبعد ايام التقت بزوجها الحبيب، وكذلك عانت من بعض السلبيات من العلاقات الرفاقية، التي صدمتها بالمفاجأة غير المتوقعة، بأن أحد اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البارزين،قابلها بالغضب والاحتجاج بصوت غاضب أخرجي من هنا لا نريد رؤيتك) حاولت ان تجد مبرر لهذا الغضب، لكن عبثا وتحملت ذلك على مضض، وواصلت جهدها في العمل والدراسة، وممارسة مهنة الخياطة والتطريز، ويكون ريعها المالي هو دعم الأنصار في كردستان، كما لاحظت بعين غير راضية، هو ترتيب اوضاع اقامة الرفاق المتواجدين في بلغاريا، منْ يمتلك صداقات ومعارف، يرسل الى الدراسات الجامعية، وغيرهم يرسل الى دورات حزبية ودراسات اكاديمية محدودة، حاولت ان تقنع نفسها، بأن ضرورات النضال الوطني تتطلب هذه الإجراءات، وجاء وقت المخاض والولادة، واصبحت أم، ملئ هذا الوليد الدفء والحنان، وهي بامس الحاجة اليه لكي يملئ حياتها، في هذه الظروف الصعبة، وتعلمت ان تتحمل الوجع والالم، كزوجة وام، وحتى من العلاقات العامة، حيث تجمعت عوائل الرفاق بكثرة في الفنادق، كثر القيل والقال، لكنها تمسكت بقوة الحب الى زوجها، فهو الملاذ الامن في هذه الرحلة الطويلة لقد كانت رحلة شاقة، لكن علمتها: ان الحياة ليست دائماً كما نخطط لها، وان الحب الحقيقي هو ذاك الذي يظل صامداً رغم كل العواصف... ظلت ذكريات تلك الأيام محفورة في قلبها، لا ذكرى ألم، بل كاثٍ من القوة والمثابرة) ص89. وجاءت الغربة الثانية هو الرحيل الى اليمن الجنوبي بقرار حزبي، فوافق زوجها على القرار، وعرفت عن زوجها لا يعارض أي قرار من الحزب، يمتثل لكل قرار مهما كان كان زوجها ممن لا يعارضون، ولا يبدون امتعاضاً حين يتعلق الامر بتوجيهات الحزب، فقد نذر حياته لقضية آمن بها حتى العظم، واخلص لها إخلاص العابد المتبتل في محرابه، أما هي ورثت عنه هذا الولاء) ص94. هذا الولاء تداعياته احساس تعمق بالنضال الوطني، لكنها وجدت نفسها على تخوم هذه البقعة من العالم اليمن الجنوبي)، اوضاع لا تحتمل ولا تطاق، اشتغلت مع زوجها بمهنة التعليم براتب زهيد، يصعب تلبية الحاجات الاساسية اليومية، لكن اقتنعت بهذا الوضع الجديد، ليس منفى، وإنما ولادة جديدة في قطار العمر، وكان الصبر ملاذها، رغم الحزن والكابة. بدون شك حكايات السرد كثيرة ومتنوعة من الهموم والاشجان، لكنها تبقى هذه الذكريات توثيق تاريخي وسياسي بالغة الاهمية... نقتطف منها:

1 - الأم زهرة:

هي قريبة الشهيد سلام عادل حسين احمد الموسوي). تسرد عن سيرة حياته، بكل فخر واعتزاز، منذ ربيع عمره انخرط في غمرة النضال السياسي والحزبي، رجل واثق من نفسه متفاني في قضية الوطن والاخلاص له، بل كان ملحمة ثورية بطولية، تسرد الحكايات عنه بكل قدسية الرجل الذي لم يكن شخصاً عابر في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين..... حسين احمد الموسوي. المعروف بين رفاقه بأسم خلده التاريخ - سلام عادل -) ص140. كانت الام زهرة، مثال الشجاعة والاقدام، وكانت تقف في وجه رجال الأمن في العهد الملكي، والى زمن الحرس القومي البعثي، ونشأت من عائلة فقيرة كادحة، تعلمت مهنة التمريض، وكانت تقدم خدماتها الى الناس، وخاصة عند النساء ساعة المخاض، كانت محل حب واحترام لدى الناس، وتكون حاضرة ساعة الشدة والعسر.

2 - الاب: صورة الأب الواعي والمتفهم في حاجاتهم المادية والإنسانية، ويتذكر موقفه المشهود، بكل حب واعتزاز، حين جاء ابن العم يطلب يد ابنته للزواج، وهو يفتخر بأمواله وامتيازاته الكثيرة بما يملك، فوقف الاب في وجهه بصلابة وصرخ به ليس عندي بنات للبيع.. أنا لست من تبحث عنه) ص177. فكان بالنسبة الى عائلته الداعم والسند، وكان يكتب الشعر، يقرأ قصائده التحريضية ضد الظلم والطغيان، وكان يستغل المواكب الحسينية، لبث حماس الناس ضد الظلم والطغيان والارهاب، وليس فقط ذكر مظلومية الحسين، بل قصائد تصب في توعية الناس. كان الشعر يسري في عروقه كما الماء في العروق، فكان شعره سلاح سياسي ضد سلطات الإرهاب، كان والدها يكتب الشعر في الليل ما سيردده في النهار، يلقي اشعاره بصوت الجهوري وسط المواكب الحسينية  والدها لم يكن شاعراً فحسب، بل كان ضميراً حياً، يقف في وجه الجهل والخوف مستنداً إلى قضية لا تموت) ص183. وجاءت ساعة الاعتقال في زمن البعث، في جملة اتهامات منها: شيوعي خطير، وتارة ينتمي الى حزب اسلامي، تارة اخرى مهرب، يهرب السلاح والعبوات الناسفة. كان غياب الاب صعب جداً على عائلته، صدمها بحزن غيابه، ولكن بعد اطلاق سراح السجناء السياسيين عام 1973، أطلق سراحه، فتح الباب ببطء وأطل شبح انسان في جسده النحيل، في حالة يرثى له، فقال بصوت متهدج مخنوق هل انتم جميعاً بخير؟ لم يعتقل احد؟ لم يعذب منكم احد؟) ثم أضاف بقوله الحمد لله..... كنت اسمع اصوات استغاثتكم بي، من الزنزانة المجاورة كل ليلة، كنت اميز صراخكم، كنت اسمع احدكم يصرخ: أنقذني يا أبي، أنا أموت، لقد هددوني بكم..... كانوا يعذبونني بذلك، ينهشون قلبي قبل ان ينهكوا جسدي) ص187.

3- الزوج الحبيب: تربى في عائلة بسيطة وفقيرة وكان والده عامل، لا يملك من الدنيا سوى عرق كدحه وجبينه، واصل دراسته بامتياز، وانخرط بشهية طاغية في حب قراءة الكتب الفكرية والادبية، وانخرط في النضال السياسي والحزبي، وبرز من الأسماء الادبية اللامعة في العراق، وكان محل احترام وتقدير في قلوب الناس. تزوج من حبيبته رغم معارضة أمها، وكان الزواج بحضور شاهدين فقط، لا مهر، ولا احتفالات، ولا تجهيزات فاخرة ليوم الزفاف، لأنها كانت تؤمن بالحب كانت مؤمنة بأن من اختارته شريكاً لحياتها، سيفهم طموحها، سيدعمها، سيقف إلى جانبها في كل خطوة، بهذه القناعة واجهت الجميع وتحدت اهلها) وخلال الحملة الارهابية البعثية، خاض عمار الغربة والمنفى وترك زوجته الحامل، لكن التواصل استمر بدوام الحياة رغم معاناتها، بذلك اختتمت الرواية بهذه المقولة الحكيمة لا نهاية تكتب إلا في طيها بداية آخرى، أكثر املاً واشراقاً، وأشد امتلأ بالحب) ص231.

***

جمعة عبدالله

للروائي السوري: محمد فتحي المقداد.. دراسة نقدية في رمزية المكان والشخصيات

المقدّمة: تأتي رواية بنسيون الشارع الخلفي بوصفها شهادةً سردية حارّة على زمن الانهيار والتمزق، حيث لا مكان ثابتاً، ولا هوية آمنة، ولا يقيناً يُعوّل عليه. يعتمد الكاتب على فضاءٍ مكانيٍّ محدد ومغلق - البنسيون - لاحتضان شخصيات مأزومة تعيش تمزقات وطنية ووجودية، في ظل انهيار القيم الاجتماعية، وتحلل المعايير الأخلاقية، كمجازٍ رمزيٍّ لوطنٍ خاضعٍ لحربٍ دامية، تتورّط فيها السلطة بقسوةٍ ضد شعبها، ويدفع المدنيون الثمن الأكبر في تشظيهم النفسي وانقسامهم الوجودي.

بذلك، لا تقدم الرواية سرداً تقليدياً قائماً على حدثٍ واضحٍ، أو حبكةٍ دراميةٍ متصاعدة، بل تشتغل على الانهيار البطيء للقيم، عبر أصواتٍ متعددةٍ تُمثّل أطيافاً متصارعةً من الشعب نفسه. في هذا السياق، تصبح الشخصيات ليست فقط كائناتٍ فردية، بل استعاراتٍ اجتماعية وطبقات رمزية من جسد الوطن المجروح.

1. الرؤية الوجودية في الرواية

تتمركز الرؤية الفلسفية للرواية حول سؤال الوجود في عالم يفقد كل شروط الأمان. ليس فقط وجود الذات في مواجهة نفسها، بل في مواجهة وطنٍ ينكفئ على شعبه، ويحوّل مؤسساته إلى أدوات قمع وعنف. هنا، تتحول الحياة إلى فعل انتظار طويل للمجهول.

"كلّ شيء يتآكل ببطء. نحن نعيش في قبو الزمن، ولا نعلم إن كان الصباح آتياً أم لا."

الزمن في الرواية متآكل، واللغة محمّلة بالشروخ النفسية والخراب الداخلي.

“لا أعرف متى دخلت البنسيون، ولا متى سأخرج… كلّ شيءٍ يشبه كلّ شيء، حتى أنا لا أعرفني.”

هذه العبارة تجسّد تماماً مركزية القلق الوجودي في النص، حيث الذات لا تثق في الحواس، ولا تجد يقيناً في أيّ بعدٍ من أبعاد الواقع، وهو ما يتماشى مع الرؤية الوجودية عند كامو وكيركغارد: الإنسان كائنٌ في مأزقٍ دائم.

هذه الرؤية الوجوديّة تتغذّى على غياب الأفق السياسي والأخلاقي، وانعدام المرجعيّات، والشكّ في جدوى اللغة والمعنى. وهي تُحاكي تيار "العبث المعنوي" الذي نجده لدى ألبير كامو في "الغريب" وصامويل بيكيت في "في انتظار غودو"، حيث الفعل البشري يتحوّل إلى طقس من العجز والتكرار.

2. البنسيون: الوطن في مرايا التهجير الداخلي والحرب الأهلية

البنسيون كمكان رمزي:

يمثل البنسيون أكثر من مجرّد مكان إقامة؛ إنه الوطن المصغّر، المقطّع، والمسيّج بالخوف. تتحول غرفه إلى مقاطعات نفسية، تعكس حال الانفصال بين مكوّناته، وكأنّ قاطنيه يمثّلون شعباً مشتتاً داخل وطنٍ فقد وظيفته كحاضنةٍ للانتماء والنجاة.

"لا أحد يعرف أحدًا، وكلّ الغرف مغلقةٌ، حتى لو كانت مفتوحة."

في ظل انهيار الدولة وتحوّلها إلى جهازٍ قمعيٍّ يشنّ حرباً أهليةً على مواطنيه، يتحوّل البنسيون إلى مأوىً للهاربين، المنفيين، المهمّشين.

“لا تسأل أحداً من أين جاء. كلّ من في البنسيون جاء من جهةٍ خائفة."

هذا المكان، بما فيه من غرف متشابهة، وجدران مكتومة، ووجوه شاحبة، يُجسّد الوطن المقهور الذي لا يوفّر سوى الظلّ لمن فقدوا الضوء. إنه حاضنة جراح جماعية، لكنه أيضاً انعكاسٌ لنظامٍ مأزومٍ في الخارج.

البنسيون كمجتمع بديل مأزوم:

البنسيون يختصر المجتمع الخارج من رحم الصراع. حيث يُجبر الناجون من الحرب على التعايش، دون مصالحة. يعيشون جنباً إلى جنب، لكنهم مقسمون عاطفيّاً وذهنيّاً وانتمائيّاً. بعضهم يعادي بعضًا صامتًا، وبعضهم لا يتكلم.

بهذا المعنى، يتحول البنسيون إلى بنيةٍ ما بعد وطنية، أو وطنٍ بديل مُحمّلٍ بالخذلان، والرقابة الذاتية، والتباس العلاقات، والتشكيك في الآخر.

في غياب الدولة، ينشأ داخل البنسيون مجتمعٌ هامشيٌّ يعيد تشكيل نفسه وفق منطق البقاء، لا العدل، تتفكّك فيه الروابط، وتفشل فيه العلاقات، ويتحوّل الإنسان إلى “كائنٍ ساكنٍ" لا يصنع مصيره، بل ينتظر نهايته.

3. الحبكة: لا حدث إلا التشظي

بنية (اللا) حبكة:

تتجنّب الرواية البناء الدرامي الكلاسيكي، وتختار سرداً تفكّكيّاً، يقوم على تيّار الوعي، وتقطيعٍ زمنيٍّ مقصود. لا نجد حبكةً تصاعدية، بل تتكرّر المشاهد، وتتداخل الأزمنة، لتصوير حالة الدوار النفسي والجمود الوجودي.

"لا شيء يحدث. فقط الأيام تتكرر بلون رمادي، وكأن الزمان لا معنى له".

اللاحدث في الرواية هو حدثٌ بحدّ ذاته، لأنه يعكس غياب الأفق، وانسداد المعنى، وانهيار القيمة في عالم الشخصيات.

تختار الرواية، عن عمدٍ، أن تكون بلا حبكةٍ دراميةٍ تقليدية. لا توجد بدايةٌ بالمعنى الكلاسيكي، ولا عقدةٌ، ولا ذروةٌ، ولا خاتمةٌ حاسمة. كلّ شيءٍ متّصلٌ ومقطوعٌ في الوقت ذاته.

"الأيام تتكرّر مثل وجوه النزلاء، ولا أحد يتغير، إلا في داخله المكسور."

تيار الوعي والسرد المتقطع:

يُبنى السرد على أساس تيّار الوعي والداخل النفسي، حيث تسرد الشخصيات أفكارها، انطباعاتها، هواجسها، دون ترتيبٍ منطقيٍّ. هذا الخيار الفنّي يُحاكي الفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان وسط العنف السياسي والاجتماعي.

4. تحليل الشخصيات الرئيسية

تركّز الرواية على ثلاث شخصياتٍ محوريةٍ: نبهان، ميرا، وسدرا، تتحرك جميعها في مساحةٍ تحاكي التيه والانكسار والبحث عن ذاتٍ مفقودة.

سدرا: الأنثى الجريحة/الواعية

تُعدّ "سدرا" من أبرز شخصيات الرواية، إذ تجمع بين الألم والوعي، بين الجسد الأنثوي المقموع، والعقل الرافض للامتثال، وهي تمثّل الأنثى في مجتمعٍ ينكرها ثم يعاقبها. هي صوت الأنثى في مجتمعٍ فقد توازنه القيمي.

“سدرا كانت تنام بقميصٍ أبيض باهت، كما لو أنها ترفض أن تكون مرئية.”

سدرا ليست شخصيةً خاضعة، بل واعية، تراقب بصمت، وتلخّص ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه. تمثّل الفئة المظلومة والمهمّشة التي لم تشترك في الحرب، لكنّها دفعت الثمن الأثقل.

"سدرا كانت الوحيدة التي لا تكره أحداً، لكنها لم تعد تحب أحداً أيضاً."

كأنها "الوطن/الأم" الذي أهمله الجميع، لكنّه ما زال يحمل القدرة على النظر بعين العدل، رغم الصمت.

ميرا: الانفجار الداخلي للمقموع

ميرا شخصية مشوشة وغاضبة، تمثل الشقّ المتمرّد والعنيف في بنية المجتمع. هي المنفيّة النفسية التي لا تصالح، ولا تتعايش، لكنها أيضاً لا تجد الخلاص.

"ميرا تنفجر كلما ساد الصمت. كأنها ترفض السكون لأنه يشبه القبر."

تمثّل ميرا شريحةً من المجتمع، لم تعد تؤمن بأيّ إصلاحٍ أو عدالة، وتحاول أن تهدم كلّ شيءٍ لأنها فقدت الإيمان بكلّ شيء.

وكأنها انعكاس لـ "نبهان" و"سدرا" في أكثر حالاتهما اضطراباً. هي أقرب إلى (الظلّ النفسي) غير المتكيّف، وغير المُتصالح، والعنيف إذا لزم الأمر.

“ميرا لم تكن تتكلم كثيراً، لكنها عندما تنفجر، تقول كلّ شيءٍ دفعةً واحدة، كأنها تفرغ الحرب من صدرها.".

ميرا تُجسّد العنف المضادّ للخذلان، والوعي الحادّ بما يدور خلف الأقنعة.

نبهان: الوعي القَلِق

نبهان ليس مجرّد بطلٍ تقليديٍّ للرواية، بل هو مرآةٌ شديدة الحساسية للهشاشة النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب والانهيار الوطني. إنه الشخصية التي تدور حولها الأحداث، لا لأنّه فاعلٌ قويٌّ، بل لأنه كائن مُراقِب ومُثقل بالأسئلة. يفتقر نبهان إلى الحسم، ويتحرّك داخل الرواية بثقلٍ شعوريٍّ كثيف، كأنّما يمثّل "الذات السورية المسحوقة"، التي فشلت في الفعل السياسيّ أو الأخلاقيّ، فانسحبت إلى منطقةٍ بين الحياة والموت.

"نبهان لم يعد يحلم بشيء، لكنه ما زال يخاف من أن يصحو فجأة على كل ما فقده."

هذا التوتر بين الخوف والرغبة في الاختفاء هو ما يصنع طاقة الشخصية. فهو حاضرٌ، لكنّه دائم الميل إلى التلاشي.

هو يمثّل صوت المحايد المأزوم، الذي لا يقف مع طرف، لكنه يدفع الثمن؛ يعيش على الهامش، خائفاً من كل شيء، غريبًا في وطن لا يشبهه. هو رمز للجيل الخاسر في وطن مأزوم، يُجسد جيلاً ورث شعارات كبرى عن الوطن والحرية، ليجد نفسه بين مطرقة الاستبداد وسندان الحرب الأهلية.

في الرواية، نبهان ليس ضحيّةً فقط، بل ممثلٌ للضمير المكسور، الذي فشل في المواجهة، فانسحب إلى صمتٍ داخليٍّ يُعاني من خرَسٍ وجوديٍّ؛ لكنّه يظلّ الأكثر وعياً بما حوله. من هنا، فدوره ليس البطولة، بل التأمّل: هو شاهدٌ على انقراض المعنى والقيمة.

من أبرز الملامح الرمزية في شخصية نبهان، أنه يتاجر بالكتب المخطوطة، لا بالكتب المطبوعة أو الحديثة. وهذا التفصيل البسيط ظاهريّاً يحوي طبقاتٍ من الدلالة:

- رمزيةٌ أولى تكمن في أنّ نبهان لا يقرأ تلك الكتب. هو مجرّد وسيطٍ، وهذا يعكس انقطاع المثقّف عن فاعليته التاريخية. فالمعرفة تحوّلت إلى سلعة، والكاتب/القارئ إلى تاجر خائف.

"لم يكن نبهان يعرف إن كان زبائنه يقرؤون تلك المخطوطات، لكنه كان يعرف أنها لن تغيّر شيئاً."

- في ظل الحرب، لا أحد يطلب الكتب. وبالتالي، فإن بيع المخطوطات هو محاولة يائسة للإبقاء على أطلال الحضارة بينما تُقصف المدن.

يمثّل "نبهان" النموذج الكلاسيكيّ للمهزوم؛ لكنّه ليس جباناً، بل مرهقاً من كثرة الخسارات. هو ضحية وطنٍ دمويٍّ ومنفىً باهت. لا يبحث عن خلاصٍ، بل عن مساحة صمتٍ، عن ركنٍ لا يُؤذى فيه.

"نبهان لم يعد يتذكر حتى صوت أبيه، لكنه لا ينسى كيف كانوا يركضون من الرصاص في زقاق الطفولة".

يمثّل نبهان حالة اغتراب مركّبة: عن الوطن، عن الجسد، وعن التاريخ الشخصي. حيث الإنسان غريبٌ عن ذاته، عن الآخر، وعن المكان. فالبطل “نبهان” يمثّل صوت الفرد المهزوم، الخارج من وطنٍ يقتل أبناءه، إلى منفىً باردٍ لا يحتضن أحداً.

خاتمة:

رواية بنسيون الشارع الخلفي ليست حكاية أفراد، بل مجازٌ أدبيّ لوطنٍ ممزّقٍ في حالة حرب صامتة وصريحة. الشخصيات تمثّل أطيافًا من الشعب الصامت، الغاضب، المنفي، والمقموع. أما البنسيون، فهو المرآة المعتمة التي تعكس تفتّت الوطن، وعجزه عن احتواء نفسه.

تشكّل رواية بنسيون الشارع الخلفي مشروعاً سردياً وجودياً، يطرح أسئلةً عن الوطن، المنفى، الذات، الموت، والنجاة.

هي ليست حكاية حدثٍ، بل سردٌ لانكسارٍ جماعيٌّ في وجه قمعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وأخلاقي. الشخصيات ليست أدواتٍ للحبكة، بل أصواتاً سرديةً تعرّي الخسارات الفردية والجماعية.

البنسيون هنا ليس مكاناً، بل وطناً بديلاً مفخخاً، تمجيداً للصمت، وتأبيناً للحرّيّة.

إنها روايةٌ عن الخسارات الكبيرة، التي لم تعد تُبكى، بل تُروى على مهل، في غرف مكتومة، خلف نوافذ لا تُفتح.

***

منذر فالح الغزالي

Wachtberg. 30.06.25

 

وتَدوينٌ ثقافيٌّ لِمعاني الهُويَّةِ السِّيريَّةِ

تقديـمٌ: القارئ المُتَتبِّع الذي يُطالع مدوَّنة زيد الشَّهيد (شارعُ بَاتا) بِدأً من لوحة الغلاف العنوانية الأولى، أو من أول صفحة من صفحاتها التدوينية، سَيقرأ أنها وشِمَتْ بكلمة (رِوايةٌ) في تصنيف جنسها الأدبي. وسَيذهبُ بهِ المُعتاد التقليدي أو الظنِّي في التلقِّي القرائي المعرفي أنَّه إزاء عمل سرديٍّ روائيٍّ يقوم على فكرةٍ موضوعيَّةٍ مركزيةٍ تتوزَّع عليها أحداث الرِّواية من أوَّلها حتى آخرها. سواء أكان هذا العمل متواليةً قصصيَّةً سرديَّةً أمْ مجموعةَ حكاياتٍ فصليةٍ تراتبيةٍ تربطها فكريَّاً وحدةٌ موضوعيةٌ معيَّنةٌ ما، مهما اتَّسعت مِساحة هذه الحكايات والأفكار المتناسلة زمكانياً ونسقيَاً.

ولكنَّ المفاجئ واللَّافت الضوئي لأنظارنا بإدهاشٍ في هذا التلقِّي القرائي التدويني التاريخي الجديد لرواية (شارعُ باتَا) ذات الفصول السبعة المحتوى أنَّها لا تقوم في معمارية تأثيها الهندسي والفكري على نظام وحدةٍ موضوعيَّة واحدةٍ مُعيَّنةٍ ما؛ وإنَّما تقوم في مركزية اشتغالاتها التوثيقية على أفكارٍ تجدُّديةٍ ووحدات حكائيَّةٍ موضوعيَّةٍ مُتعدِّدةِ الفاعلية لها وجودها النسقي وأثرها الحياتي المجتمعي.

ويبدو واضحاً أنَّ المعادل السردي الموضوعي الذي قامت عليه فكرة مدوَّنة (شَارعُ بَاتا)، هو مجموع عناصر الرواية الأساسيَّة المكانية والزمانية وشخصيَّاتها الفواعلية، وسلسلة أحداثها الفعليَّة المتنوِّعة التي تشكِّل برُمَّتها وحدةً مركزيةً موضوعيَّةُ تقوم عليها حبكة أحداث الرواية في عصرنة صراعها القائم بهذا التشكيل التاريخي المِيتا سردي الحداثوي الذي يُفكِّك مركزيَّة البطل الواحد، ويمنح الأولوية لتعدُّديَّة الأصوات التي تدور في فَلكِ الرواية بوصفها أُنموذجاً تعبيريَّاً وفنيَّاً جديداً.

وتعدُّ البنية المكانية للرواية والشخصيَّات الرمزية (السَّماويَّة)من أكثر أدوات السرد الأساسيَّة إسهاماً وتأثيراً في بناء هندسة معمارية الوحدة الموضوعية الكبرى للرواية، وإحكام السيطرة جيِّداً على خيوط نسيجها التسريدي العام في ظلِّ هذا التحوُّلات الفنيَّة والجماليَّة الجديدة لسرد ما بعد الحداثة.

وعلى الرغم من أنَّ الرِّواية في خطِّ نسقها الثقافي الظاهر تبدو لنظر لقارئ من خلال تعاقب فصولها السردية السبعة مُتعدِّدة الأفكار والرؤى والحكايات بأنَّها رواية (بوليفونية)مُتعدِّدة الأصوات والشخصيَّات والرموز والوجهات المرتبطة زمكانياً بجذور واقعة الحدث الموضوعيَّة. بيدَ أنَّها في الوقت ذاته تبدو في نسقها الخفي المُضمَر وموحياتها الدلالية البعيدة بأنَّها روايةُ الصوت الواحد والبطل الأوحد الذي يُمثِّل نواة الحدث المُضيئة ويُشكِّل نقطةَ بؤرته السيريَّة الموضوعيَّة المهمَّة.

غير أنَّ ما يظهره نسقها البعيد أنَّها رواية الكاتب السارد أو المؤلِّف الحقيقي زيد الشَّهيد الذي يمكن أنْ نعده هو بطلها في النسق المضمر والظاهر وفي السرِّ والعلن وفي جدليَّة (الخَفاء والتجلِّي) التي امتزجت فيها صورته السِّيريَّة الذاتية وقناع هُويته الشخصيَّة والأدبيَّة الحقيقية في هذا التدوين مع شيء من الخيال الممتع بين انثيالات أنسنة السطور، وخلف معاني حركة مسارات واقعة الحدث.

ولا أدلُّ على ذلك الخلط التسريدي المُتوحدن لمثال الشخصيَّة البطولية لُغة التعبير السردي تتمُّ بلُغة إبراز ضمير تاء الفاعلية وتَكرار توكيده الحضوري القوِّي في بنية الخطاب السردي وتخليقه الإنتاجي الذي هو سرُّ صناعة الحدث ووحدته الكليَّة، على الرغم من أنَّ البطل كونه اللَّاعبَ الفاعلَ والممثَّلَ عن الحقيقة والمُحرِّك الأساس للحدث السردي؛ فإنَّه صار واحداً من بين أصواتٍ آخرين.

إنَّ من يحاول البحث والاستقصاء بجديَّةٍ عن شخصية بطل مدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الرئيس، ويُمعنُ النظر مليَّاً بعين نقديَّةٍ واعيةٍ في فكِّ رموزها والكشف عن لُغة شفراتها الفنيَّة الموضوعيَة سيتراءى له بوضوحٍ تامٍ أنَّه أمام شخصيَّةٍ كاتبها الحقيقي المُبدع أو مؤلِّفها عَينهُ بِكلِّ أوصافها ومسمَّياتها الثقافية العامّةَ والخاصَّة، وإنْ كان الفرق ضئيلاً جدَّاً في التفريق بين معاني الحقيقة والخيال المُبدع.

إنَّ فعلَ هذا التداخل الصوري الجميل الذي يَمزج فنيَّاً بين الواقعي واللَّاواقعي، وبين الحقيقي والميلودرامي المفتعل يشي إليكَ أنَّك حقيقة تقف أمام صورة البطل الحقيقي الغالب زيد الشَّهيد في صفحات الرواية المُمتدَّة طولاً وعُرضاً. وحين تبحث عن شخصيَّة الشَّهيد، الإنسان أوَّلاً والمثقَّف المبدع ثانيَّاً في هذا اللَّون الاشتغالي من التَّسريد الجديد، ستجدها ماثلةً بكلِّ صفاتها في أروقة وشوارع ومكتبات ومثابات ومقاهي (شَارعُ بَاتا)وهذا ما سيكتشفه القارئ بنفسه في قراءته للمُدوَّنة.

لقد اختلط علينا صوت الراوي العليم (الكاتب) بأصوات الرواية الأخرى، ولا مناصَ من التفريق بين راويها العليم وبطلها الافتراضي (حمزة). فهذا هو اللَّون التعبيري من الكتابة الذي تمتزج فيه حيثيات الواقع وتشيُّؤاته التَّشكليَّة بمدخلات المخيال المُوسطرة سردياً.

والتي تَرى فيها صورة الكاتب الرائي بدمه ولحمه وهيأته وكأنَّ شَبَحُهُ يُحدِّثُكَ ويَسردُ عليك واقعة الحدث السردية بوثوقيةٍ وهدوءٍ، وشدٍّ وجذبٍ عجيبينِ؛ لَهوَ لونٌ من ألوان الإنتاج الإبداعي السردي الأثير الذي يُضفي على وقع الرواية إمتاعاً أُسلوبياً روحيَّاً شائقاً، ويمنحها ابتداعاً تفرُّديَّاً حداثويَّاً مُذهلاً يروي ظمأ القلوب العطشى للتلقِّي في جماليَّات النقد السردي واشتغالاته الكثيرة.

خاصَّةً وإذا كان زيد الشَّهيد يتحدَّث بهذه السردية من التدوين التاريخي عن خصائص وصفات ومزايا أبطاله الثقافية والمعرفية والعمليَّة في السَّماوة حاضنته الأرضية والوجوديَّة، إنَّما هو في الحقيقة يَتاً حدَّثُ عن طابع هُويته الشخصيَّة وحضوره الذاتي وتطلُّعه العلمي والثقافي والمهني والأدبي الثَّر. فهو لا يتماهى مع شخصيَّاته فَحسب، بل يُجسِّد فيها سيريَّاً وروحيَّاً ما في دواخله من مكنونات وإمكانات تفرديَّة طبعت شخصيَّته الثقافيَّة المُبدعة وحضوره الوجودي المتعدِّد الثقافات.

وبموضوعيةٍ حياديَّةٍ من يَودُّ معرفةَ الكاتب الشَّهيد، فَزَيدُ الشَّهيدِ هو الشاعر والمُترجم والقاصُّ والراوي والقارئ الناقد النابه والمُتذوُّق للسينما والمسرح وفُنُون التشكيل الجماليَّة، والمحبُّ للحياة والمُتطلُّع في أسلوبه إلى الجنوح الأدبي والانفتاح الذاتي على الجامعة الإنسانية.هذا هو زيد الشَّهيد الصوت المَحكِي المُتفرِّد ثقافياً لا الصدى الزائل، والذي نحت بإزميله السردي في الصخر ونقش معاني حروف تراسله القصصي على صفحات وأركان الحجر، وخطَّ آيات إبداعه الفنِّي والجمالي على موجات الماء وأوراق الشَّجر. وأنَّ عديدَ نتاجاته الإبداعيَّة في الترجمة والشعر والسرد -قصةً وروايةً- شاهدةُ إبداعٍ على قيام مشروعه الفكري والثقافي العام والتدويني لذاكرة الرموز الخاصّ.

إنَّ هذه المثابرة التي تحدَّتْ صَخرة سيزيف بالجرأة والشَّجاعة والإقدام لا بالتراخي والإحجام كي يكون زيد الشَّهيد الإنسان أولاً قبل أن يكون الرمزَ العنوانَ ثانياً. وهذا الثناء والإطراء الذي طال سيرته الأدبية ليس مدحاً أو نفخاً ناتجاً عن محاباةٍ أو انحيازاً عابراً لحدود الموضوعيّة وقوانين الحياديَّة؛ إنَّما هو في حقيقة الأمر شَذَرَاتٌ تعريفيَّة وإضاءاتٌ تنويريةٌ صادقة استمدَّتْ ثوابتها العلمية والاعتبارية من موهبته ونتاجاته الأدبيَّة المُبدعة. وهي أفياءٌ وظلالٌ عامرة من طيَّات وبواطِن ومُتون كُتُبهِ وشواهد مُدّونته السرديَّة (شَارعُ بَاتا) التي تعدُّ ذاتها شاخصاً عَيَّانيَّاً عن ذاته.

إنَّ كلَّ فصل من فصول هذه المُدوَّنة السبعة يروي بحكاياته العنوانية رافداً من روافد ثقافته التعدَّدية، ويكشف بتجلٍّ عمَقَ وسِعةَ جوانبها ومُدخلاتها وحُمولاتها الفكرية شعراً وسرداً وترجمةً وعملاً فنيَّاً ومعرفيَّاً ومهنيَّاً اجتمعت فيه كُلُّ هذه النتاجات الفكرية مشروعاً ثقافياً يترجُمُ مشروع سيرته الشَّخصيَّة وهُويته الذاتية. وانعكست في هذه المدوَّنة السرديَّة كلُّ مُخرجات مرآتها الضوئية اللَّافتة على جوانب كثيرة ومتعدِّدة من ثقافة شخوصه وتطلُّعاتها وفلسفتها الآيدلوجية تُجاه الآخر.

وخلاصة قولنا التنويري في مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) هذه الرواية الجديدة في إيقاعها الأسلوبي ونظامها الفنِّي السردي لم تعد لِتقولَ لقارئها هذه هي الحكاية المركزية، ولم تجرؤ التلويح بالتنبيه أو الإيحاء بأنَّها وحدة الحدث، بل تقول إنَّها فكرة لأكثر من حكايةٍ واحدةٍ من مجموع حكاياتها. أي أنَّها واحدة من الحكايات المتناسلة عن فعل شخوصها وفعليَّاتها الحدثية. فهذه هي رسالة زَيد السرديَّة لقارئه.

عَتباتُ النَّصِّ الروائيِّ السَّرديَّة:

لا شكَّ أنَّ أولى عتبات النصِّ الموازي الرئيسة هي عتبة (العنوانُ الكُليَّةُ) التي تُعدُّ نقطة التحوُّل التعريفي المُهمَّة، ومفتاح الدخول الضوئي إلى إقفال النصِّ ومغاليقه البنائية المُحكَمَةِ الانْسدادِ. والَّذي من خلال هذا المفتاح يُمهَّدُ الطريقُ لِبابِ وحِفريَّاتِ النَّصِّ الموازي وإلى لُقاه الأثرية، فتُفتَحُ دَرْفِتِاهُ الدخوليَّة على مصراعيها الواسعين. ويُسمحُ في الوقت ذاته لعتبات النصِّ وشبابيكه الفرعية معرفة فعل التهوية السردي الذي يُغذِّي مُكوَّنات العمل الروائي، ويَملأ رِئتَهُ بِسردٍ النقاء الطبيعيٍّ.

فهذه المقدِّمة التمهيديَّة المُيسَّرة تقودنا بشكل مباشر إلى أنَّ (شَارعَ بَاتا) هو العنوان الرئيس لهذه الرواية، والذي ظهرت لافتته الضوئية على صورة ولوحة الغلاف الأولى التي تُمثِّل واجهةَأَيقونتهِ المكانيَّة المُتفرِّدة، وعلامته السِّيميائية البارزة، ومَعْلَمَاً من معالم مدينة السَّماوة التجارية التي هي مدينة الكاتب الرائي زيد الشَّهيد ومَنبَتُ عَيشِهِ الوجودي الضافي على نهر الفرات شريان الحياة الذي يروي صحراء هذه المدينة، ويتوسَّد وسادتها الرُّوحية الهانئة التي تغفو عليها بأحلامها اللَّيلية.

لم يأتِ اختيار زيد الشَّهيد لـ (شَارع بَاتا) عنواناً لافتاً ومُميَّزاً لروايته من فراغ عابر على المدى الزمكاني، بل إنَّ علامة (باتا) هي الماركة العالميَّة لشركة الأحذية الإنكليزية ذات الأصول التشيكية والتي مقرها الرئيس بِمدينة (لُوزان) السويسريَّة، والمعروف عنها تاريخياً بتصنيع وتوزيع جميع أنواع الأحذية ولوازمها الأخرى عبرَ تَعدُّد فروعها التجاريَّة المنتشرة في المَعمورة من دول العالم.

إنَّ هذه التسمية تستند إلى الدلالة الأيقونيَّة التعريفية التي تُثير لدى القرَّاء والمتلقِّين صوراً ذهنيةً تأمليَّةً عن طبيعة جماليَّات المكان السردي وتكويناته. والتي هي في الحقيقة ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوعات الرواية وشخوصها وأحداثها الوقائعية. هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإنَّ للعنوان موحياته الدلالية المتعدِّدة، منها الارتباط الروحي بالذاكرة الجمعية المشتركة للقُرَّاءالَّذين لهم معرفة زمنية مُسبقةٌ بـ (شركة بَاتا)للأحذية التي لها تاريخ وحضور طويل على المستوى العالمي والدَّولي.

وأنَّ هذا التاريخ يشي بارتباط صلتها الروحيَّة الوثيقة بذاكرة القُرَّاء وشخصيَّات الرواية ورموزها الحقيقية التعدُّدية. ومنه أيضاً الدلالة الرمزية الكبيرة والمهمَّة لشارعٍ باتا الذي ترمز مكانته العالمية والمحليَّة إلى الكثير من الأشياء والمقاصد الذاتية مثل، التحوُّل والتغيِّر والسفر والهجرة والتُّرحال والاغتراب والانتقال إلى فضاءات العالم الخارجي من خلال سعة دلالة ماركته الرمزية الشهيرة.

أمَّا العَلاقة البينية الوثيقة بينَ العنوان والرواية فهي عَلاقةٌ جمعيةٌ ترابطيةٌ وتكامليَّةٌ بين واقعة موضوعات الرواية وشخصيَّاتها الفواعلية.وقد تجسَّدت عُرَى هذه العَلاقة فعليَّاً بمكانة هذا الشارع المهمَّة، (شَارعَ بَاتا) المذكور في لوحة العنوان الذي يشكِّل موقعه مكاناً مُميَّزاً وفريداً وفارقاً في عتبات الرواية؛ كونه مكاناً ودالةً بينيةً حُضوريَّةً لتجمُّع شخصيَّات الرِّواية الفاعلة، والتي هي في الحقيقة ذاكرة زمانية ومكانيةً سيرية توثِّقُ تاريخياً لحركة الشخصيَّات وصراعها الإنساني الطويل.

وقد حفلت عتبات رواية (شَارعُ بَاتا) وخطابها السَّردي النصِّي بالعديد من الشخصيَّات الثقافية المغيَّبة والمهمَّشة من المسكوت عنها عن قصدٍ أو غيرِ قَصدٍ، والتي كان لها حضورٌ كبيرٌ ونصيبٌ وافرٌ في هذا الشارع وهذه المدينة ذات التقاليد العشائرية المُوروثة المَتينة والضاربة بُعداً في الأثر المديني مثل، شخصية (ناطور المَكِّي، وجَوادين، وهاشم المُسافر، وفارس رشيد، وياسر، وعقيل، وهاشم عبد الكريم، وشهلاء، وحيدر، وشاهين، وفالح عواد، وليلى، ورشيدة، وأزهار، وجميل)، فضلاً عن شخصية حمزة البطل وولَدَيهِ (حارثٌ وميمونٌ). البطلُ الذي يلبس قناعه (الراوي العليم). وغيرهم من الشخصيَّات الأخرى التي أسهمت في تفعيل أحداث الرواية وصنعها تاريخيَّاً ومكانياً.

لم تقف عتبات النصِّ الروائي لدى زيد الشَّهيد عندَ هذا الحدِّ من العنونة الكبرى، بل تعدَّت إلى ما يسمَّى بعتبة التصدير التالية للعنونة، والتي افتتحها المؤلِّف الكاتب بعبارةٍ موجزةٍ وبليغةٍ للفيلسوف والمُفكِّر والأديب الرُّوحي الفرنسي (هنري برجسون)، والذي يؤكِّد مكانية العقل البشري وأهميته في حفظ شذرات من الماضي وتاريخه التنويري إذ يقول: "هُنَا وَهُناكَ في العَقلِ صَناديقٌ أمينةٌ لِحفظِ شَذراتِ المَاضِي". (شارعُ بَاتا، ص 5).

وبالتأكيد فإنَّ اختيار السارد زيد الشَّهيد لهذه العبارة الفكرية الأمينة للحفظ في ذاكرة العقول ترتبط ارتباطاً كليَّاً باختيار سردية عنونة الرواية المكانية لـ (شَارعُ بَاتا) ذي التاريخ السيميائي الدلالي والتأصيلي لماضي المدينة وحاضرها الآني والمستقبلي الذي لايُموت مهما طالته يدُ الزمن.

ومثلمَا أنَّ بناء الحضور التصديري له أهميته الفكرية والموضوعية في سرديَّات زيد الشَّهيد واشتغالاته الحكائيَّة قصةً وروايةً، فإنَّ مثل هذا الإجراء النموذجي والتطبيقي شجَّعه على القيام بخطوات أخرى أكثر نضجاً وبلاغةً وإقداماً في فنيَّة التعبير السردي وفي أسلوبيته الإبداعية والإنتاجية لهذه الرواية وغيرها من السرديات المكانية التي تمثَّلُ ارتباطه الروحي والثقافي بها.

فقد ارتأى أنْ يكون لكِّ فصلٍّ من فصول روايته السبعة عتبةً عنوانية فرعيةً صغيرةً تُماهي وتُناظر وتُحاكي متون الرواية وفصولها المُتعدِّدة في موازاتها للنصِّ. فضلاً عن أنَّ هذه العتبات الثانوية الترتيب والمهمَّة التركيب البنائي في نسج سردياته الحدثية تتَّصل بسيرته الشخصيَّة وتُلخص بقصديةٍ تامةٍ ثقافته الأدبية وإبداعه الفني شعراً ونثراً سرديَّاً. على الرغم من أنَّ حكاياتها وشخوصها وحُمولاتها الفكرية والجماليةليست بمعزلٍ عن تاريخ حياته الشخصيَّة وثقافته المعرفية.

هذه هي الغاية والمغزى الحقيقي لاستحضار هذه العنوانات الفرعيَّة ونسجها بإحكامٍ مع واقعة الحدث السردية وإن كانت جزئيةً؛ لكنَّها مهمَّة في توثيق حياة أشخاص ومدنٍ ومثاباتٍ ذات أهميةٍ في سجل وتاريخ وجوده التكويني في خريطة الإبداع الإنتاجي والثقافي كرمزٍ من رموزها العديدة.

جاء الفصل الأول من الرواية يحمل العنوان التالي: (التَّرجمةُ وبَاتا والرَّحيلُ)، وقد حرص جدَّاً زيد الشَّهيد على إسناد وتعضيد هذا العنوان بما له عَلاقةٌ أو صلةٌ بالمكانية الأولى للإنسان، وأعني بذلك المأوى أو البيت الذي يضمُّ وجوده وكيانه الشخصي وتكوينه الحياتي والروحي المُستقل.

وقد استهل زيدُ الشَّهيد مطلع هذا الفصل للحديث بمشهد ميلودرامي عن إزالة تمثال الصنم صدام، وسقوط النظام البعثي الذي حكم العراق خمسةً وثلاثين سنةً عجافاً، وعن دخول القوات الأجنبية لبغدادَ عام2003م، والذي اعتبر بعضهم دخولها تحريراً، وحسبه بعضهم تغييراً دون علم. ثم تفرغ للحديث عن شخصَّيات (شَارعُ بَاتا) المحليَّة والتي آثرت الرحيل لأُوربا بعيداً عن ديارها.

وبوعيه الثقافي وموهبته المعرفية المُكتسبة اختار الشَّهيد زيد هذه المرَّة قَولاً مَائزاً للمفكِّر والفيلسوف الفرنسي المعرفي الظاهري (غاستون باشلار)الذي يُخبر فيه متلقِّيه وقارئه عنه قائلاً: "يَنقلُنا الإحساسُ بِالهناءةِ إلَى بِدايةِ المَأوَى، مِنْ نَاحيةٍ جَسديَّةٍ فإنَّ الكَائنَ الَّذِي يَمتلكُ المَأوى يَتكوَّر وَيَتَستَّرُ، وَيَختفِي، ويَرقدُ يَتلذَّذُ، وَهوَ غَائبٌ عَنِ الأنظارِ". (شارعُ بَاتا، ص 7). وهذا يؤكِّد أنَّ فعل الترجمة وباتا والرحيل من أولويات زيد الشَّهيد الثقافيَّة السرديَّة المُمكنة في مُتبَنَّيَات خطابه.

أمَّا الفصل الثَّاني من الرواية فقد وظَّف له زيد الشَّهيد عتبةً ثلاثيةً الأبعاد، (الثقافةُ تَجسيداً.. الرفقةُ والافتراقُ..فِعلُ الترجمةِ)ِ، وهي موضوعات حيويَّة مُستمدَّةٌ أولاً من الذات وثانياً من الذات الجمعيَّة للواقع الحياتي المعيش لشخصيَّات (شارعُ بَاتا)القلقة التكوين الفكري الوجودي. وخاصَّةً الشخصيَّات والرموز التي ما زالت حَيَّةً أو باقيةً تنعم بقيد الحياة وتُمارس حياتها الثقافية والمهنية بأمنٍ وأمانٍ.

وأفصح السارد الشَّهيد في هذا الفصل الحديث عن أثر الفعل الثقافي لدى أصدقائه من المُثقَّفين والأدباء ممن كان لهم رفقةٌ وحضور واسع، وأثر كبير بالواقع الثقافي والحضاري لمدينة السماوة، وخصَّ منهم بالذكر سيرة حياة صديقه المُقرَّب فالح عواد الثقافية والعسكرية، والذي كان يلتهم الكتب الثقافية التهاماً، ثمَّ عطف الحديث عن اهتمام الكثير من أبناء المدينة بالقراءة والكتب الثقافية.

وفِي مَعرضِ حديثه السردي عن أثر الترجمة وفعلها الأسلوبي الفنِّي في حياته السيريَّة المتماهية مع شخوصه الثقافية التي تشاركه الرأي والقول والعمل والتجريب السردي للترجمة.ولأنَّ الترجمة لها مكانة كبيرة وارتباط نفسي وروحي مُهمٌّ في حياة زيد الشَّهيد العامَّة والخاصَّة من حيث تمكنه من اللُّغة الإنكَليزيَّة اللغة الثانية الأمِّ واطِّلاعه على الأدب العالمي المقارن نالت اهتمامه، إذ يقول:

"التَّرجمةُ عَلَّمتنِي أساليبَ الكِتابةِ لَدَى الكٌتَّابِ مِثلمَا تَعَّرفتُ عَلَى اللُّغةِ الِّتي يَكتبُونَ بِهَا كَوسيلةِ تَعبيرٍ.. فَمنهُم مَن يَرَى فِي الجُملةِ القَصيرةِ الخَاليةِ مِنْ حُرُوفِ التَّشبيهِ والكَثافةِ مِنْ خِلالِ التّخلِّي أوْ التَّقليلِ مِنَ الوَصفِ والإسهابِ تَفِي بِالمعنَى وَتَتَّسمُ بِالعُذوبةِ؛ وِمِنهُم مِنْ يَكتبُ بِتراكيبَ تَطولُ وَتَقصرُ تَتجَلَّى عِندَهُ اللُّغةُ مِطواعةُ وَمُستعدةُ لَلاستطالَةِ، وَمُتهيِّئةً لِلتشكُّلِ مِنْ أجلِ جُملةٍ تَختزِنُ داخلَهَا الصُّورُ وَالشَّفراتُ، وَحَسبِي أنَّ القُرَّاءَ يَتفاوتونَ فِي رُؤاهُم تُجاهَ أساليبِ الكُّتَّاب فَمِنهُم يَقفُ مَعَ الأوَّلِ عَلَى حِسابِ الثَّاني وِمنهم يَرَى الثَّاني خَيرَ مُعبِّرٍ عَنْ ذَاتِهِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 162).

وقد عكف زيد الشَّهيد أنْ يكون لهذا العنوان السردي له ما يوازيه من الشعر والمنثور الذي يتغنَّى بالإنسان؛ كونه القيمةَ العُليا التي تملأ فراغ الطبيعة الكونية الجامدة والمتحركة وتسدُّ وحشتها المكانية بحركته الفواعلية واندماجه الرُّوحي. فآثر الكاتب الشَّهيد أنْ يختار لتأثيث هذا الفصل إحدى قصائد الشاعر اليوناني الشهير (يانيس ريتسوس)، وهي من القصائد التي ترجمها الأديب المصري خالد رؤوف والمُفكِّر الشاعر السوري أدونيس ضمن عشرين قصيدةً من قصائد الشاعر ريتسوس ذات الأثر الشعري الذي يهتمُّ بتفاصيل ومألوف سَرَيَانِ الحياة اليومية المَعيشة.

وربَّما أراد زيد الشَّهيد من هذا الاختيار النصِّي من شعرية ريتسوس أنْ يكون تحاكياً شبيهاً بآثار شخصياته البطولية، وشبيها بذاته الشعرية التي اهتمت فعلياً بآثار الترجمة وحفظت للرفقة مكانتها الاجتماعية الوطيدة. ولعلَّ من أبرز شخصيَّات هذا الفصل التي اهتمت بأثر الفعل الثقافي الأجنبي والتراثي العربي شخصيَّة حمزة بطل الرواية التي تُقابل شخصيَّة السارد أو الراوي العليم، فضلاً عن شخصية رفيقه القديم والمقرَّب فالح عواد، وشخصيَّة زميلتهما ليلى ورشيدة الذين هم جميعاً من أبرز مُثقفي وشخصيَّات (شَارعُ بَاتا) العديدة والفاعلة أثراً وعملاً وفكراً بِمدينة السَّماوة.

ويَستمرُّ هاجس تقديم التقانات الفنيَّة بمقدِّماتٍ عنوانيةٍ لافتةِ الأثر عند الكاتب الشّهيد زيد في تدشين فصول روايته، فيأتي الفصل الثَّالث حاملاً عنوانَ (الحكاياتُ) التي تتَّصل بالواقع الشعبي المديني لشخوص رواية (شَارعُ بَاتا) السَّماوية، ويختار لهذا الفصل قصيدةً شعرية نثريةً من ديوانه الشعري الخاصّ (أشجانُ الغُرباء) كفاتحةٍ للخوض في أعماق هذه المدينة الجنوبية الضاربة شخصيَّاتها عمقاً بالتقاليد والأعراف الشعبية والتراثية المعبِّرة عن حياة الناس وثقافاتهم التأصيليَّة منذ عهود زمنية.

واهتمَّ زيد الشَّهيد في هذا الفصل بالفعل السردي للحكايات الغريبة والخُرافات الشعبية التي يسودها الجهل والفقر والفاقة التي كانت سائدةً، ثم سار في التعريف بهوية شارع باتا الضِّيقة في المدينة. والتفتَ إلى الحديث عن مِثلية أوائل القرن الحادي والعشرين، وعن المِثلية السائدة في الستينيَّات. وفصَّلَ الرائي التسريد بالحديث عن ثلاث حكايات شعبية تتصل بثقافةشَارع باتا ومروياته الشعبيَّة.

وفي أعقاب الانتهاء من فصل الحكايات المُتعدِّدة تُطالعنا فاتحة الفصل الرابع موسومةً بعنوان يجمع بين الذاتية والجمعية المشتركة، ذلك هو (صَدى الرحيلِ، وضَجرُ الشَّاعرِ) الذي يعبِّر فيه عن مدى أسفه وانكساره عن أصداء هذ الرحيل المفاجئ والشعور بضجره المُميت. وكان لأثر الترجمة الروائية فعلها الأدبي والثقافي الكبير عند الشَّهيد في تأثيث سرديَّات هذا الفصل الثقافي السِّيري.

آثرَ الشَّهيدُ في هذا الفصل الحديث عن الخبر الذي مفاده عودة صديقه جميل وزوجته من روسيا إلى السَّماوة، والإشادة بجرأته ومغامرته بالهجرة والعيش في بلادٍ غريبةٍ جداً عن ثقافة مجتمعه. وأشار بحديثه عن سردية دخول العراق للكويت عام1991م، وعن آثار الحصار الاقتصادي الظالم والذي دام (12)عاماً. ثُمَّ عَرجَ بالحديث عن قيام الانتفاضةالشعبانية في العراق ضدَّ النظام وآثارها.

وفضَّلَ زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة هذا الفصل قصيدةً شعريةً مختارةً لأبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي للأديب والشاعر السوري المُميَّز (مُحمَّد المَاغُوط)، والتي يقول فيها هاجساً بالبوح:

أُريدُ أنْ أضمَّ إلَى صَدرِي أيَّ شَيءٍ يُعِيدُ زَهرةً بًريَّةً

أو حِذَاءً مُوحِلَاً بِحجمِ النَّسرِ

أُريدُ أنْ آكلَ وَأشرَبَ وَأمُوتَ

وَأنَامَ فِي لَحظةٍ وَاحدَةٍ

إنَّنِي مُسرِعٌ مُسرِعٌ

كَغيمةٍ أُصيبَتْ بِالجَرَبِ

كَمَوجَةٍ وَحِيدةٍ مُطارَدَةٍ فِي البَحرِ (شَارعُ بَاتا، ص 123)

وتتابع خطى العنونة عند الشَّهيد فيأتي الفصل الخامس معنوناً للحديث عن (الإرهاب.. يدُّ القتلِ.. الكراهيةٌ السوداءُ). وجاء ت مسرودات هذا الفصل مؤكدةً الحديث عن أثر الإرهاب والأيادي الخفيَّة للقتل على الهَوية. وما تولّد هناك من كراهيةٍ سوداءَ؛ نتيجة ما خلفته أفعال داعش الإرهابية.

وقد آثرَ السارد زيد الشَّهيد أنْ تكون فاتحة هذا الفصل الدامي قولاً مأثوراً للشاعر والمُفكِّر السُّوري علي أحمد سعيد المسمَّى بـ (أدونيس)مُستلة من كتابه (الكتابُ، الخِطابُ، الحِجابُ)، أراد الكاتب من هذا القول أنْ يكون تأكيداً قوياً لسرديَّات هذا الفصل وموضوعاته الطارئة على حياة شخصياته، التي لا قرار ثابت لها في أبجديات مجتمع آمن لا يؤمن بفعل الإرهاب والكراهية:

"كلُّ عَالمٍ ضَيِّقٍ اليوم، هُوَ عَالَمٌ ثَانويٌّ، كُلُّ ثَانويٍّ هَامِشٌ لَا شَأنَّ لَهُ، وَلَا فِعلَ، لَا حَاجَةَ كِيانيَّةً لَهُ مُهدَّدُ بِالانقِرَاضِ". (شَارعُ بَاتا، ص 169).هكذا يرى الشَّهيد زيد هذا العالم الوجودي الضيِّق منبوذاً لا حاجة لوجوده أبداً؛ كونه عالما مُنقرضاً زائلاً بزوال فعله ومحو أثره في خريطة الحياة الحيَّة.

أمَّا مُفتتح الفصل السادس فقد جاء تحتَ مُسمّىً عنوانيٍّ ثنائيِّ التركيب مثير هو (الارتماءُ في العَبثِ..الهُجرةُ المُرَّةُ). وتحدَّثَ فيه الكاتب عن ظاهرة العبث والارتماء في أحضانه القاتلة، وفضَّلَ أيضاً الحديث عن أثر الهُجرة المريرة والتمرُّد والعَبث في أوربا إثر سقوط المفكِّرين بلا جدوى.

وقد اتَّشحت مقدِّمة صفحة هذا الفصل بمشهدٍ سَرديٍّ وارتحاليٍّ عن شخصية (بيدرو بارامو) التي تعدُّ من أشهر روايات الأدب المَكسيكي الأجنبي في القرن العشرين لمؤلِّفها الأديب والرِّوائي الممكسيكي (خوان رولفو)، رولفو الأديب المعروف بواقعيته السِّحرية، والَّذي عُرِفَ عنه أيضاً بتشابه مسيرته الإبداعية بخطِّ مسيرته الحياتية العملية الواثبة.

ويمضي تواتر العنونة الفصليَّة حثيثاً حتَّى يقف عند خاتمتها أو فصلها السابع والأخير الذي فضَّلَ زيد الشهيد أنْ يكون بناء عتبته النصيَّة ثلاثية الثيمات (المَرآةُ.. الرحيلُ.. التشبُّثُ). فالمَرْآةُ هيَ الأداة الضوئية الكاشفة والفاصحة عن حياة أبطال شارع باتا الدفينة والمجهولة، وأمَّا الرحيل فهو الحُلُمُ المنشود لهذه الشخصياَّت الثائرة والحالمة بالرحيل والارتحال والهجرة والاغتراب والابتعاد الاضطراري عن أثر المخاطر المُحدقة بمدينة السَّماوة وبمكانية (باتا) شارعها العتيد.

وفكرة التشبُّث، هي إصرار بطل الرواية حمزة وراويها العليم زيد الشَّهيد على البقاء بهذه المدينة مركز الرفض والاحتجاج التحرُّري والمجابهة. المدينة التي صنعت منه بطلاً حقيقياً مبدعاً على الرغم من أنَّ فكرة الإغواء بالرحيل والتلويح بالهجرة أسوةً برفاق الدرب من روَّاد ومثقفي شارع باتا السَّماوي الراغبين بتحقيق حياة أبهى وأحسن وأفضل من حياتهم الحالية بهذه المثابة.

وفي ضوء هذا الرحيل والهجرة خصَّ زيد الشَّهيد في طيَّات هذا الفصل الحديث الخاص عن خبر وصول صديقه جَوادين إلى ألمانيا وإقامته فيها. ثم تحوَّل الحديث عن الحياة بشارع باتا السَّماوي الذي ضاقت به سبل العيش، وخَلَّفهُ الحديث عن الرؤية البصرية في المرآة والتشبُّث بعدم الرحيل.

وقد رأى الكاتب زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة الفصل الأخير الذي هو خاتمة الرِّواية عن الحُلُم الذي يثير في نفوسنا الإغواء بالشيء الجميل. ومثلما اختار الكاتب مُقدِّمةَ (غَاستون باشلار) التي أثَّث بها الفصل الأوَّل عَمدَ إلى أنْ تكونَ مُقدِّمَةَ فصله الأخير حُلُميَّةً إغوائيةً محبَّبةً لذاتِ الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير التي يقول فيها: "إنَّ عالمَ الحُلُمِ يُومِئ لَنَا بِالإغِوَاءِ". (شَارعُ بَاتا، ص229).

إنَّ هذا الإغواء الذي يشي به الحُلُمُ ويُومِئُ به هو شيء رغائبي لا بُدَّ منه لكلِّ إنسانٍ يَحلمُ بأنْ يكون إنساناً حُرَّاً لنفسه لا ذليلاً أو عبداً لغيره؛ لأنَّ الحُريَّة تؤخذ بالدم والكفاح والمواجهة ولا تُوهَبُ أو تُعطى مجاناً، هذه هي أبواب الحصول على الحريَّة الحمراء مُضرجة بالدماء لا بالسَّلمِ.

إنَّ التخطيط المعماري لأقانيم هذه العتبات السبع الداخلية بهذه الشاكلة التنظيمية والإجرائية أمرٌ في غاية الأهمية الفكرية والموضوعيَّة في الإمساك بأحداث الرواية مرتبةً ترتيباً حداثوياً يُمَكِّنُ الكاتب الرائي من السيطرة والتحكُّم بتقاناته الموضوعية والفنيَّة مَتى ما يشاء المنتج السارد.

وأعني بذلك التحكُّم، حُريَّةَ الكاتب الأسلوبية في فنيَّة التعبير، وميله المنضبط في توظيف تقنيتي (الاستقدام والاسترجاع) السرديتين اللَّتينِ تُحفِّزانِ القارئ على معرفة أحداث الرواية بظمأٍ واشتياقٍ كبيرين وفق هذا الترتيب اللُّغوي السردي الواثب الخُطى، والدال على تَمَكُّن الكاتب الشَّهيد من أدواته التعبيرية في فنيَّة الخطاب السردي الذي له عناصره واشتراطاته وآلياته التعبيرية الخاصَّة.

أبنيةُ المَكانِ السَّرديَّةُ للروايَةِ:

من يتطلَّع بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ فاحصين إلى لافتة عنوان الرِّواية الكلي (شَارعُ بَاتا)، حتماً سَيَستَقْرِئُ ويفهم أنّه يشكِّلُ الشاخص المكاني المحلِّي الأول أو نقطة البداية التي انطلقت منه شرارة أحداث الرواية المكانية المتشابكة، وانعطفت منها الأحداث في تأثيث أبنيتها السردية المتواصلة، وأقامت عليها أسس مثاباتها الوجودية وحضورها المَحلي والدَّولي والعالمي حتَّى نهاية أحداث الرواية.

فشارع باتا يُعدُّ مَعلَمَاً أيقونياً تجاريَّاً لافتاً، وكان إيذاناً تواصلياً لشوارع محليَّةٍ داخليَّةٍ أخرى في مدينة نابضة بالحياة كالسَّماوة مثل (شارع العيادات، وشارع السوق، وشارع الجسر، وشارع المُتنزه)، فضلاً عن شارعي الرشيد والجمهورية في بغدادَ. ويتبعها من المُدن المحليَّة العراقيَّة تحديد وظيفة الأماكن لهذه المدن كقوَّةٍ فاعلةٍ في تطوُّر الحدث السردي وبناء شخصيَّاته الفاعلة.

تلك المدن التي كان لها حضورها الروحي البارز وارتباطها المكاني الحقيقي الضارب بالعمق مع جذور وتاريخ شخصيات هذه الرواية وسير حركتها الانتقالية الدراميَّة المتواثبة السريعة، مدنٌ مثل، (السماوة وبغداد والبصرة والديوانية وشمال العراق والمنطقة الغربية)، وغيرها من مدن العراق التي تتَّصل بسرديات الحدث وتكون جزءاً من مثاباتها البنائية في متن الخطاب الروائي:

"شَارعُ بَاتَا اِسمٌ أو مَكانٌ لَا يُمكنُ لِأحدٍ تَجاوزهُ. إنَّهُ قَلبُ المَدينةِ. شَارعٌ مِضيافٌ دَائمٌ؛ يَفرِدُ ذَراعيهِ اِستقبالَاً لِلزائرينَ. هُوَ ذَاكرةٌ مُنفتحةٌ كَبحرٍ يُريكَ فَضَاءَهُ ويَدعُوكَ لِلإبحارِ. حِفرةٌ لآلئ كُلَّمَا أخذتَ مِنهَا وَحَمَّلتَ كَبُرتْ. هُوَ أيضَاً صَديقٌ يَبتسِمُ لَكَ عَلَى الدَوامِ. يَمُدُّ كَفَّهُ لِمصافحتِكَ فَيَأخذُ بِكَ إلَى حَيثُ دُرُوبِ الإِمتَاعِ. يَتجوَّلُ بِكَ دُونَ أنْ تَتِيهَ. يَأخذُكَ فِي فُرجَةٍ عَلَى السُّوقِ المُسَقَّفِ فَيَجعلُكَ تَدخُلُ عَالَمَاً مِنَ البَهرجَةِ كَأنَّكَ فِي اِحتفاليَّةٍ كَرنفاليَّةٍ لِبضاعةٍ وَنَاسٍ، لِظلٍّ وَضَوءٍ وَحَركاتٍ". (شارع بات، ص 47). فالنصُّ المكاني يكشف عن نفسه ويُعرِّفُ عما يتَّصل به من حياةٍ وأثر.

ومع تنامي أحداث الرواية الحثيث وتصاعد وتيرتها السرديَّة السريعة نحو الهرم السردي، وتزايد أصوات شخوصها وكثرة تعددها الحركي، تتَّسع ميدانياً رقعة المِساحة المكانية وتتضاعف أُس مثاباتها التأصيليَّة تأسيساً وتأثيثاً وحضوراً لافتاً مع حركة إيقاعها السردي البنائي السريع.

فتبدأ بوصلة الحدث السرد المحليَّة والدوليَّة والعالميَّة المكانية في الرواية مؤشراتها البينية أفقياً وعمودياً، وتتَّجه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وإنْ كانت مؤشِّرات هذا التحوُّل والانتقال السردي الكبير افتراضيةً وليست واقعيةً على سبيل التوصيف المكاني الذي يُعطي للبنيَة السرديَّة المكانية قوَّتها التفرديَّة الظاهرة، ويهبها مِساحةً تعبيريَّةً من الجمالية وأُفقاً بعيداً من التعبير الفنِّي الإنتاجي.

وعلى وفق ذلك التراسل السردي الحقيقي والافتراضي المخيالي المفتعل تظهر سرديَّاً على خريطة رواية (شِارعُ بَاتا) بلدان عربية وأوربية تتناسل فكريَّاً وموضوعيَّاً مثل، (ليبيا وتونس والكويت وألمانيا وأمريكا والدنمارك وروسيا وهنكَاريا وفرنسا والنمسا وتركيا وإيران)، فضلاً عن المهجر الشمالي والجنوبي الأمريكي ونحوهما من الدول الأوربيَّة التي شكَّلت من الأهمية مَحطَّ أنظار أبطال شخصيات الرواية وحلمهالتحقيق إرادتها الذاتية من أجل العيش بكرامة وعزةٍ وسلامٍ:

"الرَّحيلُ... الرَّحيلُ! عَادتْ بِي الذَّاكرةُ إلَى رَحيلِ هَاشمٍ فِي بِدايةِ السَّبعينيَّاتِ. عَادتْ رسائلُهُ المُتواصلَةُ تُخبرُنِي بِوجودِهِ مُستقرَّاً بَعدَ اِجتيازِ عَقباتٍ وَتجاوزِ مُعوَّقاتٍ. يُعلمُنِي أنَّه آثرَ العَيشَ فِي وَسطِ سَلٍام، وَأمنٍ، وَحُريَّةٍ. تَذكَّرتُ تِلكَ الأيامَ قَبلَ مَا يَربُو عَلَى الأربعينَ عَاماً...أيامَ كَانتْ حُمَّى السَفرِ شَمَالاً تَتَعَالَى فِي المَدينةِ، وَسَريانُ عُشبةِ حُبٍّ تَركَ البِلادَ وَالبَحثَ عَنْ مُستقبلٍ أجملَ تَسرِي فَي قُلُوبِ الشَّباب. وَكَانتْ وَسائلُ الاِنفضاضِ وَالرَّحيلِ تَتَّخذُ المَناحِي، وصُولاً إلَى الخَلاصِ كَمَا يُجاهرونَ". (شَارعُ بَاتا، ص221).والعيش الآمن الذي يُنبِئ به نصُّ الكاتب إشارةَالرحيل لبلدان أوربا الغربية، أو البلدان الاشتراكية التي يُفضِّلُها من انضم من الشباب إلى صفوف الحزب الشيوعي.

وقد رأى الكاتب المُتوهُّج زيد الشَّهيد أنْ يكون وقع هذا التمثيل المكاني الخارجي تمثيلاً حقيقياً تأصيلياً نابعاً من إيمانه وحريَّة وثقافة شخصيَّات الرواية التحرُّرية التي ترى في الهجرة إلى العالم الأُوربي الغربي عالماً آخرَ مُختلفاً عن ثقافة وتقاليد شعبها ونظام وجودها الشرقي.

ويشكِّل الحضور المكاني نقطة تحوُّل مهمَّةٍ وفارقةٍ في تكامل هُويتِها وتاريخها الحضاري والثقافي والعلمي المستقبلي الواعد. على الرغم من أنَّ توظيف بعض هذه الأمكنة والمثابات الكونية الخارجية في بنائه السردي المتراتب قد يكون افتراضياً تخيُّليَّاً معنوياً تعضيديَّاً عن أثر الواقع الحياتي المحيط، وإسناديَّاً من أجل استكمال عناصر السرد الداخلية للرواية وإتمامها كليٍّاً.

"فِيمَا فَضَّلَ بَعضٌ الرَّحيلَ إلَى بُلدانِ أوربَا الغَربيَةِ بَعدَ الحُصولِ عَلَى تَأشيرةِ دُخولٍ أوْ دَعوةٍ تُوجهُهَا إليهِ مُؤسسةُ ثُقافيَّةٌ أوْ عِلميَّةٌ فَيختارُ فَرنسَا أوْ بِريطانيَا. وَمَنْ يَجدُ لِديهِ الحَظَّ الأوفرَ فَسيدخُلُ ألمانيَا. لِذَا صِرنَا مَعَ تَوالِي الأيامِ نَسمعُ بِسفرِ مَنْ كَانَ يَسبقُنَا بِمرحلتينِ دِراسيتينِ أوْ أكثرَ، وَقدْ بَلغَ العِشرينَ مِنَ العُمرِ إلَى تِلكَ البُلدانِ سَفَرَاً لَا عَودةَ مِنهُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 222).

إنَّ جنوح الكاتب الرائي الشَّهيد وميله الكبير إلى ثقافة سرد الاغتراب المكاني الخارجي وإيلائه الأهمية الكبيرة لم يكن في حقيقته الحكائية التسريدية أمراًعرضياً طارئاً لا أساس له، وإنَّما هو جزء لا يتجزَّأ من السيرة الذاتية والأدبية لشخصيَّات روايته وحياة أبطالها المحوريَّة التي تسعى لتحقيق أحلامها وآمالها وتطلُّعاتها الذاتية والجمعية المشتركة على المستوى الإنساني الاجتماعي والثقافي المهني والعلمي الذي هو حقٌّ ومطلبٌ من حقوقها المَنشودة، ومسعى شخصي وجمعي من مساعي إرادتها الحياتيَّة؛نتيجةَ يقظة رغبتها الفكريَّة ووعيها الثوري الحُرِّ ونمو ثقافتها الشخصيَّة المُكتسبة.

ويتناهى إلى ظنِّي كثيراً أنَّ مغزى هذا الاستحضار المكاني وتحديد وظيفة الأمكنة بوصفها قوةً مؤثرةً وفاعلةً في تطوُّر الحدث السردي، وبناء الشخصيَّة، والاستقدام الدؤوب للمثابات الدَّوليَّة لأصوات الرواية المُتعدِّدة، وخاصَّةً المُثقَّفة منها والواعية الطامحة لتحقيق مقاصدها الاحتجاجية والآيدلوجية هو في الحقيقة البعيدة والقريبة مِهمازٌ تَعبيريٌّ سرديٌّ صادقٌ، وتلويحٌ إيجابي نسقي وأسلوبي ظاهر في مركزية توهُّج اشتغالات زيد الشَّهيد لمتواليته السرديَّة في مدوَّنته (شَارعُ بَاتا).

وكلُّ ذلك يحدث إجرائياً للتعبير عن قناع شخصيته الأدبية ورمزيته الثقافية وهُويته السيريَّة التي تظهر دلالاتها ومعانيها السرديَّة الصادقة واضحة في جماليَّات خطابه التعبيري وفي بروز وارتفاع صوت الأنا السرديَّة للكاتب السارد عالياً، والتي هي صوت ولغة البطل الراوي العليم المترائية ظلال صورته الحقيقية لك واقعيَّاً، والتي لا يمكن أنْ تشكَّ بها، ولو لِلَحظةٍ واحدةٍ في مناطق اشتغالات تسريده المكاني بهذا الظلِّ الأسلوبي الشخصي البوفوني للكاتب نفسِهِ.

وقطعاً أنَّ مثل هذا التماهي والتحاكي فيما بين لُغة الرواية وهِجسِ الكاتب السارد أو الراوي العليم دليل على التشابه السيري والثقافي النسقي الظاهر والمضمر لكلا الصوتين المُتوحُّدين سياقيَّاً وفنيَّاً وسيريَّاً. وهذا لا يُضعف من هيبة السرد الحكائي وقوته التعبيرية، أو يُقلِّلُ من وقع قيمته النوعية والفنيَّة، بل على العكس من ذلك سيَهبهُ صفاتٍ من الجِدَّة والحداثة والارتقاء الفنِّي؛ كونه تعبيراً أخلاقياً وروحيَّاً وإنسانياً صادقاً عن مجريات تفاعل واقعة الحدث السردية، وعن مظاهر تمثُّلاتها ومدخلاتها الفكريَّة الضافية على فضاء الواقع الأرضي الكبير، فَلنُصغِيَ لِصوتِ الرَّحيلِ:

"تَعالَ يَا عَمُ حَمزةُ.. هَاجِرْ وَالتِحقْ بِنَا.. تِرَيَحْ.. تَعالَ، يُردِّدُهَا جَوادينُ، وَمعَهُ هَاشمٌ يَّهزُّ رَأسَهُ تَوافقَاً، وًيًكملُ، أَنتَ آخرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ رَعيلِ شَارعِ بَاتَا الَّذينَ فَكَّروا بِالرحيلِ، وَرَحَلُوا". (شَارعُ بَاتا، ص 237).والنصُّ السردي يكشف عن تشبُّث الكاتب بالبقاء في مدينته وعدم تركها رغم المطالبة بذلك.

إنَّ شخصيَّاتٍ روائيةً بالغةَ الأثرِ احتلَّت مِساحاتٍ مَكانيةً من فضاء الرواية وخطابها السردي، وتبوأت نوافذ ثقافيةً قصصيَّة مُهمَّةً من مناطق اشتغالاتها المكانية على سبيل الحصر، شخصيَّات مثل، (هَاشم المُسافر وجَوادين وحمزة وفارس رشيد وغيرهم)، ما هي إلَّا أنساق ثقافية مُتجليَّةً وخفيَّة، ومصادر حكائية عديدة تمثَّل نسخةً طبقَ الأصل مُعدَّةً عن وعي وثقافة ومَلَكَةِ زيد الشَّهيد المعرفية وتدويناته التوثيقية التي تشي بصدقٍ وتؤكِّد بتجلٍّ زمكاني عن شروع مشروعه الثقافي الفكري والروائي السردي وتوثيقه التاريخي لمذكراته السيريَّة وهُويته الأدبية والثقافية المُتعدِّدة.

وكلُّ ما يتَّصل بها من رموزٍ وأصواتٍ ثقافيةٍ حُرَّة لها الأثر الكبير في قرار صناعة الحدث السردي وتخليقه الإنتاجي على مدى عُقودٍ طويلةٍ من تعاقب الزمن . وقد أسهمت وَسَتُسهِمُ إبداعيَّاً وفنيَّاً في بناء مُستقبله الإبداعي والفكري كاتباً مُتألِّقاً وإنساناً واعداً بما هو أصيلٌ وجميلٌ في فُنون وميادين الشعر والسرد والترجمة والتدوين والإبداع الذي يُناسب رؤى وأفكار عصرنة الحداثة وتَطلُّعات ما بعد حداثة التفكير؛ لكسر وتحطيم جُدُرِ قِيم المألوف الثقافي والأدبي من الأفكار المُستهلكة والأطر الثقافية الصنميَّة التالفة التي أكلَ الدهر عليها وَشَرِبَ من غبار الزمن مكانياً.

وأنَّ نتائج قيام هذا المشروع الثقافي المُستقبلي لا يمكن أنْ تحدثَ وتظهر نتائجه الأوليَّة شاخصةً على أرض الواقع تنظيراً فحسب، بل ما لم يكن أثره فِعلاً حدثياً إجرائياً وتطبيقياً بأنساقٍ ثقافيةٍ بديلةٍ تقوم مقام تلك النَّمطيَّات المؤسساتية التقليدية الصارمة وتتجاوزها مكانياً على مستوى الإبداع والتفكير الثقافي والإنساني المُتجدِّد الحُرِّ. وأنْ تمنحَ العقل والفكر مِساحةً ثرَّةً من حرية التعبير.

تأصيلُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ لِلمدوَّنَةِ:

السُّؤال القائم الذي بحاجة إلى إجابةٍ نقديةٍ وافيةٍ مُنصفةٍ، كيفَ تَمَّ تَأصيلُ بنية الخطاب في الروايةِ؟ الكتابُ الذي نحن بصدد تحليل وتفكيك عناصره الأوليَّة وأجزائه الأساسيَّة المُهمَّة التي تشكِّل بنية النصوص السرديَّة الكُليَّة للخطاب في المُدوَّنة، هو مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الروائية لِمؤلِّفها الهُمامِ الجَادِ، وكاتبها الشاعر والقاصِّ والرِّوائي والمُترجم المتنوُّع الإبداع زيد الشَّهيد. والصادرة بطبعتها الأولى عام 2017م عن دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق بسوريا، وبِكَمٍّ عددي طباعي من فئة القطع المتوسِّط الذي بلغ نحو (238) صفحةً اكتملت بها صفحات الرواية وتوثَّقت.

وعلى وفق ذلك الكم النوعي والعددي المُتَّحد تُوحي عتبته العنوانية الكليَّة الأولى (شَارعُ بَاتا) بأنَّنا أمام نصٍّ روائيٍّ طويل التسريد يتحدَّث من خلال متواليته الحكائية المكوَّنة من سبعة فصولٍ قصصية وحكائيَّة فاعلة مع عتباتها الثانوية وتصديراتها المفتاحية عن كثير من الأحداث الخَطيَّة التي توالت وقائعها الحدثية في الزمن القريب الماضي أو الفائت. واستمرَّت خطى آثارها الواقعية إلى الزمن الحالي أو الحاضر.

وربَّما يعيش بعض أبطال قصصها وحكاياتها الآنَ وقع حلاوة فعلها الحدثي الإيجابي، ويتذكَّر بمرارة أبعاد أثرها الذهني والنفسي السلبي على حياته وكفاحه الروحي الذاتي وشعوره بالحزن والندم والأسى الشديد، على الر غم من أن المستقبل الزمكاني كفيلٌ بنسيان ذلك الأثر العصيب وقادر في الوقت ذاته على إخفاء أثر الأحداث والذكريات المُحزنة الأليمة وتلاشيها أثراً بعد أثرٍ .

ومن اللَّوافت السرديَّة لهذا العمل الأدبي أنَّ زيداً الشَّهيد في روايته (شارعُ بَاتا) لا يقوم خطابه السردي على حكايةٍ مركزيةٍ واحدةِ -كما مرَّ بنا التنبيه إليه سلفاً في دارستنا- تخصُّ ثيمة الشارع المذكور ونواة موضوعيته البؤرية السيمائيَّة الرمزيَّة، وإنَّما تقوم على عدة حكاياتٍ إخباريةٍ مَنطقيَّةٍ مُتسلسلةٍ الأحداث في مشاهد ميلودراميتها الحركية المتصاعدة الأثر.

ويبدو أنَّ الرائيَ الشَّهيدَ بوصفه قارئاً نقديَّاً ذكيَّاً واعياً ولمَّاحاً بارعاً قد أفاد كثيراً من الملاحظة النقدية اللَّافتة التي توصَّل إليها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في صفحات كتابه النقدي (عودةٌ إلى خطابِ الحكايةِ) التي يروي فيها من أنَّ الحكاية بالأساس لا تقوم على خطاب واحدٍ، وإنَّما تقوم على عدة خطاباتٍ. (جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة وتقديم: محمَّد المعتصم ، المركز الثقافي، بيروت، 2000م، ص 9).

وفي الوقت ذاته إنَّ الخطاب السردي بدوره يقتضي عند جينيت وجود تمثُّلات حضورية للأحداث والأفعال في حين أن مُصطلح (الوصف) يُشير إلى أنه تمثُّلات وصفيَّة للأشياء والشخصيَّات الناتجة عن فعل الوصف. وهذا يشي من حيث تلقي الأمر أو القيام بالعمل، إلى أنَّ الوصف عنده يكون دائماً رهن إشارة السرد وتحت حكم أمره. أي متى ما طلبَ السرد أمراً لبَّى الوصف فعله الطلبي وامتثل بحسن الطاعة والقبول لأمره. أي أنَّ الفعل السردي يأتي أولاً والوصف في المحل الثاني؛ لأنَّ الوصف إمَّا أنّ تكون وظيفته تزينية جمالية، وإما أنْ تكونَ رمزيةً توضُّحُ نفسيةَ شخصياته:

"اِتَّخذنَا الطَّريقَ خَارجينَ مِنْ شَارعِ بَاتَا بِاتجاه ِشَارعِ الجِسرِ، ثُمَّ اِنعطفنَا شَمالاً فَجلسنَا عِندَ أولِ مُقهَى تَتوزَّعُ كَراسيهَا عَلَى الرَّصيفِ المُحاذِي لِلنهرِ. تَأتينَا رَائحةُ دُخانِ النَّراجيلِ (إنَّها النِّعمةُ الأُولَى الَّتي حَلَت فِي المَدينةِ بَعدَ سُقوطِ النِظامِ)، وَتَشيعُ فِي الفَضاءِ رَائحةٌ مُلازمةٌ (هِيَ رَائحةُ الحَشيةِ الَّتي ظَهَرَتْ إلى العَلَنِ بَعدَ أنْ كَانَ حُكمِ اِستخدامِهَا وَالمُتاجرةِ بِهَا الإعدامَ دُونَ رَحمةٍ؛ ظَهَرتْ بَديلاً عَنْ خُمُورٍ كَانتْ شَائعةً لَا اِعتراضَ عَليها مُنِعَتْ بِفتَاوى الأحزابِ..". (شَارعُ بَاتا، ص 62).

وإذا ما أردنا في هذا المقام النقدي التحليلي والتفكيكي من سَمت هذه الدراسة أنْ ندرسَ نظريَّاً وإجرائيَّاً بنية الخطاب السردي لمُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) التي تشكِّل بِرُمَّتِهَا بنية النصوص السرديَّة في هذه الرواية التوثيقية المُهمَّة، لا بُدَّ وأنْ نفهمَ وَنُدركَ جيَّداً في هذا السياق من المبنى المعرفي ما معنى مفهوم التأصيل السردي؟ وما جدواه إبداعياُ؟

والتأصيل، هو بالتأكيد يعني البحث والتقصِّي اللُّغوي المعرفي بتأنٍ مُتَّئِدٍ عن الجذور الأولى أو الأصول الأساسيَّة المُهمَّة التي بها تتشكَّل بنية الخطاب السردي للعمل الروائي وتكتمل موضوعيَّاً وجماليَّاً0ومن ثمَّ تحليل العناصر المُهمَّة والأدوات الرئيسة التي تُسهم فعليَّاً في إنتاج تشكيله وتوجيه مساراته وخطوطه الأفقية والعموديَّة الفنيَّة وتقاناته السرديَّة الصحيحة.

وفي ضوء ما تقدَّم من تحليل، لقد نجحَ زيد الشَّهيد في تحويل عتبة (شَارعُ بَاتا) إلى بنيةٍ سرديَّةٍ فاعلةٍ ومتكاملةٍ داخل العمل الأدبي، وبالضبط كتلكَ البنية السردية التي يُعرِّفُهَا اللِّساني مؤسس السيميائيَّات البنوية جوليان جريماس في كتابه (سِيميائيَّات السَّردِ)، والتي يرى بأنها "شبكة من العَلائق المُحاثة للتمظهر، تُصبحُ الفضاء الوحيد الذي يتحدَّد داخله التفكير حول شرط انبثاق الدلالة". (أ.ج جريماس، سيميائيَّات السرد، ترجمة وتقديم: عبد الحميد نوسي، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، 2018م، ص 38).

عَناصرُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ:

ويترتَّب على مفهوم ذلك الإجراء، أنَّ بنية الخطاب السردي للمُدوَّنة الروائية تشتمل على مجموعةٍ من العناصر الأساسيَّة التي تكوُّنها فنيَّةُ السرد التعبيري، والتي من أهمها معرفة ما يأتي من العناصر الأربعة المهمَّة التي تُسهم في صنع بنية الحدث وإنتاجه فنيَّاً. وتتمثَّل هذه العناصر بـ (الخطُّ الزمني، والشَّخصيَّاتُ، والحِبكةُ، والوصفُ)، وما يتَّصل بها من مُلحقاتٍ حقليّةٍ دلالية مُهمَّة:

1-الخطُّ الزمني.

يُعدُّ الخطُّ الزمني من أوَّل العناصر الأساسيَّة التي تنتجها بنية الخطاب السردي الموضوعية في رواية (شَارعُ بَاتَا)، والذي يُقصدُ منه الوقوف عند التسلسل الزمكاني لأحداث الرواية؛ وذلك من خلال متوالياته القصصية والحكائيَّة المتنامية. وقد عكف وعي زيد الشَّهيد على الاهتمام بالمفارقة الزمكانية لخطِّ التسلسل الزمني لسير الأحداث؛ وذلك عبر توظيفه الإجرائي لتقنيتي (الاستباق والاسترجاع) الحَدثي الذي يتطلَّبه فعل البناء السردي الإخباري والحكائي القصصي والروائي.

وقد كانت البنية السردية الزمانية للرواية بنيةً خطيَّةً ثقافيةً تراتبيةً منذُ خطِّ الشروع الأوَّل، ولم تكن بنيةً دائريَّةً مُغلقةً، أو بنيةً تتداخل فيها الأزمنة التاريخية وتتشابك أحداثها أسلوبياً إلَّا القليل منها؛ لأنَّ مُهمَّة البنية السردية الأولى هو بناء سرد الأحداث وضبط إيقاعها التعبيري المُتعاقب للمحافظة على ميزان السرد وتأكيد توازنه التاريخي والنأي به عن الخلل أو الوهن الناشز الاهتزاز.ومن خلال أرخنة الإحالات الزمنية للنصِّ حدَّدَ المؤلِّف النابه الشَّهيد بنية الزمن النفسي عند شخصياته في أحداث روايته وكشف عن خطِّ تواترها النفسي والروحي والاجتماعي القلق:

"فِي ضُحَى يَومِ مُنتصفِ آذارَ/ مَارس 2015م حَلَّقَتْ، مِثلَ عِقابٍ أسودً بًهديرٍ طًويلٍ، طَائرةٌ حَربيةٌ فِي السَّماءِ .. دَارتْ حَولَ المَدينةِ عِدةَ دَوراتٍ قَبلَ أنْ تَتَوَارَى، مُعيدةً تِلكَ اللَّحظةَ لَدَى اللَّذينَ رَفَعُوا الرُّؤوسَ يُتابعونَهَا أيامَ الحَربِ الَّتِي أسقطتْ صَدامَاً مُنهيةً حِقبةً حَكَمَ فِيهَا البَعثيونَ خَمسَاً وثَلاثينَ سَنةً، وَتفَاوتَ النَّظرُ بِيومِ دُخولِ القُواتِ الأجنبيَّةِ بَغدادَ وإسقاطِ تِمثالِهِ المَنصوبِ فِي سَاحةِ الفِردوسِ بِذلكَ المَشهدِ المِيلودرامِي الَّذي نَقلتهُ فِضائيَّاتُ العَالمِ أجمعَ". (شِارعُ بَاتا، ص9).

2- الشَّخصيَّاتُ

وتأتي مهمَّة الشخصيات أو القوى الفواعلية الرئيسة والثانوية ودورها الحركي المناط بها في كلِّ قصة من قصص الرواية وحكاياتها التتابعية. وكانت أولى خطوات الراوي زيد الشَّهيد في هذا المقام التطبيقي للرموز والأصوات الفاعلة اختياره لنوعين مُهمَّين من أصناف الشخصيات الروائية وتحديد وظائفها، وتحديد ما هو مُرسل منها ومُرسل إليه على مستوى الإبداع النصِّي والتلقِّي.

النوع الأول هو الشخصيَّات الرئيسة المؤثِّرة في الرواية، والتي عرف عنها بأنَّها من أكثر أنواع الشخصيَّات التنويرية والمعرفية والعلمية التثويريَّة والميَّالة في طموحها الشخصي والجمعي إلى ثقافة الاحتجاج والمواجهة للآخر. ورفض َكل ما هوَ قميء له صلة قُربى بديستوبيا الفساد وظُلم الاستبداد ، ومن يؤمنُ بفوضى كبح اليوتوبيا والحُريَّات التحرُّريَّة ذات الموقف الآيدلوجي الثابت.

وقد تمثَّلت نماذج هذا الصنف من الرموز والأصوات بأسماء كثيرة مرتْ بنا في تحلينا السردي مثل شخصَّية: (حمزة وهاشم المُسافر وجَوادين وفالح عواد وفارس رشيد وهاشم عبد الكريم)، والتي أخذت حركتها الدراميَّة والتَّمثُّليَّة السرديَّة المتنامية مِساحاتٍ كبيرةً وواسعةً من سرديَّات الرواية؛ كونها شخصياتٍ تأصيليةً مهمَّةً لها حضورها وارتباطها الميداني الروحي المائز في أقبية مثابات شارع باتا ومحيطه الخارجي. وقد كشفت نصوص زيد الشَّهيد عن طبيعة الحوار ووظائفه التي يتمُّ من خلالها التعرُّف على الشخصيَّات المُتحاورة وطبيعة العلاقة الخطيَّة فيما بينها:

"سَادتْ فَترةَ السِّتينيَّاتِ مَوجةُ رَحيلٍ عَنِ البِلادِ وَشَهِدَ شَارعُ بَاتَا غِيابَ عَدَدٍ مِنْ شَبابهِ المُفعمينَ بِأملِ التَّغييرِ وَالحاَلمينِ بِالخُروجِ عَنْ رِقعةِ الشِّطرنجِ؛ اِبتدأهَا فَارسُ رشيدٍ، الشَّابُ العَاشقُ لِكُتبِ الفَلسفةِ مَدفوعَاً مِنْ عَمهِ الَّذي سَكَنَ بَغدادَ، وكَانَ مُغرمَاً بِقراءةِ الكُتُبِ المُترجمَةِ، إذْ لَا يَكادُ يَدخُلُ مَكتبةَ مَكنزِي وَيَجدُ كِتاباً جَديدَاً يِقرأُ عَليهِ اِسمَ كَانتَ أوْ دِيكارتَ؛ هِيجلَ وَماركِسَ أو نِيتشة أو هَايدجرَ، أو أرسطو أو أفلاطونَ إلَّا وسَارعَ لِشرائهِ لِيلتَهِمَ فَحواهُ اِلتهامَاُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 19)0.

أمَّا النوع الثاني فهو الشخصيَّات الثانوية والتي يقتصر دورها الحقيقي على أنَّها تكميليةٌ مُساعدة على إتمام فِعليِّات الحدث السردي وترابطه زمكانياً مع واقعة الحدث السردي، وإنْ كان دور بعض هذه الشخصيَّات قد فَاقَ في حجم فاعليته الحركية السردية دور الشخصيَّات الرئيسة الأولى في الرواية مثل، شخصيَّة (نَاطُور المَكِّي) الذي يعدُّ من بين الشخصيَّات المحليَّة المُهمَّة والمضيئة بفعلها الحدثي المميَّز. والتي أسهمت إسهاماً مضيئاً في تَأرَخَةِ هُويَّة شخصيَّات شارع باتا وتوثيقها:

"لَقَدَ نَدِمَ نَاطورُ المَكِّي وَهوَ يُدوُّنُ وَفيَّاتَ أهالِي السَّماوةِ فِي دَفترهِ الَّذي اِمتلَأ وَتَناسَلَ إلَى دَفاترَ، نَدِمَ عَلَى تَكريسِ دَفترٍ يُدَوُّنِ فِيهِ أسماءَ مَنَ هَاجرُوا مِنْ شَارِعِ بَاتَا أوْ المَدينةِ بِرُمَّتِهَا. فَهُم لَيسُوا بِالعدَدِ القَليلِ، وَليسَ مِنَ البِّرِ تَفادِي غِيابِهُم وَعدَمِ تَأرخَتِهِ". (شَارعُ بَاتا، ص 233). هكذا وُصِفَتْ شخصيته.

ومن الشخصيَّات الثانويَّة التي أظهرت تمثيلاتها الحركيَّة دراميتَهَا على بساط الواقع السردي للرواية بحضورٍ جميلٍ مثل شخصية، (ليلى ورشيدة وشهلاء وأزهار وكاترينا وغيرها). ويلحظ أنَّ أغلبها يُعدُّ من الشخصيَّات الأنثوية التكميلية المُشاركة لإتمام وقائع الأحداث. ويمكن القول إنَّ زيداً الشَّهيد من خلال نصوصه السرديَّة لهذه الشخصيَّات قدَّم تحليلاً نفسياً وعاطفيَّاً وشعوريَّاً وجدانيَّاً عالياً لشخصياته الفاعلة. كما قدَّمتْ نصوصه السرديَّة توصيفاً تحليليَّاً للبعد الاجتماعي لشخصياته من خلال تتابع أوصافها الخارجية وحركتها الداخلية في محيطها المكاني العملي والعلمي الخاصّ:

"تَسألُنِي لَيلَى عَنْ مَشروعِي المُنشغلِ بِهِ وَتَنظَّمُ إليهَا رَشيدةٌ فِي السُّؤالِ فَأنبرِي أُحدِثهُّنَ عَنْ الشَّاعرةِ الإنكَليزيَّةِ (أدِثِ لِويسَا سِتوَل) وَرَغبتِي بَعدَمَا قَرأتُ لِعديِدِ المَرَّاتِ قَصيدتَهُ الشَّهيرةَ (مَا يَزال المطر يَهطُلُ) فٍي تًرجمتهٍ إلى العًربيَّة[...]وتَسبقُنِي بِمعلومةٍ أنَّ السَّيَّاب تَأثَّر بِهَا وَكَتَبَ رَائعتَهُ (أُنشودةُ المَطرِ) بَعدَمَا حَصَلَ عَلى مَجموعةِ سِتوَل مِنْ أُستاذهِ جَبرَا إبراهيم جَبرَا الَّذي كَانَ يُلقِي مَحاضرةً عَنِ الشِّعر الإِنكَليزِي كَمنهجٍ مُقرَّرِ فِي الجَامعةِ؛ وَكَيفَ أنَّ، السيَّابَ أدخَلَ الأُسطورةَ فِي شِعرهِ بَعدَ ذَلكَ تَأثَّر بِمَا جَاءَ فِي قَصيدةِ سِتوَل عَنِ المَسيحِ المَصلوبِ عَلَى خَشبةِ الصَّليبِ". (شَارعُ بَاتا، ص87). وتكشف ثيمة النصِّ السردي عن سعة الثقافة الأجنبية لهذه الشخصيَّات الثانوية في حوارها مع البطل واهتمامها الجم برموز الأدب العالمي والعربي الثقافية والإبداعية.

3- الحِبكةُ السَّرديَّةُ

ومن العناصر الأساسيَّة الأخرى والمُهمَّة جداً في تأثيث بنية الخطاب السردي وتدشينها في مُدوَّنة (شَارعَ بَاتا) هو عنصر الحِبكة السرديَّة المُتمثَّلة بالإطار العام للرواية، والتي تشتمل في مفهومها العام والخاص على جميع الأحداث والمواقف السردية التي تمرُّ بها حركة الشخصيات في الرواية أو القصة بدأً في أوَّلها وحتى نهاية خاتمتها بشكل تواتري متصاعد في تتابع الأحداث:

"اِنتهيتُ قَبلَ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ تَرجمةِ فَصلٍ كَاملٍ بَعدَمَا أكملتُ تَرجمةَ الفَصلِ الأولِ الَّذي يَدورُ حَولَ عَائلةِ أوكونُور الَّتي تَتألفُ مِنْ ثَلاثِة أنفارٍ: تُومُ، وأمُّهُ وَأختُهُ فيودورَا تَكبرُهُ بِثلاثةِ أعوامٍ. كَانَ الثَّلاثةُ يَعملونَ كَخدمٍ فِي حَانةٍ صَغيرةٍ قُربَ أحدِ مَوانِئ الجَزيرةِ. مَالكُ الحَانةِ يُدعَى سَنيور لُوبيز... وَكَما هُوَ شأنُ شَبابِ شَارعِ بَاتَا عِندَنَا فِي المَدينةِ وَتَطلعُهُم لِحياةٍ مُتغيَّرةٍ تَهبَهُم فَضاءً أوسعَ يِبنونَ مِنْ خِلالِهَا مُستقبلَهُم وَتَجعلُهُم يَعيشونَ الأملَ الَّذي رَسمُوهُ فِي مَخيلتِهُم وَعَزمُوا عَلَى تَطبيقهِ وإحالتهِ واقعَاً يَوميَّاً فَإنَّ تُومَ أوكونور فِي رِوايةِ خَاتِم الأميرِ العَبدُ هُوَ أيضَاً كَانَ يَسعَى مِنْ أجلِ التَّخلُّصِ مِنْ هَيمنةِ سَنيور لُوبيز صَاحبِ الحَانةِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 95).

وقد تجسَّدت الحِبكة السرديَّة لواقعة الحدث الروائية لبنية (شَارعُ بَاتا) بجملةٍ من العناصر والأدوات التكميلية التي تقوم عليها وتستمرُّ الأحداثُ موضوعياً وفنيَّاً. وقد تمثَّلت هذه العناصر بخمسةٍ محدَّدات هي: (البدايةُ والصراعُ والَتَّطوُّر والذروةُ والنهايةً الختاميةُ). وقد ارتأى الرائي زيد الشَّهيد أنْ تكون البداية الأولى لمسروداته الخبريَّة من نقطة اشتغاله المركزي (شَارعُ بَاتا).

وتتضمَّن بداية الرواية التعرُّف على الشخصيَّات والمكان والزمان، وأنَّ زمان الرواية يمتدُّ تأريخيَّاً من الحِقبَات الزمنية التي سبقت أحداثها المجتمعية والدَّولية والإقليمية عام التغيير السياسي لنظام الحكم في عصرنا الحديث وما بعده تاريخياً من تجليَّات وأحداث وتغيَّرات شكلية وجوهرية مُهمَّة.

أمَّا العنصر الثاني من عناصر الحبكة فهو (الصِّراعُ) فقد حدَّدَ الكاتبُ علاقته التواصلية التي واجهت شخصيَّاته في مسألة حُريَّة الفكر والعمل وتحقيق هُوية الذات في صراعها مع الآخر. تلك الأفكار التي جعلت من قصص الرواية أنْ تكون مُثيرةً للمتلقِّي كونهُ صراعاً بين الخير والشرِّ.

ويَعقِبُ بُنيةَ هذا الصراع الدائر بين ثنائيتي (الخير والشرِّ) عنصر (التطوُّر)، وأعني به تطوُّر حركة الأحداث السردية وتناميها وتقدُّمها بشكلٍ منطقيٍ سلسٍ فيه من الدهشة اللَّافتة والذهول النفسي والانجذاب والتشويق للقارئ والرائي.والتطوُّر الذي يسير على خطواتٍ ثابتةٍ صحيحةٍلا فكاكَ عنهُ.

ونصل بسلسلة هذا التطور إلى عنصر (الذَّروةِ)، وهي النقطة الضوئية العُليا التي وصلت فيها مسرودات (شَارعُ بَاتَا) الحكائية إلى أقصى لحظة من لحظات ودرجات التوتر النفسي والذهني الانفعالي والوجداني للمتلقِّي من لذَّة التشويق الإمتاعي الروحي لهذه الذروة الفائقة في ترغيبها وترهيبها، والتي تمثِّل المفارقة السرديَّة لتلك اللَّحظة الهاربة من هرم واقعة الحدث الموضوعيَّة.

ولا بُدَّ لهذه الذَّروة العاليَّة الجودة من نهايةٍ تُحدِّدُ الواقعة القصصيَّة للرواية التي تحلُّ فيها عقدة المشكلة الحدثية وتنتهي استمراريَّة الصِّراع بنهايةٍ توقعيَّةٍ فجائيةٍ تكسر إيقاع المألوف السردي وتهزُّ جوانبه الاعتبارية بالجدِّة والموضوعيَّة التي تُهيمن على فكر القارئ وتُمتِّع نواظره النفسيَّة.

وفي ظلِّ هذا السياق لا يمكن أن ننسى وظيفة (العُقدَة السرديَّة)التي تُعرَفُ بـ (الوحدةِ السَّرديَّةِ)التي وضع لها الناقد رولان بارت تعريفا بأنها" تتألَّف من كلِّ مقطعٍ من القصِّة يُقدِّمُ نفسه كتعبير عن تعالقٍ ما". وتُعدُّ العُقدةُ أداةً تعبيريَّةً تأزُّميَّةً من أهمِّ أدوات السرد القصصي وأكثرها تأثيراً في بنية العمل السردي وجودة خطابه من جهة، وفي عملية التلقِّي النفسي الذهني للقارئ من جهة أخرى.

ويمكن أنْ نعدها نشاطاً ذهنيَّاً وفكريَّاً ذكيَّاً عاليَّاً يُمارسه الكاتب السارد في اِتقان لُعبته السرديَّة والموضوعية مع المتلقّي من أجل تمريرها كفعلٍ سرديٍّ لا بُدَّ منه في التخليق الروائي. والعُقدة جزء لا يتجزأ من الحبكة ودورها المُساعد في دفع أحداث الرواية إلى الأمام وجعلها لُعبَةً مثيرةً في البناء السردي من أجلِ حلِّها حلُاً تدريجياً يقنع المتلقِّي من الناحية السايكولوجية والموضوعية. وقد بذل زيد الشَّهيد جُهداً كبيراً بِحلِّ عُقدَهِ السرديَّة في كلِّ مقاطع حكاياته القصصيَّة في الرواية.

وأنَّ هذه العناصر الخمسة للحبكة السرديَّة لها أهميتها العملية؛ كونها تُساعد على انجذاب القرَّاء للرواية واهتمامهم بها، وتُمكِّن من نقل رسالة الكاتب الإبداعية وإيصالهاإلى القارئ، وتحقِّق الغرض الروحي المقصود من الرواية. وأنَّ الغرض الانزياحي الذي يتوخَّاه زيد الشَّهيد منها إثارة الفكر بالمؤانسة والترفيه والإمتاع واكتساب فُنُون المعرفة العلميَّة والأدبيَّة وأصول التعليم الحديثة:

"غَادَرَ بِزمالةِ قَصدِ الحُصولِ عَلَى شَهادةِ البكلوريوسِ فِي التَّاريخِ وَاضعَاً فِي ذِهنهِ أنْ يَكونَ يَومَاً مَا مُنقِّبَاً لَا سِيَّمَا وَأُوروكُ لَا تَبعدُ عَنْ السَّماوةِ غَيرَ ثَلاثينَ مِيلاً، وَجلجامشُ يَنامُ هُناكَ.يَحلمُ أشرفُ بِهمسةٍ كُلَّمَا وَضعَ رَأسَهُ عَلَى الوِسادةِ وَتَساءَلَ مَتَى تَتَحقَّقُ أُمنيةُ اِرتقائِهِ مُنقِّبَاً يَدخلُ عَلَى شَعبِ أُوروكَ وَيَدورُ في شَوارعَ وَأزقةِ المَدينةِ. يَخرجُ إلَى بَساتينِهَا، ويُصاحِبُ الصَّيادينَ فِي زَوارقِهُم وَهيَ تَجوبُ الفُراتَ، وَتَطَأُ قَدَمُةُ سُلَّمَ الزَّقورةِ لِيرتقيَ إلَى إنليلَ وآنو وإينانا، هنا حيث سَينحنِي بِتحيةِ السُّومريينَ وَيضعُ الكّفَّ عَلَى الصَّدرِ عَلامةَ التُّقَى وَالخُضوعِ لِلآلهَةِ". (شارعُ باتا، ص 83).

4- الوَصفُ أو (التَّوصيفُ)

ونقف عند آخر عنصر من عناصر بنية الخطاب السردي المُتمثِّلة بعنصر الوصف أو التوصيف التفصيلي والواقعي لوحدتي المكان والزمان والشخصيَّات المرتبطة فاعليتها بأحداث الرواية. والوصف التسريدي التفصيلي المُيسَّر الذي أقامته أسلوبية وموهبة زيد الشَّهيد الواقعية والتخيُّليَّة في فرش مدوَّنة الرواية (شَارعُ بَاتا) ساعدت وظائفه الميدانية في الفضاء السردي لبنية الخطاب في التعرُّف على شخصيَّات الرواية من الناحية النفسية والاجتماعيَّة والثقافيَّة.فضلاً عن التعرُّف الدقيق على المثابات والأمكنة التأصيلية لمسرح وقائع أحداث الرواية وأبعادها التكوينية الأخرى، فلنقرأ في هذا السياق كيف يصف الشَّهيد السيرة الذاتية لتاريخ وهُوية (شَارعُ بَاتا) التأصيليِّة قديماً وحديثاً:

"شَارعَ بَاتَا .. سِيرَةٌ ذَاتيةٌ. الزَّحامَ وَكَثرةُ النَّاسِ، كَمَا أبصرُهَ الآنَ ظَاهرةً لًافتةً؟ وَشَارعُ بَاتَا اليومَ لَيسَ كَشارِعِ بَاتَا قَبلَ خَمسينَ عَامَاً.. فَهوَ يَمُورُ بِمَنْ جَاءَ لِيتبضَعَ فَامتَلَأ كَكُلِّ الَّذينَ اِبتدَأُوا فَقراءَ فَجاهَدُوا، حَتَّى اِغتنُوا وَتَشبَّعُوا بِالغِنَى. فَقبلَ خَمسينَ عَامَاً كَانتِ الحَوانيتُ فِي الشَّارعِ قَليلةَ العَدَدِ وِبائسةً تَترَاجعُ أمامَ عَددِ البُيوتِ أبوابُها خَشبيةٌ بِنوافذَ عَاليةً؛ والنَّاسُ مِنْ سَكنةِ الشَّارعِ لَا يَتعدُّونَ العَشَرَاتِ، والسَّماوةُ بِرُمَّتِها لَا تَتجاوزُ الآلافَ..." . (شَارعُ بَاتَا، ص 40).

ومن نوافل القول الختامية المُستحبة في مضمار هذا المجال السردي أنَّ اهتمام الكاتب بتأصيل وتفعيل بنية الخطاب السردي لشارع باتا ساعدنا كثيراً على فهم نظام البنية السردية لهذه الرواية، وكيفية بنائها القصصي وتشكيلها الفنِّي، وأفادنا في تحليل موضوعاتها الدلالية وسماتها الفكرية المشتركة. وقدَّم لنا المساعدة السرديَّة المرجوة في فهم مهارات فنيَّة زيد الشَّهيد التعبيرية والكتابية، وكيفية بنائه لحكاياتٍ نصيَّةٍ روائيةٍ فعَّالةٍ وماتعة الأثر على مستوى الخطاب النصِّي والفكري.

خَاتمةُ الرِّوايةِ وَفَجائيةُ السَّردِ التَّدوينِي

تُشكِّلُ مُدوُّنةُ (شَارعُ بَاتَا) للسارد المُتألِّق زيد الشَّهيد مع مدونتيهِ السابقتينِ رواية (أفراسُ الأعوامِ)، و(تَراجيديا مَدينةٍ) إحدى ثالوث مشروعه الثقافي الميتا سردي التدويني لتوثيق تاريخ مدينة السَّماوة وذاكرة الحياة الإنسانية فيها مُتخذاً من هذا المِيتَا تَاريخ الَّسردي الزمكاني مرتكزاً من مرتكزاتها البنيوية في الحديث عن الذات الإنسانية وعن نتاجها الثقافي والعلمي وعن الهمِّ المستقبلي والأمني والاستقرار والتهديد والظلم والحصار والتهميش، وعن التحرُّر من نقرة السلمان، وجميع مفاصل الحياة.وقد أفرغ زيد في هذه الرواية خلاصة ثقافته المعرفية والأدبية عامة والترجمة بشكلٍ خاصٍّ.

فإذا كانت هذه المسرودات النصيَّة تُمثِّل حُمولات الرواية وعصب رسالتها الفكرية في فصولها السبعة، وكان الرحيل أو الهجرة الهمَّ الأول لساردها زيد الشهيد، والشغل الشاغل لمطامح وآمال وتمنيَّات شخصياتها المُهمَّشة على مدى أحداث الرواية بأجمعها، فإنَّ الأمل بتحقيقها حُلماً قد تبدَّد وتعطَّلَ إجراؤه عند بطل الرواية (حمزة الأب)، أو عند ساردها (العليم) زيد الشَّهيد في منتهى خاتمتها الفجائية الصادمة والمُدهشة لتوقُّعات القارئ وكسر جداره الذهني المألوف.

وأنَّ مغزى قصديَّات ذلك التعطيل رُبَّما كان تعبيراً صادقاً عن مدى حُبِّه السرمدي وتشبُّثه الأبدي بمدينته الأُمِّ السَّماوة ووفاء لوطنه الأبِّ الكبير العراق، وإيثاراً لافتاً منه بها لِوَلديهِ الشَّابينِ (حارث وميمون) رمزي الغد والمستقبل الحياتي الواعد. وقد تَرجمَ الشَّهيد إحساسه بوحاً فأضمَّرَ:

"وَأنَا أنتهِي مِنْ كِتابةِ هذهِ الكَلماتِ، مُتذكرَاًآمالَ وَرغباتِ وَخُططَ تَوم أوكُونور الفَاشلةَ فِي الهُجرةِ وتَغييرَ الحَالِ دَقَّ جَرسُ البَابِ الخَارجيَّ.. قَليلاً وًدخلَ عَلَيَّ مَيمونُ... لَمْ يَكُنْ قَدْ زَارَنَا مُنذُ شَهرٍ. بَعدَ التَّحيةِ وَتَلقِي التَّحيَّةِ رَأيتُ فِي رَأسهِ شَيئاً يَمُورُ..عَيناهُ وَشَتَا بِذلكِ.بَعدَ لَحظةٍ وَلَحظاتِ فَجَّرَ مَا جَاءَ مِنْ أجلِهِ بِتصميمٍ وَحَماسةٍ:أبي.. أُفكِّرُ بِالهُجرِةِ مَعَ المُهاجرينَ.. هُمُ لَيسُوا بِأفضلِ مِنِّي. َوبَعدَ سَاعةٍ؛ سَاعةٍ لاَ غَيرَ دَقَّ جَرَسُ البّابِ مِنْ جَديدِ..أسمعُ صوتَ وَلَدِي الأكبرَ حَارثٍ يَدخُلُ.. يُلقِي التَّحيَّةَ عَلَى أُمِّهِ وَيَسألُ عَنِّي.. وِأسمعُهٌ يٌكلِّمُها قَائِلاً: (أُمِّي، أُفكِّرُ بِالهُهْ.....)". (شَارِعُ بَاتا، ص 238).

إنَّ قراءة أسلوبيةً لموضوعة الهجرة والارتحال تؤكِّد بما لا يقبل الشكَّ مما صرَّح به السارد أو الرائي في خاتمته الفجائية، أنَّها مجرد آمال ورغبات ذاتية فاشلة قد لا تُحقِّقُ الهدف أو المبتغى القصدي المنشود منها. وقد شبَّهَ الكاتب والروائي زيد الشَّهيد قضية الهجرة بمحاولة شخصية البطل الدنماركي المندفع (الفتى أوكونرو)، والتي باءت بالفشل الذريع كلُّ محاولاته ومغامراته وخطِّطه مع صاحب الحانة المُحتكِر لوبير لتغيبر واقع الحال مع أفراد عائلته الثلاثة الذين هم شخوص وأفراد رواية (خَاتمُ الأميرِ العَبدُ) الدنماركية الأصل التي ترجمها السارد أو الراوي العليم.

هذا من جانب سردي تناصِّي توافقي وتحوَّلي، ومن جانب فكري وتحليلي آخر أنَّ الهجرة التي وردت على لسان وَلَدَي البطل (ميمون وحارث) كانت مُجردَ فكرةٍ (أُفكِرُ بِالهُجرةِ...)، وليست قراراً قطعيَّاً نهائياً لا رجعة عنه اُتُّخذ بها. إذن التفكير بالأمر شيء والقرار الحاسم شيء آخر لا بدَّ منه.

وهذا التحليل المنطقي لسرديَّة الهجرة يُحيلنا فنيَّاً إلى أن الخاتمة ليست مجرد خاتمةٍ فجائيةٍ تتَّسم بالإمتاع والإدهاش لذائقة المتلقِّي فحسب، وإنَّما هي أيضاً خاتمة موضوعيَّة تتَّسم بالانفتاح لإشراك القارئ الواعي أو المتلقِّي النابه وتوجيه رغبته وإبداء رأيه الشخصي إلى الإسهام جديَّاً في التفكير التواصلي بإيجاد حلٍّ إيجابي أو سلبي مُناسب لخاتمة موضوع الهجرة. وهذا ما كان يسعى إليه الشَّهيد بجدٍّ في مشروعه التدويني لأرخنة وتوثيق الميتا سرد الحداثوي بلُغةٍ جديدةٍ وأُسلوبٍ واعٍ.

وتشي أسلوبيَّاً قراءة بواكير هذه الخاتمة النصيَّة إلى أنَّه عندما تكون شخصَّية بطل الرواية السارد هي نفسها شخصيَّة الروائي الكاتب بضمير الـ (أنا) الحاضر والفاعل وتأكيد أثر فاعليته الحَدثِيَّة والموضوعية فيصبح شاهداً عينيَّاً بَصَرِيَّاً على دراميَّة مسرح واقعة الحدث السرديَّة.

ومما يُضفي على هذه التجربة التدوينية وأرخنتها التوثيقية مصداقيةً عاطفية وموضوعيةً في ذاكرة سرديَّات المدن التاريخية. وأنَّ فعل هذا النموذج من الإبداع يظهر تداخلاً بين التوثيق التاريخي والتجربة الشخصية حيث يكون الكاتب سارداً وشاهداً حيَّاَ يعكس صور حِدَّة الصراع البيئي بين الاثنين في (شَارعُ بَاتا). بقي أنْ نذكر أنَّ ارتباط الكاتب المبدع زيد الشَّهيد بالواقع الزمكاني التاريخي وبالشخصيات الفواعلية كان ارتباطاً روحيَّاً عميقاً يَمُتُّ بصلة رَحِمٍ كبيرةٍ لهذه المدينة التي خلَّدها في نتاجاته الشعرية والنثرية لتكون شاهدةً تاريخيةً على فعله الإبداعي والثقافي.

فَائدةٌ سرديَّة

لم تكن مُدوّنة (شَارعُ باتا) مجرد مشروع سردي تدويني، وتوثيق تأريخي دقيق للحكايات والمدنٍ والمثاباتٍ واشتغال للأدوات السردية الفاعلة الأثر، وإنَّما احتفت صفحات هذه الرواية بمجموعة كبيرة ثرَّةٍ من القيم المعرفية والأفكار الفلسفية والأدبية والشعرية والمرويَّات الشعبية والسير الذاتية والتراجم اللُّغوية والآثار الإبداعية والفنيَّة للأصوات والرموز الثقافيَّة المَحليَّة والعربيَّة والعالميَّة.

تلك الثقافات والمعارف والفنون التي وظَّفها زيد الشَّهيد وسعى لها أن تكون فناراتٍ ضوئيةً لافتةً التوهج تتوزَّع بعفويةٍ وتخطيطٍ مُتقنٍ على فضاءات الرواية، وتضيء بأحداثها السرديَّة التنويريَّة مفاصل وحدة العمل الأدبي السردي، وتُضفي عليه نسغاً روحيَّاً جديداً من عناصر القوُّة وجماليَّات الإبداع والابتداع الفنِّي الذي يُميُّز العمل الأدبي المكين ويحفظ له خلودَهُ الزمني. وهذا ما يُميَّز أُسلوبية زيد الشَّهيد الانزياحيَّة التعبيريَّة المُقدَامة وتوهُّج معجمه التسريدي في كتاباته الإبداعيَّة.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيٌّ

يُعْتَبَر الفَيلسوفُ والرِّوائيُّ الإيطاليُّ أمبرتو إيكو (1932 - 2016) مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ العالميين الذينَ جَمَعُوا بَيْنَ الفَلسفةِ والرِّوايةِ، وهَذا يَتَجَلَّى بِوُضوحٍ في روايته الشَّهيرةِ " اسم الوردة " (1980)، التي تُصنَّف كواحدةٍ مِنْ أعظمِ الأعمالِ الأدبية في القَرْنِ العِشرين.

تَدُورُ أحداثُها في دَيْرٍ إيطاليٍّ في القَرْنِ الرابع عَشَر، حَيْثُ تُرتَكَب سِلسلة مِنَ الجَرائمِ الغامضةِ يَذهَب ضَحِيَّتَهَا عَدَدٌ مِنَ الرُّهْبَانِ. ويَمتزِجُ في الرِّوايةِ التَّشويقُ والفَلسفةُ، وتَختلِط فِيها عَناصرُ الجَريمةِ ومَبَادئُ التاريخِ وعِلْمُ الرُّمُوزِ، وُصولًا إلى مُناقشةِ العَلاقةِ بَيْنَ الإيمانِ والعَقْلِ. وهَذا يُؤَكِّد أنَّ الأدبَ يُمكِن أنْ يَكُونَ وَسيلةً فَعَّالةً لطرحِ أسئلةٍ وُجوديةٍ وفِكْرية عميقة.

عُرِفَ إيكو في بِدايةِ مَسيرته الثقافية بِمُؤلَّفاته النظريةِ في فَلسفةِ اللغةِ وَعِلْمِ الدَّلالةِ في بُنْيَةِ النَّصِّ الأدبيِّ، ولَمْ يَبْدَأ تجربته الأدبيةَ إلا بَعْدَ أنْ قاربَ الخمسين مِنْ عُمْرِه. ويُوصَف بأنَّه رائدُ عِلْمِ السِّيميائيَّة، وَهُوَ العِلْمُ الذي يَدْرُسُ الرُّمُوزَ والعَلاماتِ، ويَهْدِفُ إلى فَهْمِ كَيفيةِ إنشاءِ المَعنى وتَفْسِيرِه في مُختلَف السِّيَاقَاتِ الثقافيةِ والاجتماعية.

إنَّ الرِّوايةَ بالنِّسبةِ إلى إيكو لَيْسَتْ سَرْدًا للأحداثِ والوَقائعِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا عَالَمٌ مِنَ الرُّمُوزِ التي تَدْفَعُ باتِّجاهِ التَّفكيرِ الفَلسفيِّ العَمِيقِ، وَفَضَاءٌ مِنَ العَلاماتِ التي تُؤَدِّي إلى تَحليلِ الأشياءِ، وتَفسيرِ الثقافةِ هُوِيَّةً وَسُلطةً ونَظريةً وتَطْبيقًا.

والرِّوايةُ هِيَ الوِعَاءُ الحَاضِنُ للمَبادئِ الفَلسفيةِ المَنثورةِ في مُؤلَّفات إيكو غَيْرِ الأدبيَّةِ، التي تَتَنَاوَل تفاصيلَ السِّيميائيَّة، وَمَواضيعَ القُرونِ الوُسطى، وأُسُسَ النَّقْدِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ. والنَّصُّ السَّرْدِيُّ هُوَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ بَيْنَ الظواهرِ السِّيميائيَّة والظواهرِ الثقافية، حَيْثُ تُصبح الكَلِمَاتُ رُمُوزًا تُشكِّل نِظامًا مَنْطِقِيًّا مَعَ بَعْضِهَا البَعْض، وتَصِير المَعَاني إشاراتٍ تَدْمُجُ هُوِيَّةَ الفِعْلِ الاجتماعيِّ مَعَ الوَقائعِ التاريخيةِ القائمةِ على الاتِّصَالِ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ، وَالتَّوَاصُلِ مَعَ العَناصرِ المُحيطةِ بالفَرْدِ والجَمَاعَةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ إطارٍ تاريخيٍّ للأفكارِ والأشياءِ، وتأسيسِ مَرجعيةٍ مَعرفيةٍ تَتَعَامَل مَعَ التَّجَارِبِ الإنسانيَّةِ في المُجتمعِ كأنظمةٍ عَقْلانيَّةٍ وَرُمُوزٍ لُغويَّةٍ وَمَهَارَاتٍ إبداعيَّة.

إنَّ انتقالَ إيكو مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ لَمْ يَكُنْ عَبَثِيًّا أوْ صُدْفَةً أوْ مُفَاجِئًا، وإنَّمَا كانَ مُحاولةً جَادَّةً لِنَقْلِ الأفكارِ الفلسفيةِ مِنَ الهُلامِيَّةِ إلى الواقعيَّةِ، وَمِنَ التَّجْريدِ إلى التَّطبيقِ، وَمِنَ الحَيِّزِ النَّظَرِيِّ إلى الفَضَاءِ الإنسانيِّ المُشتمِل على المَشاعرِ والأحاسيسِ والأحداثِ اليَوْمِيَّةِ والوقائعِ التاريخيَّة.

وَلَمْ تَكُنْ رِواياتُ إيكو إلا أنساقًا مَعرفية لإدراكِ الحقائقِ التاريخية الكامنة في الحَياةِ الواقعية، وأنظمةً فلسفيةً للكشفِ عَن الأشياءِ التي لا يَقُولُهَا النَّصُّ، حَيْثُ يَتِمُّ الربطُ بَيْنَ الخَيَالِ الأدبيِّ والغُموضِ الفلسفيِّ القائمِ على الأسئلةِ الوُجودية العميقة.

والنَّصُّ _ باعتبارِه عَمَلًا فَنِّيًّا إبداعيًّا _ يَحْمِلُ في دَاخِلِهِ تَفْسِيراتٍ مُتَعَدِّدَة، وتأويلاتٍ مُتباينة، ويَبْتكِر قوانين خَاصَّة به، ويَخترِع لُغَةً وِجدانيةً جَديدةً ومُدْهِشَةً تُعيدُ تَعريفَ العاطفةِ كَفِعْلٍ اجتماعيٍّ، وَتُعيدُ صِياغةَ مَرجعيةِ اللغةِ كوظيفةٍ وُجوديَّة مَفتوحة عَلى جَميعِ التَّجَارِبِ والتَّأمُّلاتِ.

إنَّ عَوَالِمَ السَّرْدِ تَعتمِد عَلى فَلسفةِ اللغةِ، وتَستنِد إلى الأشكالِ التَّعبيرية، وتَرتكِز عَلى رُوحِ النَّقْدِ الجَذْرِيِّ، وتُحلِّل طَبيعةَ مَسَارِ الإنسانِ، وتُفَسِّر مَاهِيَّةَ مَصيرِه، مِنْ أجْلِ بُلُوغِ الحَقيقةِ كَقِيمَةٍ مِعْيَارِيَّةٍ ومَنظومةٍ حَيَاتِيَّة. الأمْرُ الذي يَقُودُ إلى الخُروجِ مِنْ هَامِشِ التاريخِ إلى الوَعْي بالتاريخ، والانفتاحِ عَلى العَالَمِ، وتَطويرِ مَفاهيمِ الإبداعِ كَمًّا وكَيْفًا.

ومَا يُميِّز الرِّوايةَ عَن الفَلسفةِ هُوَ أنَّ الرِّواية قادرةٌ على صَهْرِ التَّشويقِ والمُغَامَرَاتِ والحِوَاراتِ والتاريخِ في بَوْتَقَةِ تَغْييرِ الواقعِ، اعتمادًا على اللغةِ والفِكْرِ والمَنْهَجِ، أمَّا الفَلسفةُ فَهِيَ مَنظومةٌ جَامِدَةٌ ومُتمركزة، تُنتج خِطَابًا نُخبويًّا مُتعاليًا، كَمَا أنَّها تَتَحَرَّك في ظِلِّ التَّعريفاتِ الاصطلاحيَّة. لذلك تَشترك الفَلسفةُ والرِّوايةُ في الألفاظِ، وتَختلفان في المَعَاني، نَظَرًا إلى اختلافِ المَرْجِعِيَّة، والأصلُ يُحدِّد طَبيعةَ الفُروعِ، والمَنْبَعُ يُحدِّد طَبيعةَ الرَّوافدِ.

لَقَد اعْتَبَرَ إيكو أنَّ الرِّوايةَ هِيَ المَيدانُ العَمَليُّ لأفكارِه النَّظرية، والتَّطبيقُ الفِعْلِيُّ للخَيَالاتِ التاريخية، وأنَّ الفَلسفةَ لا يُمكِن أن تَصِلَ إلى شَرائح المُجتمع كَافَّةً إلا مِنْ خِلالِ عَمَلٍ أدبيٍّ مُتكامل فَنِّيًّا وفِكريًّا، وأنَّ الغَوْصَ في أعماقِ التاريخِ والثقافةِ لا يَنْجَحُ بشكلٍ كامل إلا مِنْ خِلال قِصَّة قائمة على التَّشويقِ وجَذْبِ المُتَلَقِّي. وَمِنْ خِلالِ هَذه القِصَّةِ يَتِمُّ حَقْنُ الأذهانِ والمَشاعرِ بالأسئلةِ الوُجودية الحاسمة، والأفكارِ الفلسفية العميقة، والعُثورُ على خَريطةٍ فِكرية للعَالَمِ تُفَكِّك أحداثَ التاريخِ، وتُفَسِّر وُجودَ الإنسانِ في الأزمنةِ المُختلفةِ والأمكنةِ المُتَعَدِّدَة.

إنَّ الرِّحلةَ اللغوية مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ تُمثِّل بِحَدِّ ذَاتِهَا مَركزيةً مَعرفيةً تُوضِّح الحُدودَ الفاصلةَ بَيْنَ تَفْسيرِ الوَعْي الاجتماعيِّ وتأويلِ النَّصِّ الأدبيِّ. كما تُمثِّل إعادةَ بِناء للتاريخِ الغَامِضِ في المراحلِ الزَّمنية، والتاريخِ الكامنِ في أعماقِ الإنسانِ السَّحيقةِ. وهَذا يَكْشِفُ العَلاقةَ التبادلية بَيْنَ المُؤلِّفِ والنَّصِّ، وكَيفيةَ التفاعلِ بَيْنَ التاريخِ والأساطيرِ والفَلسفةِ والأدبِ، وُصُولًا إلى القوانين الضابطة لعمليةِ استنباطِ الأفكارِ مِنَ النَّصِّ، باعتباره فَضَاءً مَفتوحًا مِنَ الدَّلالاتِ الخَفِيَّةِ اللانهائية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

بين فردوس المنفى وطقوس الجمال.. قراءة في شعرية العتمة المضيئة

تمهيد نظري: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل نص "غرازييلا.. العتمة المضيئة" للشاعر محمد مجيد حسين من خلال رؤية حداثية تستند إلى مفاهيم التفكيك والرمزية والتخييل الطقسي، مستنيرة بمقولات باشلار وبلانشو وجوليا كريستيفا. تستند الدراسة إلى فرضية رئيسة مفادها أن "غرازييلا" ليست محض تجربة وجدانية أو عاطفية، بل هي تركيب رمزي تتداخل فيه الذات الشاعرة مع الأنوثة والمقدس والمنفى، بما يجعل النص ممارسة شعرية تأويلية ذات طابع طقسي.

ومن خلال هذه الرؤية، تقارب الدراسة النص عبر عدد من المحاور المرتبطة بالبنية الرمزية، وشاعرية المنفى، والأنوثة الطقسية سعياً لاكتناه جمالية العتمة المضيئة. 

غرازييلا بوصفها رمزاً أنثوياً خلاصياً

"غرازييلا تُشعل النورَ / في أقفالِ منفايَّ"

"بدون مملكةٍ هي ملكةٌ"

"هي الوعدُ الهاربُ .. / هي النُبل المُعتق"

في هذه التكوينات الشعرية تتجاوز "غرازييلا" كونها صورة أنثوية تقليدية لتتحول إلى بنية رمزية خلاصية تتجسد في تخوم المنفى والانتظار. لا تحضر كموضوع للرغبة، بل كقوة كاشفة تستدعي النور من العتمة وتمنح الذات الشاعرة شرعية الأمل في فضاء عدمي.

هذا التكوين يتقاطع مع تصور جوليا كريستيفا للأنوثة بوصفها: "حضوراً طارئاً يؤسس غياباً جمالياً لا يستقر ويُنتج المعنى لا كمكتمل بل كمعلّق."

تظهر "غرازييلا" هنا كعلامة متجاوزة للزمن والمكان بوصفها وعداً هارباً و"نبلاً معتقاً "، أي أنها لا تؤسس الخلاص في المنظور الواقعي، بل عبر انبثاق رمزي طقسي يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والأنوثة والمقدّس. بهذا المعنى، تغدو "غرازييلا" وسيطاً رمزياً بين العالم السفلي للمنفى والعالم العلوي للمعنى. 

المنفى والذات المجروحة: انكسار الهوية وشاعرية الانمحاء

"وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب / شمعةٌ الدياجير"

"أنت تعبرُ مُدن النحاس / في الزمن الحظر القاتل"

في هذه الصور، يتجلى المنفى بوصفه تجربة وجودية لا جغرافية تتداخل فيها الهوية بالانمحاء والذات بالحطام. لا يتعامل النص مع المنفى كمسافة مادية، بل كشرخ نفسي حاد تعيشه الذات بوصفها "شمعة" تتآكل في العتمة وسط "مدن النحاس"، حيث يتكثف الشعور بالاغتراب داخل زمن محظور وقاس.

في هذا السياق، تنسجم الرؤية الشعرية مع تصور موريس بلانشو الذي يرى أن:

"الكتابة هي غربة داخل اللغة، حيث يغدو الشاعر شاهداً على ذاته وهي تتلاشى"

إن استخدام مفردات مثل "الدياجير" و"مدن النحاس" لا يقصد به الوصف الجمالي فحسب، بل يمارس كفعل رمزي على مستوى الانمحاء التدريجي للذات في مواجهة عالم قاس ومعدني مغلق. بذلك تتحول الكتابة إلى مرآة لانكسار الهوية وإلى طقس من الحضور عبر الغياب. 

الطقس الجمالي واللغة ككائن شعري

"طقوس معارك الجمال / هي الوعد الإلهي / بشرعية نبوءتي"

في هذا المقطع، تتحول اللغة من وسيلة تعبير إلى بنية طقسية تشتغل على إنتاج المعنى لا نقله، بحيث يصبح الشعر ممارسة شبه مقدسة تستدعي الأسطوري والإلهي، لا بوصفه معتقداً دينيًا، بل كقوة جمالية كاشفة. إن حضور "الوعد الإلهي" و"النبوءة" يشير إلى أن اللغة نفسها لم تعد أداة حيادية، بل صارت كائناً جمالياً ذا طابع شعائري.

يتقاطع هذا الطرح مع تصور غاستون باشلار الذي يرى أن:

"الكلمة الشعرية تحول المادة إلى خيال مقدس، وتمنحها كينونة لا تستمد من الواقع بل من طقس الحلم."

هكذا، تتحول "غرازييلا" إلى مركز طقسي داخل النص، ليست فقط بوصفها رمزا أنثوياً، بل كوسيط شعري يفعل البنية التأويلية للقصيدة، حيث تمارس اللغة وظيفة طقسية تعيد تشكيل العالم عبر الخيال، لا عبر المرجع. 

الغرائبية والتخييل: اللغة السريالية كأفق تأويلي

"إشارات المرور تُخاطبني / أنت تعبرُ مُدن النحاس"

"غرازييلا تعبرُ جنون الأضواءِ / في بلاد الجمال"

ينسج النص مشهداً شعرياً تنزاح فيه اللغة عن مرجعها الواقعي لتخلق عالماً سريالياً داخلياً، تتكثف فيه الرموز وتتفكك العلاقات المألوفة بين الأشياء. "إشارات المرور" لم تعد علامات مرورية، بل تحولت إلى كائنات دالة تتفاعل مع الذات وتعيد إنتاج المعنى. أما "مدن النحاس" فتمثل عالماً مغلقاّ وقاسياً يوحي بالجمود والاختناق ويكثف صورة الاغتراب.

يتقاطع هذا الأسلوب مع ما يسميه غاستون باشلار بـ "تخييل المادة"، حيث تتحول العناصر الجامدة إلى رموز نفسية وروحية عبر فعل الكتابة. كما يمكن ربطه بما يعرف بـ"الواقعية التخيلية" التي تتجاوز التفسير العقلاني لصالح خيال تأويلي مفتوح.

في هذا السياق، لا تكتب الغرائبية لأجل الإدهاش، بل لأجل زعزعة يقين الواقع وخلق ممر تأويلي ينقل الذات من المعنى الخارجي إلى بعد باطني متعدد الإمكانات. 

شعرية الانخطاف: الغنائية التأملية وتحول الأنا

"هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي"

"صدى صوتها يعزف ليّ على أوتار الوعد الإلهي"

في هذين السطرين، تتجاوز الغنائية حدود الانفعال العاطفي المباشر لتصبح فعل تأمل داخلي يمس الجوهر الوجودي للذات. "موسيقا العتمة" ليست وصفاً شعرياً عابراً، بل صورة مركبة تظهر امتزاج المتناقضات (النور/الظلمة، العزف/الصمت)، مما يخلق حالة انخطاف شعري وهي لحظة عبور الذات من وعيها المباشر إلى فضاء تأويلي أكثر عمقاً .

يماثل هذا ما يسميه موريس بلانشو بـ"الغياب المنتج"، حيث "الكتابة الحقيقية تؤدي بك إلى غيابك أنت فتظل موجوداً فقط بما تُخفيه من ذاتك." هنا، تتحول غرازييلا إلى مرآة للذات في لحظة محوها فتُصبح الغنائية ذات طابع أنطولوجي لا محض وجداني.

من خلال هذا، يتخذ "الوعد الإلهي" بعداً شعرياً لا لاهوتياً ويغدو فعل الكتابة بمثابة طقس خلاص داخلي تمارس فيه الذات استعادتها عبر الآخر ‚ الأنثى/الرمز. 

الشعر بوصفه طقساً تأويلياً

ليست "غرازييلا.. العتمة المضيئة" مجرد قصيدة حب أو حنين منفي، بل هي مشروع شعري يؤسس لبنية رمزية طقسية تتجاوز التعبير الانفعالي إلى ممارسة جمالية تأويلية. يتعامل الشاعر مع اللغة لا كوسيلة بل ككائن حي تتولد داخله الصور والاستعارات لتعيد تشكيل العالم من حوله. الأنثى هنا، كما في تصورات كريستيفا، ليست فرداً بل طيفاً وجودياً خلاصياً تحضر بوصفها لحظة انخطاف وكشف.

المنفى، كما قرأناه من خلال بلانشو، ليس جغرافيا بل وعياً جمالياً هشاً، تمارس الذات داخله انمحاءها من أجل قول جديد. كذلك فإن التخييل، كما عند باشلار يعمل على تحويل المادة اليومية إلى خيال ذي طابع مقدس يحول القصيدة إلى تجربة تقف بين الكتابة والطقس.

من هنا، فإن النص لا يقرأ فقط، بل يمارس. فهو لا يقدم المعنى بل يفتحه ولا يغلق التأويل بل يوسعه، بما يجعل "غرازييلا" نصاً لا يستنفد، بل يستدعي القارئ للدخول في طقسه الجمالي بوصفه فعلاً مستمراً من الإنصات والعبور.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

.......................

غرازييلآ .. العتمة المُضيئة

غرازييلآ تُشعل النورَ

في أقفالِ منفايَّ

لتنسجَ أنوالاً مُختلفة

غرازييلآ تُعانق نبوءتي

من جهة الغروبِ

هي الوعدُ الهاربُ ..

هي النُبل المُعتق

هي شجرة الأماني الباحثة عني

غرازييلآ تواجهُ قُبح العالمِ

تُناشدُ تذاكر السفرِ

في مطارات الهزائم

بدون مملكة هي ملكةً

صدى صوتها يعزف ليّ

على أوتار الوعد الإلهي

غرازييلآ الدافئةِ

إشارات المرورِ تستثنيكِ

إشارات المرور ..

إشارات المرور تزفُ ليّ

ملامحي القادمة بغرائبية

إشارات المرور تُخاطبني

أنت تعبرُ مُدن النحاس

في الزمن الحظر القاتل

غرازييلآ تعبرُ جنون الأضواءِ

في بلاد الجمال

وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب

شمعةٌ الدياجير

الراسخة في روابي الزمن المنفلت

غرازييلآ الروح المُلاحقة

عبر نواب قصر المعاني

وفي منفايَّ المناظر

لأبراج صدى هشاشة الندى

وفي مواسم القحطِ

وعند نهاية الهزائم

أرى غرازييلآ كحوريةٍ

تُعانق ملوحة الدمعِ

هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي

هي طقوس معارك الجمال

هي الوعد الإلهي

بشرعية نبوءتي ..

***

الشاعر محمّد مجيد حسين

 

في التيار الكهربائي هناك سلكان نقيضان: سالب وموجب، لكن حين يتصلان يحدث أحدُ أمرين: صعقة كهربائية حارقة أو: إضاءة كاشفة لمصباح

النقيضان المتصلان، المتحدان، والمرتبطان عضويّاً، وانفعالياً في تلاحم بيّن في قصائد يحيى السماوي، يحدثان كلا الأمرين معاً، الصعقة والإضاءة، ليتركا أثراً بالغاً بعدهما في ذائقة القارئ: الصعقة والدهشة، والانتباه والشدّ، وشحنة من الهزّة الشعورية. ثمّ الإضاءة الكاشفة بعدها لما خلف هذه الصعقة الحسّية، أثناء التلقي:

ليلٌ وصبحٌ

شمسٌ وظلٌّ

ثأرٌ وصفحٌ

الصاحي... النائم

الأحلام واليقظة

تكتب وتمحو

فالجمع بين النقيضين، كما ورد في رباعية الشاعر الكبير يحيى السماوي التالية أدناه (مثالاً لما ذكرنا)، لا يأتي من فراغ، بل منْ طبع شاعريّ شعريّ - لا صنعة شعرية جامدة تقليدية - ومن بوحٍ شجيّ سلس رهيف، أثناء نزول الوحي بعد تجربة وجدانية عميقة الغور في النفس، ضاغطة لتنفجر، وهي سمة جمالية بلاغية حاضرة في صياغات شعر شاعرنا الكبير. وهي لا تتوفر إلا لشاعر مقتدر بقامته، تقف خلفه موهبة ثرية، وتجربة غنية طويلة، وخزين شعري، وثقافي عام. إنه يخلق من النقيضين لوحة متكاملة الألوان والأبعاد، فكأنهما نسيج واحد متشابك الخيوط بلونين مختلفين، يضيفان جمالية مبهرة للنظر شكلاً، وللنفس مضموناً، ومدهشة للتلقي حسّاً، إذ لا يمكن الفصل بينهما؛ لأنه يكمل أحدهما الآخر. فلا بد حين يُذكر واحد منهما أو يُرسم أنْ يؤتى بالثاني لتكتمل الصورة المرسومة في القصيدة، فتكون لوحة موحدة متقنة تجمع الضدين معاً، في إطار فنيٍّ من الأحاسيس والروح، لوحة مرسومة بألوان القوس قزح الحسية التعبيرية، والتصويرية، واللغوية، ببلاغتها التي تتغذّى من بلاغة الشاعر الخاصة المتميزة، والمتصفِّ بها، والتي هي من سمات شاعريته وشعريته غير المألوفة.

هذا الجمع بين الضدين (النقيضين) في لوحة شعرية واحدة، وصورة ممتزجة في وحدة موضوعية حسية روحية غير مرئية، ولا مُلتقَطَة بتعمّد وسبق إصرار شعري، وتخطيط مُسبَق، إنما تأتي هكذا عفوية من طبع السماويّ الشعري الفذَ، حين يهبط الوحي عليه، بلا استئذان، أو دقّ باب المشاعر والإيحاء، ومنهما يبدأ في نسج سجادة شعرية ملوّنة؛ ليكون النقيضان فيها شكلاً فنيّاً منسجماً متآلفاً في الشكل والمضمون داخل روح القصيدة وصورها، ومشاعر وإرهاصات وخيال الشاعر المُحلّق الغنيّ، فتعمل على إبراز جمالية وحلاوة القصيدة، وإشباع ذائقة المتلقي الباحث عن الجمال والدهشة والبريق في القصيدة، التي تشبع ظمأه الجمالي والشعري لما يثير الإبهار من الشعر. فلا تكون القصيدة مجرد شكل بلاغي تصويري وأسلوب جميل جذاب، وإنما عمقاً غزير المعان،ي والصور، والإشارات، والدلالات، والأبعاد، والثرّ بما يزخّه التاريخ الأسطوري، والديني، والثقافي، والسياسي، والاجتماعي، مما تكتنز القصيدة بها، وبالتضمين منها، واستيحائها، أحداثاً، وشخصياتٍ، وأقوالاً، وحِكَماً، ومواعظَ حسنة نستلهم حكمتها، ورؤيتها، وبُعدها الإنساني المضيء.

الشعر الحقّ، والأصيل، والخالد، هو ما قلناه أعلاه في بعض ما نقرأه في قصائد شاعرنا الكبير السماويِّ يحيى.

هذا غيض من فيض شاعريته الفذّة، التي ليست بحاجة الى شهادة؛ فهي تحصيل حاصل.

***

عبد الستار نورعلي

الأربعاء 25.6.2025

.....................

الربـاعـيـة

فـي يـدي وردٌ وفـي روحـيَ جُـرحُ

فـالــنَّـقــيـضـانِ أنــا: لــيــلٌ وصُـبـحُ

*

والــصّـديـقـان أنـا: شــمــسٌ وظِــلٌّ

والـــعَـــدُوّان أنـــا: ثــأرٌ وصَـــفـــحُ

*

لا أنـا الـصّـاحـي فـأغـفـو عـن قـذىً

أو أنــا الــنـائــمُ جــذلانَ فــأصــحــو !

*

لـم تــزلْ صــفـحـةُ عــمـري زَبَــداً

تـكـتـبُ الأحــلامُ والـيـقـظـةُ تـمـحـو !

 

للشاعر الفلسطيني "موسى حوامدة"

ملامح أوليّة لسيرة الشاعر الذاتيّة:

الشاعر موسى حوامدة (وُلِد في 25 فبراير 1959 السموع، الخليل – ) شاعر فلسطيني- أردني الاقامة، يُعَد شخصيّة بارزة في انطولوجيا الشعر الفلسطيني وشعر الحب العربي. الشاعر موسى عضوًا في رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب، وهو أيضًا عضو في نقابة الصحفيين الأردنيين. شارك في عدّة مهرجانات عربية وأوروبيّة، وتُرجِمَت قصائده إلى عدّة لغات،

درس الإعداديّة في مدرسة السموع، ثم انتقل للخليل لدراسة المرحلة الثانويّة، اُعتُقِل أكثر من مرة عندما كان طالباً هناك من قبل جيش الاحتلال. التحق بالجامعة الأردنيّة للدراسة في كليّة الآداب، وسجن في الأردن لأسباب سياسيّة، وتخرج من قسم اللغة العربيّة عام 1982.

صدر للشاعر: خمسة عشر ديوان شعر نذكر منها:

1-  المجموعة الشعريّة"شغب"1988 –

2- المجموعة الثانية (تزدادين سماءً وبساتين)، وهي عبارة عن قصائد حب 1988 –

3-  وديوان "شجري أعلى" 1999-   وهذا الديوان أثار حفيظة المتطرفين الإسلاميين. صودر الديوان عام 2000 وواجه تحديات قانونيّة حتى عام 2002 عندما تمت تبرئته من تهمة تحقير الأديان ومخالفة قانون المطبوعات، إلا أن النائب العام استأنف الحكم ضده. وفي عام 2001 حُكِم عليه من قبل محكمة جنايات عمان بالسجن ثلاثة أشهر بتهمة مخالفة قانون المطبوعات والنشر بمصادرة كتابه "شجري أعلى" في الأردن.

4- المجموعة الشعريّة الخامسة "من جهة البحر" الصادرة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت. 2004.

5- والمجموعة السادسة "سلالتي الريح عنواني المطر"، عن دار الشروق عام 2006: والذي حاز على جائزتين فرنسيتين في نفس العام.

6- ومجموعته "موتى يَجرُّون السماء" من إصدارات دار أرابيسك بالقاهرة. 2011:

7- وديوان «جسد البحر رداء للقصيدة» ، من إصدارات دار نون الإمارات. 2015

8- المجموعة الرابعة وهي بعنوان "أسفار موسى العهد الأخير" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2002 .  مع حذف بعض القصائد من قبل إدارة المطبوعات. وهي المجموعة التي اخترنا منها القصيدة موضوع النشر: " ولدت من بطن غيمة".

وإلى جانب إنجازاته الشعريّة، تعمق "موسى" في الأدب الساخر بثلاثة كتب نثرية، منها "حكايات السموع" (2000)، الصادرة عن دار الشروق في رام الله وعمّان. وترجمت منه ليلى الطائي ملتون لمجلة بانيبال الإنكليزية في العدد الأخير الذي كُرِّس للأدب الفلسطيني الحديث.

كُرِّم "موسى" لمساهماته الأدبيّة من خلال العديد من الجوائز. حصل على جائزة رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء في عام 1982 عن قصيدته "الفراغات". والجدير بالذكر أنه حصل في عام 2006 على جائزة "لا بلوم" (الريشة) (بالفرنسية: La Plume) المرموقة، وهي الجائزة الكبرى التي تقدمها مؤسسة "أورياني" الفرنسية (بالفرنسية: Fondation Oriani)، كما نال جائزة مهرجان تيرانوفا الفرنسي، وجائزة المهاجر الأسترالية للشعر عام 2011.

كتب عن شعره العديد من الكتاب والنقاد العرب، مثل –بلند الحيدري – محمد علي شمس الدين – بشرى البستاني –د. محمد القواسمة.. وآخرون كثر. كما قام المخرج ناصر عمر بإخراج فيلم عن تجربته الشعرية ضمن برنامج هؤلاء الآخرون".

لمعرفة المزيد عن سيرة الشاعر "موسى حوامدة" يراجع موقع "ويكيبيديا".

البنية الدلاليّة والفكريّة للقصيدة:

أن تكون فلسطينيّاً، أي أنت رمز للعذاب والشقاء والتشرد والضياع والقهر والحرمان... نعم هكذا تحول الفلسطيني إلى رمز لكل ذلك، لقد جسدته رمزاً عذابات قرن من الزمن، دون أن يلقى إلا القليل من يتعاطف معه ليعيد له حقه الذي سلب منه أمام أعين العالم بشكل عام، وأعين ذوي القربى بشكل خاص.

وإذا كان المواطن الفلسطيني يحس بعذابه ويعرف أسباب مأساته، فالشاعر أو الأديب الفلسطيني، هو الأكثر قدرةً على فهم واقعه ومأساته وبالتالي ترجمة أحاسيسه ومعاناته والتعبير عنها ونقلها عبر الأجيال...

وهذا هو واقع الشاعر "موسى الحوامدة" الذي كرس معظم جهده وإبداعه من أجل قضية شعبه الفلسطيني بكل معاناته، من جوع وتشرد وآلام ويتم وضياع وغربة وفقد...

ففي قصيدته " ولدت من بطن غيمة" تتجلى لنا عبقريّة الشاعر مع عنوان القصيدة، فالغيمة العابرة ليس لها وطن تحط فيه وتستقر، إنها غيمة عابرة تتقاذفها الرياح ولا تعرف أين تحط رحالها، وهي هنا شبيهة بالفلسطيني الذي تقاذفته الرزايا بعد أن سلبت منه أرضه من قبل المستعمر الغاصب دون وجه حق، وبعد أن زور زناة التاريخ تحت وهم أساطير قالوا فيها بأن هذه الأرض لشذاذ الأفاق وليس لأهلها الشرعيين الحق فيها، وصدقهم مجرمو التاريخ أيضاً الذين عملوا من فلسطين حصان طروادة لتحقيق طموحاتهم ومصالحهم في هذه الأرض وما يحيط بها. فكانت النتيجة كل هذه العذابات التي عاشها ويعشها الفلسطيني اليوم.

يقول الشاعر "موسى": واصفاً كل تلك المعاناة التي يعيشها شعبه، هذا الشعب الذي أصبح فيه الفرد، وهو واحد منه شبيهاً بقطرات ماء تحملها غيمة سابحة في هذا الفضاء دون أن يعرف أين سيهبط، وعند هبوطه سيهبط خفيفاً لا يحمل معه إلا جسده وذكريات طريّة في ذاكرته مسجل فيها كل معاناته وقهره وتشرده.. يهبط دون مأوى، شريداً تصفعه شدّة الرياح، وتحرقه حرارة الشمس... وتتجاذبه بلاد الله التي لا يعرف كيف يستقر فيها.. لذلك هو يحاول في مضمار مأساة هذا التشرد أن يعيد توازنه، وأن يجد مستقراً له كي لا يضيع أو يهرب كطير لا يعرف إلى أين... إنه يحاول في غربته أن يتسامى ويتماسك رغم كل معاناته كي لا يسقط ويتلاشى .. فجذوة البقاء والتمسك بالحياة من أجل العودة إلى الوطن منحته كل هذا القدرة على التحمل والبقاء. يقول الشاعر " موسى حوامدة":

ولدتُ من بطن غيمة

هبطتُ إلى الأرض خفيفًا...

كأني لا أُبصرْ

الريحُ تَصْفَعني

الشمسُ تنزعني

الوديانُ تجذبني

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

ثم يتابع الشاعر رسم مأساته المتضمنة بالضرورة مأساة شعب فلسطين، بأن الكل قد تخلوا عنه، فمن ينتمي إليهم في العروبة من ذوي القربى أنكروا هذا الانتماء، ومن رفع نظره إليه عالياً وطلب العون تخلى عنه أيضا، وتركه فريسة لرب دين آخر غير ربه لا يعرف إلا القسوة والجريمة بحقه وحق كل فلسطيني أو مختلف.. لقد أصبح كل من شرّد إليهم أعداءً له.. فلم يعد يعرف طريق العودة إلى وطنه فلسطين بعد أن سدّت أمامه كل الطرق، وكيف لا تسدّ هذه الطرق وعدوه من ربط العهدين القديم بالجديد وآمن بأن المسيح لن يعود إلا إذا كانت فلسطين للصهاينة. يقول الشاعر "موسى حوامدة"

الرعدُ أَنْكر أبوتي

السماواتُ تخلت عني

الأرضُ عدوَّتي

كيف أعود ...

كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!

عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:

هناك مناهج تمثل مدارس وتيارات أدبيّة ونقديّة متعددة، لكل منها منهجية الخاص في تحليل النصوص، والمقصود بالتحليل هنا هو القراءة العميقة للنصّ، أي الإحاطة بالمقاصد والمعاني والدلالات التي يسعى النصّ تبليغها للمتلقي الذي تتفاوت قدراته القرائيّة بين القراءة السطحيّة والقراءة العميقة.

والنص الذي بين أيدينا هو لشاعر متمكن من حرفته، والشعر عنده لم يأت ترفاً أو تسليةً، وإنما الشعر بعمومه عنده وسيلة فكريّة وفنيّة تحمل أبعاداً اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة، يريد الشاعر عبرها أن يقول ما يشغل ذهنه وعقله من قضايا الوطن والأمّة والإنسان. وتأتي قصيدته " ولدت من بطن غيمة: أحد اشتغالاته الشعريّة التي وصف فيها حال الفلسطيني المشرّد والمقهور كما بينا عند حديثنا عن البنية  الدلاليّة والفكريّة للقصيدة. فدعونا نتعرف هنا على البنية الفنيّة والجماليّة لهذه القصيدة.

نقول: بالرغم من أن القصيدة تقع في مضمار "الشعر المنثور" وهو الشعر الذي لم يجرأ إلا القليل من النقاد على نقده لما له من سمات تختلف في حقيقتها عن سمات الشعر العمودي أو شعر التفعيلة. كغياب الموسيقى الخارجيّة في النص من وزن وقافية، وكذلك تحررّها إلى حد كبير من الأنماط التفكيريّة المؤدلجة، إضافة إلى سيادة السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في القصيدة، وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. والأهم في هذا السمات هو الغموض الذي يتجلى في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير لدلالاتها. وبالتالي ما يجعلها مفتوحة الدلالات أمام المتلقي، لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.

نقول بالرغم مما تحمله قصيدة النثر من هذ السمات الاشكاليّة أمام الناقد، إلا أن الشاعر "موسى" بعبقريته وتجربته العميقة استطاع تذليل الكثير من هذه الاشكاليات من خلال الصياغة الفنية لهذه القصيد وما حملته من قيم جماليّة وفكريّة.

أولا: الصورة في بنية القصيدة:

تشكل الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في النص الأدبي، إذ يلجأ الأديب عادة إلى تغليف أفكاره وتثبيتها في نفس القارئ بالصور، كما أنها توقظ العواطف، في لغتها التصويرية. وكلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في أذهان القارئ.

وفي الأدب عمومًا لابد من الصور التي تأتي مباشرة أو صور جزئيّة كالصور البلاغيّة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، أو تأتي بحالة تأليفيّة تلتحم أجزاؤها لتشكل رقعة كاملة مترابطة. وفي العادة يراوح الأديب بين الصور الكلية والجزئية، وكثيرًا ما يميل الأدب الحديث إلى الصور الكليّة التأليفيّة،

والدارس للنص الأدبي يلتفت إلى تكوين الصور في النص وترابطها وانسجامها مع الفكرة، ويلحظ كذلك سمات وخصائص  الصورة هل هي (ماديّة حسيّة) أم (تخيليّة) بعيدة عن الواقع ولكنها تعبر بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك عن قضايا الواقع. كما ينتبه الدارس للنص إلى (حركة الصورة وعمقها وتلوينها)، ويأتي التلوين عادة بأصباغ الانفعال النفسي عند الأديب الذي يحاول نقلها إلى القارئ.

وما يميز قصيدة " ولدت من رحم غيمة" إن الشاعر استطاع أن (يجسم) المعاني الخفيّة في قصيدته  لتصبح بالصورة باديةً جليةً، ويمكن رؤيتها أو لمسها. حيث يقول:

(ولدتُ من بطن غيمة) وفي (هبطتُ إلى الأرض خفيفًا... كأني لا أُبصرْ). أو في (الريحُ تَصْفَعني ... الشمسُ تنزعني ... الوديانُ تجذبني...) أو (الرعدُ أَنْكر أبوتي .. السماواتُ تخلت عني.. الأرضُ عدوَّتي..كيف أعود... عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.) .. الخ. من هذه الصور العقليّة التخيليّة التي تنقلك كل صورة منها إلى عالم مأساة الفلسطيني مشخصةً في واقع حالهم الذي لم يعد خفيّاً بالأصل عن أحد... هذا مع تأكيدنا على الحالة الجماليّة في الصورة الخاصة والعامة في بنية القصيدة رغم مأساة دلالاتها، حيث استطاع الشاعر ان يوظف مفردات البلاغة من تمثيل وتشبيه واستعارة، التوظيف المتقن لشاعر مبدع، حقق الإدهاش عند المتلقي رغم مأساة الأغراض الفكريّة والإنسانيّة في بنية النص.

ثانياً: القناع في النص:

إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو اعتمادها على الرمز والاشارة والايحاء وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى  التعبيرعن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء لحالات وجدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة والايحاء والتلميح. فالقناع بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.

نقول: رغم أن الشاعر أو الأديب يلجأ إلى استخدام القناع في نصه للتغطية على أبعاد سياسيّة أو اجتماعيّة او عاطفيّة في الغالب، إلا أن الشاعر " موسى حوامده" استخدم في قصيدته القناع هنا بطريقة فنيّة رائعة، فهو استطاع أن ينقل المتلقي عبر كل صور النص الحسيّة منها والمتخيلة، لذاك الفلسطيني الذي ولد من بطن غيمة ليس لها مستقر، وراح يعاني في عالم الواقع الذي لم يرحمه أو ينظر في مأساته.

فبطن الغيمة هنا إشارة إلى حالة التشرد التي حلت به.  وهبوطه على الأرض (خفيفاً) هي حالة توحي إلى أنه بعد تشرده لم يحمل معه إلا جسده المتعب وعقله الشقي المثقل بذكريات لن يمحوها الزمن، ورؤية مشوشة لا تعرف الطريق الذي سيوصله إلى مستقر آمن.  أما إشارته إلى عصف الريح .. وحرارة الشمس .. وتجاذب الوديان، إلا إيحاءً إلى معاناة الفلسطيني بعد تشرده وضياعه في غابة لم يعد يعرف كيف الخروج منها. وهذا ما تشير وتوحي به بقية الصور في بنية القصيدة، ليصل أخيراً إلى المضمر في مأساته وأسباب تحققها وهي (أسفار موسى العهد الأخير.). التي التحمت بالعهد الجديد وشكلت رمزاً لكل من تصهين وآمن بأن عودة السيد المسيح لن تكون إلا إذا عاد اليهود وخاصة الصهاينة إلى أرض فلسطين التي يجب أن يقلع شعبها الأصيل من جذوره.

ثالثاً: النغم والايقاع في القصيدة:

لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة النثر على الوزن والقافية، ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد لكونه أشمل من الوزن والقافيّة  ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دورا ًبالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة، ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة، وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة " ولدتُ من بطن غيمة" للشاعر الكبير المبدع "موسى حوامدة. لقد استطاع عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفها في النص الشعري، أن يمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصه كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. يقول الشاعر: (ولدتُ من بطن غيمة...هبطتُ إلى الأرض خفيفًا... كأني لا أُبصرْ.. الريحُ تَصْفَعني..الشمسُ نزعني..الوديانُ تجذبني...). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها، يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا.

رابعاً: التكرار في القصيدة:

إن ورود التكرار في النص الشعري عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. أي هو الحاح على فكرة هامة في النص الشعري يريد تأكيدها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك – أي التكرار - ذو دلالة نفسيّة قيّمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، مثلما التكرار يشكل في القصيدة أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافيّة، أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص.

من هنا يأتي التكرار في بنية قصيدة "ولدت من بطن غيمة" للشاعر " موسى حوامدة" إن كان في الكلمة أو العبارة  أو الحرف، بغية تأكيد المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني...

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

فهنا جاء تكرار عبارة (كي لا) في سياق الجمل التي تكرر فيها، لإشعار المتلقي بأن الشاعر وما يمثله من حالة إنسانيّة، لم يزل متمسكاً بأرضه ووطنه وقضيته، ولن يذوب أو يسقط أو يطير بعيداً في المجهول.

وعندما تنكر لمأساته الجميع من ذوي القربى ودعاة القانون الإنساني الدولي وكل الديانات، وباعوه تحت ذريعة أوهام وأساطير تاريخيّة. راح يكرر متسائلا: (كيف أعود ... كيف أعود إلى رحم غيمتي؟! عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير).

أما تكرار حرفي النون والياء معا، وكذلك حرفي التاء والياء معاً في العديد من جمل القصيدة (تَصْفَعني... تنزعني... تجذبني... عني..). وكذلك تكرار حرفي التاء والياء معا: (عدوَّتي.. أبوتي.. عدوتي..غيمتي... ). فقد جاء التكرار هنا من أجل تنويع الإيقاع الداخلي، وتوضيح المعنى وتأكيد دلالة قهر الشاعر وظلمه وغربته عن وطنه روحاً وجسداً.

خامساً: اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

سادساً: العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وقد يكون الانفعال هادئًا أو متوسطًا أو جامحًا؛ فالغزل يناسبه الهدوء، والحزن كذلك، وبين الأول والثاني اختلاف في اتجاه الهدوء، فالأول هدوءٌ إيجابيٌ متمددٌ فرح، والثاني هدوءٌ منكمشٌ حزين. أما الغضب فهو انفعالٌ جامح.

إن ما يميز العاطفة في القصيدة، أنها مشبعة بالحس الإنساني، والوطني، والمشاعر المحركة لهذه العاطفة، مشاعر حب وحزن وألم وانتماء، وهي عميقة وصادقة وجياشة، استقرت في عقل ورح إنسان سلبت أرضه، وشرد كغيمة في سماء لا يعرف لها حدود أو مستقر.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سورية:

.................................

ولدتُ من بَطن غيمة

الشاعر موسى حوامدة

ولدتُ من بطن غيمة

هبطتُ إلى الأرض خفيفًا...

كأني لا أُبصرْ

الريحُ تَصْفَعني

الشمسُ تنزعني

الوديانُ تجذبني

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

الرعدُ أَنْكر أبوتي

السماواتُ تخلت عني

الأرضُ عدوَّتي

كيف أعود ...

كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!

عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.

***

من ديوان (لست موسى يا أبي).

رواية الخروبة يمكن إدراجها ضمن أدب السيرة الغيرية، حيث أن الكاتب الحفيد يكتب لنا ما يشبه السيرة أو جزء منها لسيرة الجد. ولأنها سيرة غيرية فمن الطبيعي أن يطلق الكاتب العنان لمخيلته لتوضيب ما سمعه سواء بالتواتر او من أفراد العائلة الذين عايشوا تلك المرحلة الزمنية دون ان يحيد عن الخط الدرامي للحكاية وأصلها.

 حدس الأم كان لافتا ذلك الصباح الذي لم يكن مثل كل صباح بالنسبة لمِصلحة أم رشيد، هاجس غريب عبث بخدر الجسم وأبعد عن العينين سكينتهما، وبات الفراش غريبا يتنكر لمهمته كمكان تستمد منه بعض الطاقة للغد.

 أحداث الرواية جرت زمن الإحتلال العثماني للوطن العربي، والحدث الأساسي التي انطلقت منه هو مجيء الخيالة في الجيش العثماني لإصطحاب رشيد للتجنيد الإجباري، ولم يشفع له كونه الإبن الوحيد لأبويه فأوامر السلطان واضحة تجنيد يعني تجنيد.ولقد ترك هذا الأمر انعكاساته على العائلة. فوالده عبد الرحمن بحدث نفسه ويتساءل: "هل حقا سيعود ومتى؟ لقد كان وجوده عونا حقيقيا لي فهل أراه مجددا؟ هل سيكون على هذه الارض من يخلد إسم هذه العائلة بالولد وولد الولد؟ عندها تراقصت الشفتان واستجابت العينان بدمع حارق، وحرص الوالد ان تكون البنات خارج السقيفة خشية ان تراه فدمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألما في نفس الاب إن هي لاحظتها. ولم تكن الأم بأحسن حال من الأب فقد تاهت في دوامة من الاسئلة: كيف سيكون أمر طعامه وشرابه؟ من يعتني به؟ أين سينام وهل سيأخذ كفايته من النوم؟. وفي موضع آخر يصف لنا الكاتب حال النسوة الأمهات اللواتي لذنّ بصخرة تطل على الطريق ليودعنّ الركب والأبناء وفي كل عين دمعة، وفي كل قلب حرقة، وفي كل نفس ضيق والحيرة تتملك الوجوه.

  قدمت لنا الرواية رشيد ذلك الفتى الفلسطيني الحريص على كرامة وعنفوان أبويه فهو يأبى لهما الظهور بمظهر المستعطف أو المتذلل أمام العسكر العثماني بل تقدم وبكل شجاعة قائلا: "ولا يهمك يابا، يبدو أن لا طريقة للفكاك، هون عليك واعتنِ بأمي وأخواتي وسأعود إليكم". وفي موضع آخر عندما انتدب رشيد مع مجموعته للقبض على من يصفه العثماني بأحد الأشرار الذين يتاجرون بالمحرمات ويضايقون الأهالي، وبعد ان انطلق رشيد بمجموعته قال لهم "اسمعوا يا جماعة نحن لا نعرف عن هذا الرجل شيئا قد يكون شرير فعلا والأرجح ان يكون معاديا للدولة التركية لأسباب أخرى فعمدت لإلصاق هذه التهمة به لتأليب الناس عليه، ويريدون منا أن نكون مخلب قط ينقضون به على أعدائهم وأنا لا أود لكم ولا لنفسي القيام بهذا الدور". هنا تقدم لنا الرواية صورة بأن الفلسطيني بطبعه يميل لنصرة ابن جلدته ووطنه ولا يسلمه للغريب المحتل. وفي موضع آخر تبرز الرواية الصفات القيادية التي تمتع بها رشيد والتي جعلته مسؤولا عن تدريب رفاقه، كما وانه استطاع ان ينسج معهم علاقات صداقة وأصبحوا يطمئنون لوجوده بينهم.

  أجاد الكاتب في توصيف الوضع المعيشي للأسرة في الريف الفلسطيني، حيث كانت أسرة رشيد مؤلفة إلى جانب أبويه منه ومن اختين، يعيشون في بيت هو السقيفة ولا يملكون من سبل العيش سوى زوجين من الماعز وبضع دجاجات وديك وحمار للركوب او لنقل المحاصيل في المواسم كمواسم الزيتون وغيره من المحاصيل. كما اتت الرواية على معاناة الناس من شح المحاصيل وضيق ذات اليد، ومع ذلك كانت السلطة العثمانية ترهقهم بتقدير الضرائب على نحو لا يتناسب وقدراتهم المالية. وفي إشارة قد تكون لا تزال قائمة في بعض البلدان إلى يومنا هذا فبعض الدول لا تتذكّر رعاياها عندما يستحق تعليمهم، ولا تؤمن لهم رعاية صحية وإستشفائية، ولا ظروفاً معيشية لائقة. ولكنها تتذكرهم عند جني الضرائب أو الحاجة إلى شبابهم لتزج بهم في أتون حروبها.

كما أشارت الرواية إلى حالة التكاتف والتعاضد بين الأهالي حيث كانوا يتداعوا إلى طعام مشترك يأتيهم من البيوت ومعظمه يغلب عليه العدس والبقوليات. وايضا عندما اراد مختار إحدى القرى إطعام الخيالة والذين معهم ووفقا للدور المتبع نادى المختار على ثلاثة من الرجال قائلا:" الله يخلف عليكم يا عميّ ولا تنسوا تعلقوا للخيل". وأيضا عندما أقدم أبو سليم صديق عبد الرحمن بتزويده بكميات من السكر والشاي لندرة هذه المواد في الاسواق. كما تنقل لنا الرواية طبيعة الأحاديث التي كان الجمهور يتناقلها فلا تنقل صافية كما هي بل يطالها التبهير والمبالغة في أحيان كثيرة.

  المكان كان حاضرا في هذه الرواية فقد أتى الكاتب في سياق سرده على العديد من الأمكنة والمعالم التي عبرها رشيد من حين التحاقه بحملة التجنيد ولغاية وصوله إلى بعلبك في البقاع اللبناني وما تلا ذلك. والبداية من قريته جيبيا لتكر سبحة الأماكن التي مرت بها قافلة التجنيد ومنها، بير زيت، كوبر، برهام، أم صفاة، خربة "صِيّا"، كفر أشوع ، عجول، القدس، بيت صفافا، دير الشيخ، طولكرم، جنين، العفولة، حيفا، طبريا، بيسان، رام الله، سمخ التي اصبحت لاحقا مستوطنة تسيماح، دمشق وأسواقها المتنوعة وأيضا مدينة بعلبك اللبنانية وغيرها من الأماكن. كما ذكر لنا أسماء بعض المقامات في القرى والبلدات مثل مقام بايزيد، أحراش النبي صالح، مقام الشيخ محسن ومقام الأربعين. وفي إشارة موجزة عن بعض المدن توضح الرواية اصل تسمية طولكرم بأنها طور كرم أي جبل العنب، كما أن بيسان كانت عاصمة الفراعنة خلال حكمهم لفلسطين، وكذلك جنين تعتبر حارسة مرج بني عامر وهي غارقة في التاريخ إلى زمن الفراعنة. أما بعلبك فهي بعل أي الإله وبق بمعنى البقاع لتكون بعلبك موطن إله البقاع. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى القائد الفلسطيني ظاهر عمر الزيداني الذي اقام أول كيان فلسطيني في القرن الثامن عشر فحكم عكا وأنشا مدينة حيفا وفي هذا إشارة إلى عراقة الوجود الفلسطيني في تلك المنطقة.

المكان المركزي الذي تذكره الرواية والذي استمد منه الكاتب عنوان روايته هو موضع الخروبة المعروفة بخروبة النحلة والتي سميت بهذا لأن نحلة استقرت بين أغصانها وجعلت لها فيها مقراً. والتي أصبحت بمثابة الصومعة لأم رشيد التي سارت إليها لترقُبَ الركب الذي إبتعد مصطحبًا وحيدها معه وكأنهم شدذوا جزءاً من روحها. ولقد جعلت مِصلحة من الخروبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر تترقب عودة ابنها وتعد نفسها لمراسم إستقباله. وأصبحت الخرّوبة مكانًا للجلسات واللقاءات للصديقات والقريبات والجارات وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم. وفي إشارة رمزية حول ما آل إليه مصير تلك الخروبة تقول الرواية انها اختفت ويرجح ان يكون الإحتلال قد اغتالها لاحقا لما تمثله في الذاكرة الشعبية لفلسطينيي تلك المنطقة وهذا ليس بغريب عنه فمن يغتال البشر لا يتواني عن اغتيال الشجر.

لا بد من الإشارة إلى ان الرواية تضمنت بعض الأمثال الشعبية التي لا تزال حيّة ليومنا هذا مثل:

- اللي بيوقع من السما بتتلقاه الأرض، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني، بيت البنات خراب ومن سرى باع واشترى. وإلى جانب هذه الأمثال كانت اللهجة المحكية حاضرة أيضا في الرواية مما أضفى عليها الكثير من المصداقية والواقعية.

ملاحظة أخيرة تورد الرواية بعض الإشارات المستقبلية بحيث تدفع القارىء للتساؤل هل الكاتب بصدد كتابة الجزء المتمم لها، ومن هذه الإشارات مثلا: لم يعلم عبد الرحمن في حينه أن حفيده وحامل اسمه وكنيته أبو رشيد سيناضل في سبيل إنشاء مؤسسة تعليمية في منطقة بيرزيت تحمل اسم مدرسة الأمير حسن. وأيضا عندما كان رشيد يتلقى الضربات بالسوط من العثماني يتساءل الراوي هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد التعذيب في السجون الإسرائيلية؟.

انتهت الرواية بعودة رشيد غلى عائلته وبلدته واندحر الإحتلال العثماني على أمل ان تتحقق نبوءة رشيد " أما ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد" وكلنا أمل ان يكون ذلك العهد الجديد بزوال الإحتلال الحالي إسوة بما سبقه من إحتلالات..

 ختاما رواية واقعية أرّخت لحقبة تاريخية محددة وكتبت بلغة رشيقة بحيث تجذب القارىء وتأسره للمتابعة.

***

بقلم عفيف قاووق- لبنان

من خلال استقرائي لنصوص الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فهو المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح، فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق، فقد أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية على ما أنتج من كتب أدبية شعرية وسردية في المشهد الثقافي العراقي، فكانت ثلاث كتب بعناوين لافتة، تنم عن مكنوناته النفسية وتعامله مع ما يؤثر في شخصيته وحياته المعيشية وتطلعاته وطرق كتابته، فهي على التوالي مجموعة شعرية نثرية (ريشة لطائر منقرض) ومجموعة شعرية نثرية (أهناك مَن يرى؟) وكتاب سردي يقع ضمن الكتب السير شخصية بعنوان (ليس للأسى نبع)، ونظرا لرغبة في المشاركة بمهرجان المربد العالمي، آليت أن أكتب هذا البحث على عجالة، فالغضب لا توجد دراسات كثيرة ومعمقة في تناوله، ولم يخضع للدرس الأكاديمي الأدبي، فقد وجدت أنه نوقش من جوانب مرضية في علم النفس، ومستهجن في الآيدلوجية التقليدية الإجتماعية والدينية ومنهى عنه، فقد قيل في الغضب:

-الغضب يفسد المزاج ويغير الخلق ويسيء العشرة، ويفسد المودة ويقطع الصلة.

-يعصرني غضب أحمق على نفسي أنني أفسد كل شيء واحرق من خلفي المراكب

- الغضب ريح تهب فتطفيء سراج العقل.

- الجهل غضب صامت.

قال الرسول(ص):

قال رجل لرسول الله أوصني، قال: لا تغضب، قال أوصني، قال: لا تغضب، لأنَّ الغضب يسبب شرَّاً، ويسبب خطراً عظيماً.

التمهيد:

دخل الغضب في شتى أصناف القول الشعري بدأ بالعدو وانتقل إلى الزمن والح والمرأة والحياة، فالإنسان في طبعه الغضب، حينما يتعرض للضياع المقصود والقدري، وهو من الصفات التي نهى عنها الدين والعقلاء، وقربوه من الجهل، ولكن ما حيلة المغصوب حقوقه في حقول الحياة؟

فالحديث عن كتب الصالح التي اطلعت وجدت العنوان وكما هو في كل المجالات وفي مختلف الأماكن يُضع لأسباب نفسية، أمّا لجب الانتباه وشد الشخص أو القارئ أو المشاهد أو المتحرك ليقف وهو يرى لافتة، فهذه اللافتة تفرز للمتلقي نوع من الاستغراب أحياناً، أو الفضول لمعرفة ماهية هذا الاسم وأن كان محل لمواد اسم لمطعم أو محل أو على بناية لمنظمة أو عنوان لكتاب، ومن خلال هذه السنين التي عبرت من العمر، واجهت الكثير من العناوين، أحببت بعضها ونفرت من الكثير واحتفظت بالكثير، فمنها فردي الكلمة وثنائي وجمل طويلة ومنها المستعرب والتراثي الغريب، لكن كُتبَ صالح رحيم الثلاث، من العناوين التي تقع كما أدّعي أن أطلق عليها (كتب الحال) وكتب الحال هذه تشي من أول اصطدام بتصورات على أنك تعرف وتفهم ما في داخلها بأنها قادمة من الأعماق، من رحم المكابدات، أسماء ممكن أن تُكَوّن فكرة عنها قبل أن تلجها، أعني بالإمكان قراءة دلالاتها دون قراءتها، على الرغم من أن هناك عناوين لكتب لا تشبه متنها، فكتابه الأول (ريشة لطائر منقرض) يدفعك بالتفكير بالطائر أولاً، ثم بالانقراض ثانياً، وتستنتج وانت تمر على العنوان (الانتهاء) والمحو، وأنه غير موجود حاليا على الأرض، وما يدل على وجوده السابق هذه الريشة، فهو يقع ضمن المجول، وفي دلالة المجهول يقع آلاف العراقيين، الذين يعانون الانقراض ومنهم قرية صالح وعائلته ونفسه، فالدلالة على انقراض صالح هو كتابه نفسه، الذي تحمل معناه الريشة، فالشعور الذي يلزمنا حين نقرأ نصوصه التي يُخرج ما في داخله فيها من رفض تحول ضمن تفاعل داخلي إلى غضب بمفرداته العنيفة أحياناً والمتمردة دائماً وإن أضاف إليها اسناد جملي باهر ووضع عليها بعض مساحيق التجميل وضربة من احتراف كتابي، وموهة في تركيب الجملة ألا أنه يعاني من الاهمال وعدم الاهتمام و(ريشة لطائر منقرض) كتبه ومازال طالبا في الدراسة المسائية، بل الطالب المكافح القابع بقرية تابعة لقضاء الخضر، يعاني من أنواع الأشواك الحياتية الجافة.

ولكنه كموهوب لابد أن يصل وحين اختلط بالجمع المثقف، أوصل صوته إلى الحقل الأدبي عانى من بعض النفوس المريضة ولم يكن بحالة لزيادة الأشواك فلديه الكثير، فأطلق كتابه (أهناك مَن يرى؟) فهو مهووس في السؤال هذا السؤال يشمل الكثير على الرغم من أن الجميع مبصرين، أو لهم عيون ألا أنه يعرف لا يرونه، وحال كل منتج يحتاج للمشترين، فما قيمة البضاعة أن لم يكن هناك روّاد ومعجبين ومترددين ليروا ما لديه؟ وربما كان يريد أكثر من كونه شاعراً يحتاج لمن يرى حاله ووضع حياته وحال بيئته وافرادها، فالسؤال للبحث عن الصالحين والباذلين الذين يمدون يد العون دون السؤال ولو مع النفس عن الفائدة, فهم يعملون ضمن الفضاء الانساني الشاسع، فهذه الجملة الاستفهامية (أهناك من يرى) تولِّد سؤال آخر في المتلقي ترى ماذا يريد صاحب الكتاب إن رأيت ما في داخله، وماذا يحمل الكتاب في تضاعيفه؟

أما بعد أن مَنَّت كورونا علينا بهمها وألمها الغير محسوب وانجلاء غبرتها، وتنفس العديد من الطلبة هدنة القساوة في الامتحانات، دخل صالح قسم الفلسفة وهو القسم الذي أراه مكملاً لشخصيته على الرغم من قلة الانتفاع المادي في الوقت الحاضر، أنتج لنا كتاب أطلق عليه (ليس للأسى نبع) وهو كتاب سردي وثّق فيه مقدار المأساة التي مرت به، ومشاهداته ورأيه بها، وملاحظاته وقناعاته، ولكن غلبت عليه النظرة السوداوية، ففي الكتاب نفس ناقمة وروح تفتقد إلا لأدنى أدوات الأمل، فتحليل هذا العنوان يبدأ بفعل ناقص لا يولد، فهو عقيم يفيد النفي، لهذا فهو بائر كأرض صالح الغاضبة والممحلة، وكلمة(الأسى) وهذه الكلمة المستعمرة التي ينضوي تحتها المعاناة والآلام والتعب، والوحدة وعديد من الخسارات الباهظة، أمل كلمة(نبع) في المشرقة دون نور يذكر فهي موجودة في السياق غير فاعلة في العمل النفسي لنفيها من تواجد المحل إلا في الجملة، مجرد كلمة إفهام في الجملة على الخلو، وشعرنا يعتقد أن الأسى قدرياً، ولا يأتي من مسببات حياتية مادية، أو بشرية وطبيعية، هو قدر مكتوب ولا بد من معايشته.

في الكتب الثلاثة أستشف غضب الشاعر أورثتها له الطبيعة والبيئة والمجتمع، وربما من قوة القدر، وهو رافضاً المصالحة والمهادنة مع أي منها، ولسان حاله يقول: هي دروب كُتِبتْ علينا فما باليد من حيلة من أن أمشيها مقاتلاً ساخطا.

التأثير البيئي الذي يولد الغضب:

الثقافة الشعبية موروثاً غنياً للعمل الأدبي والعلمي وخاصة في الحقل الإنساني، ومهما تعددت اشكالها وخاض بها من خاض إلا أنها دائما بكرا، فالتراث الشعبي على الرغم من أهميته، وقلة المشتغلين به ألا أنه ثروة تحتاج لينفض عنها الرماد، وهي تمدنا بأصوات وفكر غني بفعل عوامل مختلفة أهمها المكان، وعوامل الإجهاض مستمرة لقتل الروح النامية فيها بمختلف الأوامر وفق التحولات الراهنة ومدى تأثير ذلك على النتاج اللغوي ابتداءً من مفهوم العائلة المتماسكة على المستوى الأفراد وشبكة العلاقات.

حينما أتحدث عن الغضب في شعر(صالح رحيم) أتحدث عن قرية ميتة أو شبه ميتة، أو قريبة من الموت، وشهدت تغييرات (كمجتمع) وتحولات عميقة شملت مختلف بنيتها الاجتماعية، لم تشهدها في تاريخها الماضي لبروز قيم جديدة كسرت التابو العشائري، واختلفت فيها الطبقات التي انتجتها خلال سنوات عمرها.

ما هي اهم التغييرات التي طرأت على المجتمع بصورة عامة وشملت هذا المكون من البيئة المحلية الت يلها تأثير مباشر على حياة الشاعر؟

التغيير الاجتماعي: ويشمل تغير الآليات والأساليب المتبعة داخل الهيكل الاجتماعي، كالرموز الثقافية وأنظمة القيم، وقد تنوعت وفق عوامل تغير ضاغط خارجي، ومنها:

العامل الفكري: علمنة الفكر في تطور الطابع النقدي، حيث تأثرت المنظومة الاجتماعية تأثرا ملحوظاً في التطور العلمي وفي كافة المجالات مما أدى بالزحف على المبادئ والقيم المتوارثة، وكسر قيد التحكم الحاصل للعادات المتوارثة، أحدثت هزّة في الوعي والنظرة السائدة لدى الشاعر، لأنها أنتجت أساليب جديدة تعمل على أساس عقلائي، ولمّا كانت طبيعة الشاعر أكثر عاطفية وثبات قيمي مع تعاطفه بالقادم وإغراءه إلا أن الصراع الداخلي أظهر غضبا اتجاه القيود المؤطرة بالتطور وتهديم القيم، وبدأ هذا الصراع يظهر عبر مفردات قد تكون غير مقصودة مباشرة، مع وجود رغبة وقتية بالانغماس بالتنوع الجديد والعلمنة لما لها من صوت تعرية للباليات من الموروث وتقديمه لأغلب المتفتحين على انه عوائق في طريق النجاح

والتقدم الثقافي والاجتماعي لدى الشباب، ففي مجموعة (اهناك من يرى[1]؟) وفي صفحة 11، هناك نص(درس) يقول:

إفعل ما شأت،، هذه الليلة

فالغراب في رأسي،، والجثة في العراء

ولدي ما يكفي من النعيق

لأعلم العالم

طريقة دفن جديدة

اجد أنَّه تعلم درساً كافياً ممن ينالوا منه أو منهم كمجموعة ضعيفة في البيئة، لم يعد يهتم، ففي تفكيره النابه صورا متعددة اختار أحدها او اسوئها تعاضدا، الغراب شاهد القتل الأول على الأرض، وجثة الضحية في الفلاة، ففي فكره الذي بدأ يتلمس البياض وعدم صموده أمام الفجائع، يكفيه من أنه مملوء نعيقاً، فلم يعد كما سبق، فهو اليوم صاحب الدرس وعلى العالم أن يتعلم طرقه وأفكاره، فرفضه لم يعد كما كان متلقيا بائساً، الدفن في التراب له طرق، فهذا الغضب الظاهر بـ (لديَّ ما يكفي) لقدرةٍ فكرية جديدة وتحول في طرق غير معهودة.

ففي كلمة(دفن) وهو طمر أي شيء في التراب، لكي تختفي معالمة أو ما يدل عليه لدى الشاعر طريقة دفن جديدة، ربما عملية دفنه في قرية بعيدة عن الضوء، واختفاء أبسط الوسائل التي تتيح لساقية الحياة أن تتهدج في مشيتها، يعتقدها دفن لذا هناك مطلح شعبي متعارف عليه عند ابتعاد الشخص عن التواجد في الأماكن التي يتواجد بها أقرانه وزملائه سوى بعمل بدائرة بعيدة أو بمكان بعيد أو نأى عن الجميع وقطع التواصل، يسأل: (أنت وين دافن روحك) أي أين دفنت روحك، لذا ألاحظ ان الكلمة كبرت وأصبحت شاملة لشتى أنواع الدفن، وصالح يعرف قسما كبيرا منهن فيقول من كتابه السردي(ليس للأسى نبع):

(ليس من الشجاعة ترك الروح والجسد عندما يتعرضان لوحشية الأنا، يبدو أن هناك تعاونا مشتركاً، تبادلية يحتاجها الجميع، ولابد أن يخضع الجميع لمبدأ واحد، لأجل ان يدرك كل منهم ماذا يريد، وماذا ينفع وجوده، وقد توصلت إلى ذلك بنفسي، أن أعامل الثلاثة معاملة العبيد، فلمحت من بعيد نور الخلاص الأول[2]).

بعد تفكير وحمل نفسه على أن يعتمد على شجاعته كموقف من ثلاثة فيه وهم الحاضن لموجودات الله، الروح والأنا، قرر معاملة الثلاثة كلً حسب ماهيته كعبيد ليتظاهر بأن يجلس على مفترش الحقيقة وينظر لما تأول إليه ماهية هؤلاء العبيد فأدرك النور، فالسؤال: هل حقق (صالح) ما يدعي أم أنها مجرد مفردات، أتلمس ماهية الروح ومعرفة ماذا تريد؟ إنه الحنق عن تواجدها بجسد بالٍ كجسدة الصغير الحجم ومادى غضبه من تكوينه الخَلْقي، فنحن في أوقات معينه نكره أجزاء في اجسادنا، وما فداحة العوامل الاجتماعية، وتنوره الفكري الفردي، في وسط لا يشبع نهمه المعرفي، يؤدي بتفكيره على انه (كصالح في ثمود)، لهذا انتج ليس للأسى نبع على أنه قدر مكتوب، فهو إبن بيئة صعبة.

من الأوامر التي تغضب (صالح رحيم) نظام الوصايا الذي يفرضه الكبار حيث يمارس رغباته منذ أن كان صبياً فحملها في تضاعيف فكره، حيث أن كل الرغبات التي تحاكي الغائر في النفس، فمن الرغبات الممنوعة في سن من العمر العرف لا يسمح بها، هي التدخين والغناء والتمثيل والمنع يزحف على اختيار الأصدقاء والسمر معهم، وربما يصدر أمر بتحديد أولئك، فولدت هذه الأعراف الرفض وتحول تدريجيا من جمر يتنامى تحت الرماد في داخله إلى صوت غضب مغطى بالنصيحة، وهو يرى (صالحا) مازال ذلك الصبي الخائف، ففي مجموعة (ريشة لطائر منقرض) حيث بدأ افراغ همَّه في نتاجه، الأول حيث يرى نفسه فتى لائذا بظل ما لكي لا يرى لمجرد أن يدخن سيكارة، ليقول لذلك الصبي:

الطفل الخائف في أقصى المقهى

أقول: لا تخف

لا تخف أُخيّك

ولا من أي أحد[3].

فقد أصبح كبيرا وقادرا عن الدفاع عمّا يريد، ولكونهم أقرانه والذين أتوا بعده صغارا خائفين من سطوة الوصايا الأسرية وخوفا من الانزلاق في متاهات لا تحمد عقباها تبدأ بسيكارة، ولأنه يحمل فكر الصغار الذي غادر، على أن من يدخن سيصبح كبيرا وسط الرجال ووسم بطابع البلوغ الرجولي، لذا يقول له:

الدخان في كل مكان

في رئة المريض

وفي رئة المعافى

الدخان هو مجرد أن تبقى على قيد الحياة

فهو يراه في كل شيء، في الاجساد والنوايا، وهذه النشوة والشعور لا يزيد من قامتك بل يحملك فوق قيود الالفاظ والأصوات، وحرارة التبغ التي تكوي حنجرتك وتبدأ بإشاخة أوتارها فتخشن، فأنت وبقايا الدخان على حافات أوراق الأشجار سواء، كلاكما لن تدوما في الأرض، والدخان يحتل جزءً كيراً من أجسامنا، حيث نملأ ساحات الاعتصام ومجالس الساسة ومعارك الدول ومجالس اللصوص ودسائس الخونة.

العامل السياسي: بما إن الدولة هي ظل الله في حكم المجتمع، لأنها الجهة الوحيدة المخولة لتغيير بعض القوانين وتنظيم العلاقات ولها التصريح أو أ مر أو التفويض بتغيير وتشريع وإلغاء واستحداث بدائل للقوانين التي لم تعد توائم الوضع الحالي، فالقصور المتعمد و الإهمال أو الإغضاء عمّا يريده الشعب ويعتني بمصالحه المهمة في العيش والأمن والمتطلبات الحياتية التي تمسه صورة مباشرة يزعج الشعب كلّه، ولكنه يؤثر تأثيرا قوياّ على المثقف ويؤذي الأديب الذي مُلكه الكلمة وسراج فكره المتفتح الصور المثلى والخيال لما في الحياة من (الشارع والمتنزه ودور السينما والمسرح ومنابر الشعر)، فالتقصير في قوانين الحياة العامة لها مداليل على كل المخرجات حتى تصل إلى لقمة العيش، لهذا يغضب الشاعر وان ألبس قوله صوراّ غير معلنه أو هاجم مباشرة الدولة وتشريعاتها أو اخفاقاتها أو تهميشها.

مرحلة ما بعد سقوط الحكم السابق، كثر الباعة وتكاثرت الأصوات من الأزقة والحواري وجابت القرى والأرياف والقصبات باختلاف أصنافهم واشكالهم وطرق بيعهم وما يحملون مما يباع، من الكلام الفضفاض إلى الوطن، وبين غمرات الباعة يوجد باعة الخضر وباعة الرزق وباعة القيم وكل بما لديه فرح، ولكن المشتري والمعجب والمساند لم يكن كما كان فرحا متأملاً الخير، لأن الأصوات تغيرت نبراتها بهشاشة حناجرها، و(صالح رحيم) ينظر للباعة على أنهم متجولون، رافضا البيع أو الابتياع من أحد بل بدأ يشفق على تهرأ صوت الجوّال أو حتى المستقر منهم فقدم مفردات غضبه وفق نصيحة الانكسار على ما كان يحمل وما آل إليه الحال، حيث (صوتك المبحوح) لينبهه بأن صوته ما عاد يسمع، فيقول:

بدأ يسبب إحراجاً للجيران

الباعة الذين هم أصدقائك

الذين بدأوا يشفقون عليك[4]

وهنا قد ينطلق من معيار إنساني آخر وهو محاكاة البائع الحقيقي ليعلمه آن أوان الوضع الحالي أن يستريح، وان الأسواق متشابه، فالكل يقدم ما يحمل للبيع لكي يشتري ما يحب، فلا يمكن ان تشتري دون بيع، فالعراقيون لديهم مثلٌ يقول: (البائع ينادي على ما في سلته)، ولكنه رافضاً ان يدخل السوق ليخرج محملاً بأصوات الباعة وطرق تأدية موادهم المباعة، لذا يذكّر البائع:

كل كلمة تخرج من فمك اليوم

تقارن حاضرها المجروح

بأيام عزّها التليد.

واني أرى أن لغة الخطاب موجهة لقائد عراقي بارز في الصراع السياسي القائم على تهديم البلد، وان حاضر صوتك لا يشفع له ماضٍ تولى، فحاضرك تشوه بأفعالك وأصبحت مفرداتك الغير واضحة مجروحة إسوة بحاضرها الملطخ بدم الشباب، حيث يذكر:

حيث هناك الماضي

وكانت الكلمات أطفال

وآذان المستمعين أعياد

آنذاك كان صوتك يثلج الصدر ويشرحه، وتوفي آمال وتطلعات الشعب مفرداتك، كأنها أطفال تبعث المسرة لأنهم جمال الله وبراءة الضحكة الآملة بوطن حرٍّ، ونحن نبحث عن الراحة بعد العناء والهدوء بعد ضجيج الحروب، والدعة بعد عسر مخاضات ودمار للنفس وسجون لمفردات، فكنا نسمعك كتهاليل الأعياد، وفي صورة مشهدية أخرى للسعادات والتهاليل التي يأسف عليها باطنا، قوله في نص (سعادات):

(ثمة أشياء تزدهر لأتفه سبب، وثمة أخرى تذبل لأتفه سبب أيضا، كنت ماشياً ذات يوم في أحد شوارع المدينة، وإذا بي ارى مشهدين: الأول هو غصن اخضر يتدلى من عربة حمل، والثاني فتاة تدفن ابتسامتها بيديها خجلاً، بينما كنت أسير مستمتعا بهاذين المشهدين ارتطم رأسي بسيارة واقفة، من دون أن أشعر بألم يذكر، فصار ينزف، حتى سالت السعادتان مع الدم[5])

لو قفنا عند هذين المشهدين لوجدنا أن الغصن الأخضر المتدلي من عربة النقل، ناتج من قتل شجرة، أو إزالة أغصان شجرة مزهرة في بيت ما أو شارع ما، وهذا الغصن كان ملجأ لعصافير وفيء لمتعب وربما سند لثمرة، فكلمة سعادة لهذا المشهد هو فنتزايا الألم الذي يُدفع، المشهد الثاني، هو كبت الحريات، والانتقاد من ان امرأة تضحك في السوق، كي تعبير عن فرحها أو مشهد مضحك فالعرف يقول عليها أن لا تخرج أسنانها التي لا تظهر ما عدى التي تظهر أثناء الحديث، فالفتاة تخضع لكتم الضحكة والفرحة وحرية التعبير ولو بضحكة، وهذا ليس بسعادة، ولنعود إلى نهاية المشاهد مجتمعة، فقد سالت بنهاية المطاف دماً، كل سعاداتنا لونها دموي، لذلك قدّم (صالح) مشهدا سوداوي تحت لافتة السعادات .

العامل الاقتصادي: تغيرت الكرة الأرضية أثناء الثورة الصناعية وما بعدها، فأحدثت تغييراّ في النظام الاجتماعي وذلك لتنوع أنظمة الإنتاج في مختلف أرجاء المعمورة، كذلك أجد التغيير السياسي في العراق ما بعد 2003، أحدث هزة في المجتمع العراقي، في كل مناحي الحياة، وخاصة المصادر التي لها علاقة مباشرة بحياة الفرد، فالتغيير السياسي اهمل الجانب الصناعي تماماً واغلقت مصادر الانتاج الاقتصادي، فازداد اعداد الايادي العاطلة، لذلك ادّى هذا العمل لتجمع الشعب نحو المجال المتاح في اجهزة الدولة العاطلة، فتنوعت اهداف الناس، وجلس الكثير على مصاطب الغضب لما يروا من التخبط الحاصل في المخرجات الاقتصادية والتنموية وما يحصل من الحرمان والنقص الحاصل في مطبخ الأسرة وغلاء المعيشة يوّلد الغضب الجمعي، وأكيد يكون الشاعر هو القائد الأول لذلك لم يسكت الشعراء في اغلب المناسبات الثقافية والجماهيرية الشعبية والنخبوية، (صالح رحيم) شاعر شاب ابن المجتمع الريفي الغاضب كله لموت المحاصيل الزراعية والنبات المنتج لقلّة المياه وابتعاد الراحة أو الطريق اليها بعيدا عن دروب مسالك أرجلهم، كذاك هو ابن أسير آثر الانزواء بعد ان خاب امله في العيش المستقر والراحة من بعد عناء وغربة وكذب ومصالح شخصية وعدم تقدير، وعودته لأرضه التي قتلها العطش.

فمن اهداء صالح رحيم في مجموعته (ريشة لطائر منقرض) يقول:

(إلى الولد الذي يستيقظ مبكراً من أجل دراسته، فيضربه المدير في صباح بارد بالعصا على يديه لأنه لم يجلب الخمسمائة ديناراً التي تخص أجرة المعلمات، ذلك الولد الذي شتم المدير وترك المدرسة غاضباً، الولد الذي تحبه المعلمة لنباهته ولشدة حبه كتبت له أحسنت يا حمار، اليه ذلك الحمار الذي ضاع في الوديان ... [6])

لنراجع كمية الغضب الذي يحمّله (صالح رحيم) للوضع الذي كان به وهو تلميذا وكيف أجبرته حالته المادية على ترك الدراسة، اجد ثلاث عوامل مهمة وقاسية تجرح هذا الكيان الضعيف، وهنّ (عامل الفقر، عندما يكون الفقر مؤسسة وراثية في العائلة، فالعائلة لا تملك أن تدفع للولد الخمسمائة دينار، لكي ينجو من العقاب ويكمل دراسته، والقانون الذي شرّع على ان تكون أجرة سيارة نقل المعلمات لمدرسته ليس على الدولة وهي في ضرف طباعة العملة النقدية في البلاد وخارج القانون الدولي النقدي، فهذا القانون جائر، فالناس لا تملك لأن الدولة لا تملك نقد مالي، وعدم الاهتمام بمستقبل الطفل الذي هجر مقعده الدراسي وما سيترتب عليه قادم السنوات التي أنتجت (صالحاً) ونوعية العمل التربوي وطرق التعامل مع التلميذ لبناء شخصيته من قبل المعلمة وفنتازيا الجملة (احسنت يا حمار) بدلالة المحبة، ومقدار الفراغ الذي يعيشه لحظة التدوين قصر الكلمات ليترك مساحة منقطة خلف جملة (الحمار الذي ضاع بالوديان) وغضبه على أنه ضاع كمتعلم وضاع والده في حرب لم تنصف عائلته حتى في غيابه كأسير حرب، وكعائد مساند لحملة التغيير وقادتهم وعملية تهميشه، ومن ثم موته وتركه في أعتى الرياح وهو متزوج وطالب ولا يملك من حطام الدنيا سوى الأنفاس.

التغييرات الاجتماعية تطرأ على المجتمع أما بشكل تطوري تدريجي وفق منهج واضح وبرامج معدة سلفا، واعدت المعالجات لعوائق قد تصادف المنهج العلمي التطوري وتطبيقه، أو منهج اجتماعي ثوري مفاجئ ومؤثر وجذري، فالمجتمع الذي نكابد العيش فيه، هُدِّم تدريجيا، فما بين ثوري أثر على حياة الفرد العراقي وبين ما سبقه يولّد الغضب والرفض، فقد ضاعت كل الطموحات الفردية التي يحملها كل فرد حسب تفكيره، ونظرته للحياة واحلامه التي ينغي تحقيقها (صالح رحيم) تلك البقعة الزاهرة التي اصبحت بلقعاً، فهو الباحث عن المشابه له، في شتى المعمورة ويستعمل هؤلاء كرموز يضع عليهم همومه الكبيرة ويخلص كاهله مما يرهقه كفرد معدم فمثلا اختياره (شوبنهاور) كعنوان لنص، هذا الرجل الذي بدأ مع والده التاجر السفر واطلع على مختلف البلدان وشاهدها ووثق ما رأى في كتاب أسماه (يوميات سفر) ووضع به الحياة بأفراحها وتعاستها حيث تعلم عدة لغات، ووضع نفسه أزاء مساوء الحياة، وكان سفره قد غمره وهو ابن السابعة عشر وبتعليم متوسط الشعور بالتعاسة، كما هو (بوذا)، لذلك جنّد نفسه ليجيب على سؤال : كيف نخفف من معاناة الحياة؟ .. أو بعبارة أخرى .. ما الوصفة التي من خلالها نجابه ضجر عالمنا وملله وبؤسه؟

فكلمة التعاسة القاسم المشترك مع (صالح) فقد ارسى لها مع القذارة قدرا كبيرا من المفردات في كتبه الثلاث، فالتعاسة لها مسميات ومصطلحات شتى تعنيها وتدل عليها لنقول عنه عاش تعيسا مثلاً، ولنقرأ جزء قليل من نص (لعبة العذاب) :

(أعيش مثل حبة أرز في قعر كوب الشاي، سهواً سقطت من طبق العائلة، لم ينتبه أحد إلى وجودي، ولا إلى ضياعي[7]) فهو يرى انه جاء عن رغبة جسدية، وسكن قعر الإناء فقط سقط سهواً، كما يسقط أبناء الفقراء في مختلف الأواني بعد متعة عابرة، فهو ينمو دون اهتمام ويكبر دون اهتمام لشتى الظروف، ويضيع دون أن ينتبه أحد له، إلا تشكل هذه الحياة تعاسة حقيقية لفرد في مجتمع إنساني يبحث في قيمة خلق الإنسان، لذا فعملية استحضار شوبنهاور لم تأتي من ترف كتابي.

إذن تشابه الحالة التي كان عليها (شوبنهاور) تشبه إلى حد ما حالة(صالح) مع فارق مالي كبير، فواقع صالح مرير وعقله يبحث عن حلول للمعاناة الحالية والمنتظرة، جعله ينظر في أعطافه، في بيئته ويتمنى أو يحاول الفرار من هذا الواقع إلى كرم الحقل والسنابل ليسقطه على العيش الذي يحلم، ومن واقع بيئي وهو حصاد الأرض حين ينقل خطواته واستدارات رأسه إذ يرى الطيور تتهاوى على مزارع القمح، والنمل بلا كلل ينقل الحبوب إلى ممالكه، وأن الرزق مساق بكرم السنابل، فيرجو أن يكون مجتمعه نسخة لما يتطلع إليه، فيقول:

أيام الحصاد

تعانق كل سنبلة أختها

فيتساقط القمح

دون تدخل الفلاح والمنجل

وتترك كل سنبلة

حصة للطير وأخرى للنمل

كرمى لفتاة جميلة مثل إبنتيً.[8]

ألاحظ أن (صالحاً) قلقا على ابنته التي ولجت الحياة، لكن سنابل البيئة بائرة من الحبوب، فهو كريم بمحبته لهذه المخلوقة العجيبة، فلا يرى تبدل للحياة مع قدومها، وعليه يجب أن يسعى لتغيير عالمه، وتستقر الزروع والطيور ويكف الصياد عن المطاردة، وتهجع الطريدة لتعيش باطمئنان، وتكف الرياح على أن تجرح كل ما تشبه ابنته، وعلى الرغم من سعادته على قدوم ورحيل الفتيات تحت مظلّة شوبنهاور التي يعتقد ألا أنه رافضاً لما يعانين من سوء التصرف للأسر وهدر حقوقهن/ لذلك كان يرجو أن تكون الحياة كعناق السنابل حيث يعيش عليها الطائر والزاحف والراكض، الصغير والكبير والأكبر وبتساوي الحقوق في خيرات البلاد.

بإطلالتي على حياته وجدت إشكالات تحيط به كعدو وعوائق تؤذيه كشاعر واهمها:

أ- عوائق اجتماعية:

"يخضع الفرد في العراق لهيمنة اجتماعية، تعود إلى البنية الاجتماعية التقليدية بالخصوص الأسرية، إذ لا زالت الشخصية الفردية تقدر التقليدية والخضوعية والعدوانية التسلطية والتراتبية[9]"، فهو يخضع لأعراف وقيم بعيدة كل البعد عن توجهاته وقلة الدعم مما دفعه إلى النفور وعدم التوافق مع المحيط الذي نشأ به وتطور فرديا وسط تراجع ملحوظ في البيئة بصورة عامة، كما يظهر الطلبة دافع ضعيف نحو التوجه الآيدلوجي المحافظ ودافع قوي نحو التوجه الآيدلوجي التحرري، ففي نص (كلهم بخير) وغضب من عملية التعامل الشكلي حول إشكالية اللون والعرق ضمن الطائفية الإنسانية، فالتقابل الطبقي من حيث النسب، ذهب هذا الرجل لمناقشته، في النص المشار إليه، إلى (زبيبة أم عنتر) ليكشف أعماق الشخصية العربية، وعمل الإنسان حين يتجرد من انسانيته، ومدى سخطه على الرغم من تعامله الهادئ وطريقة مناقشته لهذه الثيمة في المجتمع، موضحا التقابل في سخطه ورضاه، قبوله ورفضه، الحرية والرأي، في العيش وتساوي الحقوق والواجبات والتمييز على أساس اللون والعرق، (كلهم بخير) نص يتعدى التواجد الفعلي للجميع حيث (كانوا بخير) أما الآن لا، ولكن المخاطب (زبيبة) المرأة السوداء التي ديست بقانون الاستعباد والمتعة، والأم المحتقرة من قومها، وقد قال عنترة في اشعاره، الإزدواجية في التعامل معه، يقول صالح:

كلهم بخير

يعشقون ويقطعون الطريق

ينجبون الأولاد

يتمتعون بأشرف الأنساب

إلا أنتِ

كانت الحرية دماً مؤكسداً

يتشاطره في جوفك الغرقى

هنا الإعتمال الداخلي وأثره على تكوين الجملة الادبية الشعرية، بإيجاز عملوا كل شيء في ظل السطوة والحريات المتاحة لهم واختياراتهم ومصاهرة الأشراف من القوم وأنت أم بطلهم، وهذه المحاكات ليست لماضٍ تولى بل اليوم، هكذا يعامل الفقراء والمساكين لحماية الدهاقنة ضمن العرف السياسي السائد الذي أنجب مجتمع معاق عاد لألف سنة خلت، حيث يستتب الأمر لهم (إلا أنتِ) مستثناة لأنك لا تشبهينهم، ومساحة الحرية ملزمة بلون دمك المؤكسد، الدم المحترق في داخل هذا الجوف الذي استبيح، فولدك كأولادنا وحياتك في عصر الحرية عند الطبقة الضعيفة كانت (يتشاطره في جوفك الغرقى) لأنَّ كل الغرقى يتحول لونهم إلى الإزرقاق ثم إلى السواد عند تعرضه للهواء أو الشمس لكنهم أموات ونحن انت ولكننا أحياء، فالنتيجة وادة جميعا حيات رمل تذرى بالرياح دون مأسوفٍ عليها، هكذا ليقول خاتماً المقطع:

حياتك ذرة رمل لا أكثر

ذرة رمل سوداء اسمها زبيبة.

ب- عوائق ثقافية:

البيئة الاجتماعية تخضع لتقاليد وثقافة متوارثة وعادات أكل عليها الدهر وتناساها، ولكنها ماثلة تحيطه من كل الجهات، فالتوجهات الثقافية تتصف بثقافة جمعية وثقافة فردية وتختلف من الاتجاهات بحدوث انزياحات في القيم من التقليدية أي القديمة إلى الجديدة، والبارزة الحضور في المجتمع بفعل التطور الإعلامي والإنفتاح الفكري وهو نتاج الرفض للقديم عند الشباب، وخاصة أن الشاعر كمتطلع يطمح ليكوّن شخصية مستقلة ونفض الإضطهاد الثقافي التقليدي ضمن بيئته المحلية، وجدت الشاعر في كتابه السردي قد أماط اللثام عما يكتنزه من موروث ثقافي مغطى بشال (العيب) أي الخجل، وهذه ثقافة المنع العامة المتفق عليها والغير قادر أي شخص كسرها كتابو تتضمن لا حديث لشاب وسط الكبار، ومنع الجلوس وسط الكبار ومنع الدفاع عن نفسك وإن اتهمت زوراً من قبل كبير بالعمر وحين تقول لولي أمرك : يقول : أعرف ولكنه رجل كبير، ومما يماثلها من القضايا حتى تكبر ممسوخ الإرادة، وفي أغلب الأحيان تتنازل بفعل الوراثة عن حقك، وكذلك الثقافات الخاصة بحقوق المرأة ومكانتها وثقافة التواصل الاجتماعي فهناك العديد من النواهي المبتكرة التي يجب اطاعتها دون النقاش فيها لأنها من المسلمات الوراثية التقليدية العامة والتي تنتصر على الفردية، فصالح هنا في نص (المحو) من كتابه السردي (ليس للأسى نبع) يتلمس طريقاً نحو القمة الصعبة، ويعدُّ العثرات إجمالاً، ليخبرنا:

(خلعت نعليَّ وتقدمت متخذاً من العشب بوصلة للوصول إلى الجبل، العشبُ ليس دليلاً، فقد جرحتني نباتات ذات أشواك، وسقطت على وجهي عدة مرات بفعل سواقٍ صغيرة اعترضتْ طريقي بين وقت وآخر، أوصلني العشب إلى أرض ترابية وسقطت على وجهي سقطةٌ لم أنهض بعدها، فقدت القدرة على الوقوف..)[10]

محاكاة هكذا نص يصور ويتحدث عن صورة من واقع مرير، بالإمكان القول وهذا يشبه ما سلف ونكتفي، فالموروث الشعبي فيه الكثير من الاخلاق التي تنتمي إلى القيم العليا، ولكنه لا يصلح لكل العصور ومادامت الخليقة تبحث عن الجديد في ثقافة مختلفة ونحن نتبادل معها تجارياً وحضارياً وأدبياً فلابد من مؤثر تدريجي سيحدث في المجتمعات كمحايث ناتج من التواصل والتلاقح ليكون جزءً من المجتمع الآخر لا يشبهها ولكنه يتجذر بها، قد يوجد هذا في تطلع صالح الشاعر، ولكنه على الرغم من انتهاجه النهج المعتدل النامي ألا هناك الكثير من الأشواك في نباتات جرحته، وكثير من السواقي التي يعتبرها صغير على اغراقه أصبحت عثرات في طريقه نحو الرقي الذي هو ينشده، فاتبع لون الأمل فأسلمه التراب، ولم يصل الجبل، لم يصل القمة المنشودة، وهذه آخر سقطة أسلمته نهاية التطلعات، لو انتقلنا لمجموعة (ريشة لطائر منقرض) وخاصة إلى نص(سيرة الغبار) يخبرنا الشاعر، بأن الأماكن تكبر وتتسع حسب حالته النفسية، لا حسب كينونتها الحقيقية في الطبيعة، وتُحَب ويرغب فيها أيضا، فكرياً وخيالاً عبر ما تمنحه من ثقافة الولوج إلى عالم لا يتصوره الإنسان العادي، فيقول باللافتة الأولى:

مرة جربت أن أتسلل

إلى داخل ذرة غبار،

دخلت الذّرة،

فشعرت بسعة المكان

وآهٍ كم كانت الحياة

ضيقة، قُلتُ ..

وحينما يناقش ذرة الغبار ويؤنسنها على انها ممكن ان تشعرك بأنك على قيد الدنيا، يخلق لها فعلاً تقوم به، أو تسببه بقصدية، وبطريقة ذكية لتؤنسه وتشعره بانه حيٌّ، يقول:

فعلة ذكية من ذرة الغبار

أن تسب لي العطاس

كرسالة أنني

ما زلت في الداخل.

هذا الهروب العقلي من واقع ثقافي مبني على مالا يطيق أو يحتمل، فها هو يهرب إلى أصغر موجود الكون او الطبيعة الماثلة، لتشكل لديه متسع من العظمة والذكاء لتشعره على أنه حي، لأنه يناقش العلم، وبث الحياة في جسدة الذي أكلته آفة التخلف البيئي والمجتمعي المحيط.

ج- عوائق اقتصادية:

اعظم ما أنتجته المنظومة السياسية هو الفساد، وزيادة في تهديم البنية الاقتصادية كالبنى التحتية للوطن، ونهب المال العام، وظهور طبقة مخملية سياسية مهجنة فارهة، وزيادة بنسبة الفقر بين الشعب العراقي والسماوي كأعظم نسبة فقر في العراق، ومشكلة الفقر ترجع إلى عوامل خارجية تخص مسؤولية النظام الحاكم، وعوامل داخلية مرتبطة بالنفس البشرية، توضع على عاتق الفقراء أنفسهم وهناك دراسات كثيرة في هذه الجوانب، ولكن مدى تأثير الفقر على نتاج الشاعر وسخطه ورفضه لواقع وجد نفسه فيه مرغما، وما للفقر من عواقب نفسية فهو مشكلة اجتماعية حتى يصبح مؤسسة لها إعلام تبريري وناس تعمل على أدامتها، فالتزاوج بين الفقراء غير مبرر وكثرة انتاج أحفاد لزيادة حجم الفقر، وعدم المصاهرة مع طبقة أخرى لإيجاد منافذ للعيش، فالشاعر نتاج هذا المصنع المبرر بالقدر، والطوق المدام بثوب الرضا، وفقد كتب صالح:

ولدت في العاشر من مايو

في السنة الرابعة والتسعين من القرن العشرين

وقد كان والدي في السجن

فتجرعت المرَّ في المهد // حتى صار حلواً

وتغنيت وحدي في حظيرة الأصدقاء والأحبة

كان جدي رحمه الله

مغرماً بالنبي صالح وبناقته التي عُقِرت

فسمّني تيمناً باسمه

ولمّا كبرتُ رأيتُ الناس يعقرون كل شيء

رأيت الناس يعقرون الناس

وأنا لست نبياً لأنهى

أنا مجرد صالحٍ لا ناقة لي في هذا العالم ولا جمل

صالحٌ رأى الجمل يتطلع إلى نجاته من ثقب الإبرة!

أستشف هذا التهكم والرفض لحياته، اسمه لرجل عشق نبي، وحياته مغطاة بشال الفقر الوالد في السجن، فعلاقة الفرد بالجماعة والمحيط الاكبر وقد ولد في خضم صراعات دموية، فوالده في السجن، هنا فقد للدفء العاطفي لانتفاء أحد أطرافه، ومع بنية أسرية تقليدية، فالكل بالمعمل المتنامي من الأمية وقلة التحصيل العلمي، فالمستوى الإقتصادي المتقارب أو المتساوي عند الجميع، وإهمال نصفه بربات البيوت، فوجد أن الناس يعقر بعضها بعضاً، مع باقي الاشياء,

د- عوائق سياسية:

انتشار وانشطار في المؤسسة الحكومية وتحولها إلى دويلات لها قوانينها وأعرافها وسياستها بفردانية وظهور الدول العقيمة في الجانب الديني والاجتماعي، اوجد الكثير من الرفض الشعبي المتزايد، والذي يبدأ بحراك ثقافي أدبي والتعبير عنه علناً، وما ثورة تشرين الشبابية إلا مخرجات الغضب المتنامي في جوف الشباب ونظرة الضياع أدت إلى ظهور شعارات عميقة .. العامة(نازل آخذ حقّي) والخاصة المثقفة: (نريد وطن) وكلها في مصب نهر الرفض الذي أظهر الغضب الصادح، لذا شهدت الساحة الاحتجاجية الغاضبة تفاؤلاً لتغيير مع اصرار على التشبث بالسلطة من الفاسدين لما يتمتعون به من ثروات وسلطة، ولكن الشعب تنوع من حيث المشاركة، والوقوف بعيدا، ومؤيدا وفق آراء مختلفة ولكن الفاسدين انتصروا، بعد أن أوجدوا منافذ لتغيير المعادلة وزج القوة المناهضة في حرب مصيرية في حرب داعش، فانتصرت الهوية الوطنية لتقف على اعلى السلم ثم الدينية والطائفية والقومية والعشائرية، من هنا أجد أن الشاعر ككائن متفاعل مع كل ما يحيط به كعراقي يعد الخيبات المتلاحقة، ينتج نصا (وجوه متعددة لجمجمة واحدة) في مجموعة أهناك من يرى؟، يطرح علينا ما يراه بصوفه غاضبا مما يحطنا ويشمله فيقول للوطن:

آه يا وطني

كم من مرض مزمن

احصيت حتى الآن

وكم من منهم قضى نحبه // وكم ينتظر,

يبدو أن هذا هو حتفنا // من الأبدية الفاجرة

أمل ينطوي على نفسه //وآخر يبتكر شكاً

لكل حقيقة مطلقة // نحن الذين تساقطوا

من شجرة دون الاهتمام.[11]

هذا الجزء السردي مما اورده ضمن النص المذكور أعلاه، يختصر ما أشرت إليه سلفا عن حالة الفرد الرافض والغاضب بفكر حر لا من غضب إنفعالي جاهل، فهو يرى ويكابد ويترجم غضبه.

مشكلات تنامي الغضب

مشاكل الطبقة الضعيفة:

تعاني الطبقة الضعيفة في الوطن من مخرجات الظرف الحالي والسابق من (الفساد، عدم المساواة، الفقر، الفرص، التمييز الحزبي والولائي)

مشاكل فردية:

ونتجت من عدة عوامل سالفة الذكر ومنها: (الأمية، والحروب، الانحراف الجرمي والجنسي، المخدرات، واللا مبالات، والهدف المالي).

تغييرات اثرت نفسياً

ظهور العديد من المنظمات الانسانية الصورية والرابحة حقيقةً، والمتغطية بأردية شتى كالتجسسية والداعية إلى المثلية والإباحية لهدم القيم الأسرية وابراز قيم بديلة لثلم سور الاسرة العراقية، الموجهة من اعداء الدين والمجتمع وفق أيدولوجيات مختلفة، فأصبح الوطن ساحة التجريب والتخريب والاهدار.

ظهور الاوبئة وتزايد حالات الأمراض المستعصية كالسرطان والتشوهات الخلقية ونقص الأدوية وتفشي ظاهرة المتاجرة بالأعضاء البشرية والأرواح بسبب مخلفات الحروب.

المناظر البشعة في السوشيل ميديا ومدى تأثيرها على الحالة النفسية وعدم الفهم بالدراسات العالمية ومعرفة ما يرغب الفرد الشرقي والتنبؤ بمستقبله وفق ما يهوى ببرامج مسمومة ومدعومة بوسائل عالية الدقة بجمع المعلومات ومعرفة الأهواء والتوصل لمعرفة التفكير الفردي .

ضياع القانون العملي والتنطع بالقانون الورقي والتلفازي اللفظي، وجر الشعب وفق درج استهتاري بما اوجدته الشرائع بإدخال ما يخالفها على أن الجديد أصلح.

هدم القيم الدينية الباقية بوفادة القوانين الغربية والازدواجية، وتشوية الذوق وتضعيف الأمر الديني واغواء الانحراف الجنسي بإفشاء المثلية والجندرية، وطمس تكريم القيمة الإنسانية المقدسة ليتساوى مع الحيوانات وزواج النوع الواحد والله العالم بالقادم.

ظهور العصابات الإجرامية المنظمة بمختلف أنواعها وخطورتها على النفس:

(المليشيات التابعة للأحزاب والكتل، العصابات السياسية، العصابات الخارجية والداعمة للخونة، عصابات السلب والنهب والقتل، عصابات الطائفية، عصابات الغش والنصب)

عملية تجاهل ما يسمع وما يرى، هي عملية نفسية طاردة أصبحت لدى الشخص العراقي لأن النفس دائما تحاول النأي عن المؤذيات، وطرد المنغصات وتجنب الخوض بها، وهذا عامل فطري في النفس البشرية.

نتائج البحث:

الغضب الفكري ناتج من عملية القراءة والاحتكاك والاطلاع ومقارنته مع الوضع الراهن. الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها.

الرفض يولد الغضب نتيجة لظروف إقتصادية معيشية كالفقر وديمومته من قبل الأسرة وباقي المحيط المجتمعي، فالشاعر المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح.

رفض الواقع هو تطلع الطلبة والادباء ومنهم الشعراء إلى التحرر من قيود التوجهات الآيدلوجية التقليدية. فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق.

الوضع السياسي السائد وتفشي منظومة الفساد والذي اصبح اخطبوط تتواجد أذرعه في كل أماكن الدولة وبناها التحتية، فالشاعر يرى أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به.

الحالة النفسية ابتداءً من النشأة الأولى إلى انهزام الاماني يولد الضغط النفسي الذي يجعل النتاج الأدبي ساخطا رافضا، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية.

الثقافة التقليدي لمجتمع الطبقة الضعيفة، وبناها الهشة، والحاجة المستمرة للمتلسط أوجد الغضب الشعري في نتاج الشاعر.

فقدان الأمل وظهرو عوامل نفسية لتراكمية اجتماعية تخص الهوية العراقية والسيادة.

***

عيال الظالمي

.........................

[1]. اهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص 11.

[2] ليس للأسى نبع، صالح رحيم،،مطبعة لازورد، 2022، ص5.

[3] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص8-9.

[4] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص12.

[5] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص10 كتاب الكتروني.

[6] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، دار الدرويش، بلغاريا، 2020، ص5.

[7] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص29 كتاب الكتروني

[8] المصدر السابق

[9] الخيبة والأمل في العراق، لؤي خزعل جبر، دار مسامير،2023، ص54.

[10] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، مطبعة لازورد، 2022، ص43.

[11] أهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص82 كتاب الكتروني.

 

للشاعر يحيى السماوي

تشدني رائحة القهوة من ياقة الشعر، نحن في محافظة السويداء جنوب سورية نفتقد المقهى، ونستعيض عنه بالمضافة التي لا يخلو منها بيت تقريباً، ورمز الضيافة فيها القهوة العربية المرّة.

قراءة القصيدة:.

يبدأ الشاعر رحلته قبل الفجر، مدفوعاً بشوقٍ داخليٍّ أشبه بالضرير الباحث عن الضوء، متجهاً إلى مقهى "رضا علوان" في الرصافة البغدادية، الذي يرفعه إلى مرتبة "المعراج" الروحي. المقهى هنا ليس مجرد مكان، بل محطة وجدانية حيث ينبض قلبه بالمتناقضات: الماء والنار، الهدوء والاشتعال. يصل الشاعر مبكراً، فيتحول الانتظار إلى عبء ثقيل، كصخورٍ يُرهق ظهره حملها. الوقت هنا جامد وقاسٍ كالحجر، يصعب المرور فيه، راجياً أن ينتصف النهار بسرعة حيث موعده المنتظر. هذا الانتظار المرير يبحث فيه الشاعر في وجوه الحاضرين عن أمل أو خلاص.

الخلاص المرجو يتجسد في صورة "إينانا" إلهة الحب والجمال السومرية، التي ترمز للمحبوب أو للمصدر الذي ينسج له برداء من بهاء الحياة "قميصاً من زهور الجلنار". حضورها يحوله إلى "أنكيدو" الصديق البريء في ملحمة كلكامش، فيستعيد شبابه ولهوه: مسامرة البدر ليلاً وملاحقة الغزالة نهاراً. لكن الواقع قاسٍ، فالوقت يتحول إلى جمر ملتهب، ويجد الشاعر نفسه كـ "سومري جائع عطشان" رمز للإنسان العراقي- الإنساني المعذب، يفصله عن النهر - مصدر الحياة والخلاص وادٍ قاحل "غير ذي زرع" إشارة قرآنية تعزز معنى اليأس والعطش. في هذا العطش، يتوسل إلى "وردة الكرز الخرافي" رمز للجمال والخيال أن تروي ظمأه بكأسٍ من "زفير الزعفران" شراب صوفي مرغوب لكنه وهمي وصحن ريحان وظلٍّ يقي من حرّ القفار. بحثه عن ملاذ يتجلى في تحديقه بنهر الأنوثة في لوحة زيتية على الجدار، وهو نهرٌ جميل لكنه غير معيش، مجرد صورة معلقة.

مع اقتراب اللقاء، يتحول الوقت إلى "صاب" نبات مرّ المذاق- ، لكن المسافة بينه وبين "الشهد" المحبوب- اللقاء تصبح قصيرة جداً، أقل من مسافة بين خاتمها و"زيق قميصها" - ياقة ثوبها أو بين معصمها الناعم كالسفرجل والسوار. هذه التفاصيل الحميمة تعكس شدة القرب والتوق. مع اشتداد الحر الوقت من شوك- ، يتحول الشاعر داخل المقهى إلى "شيخ طاعن في العشق" رغم تجاوزه السبعين، سجين وجده. يرقب بلهفة "هدهد البشرى" - الرسول المبشر ليأتي بخبر دخوله الفردوس اللقاء- الخلاص كطفلٍ بريء، لكنه محبوس في كهف صبابته المنعزل "لا يزور ولا يُزار".

يتمنى لو تعيد "شهرزاد" حكاءة ألف ليلة وليلة ترتيب الحكايات، فيتحول هو من "سومري" معذب إلى "شهريار" الملك الذي استسلم لحكايات شهرزاد واستعاد إنسانيته- ، أي يتحول من المعذَّب إلى المؤرَّق بالعاطفة والقصص. لكن أمل اللقاء الوردي "الموعد الوردي" عند منتصف النهار يتحطم. يأتي الضحى والموعد يمر دون أن يتحقق. الوقت الذي كان ينتظره كسمك وخبز عند دجلة - رمز للوفرة واللقاء يمر سريعاً كعصفورٍ خائفٍ من نسرٍ فطار. خيبة الأمل قاسية.

في النهاية، يعود الشاعر إلى بيته في السماوة - مدينته- ، شيخاً منهكاً، خطاه خافتة، وحيداً يُناجي ذكرياته في عزلة تامة "لا أزور ولا أزار". المقهى الذي بدأ كـ "معراج" ينتهي ككهف عزلة، واللقاء المنتظر يتبخر، تاركاً الشاعر وحيداً مع عبء السنين وحرقة الصبابة التي لم تطفئها السنون. القصيدة هي سيمفونية من الشوق والانتظار والخيبة، تُصوِّر الزمن العراقي القاسي والوجع الإنساني العميق، من خلال رموز أسطورية ودينية وواقعية، وتجعل من مقهى رضا علوان مسرحاً كونياً للتجربة الوجودية.

***

بهيج حسن مسعود

.....................

للاطلاع على القصيدة 

https://almothaqaf.org/nesos/981961 

 

براعة المتن الروائي يشتغل على عوالم مختلفة، في أحلك الفترات المظلمة التي مرت على العراق، التي تميزت بالعنف الدموي المفرط ونهج الإرهاب المشدد با على درجات البطش، الذي يمثل قوام الدولة البوليسية الفاشية، في اطلاق العنان الى رجال الامن، في بث الرعب والخوف، كما هو في فترة حكم البعث، وتوج الى اعلى القبضة الحديدية، بعد تولي صدام حسين، وازاحة الرئيس احمد حسن البكر، وتصفية تقريبا نصف اعضاء القيادة القطرية ومئات الكوادر المتقدمة في قاعة الخلد، او في مجزرة قاعة الخلد، ولم يقتصر التصفية والابادة على اعضاء حزب البعث، الذين عارضوا اغتصاب السلطة من قبل المجرم صدام حسين، بل سبقتها حملات الاعتقالات المستمرة ضد أعضاء الحزب الشيوعي واليسار العراقي عامة، في زجهم في الاعتقالات والسجون ووضعهم تحت المراقبة الامنية، وفي ممارسة التعذيب الوحشي، التي تنتهي الى الاعدامات الفورية دون محاكمات، او محاكمات صورية سريعة، هذه فترات الرعب البعثي، سجلت أحداثها الدقيقة في صياغة الأحداث السردية في المتن الروائي، على لسان السارد العليم (نضال) وهو يعود بذاكرته في تسلسل سيرة حياته منذ طفولته في إحدى المناطق الكردية، التي تميزت بالفقر وصعوبة شظف المعاناة المعيشية للفئات الفقيرة الكادحة خاصة، وبعدها انتقال عائلته الى العاصمة، والحياة تسير من السيء الى الاسوأ في تهجير الاكراد، وزادت اكثر وحشية في زمن البعث، في حملات تهجير، تمثلت اما رميهم في الصحراء، أو رميهم خارج الحدود، في اسلوب هجين خالي من ادنى الشروط الانسانية، بل كان هدفها ابادة القومية الكردية بكل الاساليب الفاشية والعنصرية، وتوجت بأستخدام السلاح الكيمياوي، وشن الحروب الخارجية في اعلان الحرب ضد ايران، وممارسة الارهاب بالقبضة الامنية، تنال كل مواطن لم ينتمي الى حزب البعث، او عليه شبهات بالانتماء الى الاحزاب المعارضة، حول الحياة العامة الى الرصد والتنكيل، لكل من يكون خارج أسطبل البعث، هذا التوثيق الروائي، يمثل شواهد شاخصة في التفاصيل اليومية، كما تناولت المسائل الاجتماعية في العقلية بالايمان بالدين، والاعتقاد في الخرافات وحكايات الشياطين، الذين يجتمعون في جنح الليل في الازقة المظلمة للبيئة الفقيرة المعدمة، وفي تناول مجريات الامور المعاشية في اسلوب واقعي هادف ورصين، كما عاشها فعلياً (نضال) وتجرع علقمها المر، منذ طفولته، والى مراحل حياته الاخرى، في التفاصيل اليومية الدقيقة، التي لاتخلو من انتقاد حاد، ومنصات السخرية المضحكة والتراجيدية، اي بين الملهاة والمأساة، كما ان (نضال) شارك في خضم الاحداث السياسية والحزبية بنشاط، رغم الاخطار الجسيمة التي واجهها من قبل اعضاء الاتحاد الوطني لحزب البعث، او من وكلاء الامن، الذين وضعوه تحت مجهر المراقبة والترصد في حياته اليومية، ان معالم السرد الروائي كثيرة ومتشعبة في الشخوص المحورية، والشخوص الفرعية، هذا الكم الكبير من احداث المتن الروائي، يمكن اجمالها في خيوطها الاساسية.

1- نضال: تقمص دور السارد العليم المتكلم

نشأته في بيئة كردية فقيرة تعاني البؤس والظروف المعاشية الصعبة، تربى في عائلة كبيرة العدد (ثمانية اشقاء وثلاث شقيقات)، ترعرع تحت رعاية أمه بالحب والحنان، كانت بحق كادحة ومثابرة، وتفسر الاشياء والاحداث بذكاء وروية رغم إنها (إن أمي كانت امرأة أمية، إلا أنها كانت واعية ذهنياً، ومتنورة، مدرسة خالدة نابضة بالحياة، متسامحة، لا تحمل أية ضغينة تجاه الآخرين، كنت أصارحها بكل شيء) ص28، إلا أنها كان يساورها القلق والخوف على إخوته الكبار، بسبب انتماءاتهم الحزبية للحزب الشيوعي، ويصيبها بالرعب من مداهمات الحرس القومي لمنزلهم، خشية الاعتقال بعد انقلابهم الدموي المشؤوم، منذ الصغر بدأ شغفه وحبه الشديد الى عالم السينما والفن، ويواظب في الحضور في دار السينما الوحيدة في مدينته، وبعد ثورة 14 تموز أصبحت ثلاث دور سينمائية، يرتادها الناس بشغف متواصل، منذ الصغر تشبع ببعض الخرافات واساطير الجن والشياطين، التي تتجمع في جنح الليل في الازقة المظلمة، لخطف الاطفال، ويوماً وقع في إشكال صعب، مر في زقاق مظلم متجهاً الى منزله، وبدأت تساوره المخاوف والقلق من خشية اعتراضه وخطفه في المكان المظلم والموحش وهو يتبول في مكان مظلم (وشعر بالارتباك في هذه اللحظة المصيرية، وكطفل، وقع في الخطيئة، ينبغي أن يعاقب عليها، حيث أني عملت شيئاً مخالفاً للعقيدة، حين لقنتني والدتي ألا أتبول في سواد الليل، لان ذلك كما قالت: (يؤدي الى تجمع الشياطين حولي) ومع ذلك عصيت كلام أمي، بل ربما هذا العصيان، بدعوته هذا قد يلحق مصائب الدنيا وكوارثها، فكل ما يصيبنا من سوء الحظ فهو من رجس الشيطان) ص44، لكن كظم خوفه وقلقه، وواصل تبوله، انهى مهمته بصعوبة وواصل مسيرته نحو بيته، رغم نباح الكلاب تلاحقه، لكنه شعر بأنه انتصر على الشيطان وخرافاته المخيفة، وحينما دخل البيت، ورى الى أمه انجازه العظيم، في معركته الوهمية مع مخلوقات غير مرئية، نعم انها معجزة في تحدي الشيطان. انتقلت عائلته الى العاصمة ودخل المدرسة الابتدائية، وكان يشكو من النطق العربي الصحيح، فكان محل سخرية وتندر من التلاميذ، لذلك اشتكى احد اصدقائه الى المعلم بقوله: أن نضال، طالب جديد من القومية الكردية، لا يلفظ الكلمات بصورة صحيحة، وهذا الدافع عزم على الدراسة والموظبة وتعلم النطق باللغة العربية بشكل صحيح، حتى نال التفوق الأول في مدرسته، وبعدها دخل المدرسة المتوسطة، وتلمس الفرق الكبر بين المدرسين، منهم من يؤدي مهمته الانسانية، بجدارة ومسؤولية وينال احترام الطلبة، ومنهم العكس ذلك، يتعامل بخشونة ولا يقبل اية ملاحظة، يواجهها بالحقد والكراهية، مثل الاستاذ (فاضل) حين ابدأ حد الطلبة ملاحظة، بأنه يلقي الدرس بالاستنساخ الحرفي من الكتاب، دون ان يزيد او ينقص حرفاً، فظهرت ملامح التشنج والعداء من الاستاذ، وبدأ يضرب بشكل عدواني مبرح، كأنه في حلبة تمرين لجسد الطالب المسكين، اشبعه ضرباً ورفساً في كل خلية من جسمه، كأنها صورة طبق الاصل من التعذيب الوحشي من الأجهزة الامنية البعثية، في التعذيب والرمي في احواض التيزاب للمعارضين بقيادة مجرم العصر المجرم (ناظم كزار) في قصر النهاية، والذي قتله صدام حسين شخصياً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة،. وفي مرحلة الإعدادية بدأ حبه الشديد والطاغي في قراءة الكتب الأدبية والسياسية، اضافة عشقه الى السينما والفن كذلك حبه في الرياضة في مجال العاب الساحة والميدان، وكذلك شارك في النشاطات الحزبية للحزب الشيوعي، رغم ان هناك الجبهة الوطنية بين الحزبين البعث والشيوعي، لكنها كانت فخ ومصيدة في تصفية الحزب الشيوعي، بفتح المعتقلات والسجون، والمتابعة الامنية في قبضتها الحديدية، وتفاقمت الازمة السياسية في عام 1979، حين استولى صدام حسين على السلطة، في إجبار الرئيس أحمد حسن البكر على التنحي، وتصفية بالاعدام تقريباً نصف اعضاء القيادة القطرية، ومئات من الكوادر المتقدمة لحزب البعث، جمعهم في قاعة الخلد، وعرفت بـ مجزرة قاعة الخلد، لإشباع غرائزه التسلطية (كان طموحه النرجسي ان يتوج نفسه بطلاً للامة العربية، أو حتى القائد الاوحد للامة برمتها، وكان على استعداد للتضحية بأرواح الناس، ومستقبل البلاد لتحقيق أهدافه الشريرة ومن اجل الوصول الى هذا الطموح، كان لابد من البحث عن وسيلة تمكنه من تحقيق ذلك، ومن هنا بدأت معاناة الناس في تصاعد، عندما هام القائد المفدى الشروع في تنفيذ مآربه الشخصية) ص127. وكذلك لشخصيته المتكبرة بالغطرسة المفرطة، ان يشن حرب مدمرة مع إيران عام 1980 (اندلعت نيران الحرب ضد ايران عام 1980 التي اشعلها الرئيس العراقي صدام حسين، واصرار الخميني فيما بعد على عدم وقف هذا الدمار والخراب، الذي استمر ثمان سنوات من الالم الاذى، واودت بحياة اكثر من مليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق، على الرغم من كل المآسي، إلا أن صدام لم يتعظ من خسارته الاولى، بل ادخل جيشه في حرب محبطة اخرى خاسرة مع دولة الكويت، فأهلكت كاهل الدولة التي دفع العراقيون ضريبة ذلك، بسبب عنجهية وغطرسة رأس النظام، عن طريق تجويع الشعب العراقي في حصار ظالم) ص129. دخل (نضال) في أول مغامرة عشقية في الغرام، لكن نتائجها كانت فاشلة، في مواصلة الحب فانقطعت العلاقة بين الجانبين. وحين انهى المدرسة الاعدادية، واراد ان يواصل تحصيله الدراسي بالدخول الى معهد الطب الفني، وجد عقبة تحول دون قبوله، وهي ينبغي ان يحصل تزكية من الاتحاد الوطني البعثي، حاول ان يقنعهم بأنه مستقل ليس له علاقة بالسياسة لكن لم يقتنعوا بكلامه، وطالبوا منه بالتوقيع على استمارة تعهد، بأنه لم ينتمي الى اي نشاط حزبي عدا حزب البعث، رفض التوقيع على الاستمارة بعدم الانتماء إلى اي حزب آخر، وإذا أخل بالتعهد، سيعرض نفسه لعقاب شديد، ورفض التوقيع بذريعة (قلت:

- ولكن تحت هذا السطر ارى الورقة فارغة، من يضمن لي انك لا تملي الاستمارة اني مديون بمليون دينار بعد مغادرتي، وانا فعلاً وقعت على الورقة) ص154 ولكن بعد تدخلات جانبية، تم قبوله في معهد الطب الفني، لكن وضع تحت مجهر المراقبة الامنية، وعند انتهاء فترة الدراسة والتخرج، لم يجد اسمه ضمن قائمة التعيين، فتأخر تعينه ثماني شهور، زادت تعقيدات الأزمة السياسية نحو الاسوأ، زادت حملات الاعتقال والمطاردة ضد أعضاء الحزب الشيوعي، وجاء اعتقال شقيقه (حاذق) ادرك بانه الهدف المقبل في الاعتقال، طلبت أمه ان يهرب وينجو بنفسه والدموع تغرق عينيها (- اهرب يا بني لا احتمل خسارتك ايضاً.

وأضافت:

- هذه مملكة الرعب، حكم القمع، واغتصاب الحريات) ص226. فاستغل الوقت المناسب للهروب من مملكة الرعب والموت.

2 - حاذق: أعدم عام 1985. سيرته الحياتية، أنه أصغر أشقاء (نضال) شاب وسيم حلو المعشر بين الناس والطلبة، يبلغ من العمر ثلاث وعشرين عاماً. طالب جامعي في السنة الاخيرة من كلية الطب، يتميز بمواهب متعددة، في مجال الموسيقى والرسم والأدب والصحافة، وناشط في الحزب الشيوعي، يمتلك الوعي والحكمة وصفاء الذهن، يتحمل بصبر باستمرار استفزازات الاتحاد الوطني، وكان مراقب تحت عيون رجال الأمن، ينتظرون الفرصة السانحة لنهش لحمه، كالذئاب المسعورة.خلال تصفية حزب أعضاء الحزب الشيوعي جاء دوره في الاعتقال، لكن بحجة سخيفة، بأنه مهرب، فاحتجت أمه بالغضب في وجه رجال الأمن (أبني طالب جامعي) غيروا لهجتهم في التعامل بقول أحد رجال الأمن (- وداعتج خمس دقائق ونرجعه واخذي من هالشوارب) 271. لكن أدرك حاذق انه الوداع الاخير، صوب كلامه صوب أمه بقوله (يا أمي... لا تفكري بي بعد اليوم) فانفجرت بالبكاء المر، وشعرت بأن السماء ملبدة بالغيوم السوداء المشؤومة، هذه تعبر عن حالة الإرهاب المفرط للدولة البوليسية (عبرت تلك الأساليب البربرية عن ايديولوجية فاشية مدمرة ترمي الى افراغ الانسان، من بوتقة انسانية وقيمة نبيلة، وجعله آلة جامدة غير قادرة على التفكير، سوى ترديد نغمة واحدة، يحيا قائد الضرورة) ص225. وفي عام 1985 في ليلة شتوية باردة كانت العائلة مجتمعة حول (صوبة علاء الدين القديمة) طرق بابهم احد رجال الامن بابهم وابلغهم، بأن عندهم موعد في سجن ابو غريب لمواجهة ابنهم حاذق. تيقنت الام بأن هذا الموعد المشؤوم يدل على إعدام حاذق، ولم تنم العائلة لك الليلة في هواجس الخوف والقلق، وعندما ذهبوا في الصباح تيقنوا خبر إعدام حاذق في استلام جثته، فصرخت الام بكل شجاعة وجسارة في وجه حراس السجن بقولها (- سوف ارى عدي وقصي في هذا التابوت يوما ما يا أوغاد ؟) ص289.

3 - سرقة المسدس من رجل الامن: نتيجة منطقية لرد الفعل والعمل تجاه الاساليب البطش والارهاب المفرط ضد اليسار عامة. تنتج ردات فعل متطرفة نتيجة الشحن الفعل الثوري (- الحياة تعد ساحة حرب، تتطلب من الإنسان المجازفة، في اختيار خططه، وبراعته، والمجازفة لا تعني ان التجربة قد تمضي الى تحقيق الهدف المنشود، وإنما هي خطوة نحو تحقيق الأفضل) ص132. والتشديد على الوعي في السلوك في الاختيار اللحظة المناسبة للفعل الثوري، جرى هذا النقاش الساخن بين الأصدقاء في جلسة شرب في نادي ليلي، يرتديه ايضاً بعض رجال الأمن، خلال نقاشهم، لاحظ أحدهم بأن احد رجال الامن ترك مسدسه على المغسلة، وتوجه نحو المرافق الصحية، فانتهز الفرصة الثمينة في سرقة المسدس، والخروج بسرعة من النادي الليالي، قبل وقوع المحظور وتكون العواقب وخيمة عليهم، ولكن بعد التحري والمتابعة والتحقيقات الأمنية المتشددة، عرفوا السارق، والقيء القبض عليه ومات في التعذيب الوحشي، وبدأت ملاحقة أصدقاءه والمشاركين في عملية السرقة والتستر عليها، ومنهم (نضال) لكنه أنكر علاقته به، لا من بعيد ولا من قريب، ولكن أخذ الاحتياطات الضرورية، لأنه وضع تحت عين المراقبة الامنية.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

يبدو (أبو الطَّيِّب المتنبِّي) أحيانًا أكبر منافقٍ عرفه الشِّعر العَرَبي، وفي هذا الباب كان يكدُّ قريحته.  ولذا لم يُنتِج شِعرًا يُذكَر كما أنتج في غرض المديح. ولعلَّه لم يَصْدُق في بيتٍ منه، باستثناء بعض قصائده في (سيف الدَّولة).  هكذا زعم (ذو القُروح). فقلت:

ـ وهذه مأساة ثقافيَّة حقًّا أن يكون شاعر العَرَبيَّة الأكبر هكذا.

ـ شاعر العَرَبيَّة الأكبر؟ من تقصد (المتنبِّي)، أم (الجواهري)؟!

ـ ألقاب مملكةٍ في غير موضعها! وهذا الأخير إنَّما نُحِل هذا اللقب الفاحش في العصر الحديث، اعتباطًا!

ـ لقد ظلَّ «شاعر العَرَبيَّة الأكبر» هذا- بتلك الشخصيَّة المريضة- مفاخرًا ببطولاته في التسوُّل، بلا كرامة إنسانيَّة:

لا تَجْسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَاهُنا      

بَـيْـتًا، ولَكِـنِّي الهِزَبرُ الباسِلُ!

ـ ويا له من هِزَبْر باسل، في غير ميدان الهَزابر والبَسالة! 

ـ نحن عادةً لا نقرأ شِعر (المتنبِّي) بعقولنا، بل بعواطفنا، وبما لُقِّناه في مدارسنا من تصنيم شأنه وشأن شِعره، لنتولَّى ترديده لمن بَعدنا. ولا ريب أنه بارع جدًّا في لُعبة النَّظم العَروضيَّة، لكنَّه كثيرًا ما بدا منحطًّا جِدًّا بمقاييس النقد الإنساني، الثقافي والقيمي، وربما بمقاييس الجمال الفَنِّي أيضًا.

ـ كنتَ قد قلتَ: إنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً.

ـ بل إنَّ مقدِّمات قصائده نفسها لا تخلو من النَّظم الذِّهني البارد؛ لأنَّ نصيبه في الحُبِّ والغَزَل صِفر.  اللَّهم إلَّا حُبّ منحوتاته الشِّعريَّة، على طريقة (بيجماليون)، حسب قصيدة الشاعر الروماني (أوفيد Publius Ovidius Naso، -17م) السَّرديَّة، بعنوان «التحوُّلات Metamorphoses».  انظر، على سبيل النموذج، إلى قول (أبي الطَّيِّب):

لقَـد حـازَني وَجْـدٌ بمَـنْ حـازَهُ بُـعْدُ

فـيَا لَـيْـتَـني بُـعْدٌ ويـا لَـيـتَـهُ وَجْــدُ

أُسِـرُّ بتَجديـدِ الهَـوَى ذِكْـرَ ما مضـَى

وإنْ كـانَ لا يَـبقَى له الحَـجَرُ الصَّلـدُ

سُـهادٌ أتـانـا منكِ فـي العَـينِ عِنْدَنَـا

رُقــادٌ وقُـلَّامٌ رَعَـى سـرْبُـكُـمْ وَرْدُ

مُـمَـثَّـلَـةٌ حـتَّى كـأنْ لَـمْ تُـفـارِقـي

وحتَّى كأنَّ اليأسَ مِن وَصْلكِ الوَعدُ

فيبدأ القصيدة بأداة التحقيق (لقد)، وكأنَّ تلك قضيَّة فكريَّة شائكة، تقتضي التقرير، والتحقيق، والتأكيد، والتشديد في الإثبات! وكأنَّ المتلقِّي كان يهمُّه مثل هذا البيان التقريري عن علاقة الشاعر بصاحبته، وهو يخشى إنْ لم يحقِّق له الأمر بـ«لقد» أن يساوره الشك، لا قدَّر الله!  وعبارة (لقد) لا تَرِد إلَّا في السياقات الجدليَّة، التي تقتضي التحقيق والتأكيد، إجابةً عن سائل، أو شاكٍّ، أو ردًّا لشُبهة، أو إنكار. وهو ما لا يناسب سياق (المتنبِّي) في التغزُّل؛ فما لنا ولشؤونه العاطفيَّة، ليتصوَّر أنَّنا متطلِّبون منه ضربَ الهامات بـ(لقد)؟!

ـ وهو يوردها في أوَّل كلمةٍ من مطلع القصيدة؛ وكأنَّ تلك قضيَّة خلافيَّة بين الناس، وما قال القصيدة إلَّا ليجلِّي الحقيقة بشأنها، وأنَّه، والله، «قد حازَهُ وَجْدٌ بمَن حازَهُ بُعْدُ»! ومن يتتبَّع استعمال (لقد) في «القرآن»، يعي مواضع استعمالها السليمة. ثمَّ ما حكاية «الحيازة» هذه؟ «حازَني وَجْدٌ بمَنْ حازَهُ بُعْدُ»؟! 

ـ يقال: حازَه يَحُوزُه، إذا مَلَكَه وقَبَضَه واستبَدَّ به.(1) وهو معنى لا بأس به، لكنَّه لا يخلو من تكلُّف هاهنا.  ثمَّ انظر إليه كيف يختم بيته: «فيَا لَيْتَني بُعْدٌ ويا لَيتَهُ وَجْدُ»؟ مكرِّرًا الشَّطر الأوَّل، في ضربٍ من الطَّيِّ والنَّشْر.  وهكذا في تلاعبٍ رياضيٍّ بالألفاظ، أشبه بأعمال الحُواة بالأفاعي منه بوجدانيَّات العشَّاق، وما تقتضيه من رِقَّة التعبير والتصوير، والتعويل على نبض الرُّوح، لا على معادلات الذِّهن!  وحسبك بهذا المطلع عن تحليل سائر الأبيات، التي نُسِجت على المنوال عينه.  وشتَّان بين هذا التكلُّف وبين جَمْع شاعرٍ آخَر بين عُمق التصوير وعذوبته، وهو (ابن خفاجة الأندلسي)، في قصيدةٍ له من عشرة أبيات، تكاد من الغضارة تسكب:

سقْـيًا لِـيَومٍ قَد أَنَـخْـتُ بِـسَرحَـةٍ

رَيَّـا تُـلاعِـبُـها الشَّمالُ(2) فَتَـلعَـبُ

سَكْـرَى يُغَـنِّـيها الحَـمامُ فَـتَـنثَـني

طَـرَبًا ويَسقـيها الغَـمامُ فَـتَـشرَبُ

يَـلْـهُـو فَـتُرفَـعُ لِلـشَّبـيـبَـةِ رايَـةٌ

فيـهِ ، ويَـطلُـعُ لِلبَهـارَةِ كَـوكَـبُ

والرَّوضُ وَجهٌ أَزهَرٌ، والظِّلُّ فَرعٌ

أَسـوَدٌ ، والـمـاءُ ثَـغـرٌ أَشْـنَــبُ

في حَـيثُ أَطـرَبَـنا الحَـمامُ عَشِـيَّـةً

فَـشَدَا يُغَـنِّـيـنا الحَـمامُ الـمُطـرِبُ

واهتَزَّ عِطفُ الغُصْنِ مِن طَرَبٍ بِنا

وافْـتَـرَّ عَن ثَـغرِ الهِـلالِ المَـغـرِبُ

فـكَـأَنَّـهُ والـحُـسنُ مُـقـتَـرِنٌ بِـهِ

طَـوْقٌ عَلى بُـرْدِ الغَمامَـةِ مُـذهَـبُ

في فِتيَـةٍ تَـسْرِي فَيَنـصَدِعُ الدُّجَـى

عَنها، وتَنـزِلُ بِالجَديبِ فَـيُخصِبُ

كَـرُموا فَلا غَـيثُ السَّماحَةِ مُخلِـفٌ

يَـومًا، ولا بَـرقُ اللَّطـافَـةِ خُـلَّـبُ

مِـن كُـلِّ أَزهَـرَ لِلنَّعـيمِ بِـوَجـهِـهِ

مـاءٌ يُـرَقرِقُـهُ الشَّبـابُ فَـيَسكُـبُ!

وهي رِقَّة شِعريَّة عميقة، لا سطحيَّة تقليديَّة على غرار ما أُطلِقَ عليه سلاسل الذَّهب البُحتريَّة. أعني شِعر (البحتري)، القائل، مثلًا، في سلاسل بُحتريَّة، لا شِعريَّة ولا نثريَّة:

يَمتُـتنَ بِالقُـربَـى إِلَـيهِ وعِـندَهُ  

فِعلُ القَريبِ وهُنَّ غَيرُ قَرائِـبِ

بِطَـرائِـقٍ كَطَـرائِـقٍ وخَـلائِـقٍ  

كَخَـلائِقٍ وضَرائِـبٍ كَضرائِبِ

في تَـوبَـةٍ مِـن تـائِبٍ أَو رَهبَـةٍ  

مِن راهِبٍ أَو رَغبَـةٍ مِـن راغِبِ!

ويبدو من خلال شِعريَّة (ابن خفاجة الأندلسي، - 533هـ)- ابن (جزيرة شقْر)، بشرقيِّ الأندلس، بين (شاطبة) و(بلنسية)- الذي أخلص لحُبِّ الطبيعة، لا لأصنام الحُكَّام كغيره من الشُّعراء، أنَّه كان يسعَى سعيه لمعادلةٍ شِعريَّةٍ تجمع بين مذهب (أبي تمَّام) الشِّعري، بانزياحاته المبتدعة، ومذهب (البحتري)، بغنائيَّاته وسلاسة ديباجته.  ولذلك لم يَجِد له القدماء نظيرًا مشرقيًّا ليشبِّهوه به، ويلقِّبوه بلقبه، كما كانوا يفعلون؛ إذ يلقِّبُون أحد الشعراء الأندلسيِّين بـ(بحتري الأندلس) وآخَر بـ(متنبِّي الأندلس)؛ فظلَّ نسيج وحده.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حوز).

(2)  يعني: ريح الشَّمال. وكثيرًا ما يخلط الناس اليوم بين (الشَّمال)، بفتح الشين، و(الشِّمال)، بكسرها. ذلك أنَّ الأُولى هي جهة الشَّمال، والأخرى تعني جهة اليَسار. وإنْ كان لهذا علاقة بذاك؛ لأنَّ العَرَب كانوا يُسمُّون ما عن يمين (الكعبة) (يَمَنًا)، وما عن يسارها شَمالًا، أو(شَامًا). وهذا يعني أنَّ القائل بهذه الجهات يولِّي وجهه قِبل المشرق. وتلك كانت قِبلة العَرَب من عَبَدَة الشمس. ومن هنا جاءت تسمية (اليَمَن)، و(الشَّام) و(الشَّمال). ومن طرائف ما يُذكَر في هذا السياق قول (ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 91) وهو يتحدَّث عن رِيح الشَّمال: «الشَّمال: وهي تأتي من ناحية الشَّام، وذلك عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة العِراق!» فكيف يكون الشَّام عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة (العِراق)؟! على القارئ أن يعرف أوَّلًا أين كان (ابن قتيبة) حينما قال هذا الكلام؛ أي حينما كانت الشَّام عن يمينه وهو مستقبلٌ العِراق. ما يعني أنه كان في نواحي (إيران) أو بلاد (فارس). وهو بالفعل يُنسَب إلى (دَيْنَوَر)، الواقعة إلى شَمال غرب بلاد فارس. وكان عليه ليفهم القارئ «أدب كاتبه» أن ينبِّهه إلى المكان الذي يتحدَّث منه، حينما أراد تحديد هذه الجهات بناءً على موقعه! وإنْ كانت بوصلة (ابن قتيبة) الجغرافيَّة تبدو بعدئذٍ آيةً في الاضطراب؛ بدليل أنه بعد صفحةٍ من جعله الشَّام عن يمينه، قال عن (نجم سُهَيل): «من الكواكب اليمانيَّة، ومطلعه عن يسار مستقبل قِبلة العِراق!» وهنا يكون ابن قتيبة قد قفز بالضرورة إلى شرق بلاد فارس؛ كي يُمسي (سُهَيل اليماني) عن يَساره وهو مستقبلٌ العِراق! إلَّا لو قيل: إنَّه في المرَّة الأُولى كان يستقبل من (دَيْنَوَر) قِبلة جَنوب العِراق، ليُصبح الشَّام عن يمينه، وفي المرَّة الأخرى يستقبل قِبلة شَمال العِراق، ليُصبح سُهَيل عن يساره!

المفارقة الفكرية هي عبارة أو موقف يبدو متناقضًا أو غير منطقي في الظاهر، ولكنه قد يكشف عن حقيقة أعمق أو يثير تفكيرًا جديداً، المفارقات غالباً ما تتحدى المنطق التقليدي أو الأفكار المألوفة، المفارقات هي عبارات أو مواقف مُحفِّزة للتفكير تبدو مُتناقضة أو ساخرة، بعض المفارقات تكشف عن حقائق من خلال عبارات تبدو غير منطقية، بينما يكشف بعضها الآخر عن عيوب في التفكير التقليدي (محرك الكوكل).

أمّا كلمة (عقابيل) في عتبة العنوان، تعني في اللغة العربية آثار أو بقايا أو مضاعفات مرض أو إصابة أو حالة ما. يمكن أن تشير أيضًا إلى الشدائد أو المصائب، بمعنى آخر (عقابيل) هي ما يتبقى أو يتبع حالة سابقة، سواء كانت هذه الحالة مرضًا، أو إصابة، أو تجربة قاسية (معجم الوسيط).

فإن (رهان عقابيل) هو رهان فكري على ما تخلِّفُ الصراعات المجتمعية في نفس وعقل الإنسان الذي يعاني من مخلفات الأمراض المجتمعية المختلفة الحديثة والمتوارثة، ففي مجموعته القصصية الصادرة منذ عام 2022أصر القاص (ضاري الغضبان) على أن هذه (العقابيل) قد أثرت في المجتمع العراقي من خلال تلمسها وبروزها جلياً في الحياة اليومية.

فمن قصة (عقابيل الخلق العراقي) أكد على أن الإختيار فكرياً لعمل مؤجل قد يؤدي بمن وقع عليه الإختيار هو أن يلاقي ما ود الوصول إليه، فعملية إختيار (أنانا) للزوج بين إنكيدو المزارع وديموزي الراعي، اختارت الحياة لأنه يعمل في النبات وهو الخضرة، بينما اختار أخوها ديموزي الراعي ليكون كبش فداء، حيث ارسلته عشتار (أنانا) بدلاً منها إلى العالم السفلي، فنشاد العُلى والطموح بلوغ المعالي عليه حقوق عظيمة لا تأتي بما تحقق دون خسائر وكما تمر علينا اليوم من أحداث دولية وحرب بين الحق والباطل، (ولن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) الآية 92 آل عمران.

أمّا في قصة (غداء بائع الكتب) فقد أكد على عدة مفارقات في النص، إذ أوحت القصة في تلافيفها على أن التدهور الثقافي والغاية والعيش من بيع الكتب مقارنة بالشحاذة، ومنها الصدق بالعمل والكذب في تمثيل العوق في مهنة الشحاذة، وكذلك التلصص أو التطفل على ما يملك الآخرين، والحافز الذي جعل الكتبي يتلصص على أموال الشحاذ أدى إلى خسارة مادية بالزجاج الذي ارتطم به لغفلة، واخيرا شراء الغداء الذي هو محور القصة وحافزه الجوع، حيث اشترى الشحاذ غداءّ لجميع المحلات وهو شحاذ لأجل سلامة الكتبي بعد ارتطامه بزجاج واجهته وهو يتطفل على الشحاذ الكاذب، فخلاصة الأمور العديدة في هذه القصة أن هناك جمع مفارقات وظفها الكاتب لكي تمنح القاريء دلالات كبيرة في الصراع بين الحق والباطل ولباس النفوس بأردية غير ماهي حقيقتها، فالشحاذ كان كريم النفس ومتعاطف ولم يحسد أصحاب المحلات وتفاسير عديدة تتوالد عن التفكير في عمل الخير والشر داخل المجتمع أبرزها الكاتب داخل النص.

وحين أتلمس وجع الشعوب العربية والأفريقية في بلدانها الغنية وهجرتها نحو الحلم، أجد أن هناك عوامل مريضة هي الخطوط او الأسس التي تعمل عليها دولهم، ففي قصة (المهاجر) الذي اخذ غرزة من تراب تل في قريته الفقيرة دليل على غنى القرى العراقية وعدم إلتفاتة الحكومات لهذا الغِنى، ويتمثل في الغنى الحضاري المغطى بالرمال، والثروة الزراعية التي تحل مشاكل عدة للمجتمع بصورة عامة، كذلك تُبرز للقارئ تأثير الإغراء الكاذب الغربي على المواطن الفقير في الثقافة والعلم وتصوير أن الحلم عندهم وفقيرهم يموت على الرصيف جوعاً، فإن المواطن حينما اخذ غرزة من تراب وطنه حمله محبة واعتزازاً وصدق وطنية، والتصاق حقيقي بالأرض، وان عامل الفقر في أرض الأحلام التي تسوّدُها الإمكانات الشريرة على أن العيش بها محال، وعدم نضوج القادة واستغلال ما تملك هذه الأرض المعطاء، فهناك الكثير من المفارقات في الحياة من فقر وخير ومن الموت لبلوغ حلم كاذب، الإعتزاز بالوطن هو البقاء فيه لا أن تحمله معك، حمل عيِّنة منه جهد مضاعف على النفس يؤلم اكثر حين تراه وانت غريب، حمل الكنز الذي تحمله وبدل من يحصل على ثمنه المهاجر حيث خسر حياته غرقاً ذهب (الختم الأثري) الذي لا يقدر (بثمن) للأجنبي، فهو بدأ حياة لأجنبي وخسر حياة لصاحبه وهو ثروته التي يحملها.

في الحياة اليومية الجاهلة وفي عصر الأنترنيت وعبر التواصل الإجتماعي الذي بلغت من خلاله الدول التي صنعته وصدرته بالقضاء على مقدرات وشعوب العالم عبر الشر السائل الذي تحمله في تفكيرها لبلوغ الهيمنة والتسلط وإحياء الأساطير في فلسفتها حول المليون الذهبي، وهي ترى تكاثر الشعوب التي سوف تغطي اليابسة، أظهر التخلف العلمي أشياء كثيرة في المجتمع العربي كمناكدات وصراعات اولها مذهبية فارغة في صراع الحق، ومن هذا المنطلق بنى الكاتب فكرة قصة (سكر مالح) وصراع جيرانه وانتماءاتهم الحزبية والفكرية التي يتبنونها في النقاش والعراك المحتدم على صحة قول كل منهم، فالعراقيون ينتهي كل شيء فيهم إلى الصراع والقتل لإثبات صحة ما يعتقدون به، في كرة القدم وفي الصناعات وفي الأفكار السياسية وفي كل شيء، لهذا أبرز الخلاف بين اليساري واليميني على فكر وعلم من صنع سكر مالح وصَدَّره، وهو عند الإنسان البسيط التسمية لا تعني شيء فالمالح ملح والحلو سكر.

التماسك الأسري والنخوة والكرم وإبداء المساعدة هي في حد ذاتها مقومات وركائز دينية وشرائع سماوية من اجل حياة متساوية ومتكافئة وبناء خلق وصفات لشريعة الله في الأرض، فعمَدَ الكاتب على ابراز صفة المقدس الخائن لشريعته، وقطع صلة الرحم، وابراز الصفة (الروبن هودية) وهذه من الأمنيات الشخصية التي تتكون وتتبلور في الأنساق المضمرة للفرد، على أن اللص في قصة (تقمص شرعي) فقد أضاف الصفة الشرعية والشخصية للقاضي البخيل الذي يقبض أصابعه على ماله ويحرم منه إبن أخيه الذي سيعمل عملية وهو غير قادر على دفع تكاليفها، فالمفارقة هي أن اللص يسرق رأفة بأبن أخ المقدس (القاضي) المخول قانوناً وشرعاً في كثير من أمور الناس، وإشارة الجزء شاملة الكل في التمحيص بها، واتهام على كثير ممن يدعون الدين، ولكن هذا اللص جاء له بقناع صديقه لكي يفتح أبواب القبول، لزيادة الثقة به، فلو جاء وجهه الحقيقي لما استقبله وهو ينظر إليه عبر صور الكاميرات التي شوهت صور العين والفكر أو لنقل سيطرت عليه وجعلتها مهملة وهي مفارقة أخرى وعلامة دلالية على القبول وترك التكنلوجيا تحدد مقدار الرؤية الفكرية إلى الأشخاص والمعرفة والفهم وتعطيل الأحاسيس والمشاعر والعاطفة وتجريد الجسد مما زرع الله به من قيم عليا، فقد ركز في العديد من نصوصه القصصية على التدهور الحاصل في القيم الروحية للإنسان العربي والعراقي خاصة وشخَّص على الروابط الأسرية للأفراد وصلة الرحم، واللا مبالاة عند أغلب الناس، فالتحول المادي وتعاظمه في الحياة، والصراعات من أجل السلطة والغِنى هدَّم الكثير من الروابط المجتمعية في العوائل العراقية والعربية، فقصة (الشحاذ) تحول كبير في كثير من روابطنا المجتمعية، فقد وجد شحاذ بملابس رثة، أعطاه المال وزاده، وأعطاه الطعام وغيره ونوَّعه، وأعطاه الملابس وغيرها، لكن الشحاذ لم يمد يداً ليأخذ أي شيء مقدم له، فهنا الحيرة: إذاً ماذا تريد؟

- أنا أخوك من أم قبل أمك، وأريد احتضان.

أريد أن أجد الحنان وأريد أن أجد الأخوّة، أريد ما زرعه الله لا ما أعطاك إياه، ركز على صفة التوادد والتراحم التي لا يشتريها المال، ولا تسترها الثياب، ولا يعوضها الشبع ولا تنوّع الطعام، وصدمتُها أنه سقط (ميتاً) لم يبق ليشبع رغبته، ولم يدخل بيت أخيه ليعرفوه أولاده، ولم يشاركهم ليتمكنوا من محبته، جاء ضيفاً في الشارع ورحل من الشارع إلى السماء.

كنت وأنا أرى ما يحث في غزة من جور وظلم وتهديم وإبادة وجوع، أنادي ربي وأسال زوجتي، يا لصبر الله على الظالم، متى ينصرهم ويجعل من ينتصر لهم متى أرى، متى ارى؟ وفي أحيان أقولها غاضباً وكأني ان المسؤول عن نجاتهم، واحياناً أسال عبر الوسائل هل نحن في اختبار بهؤلاء أمام الله؟

في كل الأحوال لله في خلقه شؤون، فقد سلط من يريهم قوتهم وجبروتهم وهربوا ونزحوا وربما جاعوا، فقد أدينوا بما ادانوا، فمن قصة (أجساد أمام الكاميرا) وهي لصاحب ملاس نسوية يرى بها أجساد النساء الذين يبدلن في غرفة الملابس، جاء يوم وفاة والده وجاءت عائلته وسلط عُمَّاله أن يروا جسد زوجته وبناته في غرفة هو أعدّها وكاميرة هو أخفاها ورجال استأجرهم ليعملوا لديه، فكل شيء من صنعه وتفكيره.

قال الرصافي على ما أعتقد:

(من رام وصل الشمس حاك خيوطها سبباً إلى آماله فتعلقا)

فالشمس في المعنى المعادل هي العلم والدين الحقيقي، والحياة المستقيمة، والنجاة والصدق والوطنية الحقة، وفي هذه القصة المعنونة بـ (الشمس) كثير من الحقائق لا فكر الكاتب وهو أن ولدا كلما نظر إلى الشمس فَقْد حبيباً، بدأها بأصوله وتراثه برمز جدته، وذبول أمه وتردي صحتها وهي ترمز للعروبة، ولوحات الإستشهاد لصحبه وأصدقائه وأبناء محلته حين غض الطرف عن الشمس للحفاض على والدته، لذلك قرر أن ينظر حتى أمسى لوحةً على أحد جدران المدينة شهيداً مجاورا لأصدقائه، متمثلاً بـ (أمّا حياة تسر الصديق وأما ممات يغيض العدى)

لا استطيع الكتابة عن كل القصص في مجموعة (رهان عقابيل) للقاص العراقي الكبير ضاري الغضبان، ومدى تنوعه والتزامه بوحدة فكرة النصوص، ورسالته للمجتمع الذي هجر القراءة في قصته (غداء بائع الكتب) فإنه وقف على الهدم الحاصل بالمجتمع العراقي ونبَّه له واجاد في توظيفه ومفارقاته وتوظيف رموزه، له التحايا والتألق ومن الله التوفيق.

***

عيّال الظالمي - العراق/ المثنى

23/6/ 2025

 

للشاعر يحيى السماوي.

نص الومضة:

من خمرة دمي

وخضرة عشب عيني

وبياض قلبي

وزرقة جنوني

وشحوب وجهي

سأرسم قوس قزح للأطفال

قوس قزح يخلو من اللون الأسود

فأطفال وطني يفزعهم السواد

سواد ضمائر وقلوب الساسة

تتأسس هذه الومضة الشعرية على مفارقة شعورية مكثّفة، تنتقل فيها الذات الشاعرة من الاحتراق الداخلي إلى محاولة الخلق والتكوين من رماد التجربة. إنّه خطاب شعري موجّه من الداخل المجروح إلى الخارج المأمول، حيث يمتزج الألم الشخصي بالهمّ الجمعي، ويتحول النص إلى مرآة للطفولة المغتصبة، وللبراءة المنتهَكة في وطنٍ لم يعُد يَسَع الحلم.

يفتتح الشاعر السماوي نصه باستعارات ذات طابع جسدي وروحي عميق:

فهو هنا، لا يستدعي أدواته من الواقع البارد، بل من صميم ذاته: دمه، قلبه، جنونه، وجهه. إنها لغة تنطلق من التجربة الوجودية المباشرة، تُحيل على أن الكتابة ليست ترفًا ولا وصفًا، بل هي معاناة تتخثّر في صورة. فالخمرة ليست متعة، بل وجع مختمر؛ والبياض رمز الصفاء ، والوجه – ذلك المرآة الخارجية – يبوح بشحوبه عن ليلٍ طويل من الإنهاك.

هذه المقدمة المرهفة تُؤسِّس للذروة التي تأتي بعدها:

"سأرسم قوس قزح للأطفال"

الفعل هنا فعل خلق، لا هدم. في عالم مأزوم، يختار الشاعر أن يستجيب لا بالقسوة، بل بالفنّ. لكن هذا "القوس" الذي يعد به، ليس بريئًا تمامًا. إذ إنه قوس قزح ينقصه اللون الأسود، وكأن الشاعر يُعيد بناء صورة الطفولة، لكن بما يناسب براءتها، خاليًا من الخوف.

يكتسب اللون الأسود في هذه الومضة وظيفة رمزية كثيفة. فهو ليس فقط اللون البصري الذي يرتبط بالحزن والموت، بل هو أيضًا التمثيل الأخلاقي لانحدار السلطة السياسية. فحين يقول:

"فأطفال وطني يفزعهم السواد / سواد ضمائر وقلوب الساسة"

فهو لا يتحدث عن فزع بصري، بل عن رعب قيمي وأخلاقي. الأطفال – رمز الطهارة – صاروا يخشون العالم بسبب ظلمة الداخل، بسبب سواد لا يُرى بالعين المجردة، بل يُحسّ في السلوك والمصير. إنه نقد ناعم وعميق في آنٍ معًا، يُدين الطبقة السياسية لا من باب الممارسات، بل من باب ما تتركه في أرواح الصغار من أثر لا يُمحى.

وفي هذا السياق، يصبح حذف "الأسود" من قوس قزح فعل مقاومة فنية، لا مجرد حركة تشكيلية. إن الشاعر يحاول أن يعيد تشكيل العالم برمزية جديدة، يكون فيها الأسود رمزًا للمسؤولية، لا للطبيعة؛

 نتيجة لفعل الإنسان لا قدرًا.

لقد تميّزت الومضة بقدرتها على الإيحاء عبر الاختزال. كل سطر فيها يعمل كشظية، لا تعتمد على التوسع السردي بل على التوتر الداخلي بين الصور. فاستطاع الشاعر السماوي، من خلال عشرة أسطر فقط، أن يُكوّن بنية شعرية مشحونة بالإحساس، متماسكة في نَفَسها ومتصاعدة في بُعدها الدرامي، مما يمنح النص قيمة تأملية لا تعتمد على البلاغة الزائدة، بل على صدق العاطفة وحدة الرؤية.

اذن ...نحن أمام ومضة شعرية مكثفة تمزج بين شعرية الألم وفنّ الأمل. لا تكتفي بإدانة السواد، . بل تسعى إلى تجاوزه ، بالبراءة، بالطفولة. وهي بهذا تكتب سيرة وطنٍ من خلال ريشة شاعر، وسيرة جيلٍ من خلال وجوه أطفاله.

ومضات كهذه، وإن بدت قصيرة، تحمل في طياتها صرخة كاملة بحجم وجع أمة.

***

قراءة/  عبد العزيز الناصري

 

رحلة الوعي بين قسوة الواقع ونداء التّحرّر

مقدّمة: روح الشّعر في نصّ نثريّ:

في عوالم الكلمة السّاحرة، حيث تتراقص الحروف على إيقاع الرّوح، وتُنسَجُ المعاني من خيوط الفكر، يبرز نصّ "أغنية المجنون" للشّاعر الإماراتي عادل خزام؛ كتحفة أدبيّة تتجاوز المألوف.

هو نصّ نثري شاعريّ بامتياز، تتجلّى فيه روح الشّعر في أبهى صورها، وإن تحرّرت من قيود الوزن والقافية التّقليديّة، إذ ينساب النّص بسلاسة، حاملا في طيّاته إيقاعا داخليّا متفرّدا، ينبع من تدفّق الأفكار المتتابعة، والصّور الفنّيّة المتلاحقة والعاطفة الجيّاشة.

إنّه نصّ شعريّ في روحه وجوهره، لا يندرج تحت القصّة القصيرة أو المقالة النّثريّة، بل يمثّل نوعا أدبيّا مختلفا، يجمع بين حرّيّة النّثر وروح الشّعر، مانحا إيّاه مرونة كبيرة في التّعبير عن أغوار النّفس الإنسانيّة ومكنوناتها الفلسفيّة، مرتكزا على اللّغة المكثّفة والرّمزيّة العميقة والتّكثيف الدّلاليّ.

يأخذنا خزام في رحلة استكشافيّة جريئة، تبدأ بنفيٍّ قاطع لكلّ أشكال الخضوع، تتوالى فصولها في بحث دائم عن الهويّة والمعنى، وتصطدم بصرامة الواقع وتناقضاته، وتنتهي بدعوة جريئة إلى التّحرّر من قيود الفكر والوعيّ الجمعيّ، حتّى لو كان ثمن ذلك هو لقب "الجنون".

أنشودة الذّات، وتحليل لصرخة الوجود:

يبدأ عادل خزام نصّه بنفيّ قاطع لأيّ تاريخ من الخضوع، ليؤكّد على فرديّته واستقلاليّته منذ البداية. يقول: "لم تطأ قدمي حافيا في لعبة النّار، ولا استرسلتُ يوما في الرّكض نحو الهاوية، ولا طالت رقبتي أمام أبٍ أو جدّ".

هذا الافتتاح القويّ، يمهّد لخوض الشّاعر في رحلة عميقة لاستكشاف الذّات، مؤكّدا رفضه للقيود المجتمعيّة والوراثيّة، ومعلنا عن طريق خاصّ به في الحياة.

هي رحلة ميلاد مستمرّ، يصف نفسه فيها قائلا: "وُلِدتُ لأنتمي للدّهشةِ زاحفا على أسفلتٍ ورملٍ حتّى اسودّتْ ركبتاي".

هذا التّعبير يجسّد الصّراع الباكر مع الواقع، والجهد المبذول في التّكيّف، ثمّ التّحوّل من الزّحف إلى المشيّ المتعرّج، وصولا إلى الانتصار على الضّعف والوهن.

هذا التّحوّل الرّمزيّ يعكس رحلة نمو الوعي وتطوّر الشّخصيّة، فكلّ سقوط هو خطوة نحو النّهوض، وكلّ تحدٍّ يضيف طبقة جديدة من الإدراك. إنّها استعارة بليغة لتكيّف الإنسان مع مصاعب الحياة، وتحويل التّجارب القاسية إلى وقود للارتقاء.

يظهر دور الأمّ هنا ليس بصفتها المانعة، بل كصوّت داخليّ حكيم، فيكتب: "سَمِعتُها في انكسارات اللّيل تُبجِّل الشّمعة".

هذه الشّمعة ليست سوى رمز للأمل، والدّليل الحيّ وسط ظلمات اللّيل، والوعيّ الّذي يحرس الشّاعر في مواجهة "ذئاب اللّيل" المحتملة، تحت حماية "ظلاله" الخاصّة، أيّ وعيه وكيانه الدّاخليّ.

ينتقل النّصّ بعد ذلك إلى طرح سؤال الهويّة الأساسيّ: "من أنا؟"؛ ليقدّم إجابات إبداعيّة غير تقليديّة، تفارق المألوف وتعزّز نظرته الفلسفيّة للحياة، فالشّجرة تصبح "أمّي الثّانية" في إشارة إلى الارتباط العميق بالطّبيعة والأصالة، بينما "عمود الإنارة" يغدو "قمري في ليل المدينة"، مجسّدا التماس الضّوء والهداية في بيئة حضريّة قد تكون قاسية ومظلمة، وتتحوّل الذّكريات الّتي يفترض أنّها ماضٍ ثابت، إلى "سلالم صعودٍ لمن أغوته ثمرة الحياة" و "سلالمُ هبوطٍ للجبان"، في رؤية مبتكرة تؤكّد أنّ الماضي ليس حدثا عابرا، بل أداة يمكن استغلالها للنّهوض أو التّراجع حسب إرادة الإنسان. هذه الصّورة تكشف عن نظرة الشّاعر العميقة للتّفاعل بين الذّات والزّمن، وكيف يمكن للوعيّ أن يحدّد مسار الفرد.

تتجلّى قوّة الذّات المتخيّلة لدى الشّاعر في تصويره لقدرته على التّحكّم في عناصر الطّبيعة: "لو أضع كفّي في كفّ مجدافٍ، يصير البحرُ عبدي، لو أضع ساقي في حذاء المسافة، تتلوّى تحت خطوتي الأرض".

هذه الجمل الاستعاريّة، تعكس ثقة مطلقة في القدرة الكامنة، وكأنّ العوالم الخارجيّة تنصاع لإرادته الدّاخليّة، بل ويذهب أبعد من ذلك، إذ يقول: "وقد أُسابِقُ دورانَها فتختلطُ البداية بالنّهاية حين أقف"، في إشارة إلى تجاوز الزّمن والمكان، والوصول إلى نقطة اللّاتناهي أو الوعيّ المطلق.

يمارس الشّاعر هنا نقدا لاذعا للمنطق السّطحيّ، فيصف "رجلا واهما يركض للأمام، لكنّه في الحقيقة عائد للخلف"، مما يعكس رؤيته للتّناقضات الظّاهريّة في السّعيّ البشريّ، وكيف أنّ المظاهر قد تكون خادعة، وأنّ التّقدّم المزعوم قد يكون في جوهره تراجعا.

تتجلّى أوج هذه التّناقضات في تخيّله لموقف الاصطدام بـ "حشد عقلاء" في اللّيل، حيث صرخته "أنا نقيضكم"، لا تستدعي سوى الطّرد من "جنّة الشّطط"، ممّا يؤكّد على عمق الفجوة بين رؤية "المجنون" الحقيقيّة وواقع "العقلاء" الزّائف.

يواصل خزام بحثه المستمرّ عن "الأنا" الحقيقيّة، معترفا أنّه لم يجد بعد أغنيته، على الرّغم من اطّلاعه على العديد من الكتب تحت المطر، في دلالة على استمراريّة البحث والتّشبّع بالمعرفة والقراءة، دون الوصول إلى اكتمال الذّات.

إنّ الشّاعر، على الرّغم من تبحّره في المعارف وعميق قراءاته وسعة اطّلاعه، لا يزال يقرّ بأنّه طالب علم دائم، وأنّ رحلة المعرفة لا تبلغ منتهاها، فمن يعتقد أنّه قد أكمل العلم واكتمل، فهو في الحقيقة أوقف نبض فكره، وأغلق أبواب بصيرته، وأعلن عن جمود روحه في بحر لا ساحل له من التّساؤلات والاكتشافات، وهذا ما يؤكّد على أنّ الهويّة رحلة وليست وجهة ثابتة.

يتعمّق خزام في صورة فنّيّة أخرى تقول: "الّذي ولدوه بفمٍ مغلق، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور"، وهي صورة مؤثّرة، تعكس شعورا بالعزلة وعدم القدرة على التّعبير الكامل عن الذّات في عالم متخبّط.

تتشكّل مرارة هذا الصّراع في محاولاته اليائسة لإحداث فرق في العالم الخارجيّ؛ فـ"عملةَ الحظّ" الّتي يرميها للفقير تسقط "في يد الغنيّ"، و"قُبلة الحبّ الّتي يرسلها مع طائرِ الحرّيّة، يرتطم بزجاج النّوافذ ويموت، ممّا يبرز شعورا بالعجز أمام الظّلم الاجتماعيّ وقيود الواقع.

في الفقرة الأخيرة، يضعنا النّص أمام حوارين رمزيّين يبلوران رؤية "المجنون" للعالم. الأوّل مع "شاعرٍ هشٍّ" يرى قصائده "أوراق يانصيب" والحياة "حفلة مقامرة". يرفض الشّاعر هذه الرّؤية الانهزاميّة السّلبيّة، ويصفه بأنّه "أسطوانة الخسران" الّتي ستظلّ تدور حتّى تنكسر وتؤذيه.

أمّا الحوار الثّاني، فهو مع "الفيلسوف" الّذي يتساءل: "هل هناك عطلة للزّمن؟" هذا السّؤال العميق يدفع الشّاعر إلى إدراك ثقله رغم خفّته، وارتباطه بالأرض رغم "أجنحته الكثيرة"، يشعر بمسؤوليّته تجاه كلّ "فتنة ضامرة"، ويدعو هنا إلى تحرير الوعيّ، والتّحرّر من القيود الفكريّة بفتح الأقفاص الفارغة؛ كيّ يحرّر الرّيح من كلّ أفكارها. هذا الفعل الرّمزيّ هو دعوة إلى التّفكير الحرّ، والتّحرّر من الأوهام والقيود المعرفيّة، حتّى لو كان الثّمن هو أن يلقّبوه بـ "المجنون الّذي لا يعي هذيانه أحد".

إنّ "جنون" الشّاعر هنا ليس عجزا، بل هو شكل من أشكال التمرّد على السّائد، ورؤية مختلفة للعالم، تمنحه القدرة على كشف زيف "العقلاء" والبحث عن الحقيقة المطلقة.

"الجنون في الأدب".. تجاوز العقل إلى فضاء الوعيّ:

يتّضح مفهوم "الجنون" في هذا النّصّ كبعد فلسفيّ عميق، يتجاوز دلالته الشّائعة الّتي تعني الخلل العقليّ؛ ليحضر بوصفه حالة من الوعيّ المتفرّد والتّمرّد الفكريّ. هذه النّظرة ليست جديدة في الفضاء الأدبيّ والفلسفيّ، فلطالما كان "المجنون" في تراثنا الإنسانيّ، شرقا وغربا، رمزا للحكيم المتنوّر أو النّبيّ الّذي يرى ما لا يراه غيره، أو الفيلسوف الّذي يتحدّى المنطق السّائد والقوالب الجامدة.

في الأدب العربيّ، نجد شخصيّات مثل "مجنون ليلى" الّذي تجاوز عشقه حدود العقل المتعارف عليه؛ ليصبح رمزا للحبّ المطلق، فيرى في ليلى كلّ الوجود. وفي الفلسفة الصّوفيّة، غالبا ما يشار إلى السّكرِ أو الجنون بمعنى الخروج عن المألوف، والذّوبان في الحقيقة الإلهيّة، وهو ما لا يستوعبه العقل البشريّ المحدود.

أمّا في الفلسفة الغربية، فقد جسّد العديد من الفلاسفة والمفكّرين، على مرّ العصور هذا الجنون التمرّديّ، حيث قادهم اختلافهم عن التّيّار العامّ إلى نظرات ثاقبة، كشفت زيف الواقع وقصوره.

يعيد عادل خزام تعريف هذا المفهوم ببراعة، فيجعل "الجنون" ليس نقصا أو عجزا، بل هو سبيل لإدراك الحقائق الّتي تعجز العقول عن استيعابها. هذه العقول المنشغلة بالمادّيّات، أو الخاضعة لقوالب المجتمع وأعرافه، تفقد القدرة على الرّؤية الشّاملة والعميقة، فـ"المجنون" في هذا السّياق هو من يرى الصّورة كاملة، ويكشف التّناقضات والزّيف، ويتحرّر من القيود الفكريّة الّتي تغلّ الآخرين.

إنّها الثّورة على المألوف، والبحث عن الحرّيّة في فضاءات الفكر المطلقة، حتّى وإن كان ثمن ذلك هو وصمة "الجنون" في أعين من لا يستطيعون فهم هذيانه النّيّر. هذا الجنون هو فعل مقاومة ضدّ الرّتابة والنّمطيّة، وهو البوّابة نحو إدراك الذّات في أعمق صورها وأكثرها تحرّرا.

صراع الرّوح، بين قسوة المدينة وأصالة الطّبيعة:

يخلق عادل خزام في نصّه تضادّا حادّا بين عالمين متناقضين: قسوة المدينة وصخبها، وأصالة الطّبيعة ورمزيّتها. هذا التّوظيف المكثّف، "المدينة" و"الطّبيعة" يمثّل صراعا وجوديّا عميقا يواجهه الإنسان الحديث، فعلى الرّغم من "الإسفلت والرّمل" اللّذين يسودان بداية حياة الشّاعر، ويتركان أثرا قاسيا "حتّى اسودّت ركبتايّ"، إلّا أنّ الرّوح لا تستسلم لجمود هذه البيئة.

تظهر "المدينة" في النّصّ بوصفها فضاءً للوحدة والبحث، حيث يصبح عمود الإنارة قمريّ في ليل المدينة. هذا العمود الّذي هو نتاج بشريّ صلب، يتحوّل إلى مصدر نور وهداية في ظلمة الوجود الحضريّ.

إنّها محاولة لاستخلاص الجمال والمعنى من قلب القبح أو التّجاهل، وعلى النّقيض، تحضر "الشّجرة" كـ"أمّي الثّانية"، لتصوّر رمزا للأصالة والجذور والانتماء للطّبيعة البكر، الّتي تمثّل مصدرا للنّمو والحماية الرّوحيّة.

إنّ "المجنون" لا يرفض المدينة بالكليّة، بل يحاول ترويضها؛ ليجد فيها بصيص ضوء خاصّ به، وهو لا يغوص في غياهبها، بل يرى فيها إضاءته الخاصّة. هذا الصّراع بين "الأصالة والحداثة"، يصبح دعوة للتّأمّل في كيفيّة تفاعل الفرد مع عالمه المعاصر، فهل يذوب فيه، أم يحافظ على جذوره الرّوحيّة والطّبيعيّة؟ وهل يمكن للإنسان أن يخلق مأواه الرّوحيّ حتّى في أكثر الأماكن قسوة واغترابا؟

هذا التّوظيف لعنصريّ المدينة والطّبيعة، يمنح النّصّ بعدا فلسفيّا حول مكانة الإنسان في الوجود، وكيف يسعى للحفاظ على روحه وفرادته رغم كلّ التّحدّيات.

اللّغة كأداة للتّحرّر والتّمرّد والمقاومة:

إنّ المتعمّق في هذا النّصّ يدرك أنّ اللّغة فيه لا تحمل المعنى فقط، بل هي فعل تمرّد بحدّ ذاته، فالشّاعر يكسر القيود الشّعريّة التّقليديّة من وزن وقافية، ليؤكّد أنّ التّمرّد ليس مقتصرا على الأفكار، بل يمتدّ ليشمل شكل التّعبير ذاته. هذا الانطلاق في البناء اللّغويّ، يعطيه مرونة استثنائيّة، ويتيح تدفّق الأفكار بوعي دون عوائق، واتّخاذ الكلمة الحرّة كأداة لتحرير الفكر.

كما يكسر النّصّ القواعد الأسلوبيّة المألوفة، يستخدم مفردات عاديّة بتركيبات غير عاديّة، يحوّلها إلى صور استعاريّة، تخلق دهشة جماليّة وفكريّة.

على سبيل المثال، عبارة: "تتلوّى تحت خطوتي الأرض"، وهي استخدام غير مألوف للفعل "تتلوّى" مع "الأرض"، ما يمنح الجملة قوّة وحيويّة ويجسّد قوّة الذّات المتخيّلة. كذلك، استخدام الأفعال المضارعة مثل: تطأ، يكبر، يرتطم، ينكسر، تُبجِّلُ، يمتطي، أضعُ، تختلطُ، وغيرها، ممّا يضفي على النّص إحساسا بالحركة المستمرّة والدّيناميكيّة الجامعة.

هذه الأفعال لا تصف حالة ثابتة، بل تصوّر عمليّة بحث دائمة، وصراعا متواصلا وتجدّدا في الوعي، ممّا يعكس طبيعة رحلة "المجنون" الّتي لا تتوقّف.

هكذا، تغدو لغة النّصّ شهادة بليغة على الابتكار الخلّاق، ففي رحابها يبرز التّمرّد فعلا جماليّا وجوديّا، وما حداثة الشّكل الشّعريّ والنّثريّ وما يحمله من تجريب، ليست سوى مرآة صافية لوعيّ متجدّد يتوق إلى الانعتاق من كلّ قيد. لذا، يصبح التّجريب هنا ضرورة ملحّة، لا لإيجاد صياغة فكريّة وجماليّة مختلفة فحسب، بل لخلق دهشة مغايرة، وكسر قوالب الكتابة النّثريّة التّقليديّة السّائدة. وفي الحقيقة، دائما ما تحمل نصوص عادل خزام هذا التّميّز والابداع، فكلّ كلمة تنساب بسلاسة على إيقاع خاصّ، وكلّ جملة تنسج عالما فريدا ينبض بالجديد، يغوص في عوالم لم تُطرَق بعد، ويتجاوز بنصوصه حدود المألوف، ليقدّم رؤية فنّيّة مختلفة، تعيد تعريف مفهوم الجمال في الكلمة والمعنى.

 

الأبعاد النّفسية العميقة.. صدى الاغتراب وقلق الوجود:

يتجاوز هذا النّصّ حدود التّحليل الأدبيّ السّطحيّ؛ ليلامس أبعادا نفسيّة عميقة لشخصية "المجنون"، مصوّرا بذلك صدى لقلق وجوديّ يعتري الإنسان المعاصر.

تتعمّق هذه الأجواء النّفسيّة مع صورة مؤثّرة: " وكأنّما الّذي ولدوه بفمٍ مغلقٍ، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور". هذه العبارة تكثّف رمزيّة القمع، وقمع الذّات منذ البداية.

إنّ "الفم المغلق" يوحي بحالة من عدم القدرة على التّعبير الحرّ أو الكبت، ربّما بسبب ظروف النّشأة أو الضّغوط المجتمعيّة الّتي تحاول قوّلبة الفرد. هذا الكبت الأوّليّ، يقود إلى الشّعور بالعزلة والجمود، كـ"عمود إنارة على رصيف مهجور"، حيث يصبح الفرد موجودا، لكنّه منعزل، يضيء دون أن يجد من يستضيء بنوره الحقيقيّ أو يفهم ماهيّته.

إنّها تساؤلات حول تطوّر الفرد تحت وطأة القيود، وكيف يمكن لعدم القدرة على التّعبير أن يشكّل شخصيّة تعاني من شعور عميق بالوحدة وعدم الانتماء، حتّى لو كانت قادرة على الإضاءة للآخرين. 

رسالة الأمل.. خيط النّور في غياهب اليأس الظّاهريّ:

رغم ما قد يبدو عليه النّصّ من نبرة مريرة في بعض جوانبه، لا سيما في تصوير محاولات الشّاعر لإحداث فرق في العالم، إلّا أنّه لا يخلو من خيط خفيّ من الأمل.

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ "عملة الحظّ" تهبط دائما في جيب الغنيّ، وأنّ "قبلة الحبّ" لا تبلغ مرادها، ممّا قد يزرع بذور اليأس في النّفوس ويوحي باستحالة التّغيير. لكن، في جوهر هذا الواقع، يكمن تعميق لرؤية الإنسان المعذّب، ودَفعٌ قويٌّ له نحو استكشاف سبل جديدة للانعتاق، فاليأس هنا ليس يأسا مطلقا أو استسلاما للقدر، بل هو نقطة انطلاق لوعي جديد ومحاولة أخرى لا تتوقّف، يتّضح هذا الأمل في دعوة الشّاعر الحاسمة: "من واجبي أن أفتح الأقفاصَ الفارغة كي أحرّرَ الرّيح من كلّ أفكارها".

هذه دعوة مجازيّة ورؤية فلسفيّة عميقة للحرّيّة، فالأقفاص "الفارغة" تشير إلى القيود غير المرئيّة، الأفكار البالية والمعتقدات الجامدة الّتي تحبس الأرواح، وتحرير "الرّيح" يعني إطلاق العنان للفكر، للتّغيير وللقوة الدّافعة الكامنة في الوجود، وهذه الدّعوة تمثّل قمّة الأمل في النّصّ، وتؤكّد على أنّ الحلّ لا يكمن في التّكيّف مع الواقع السّلبيّ، بل في تحطيم قيوده الفكريّة والنّفسيّة.

إنّ "المجنون" لا ييأس، بل يرى في الرّفض بداية لحياة جديدة، حتّى لو كلّفه ذلك أن يُنظر إليه على أنّه خارج عن المألوف. وهذا هو جوهر رسالة النّصّ، الّتي تدعونا إلى البحث عن النّور حتّى في أشدّ اللّحظات ظلمة.

كم مرّة تراءى لنا شخص في ساحة الحياة، أو غاص في أعماق فكرنا، فوسمناه بختم "الجنون" لغرابة أطواره أو شطط آرائه؟ وما درينا أنّ وراء ذلك السّتار الرقيق، تختبئ عبقريةٌ فذّة ورؤيةٌ ثاقبة تتجاوز حدود إدراكنا القاصر. إنّ ما نظنه اختلافا، ليس في حقيقته سوى وميض لذهن سبّاق، يرى أبعادا وزوايا خفيّة، ويكشف عن حقائق عميقة تعجز الأعين العاديّة عن استيعابها. وكم من فكرة عظيمة بدأت شرارتها في عقل "مجنون" رفض الانسياق خلف القطيع، وكم من إنجاز كان ثمرة بصيرة نافذة لم تخشَ التمرّد على المألوف، ليثبت الزّمن أنّ ما ظننّاه جنونا، لم يكن سوى نبوغ سابق لعصره، وبعد نظر فتح آفاقا جديدة للعالم.

الخاتمة.. صدى الحكمة في صرخة التّحرّر:

هكذا، تسدل "أغنية المجنون" ستارها، لا على نهاية، بل على بداية تأمّل عميق في ذواتنا والعالم من حولنا.

لقد خاض الشّاعر غمار البحث عن "الأنا" الحقيقيّة، مدركا أنّ هويّته لم تكتمل بعد، وأنّ "أغنيته" لا تزال تنتظر أن تكتمل نغماتها، وكما أشار في نصّه، هي ليست إلّا دعوة إلى "تحرير الرّيح من كلّ أفكارها"، دعوة للانطلاق من الأقفاص الفارغة الّتي قد نبنيها لأنفسنا، أو تلك الّتي يفرضها علينا المجتمع. فـ"جنون" الشّاعر الّذي قد يبدو هذيانا في أعين "العقلاء"، ليس سوى بصيرة نافذة ترفض الانسياق الأعمى، وتدعونا إلى احتضان رؤية مختلفة، تمنحنا القدرة على كشف زيف السّائد والبحث عن الحقيقة المطلقة، ففي كلّ "مجنون" يصدح بحرّيّته، تكمن حكمة قد تغيّر وجه العالم.

ختاما.. يجدر بنا التّنويه إلى قامة أدبيّة كعادل خزام؛ فهو شاعر وإعلاميّ وكاتب إماراتي، ولد في دبيّ عام 1964م، صدر له العديد من المؤلّفات الأدبيّة المتنوّعة، وقد تُوّجَت مسيرته بجوائز أدبيّة مرموقة. ولمن لم يتسنّ له بعد أن يغوص في أعماق عالمه الشّعريّ والفلسفيّ والنّثريّ، أضع بين أيديكم نصّ "أغنية المجنون" لتستشعروا جماله:

أغنية المجنون.. عادل خزام:

لم تطأْ قدمي حافيًا في لعبة النّار، ولا استرسلتُ يومًا في الرّكض نحو الهاوية، ولا طالتْ رقبتي أمام أبٍ أو جدّ.

وُلِدتُ لأنتمي للدّهشةِ زاحفًا على أسفلتٍ ورملٍ حتّى اسودّتْ ركبتايّ. ثمّ حين مشيتُ، سقطتُ، ثم مشيتُ مترنحًّا، ثمّ اتكأتُ على وهني وانتصبتُ منتصرًا على آفة الضّعف. لم تقُلْ أمّي: تمهّلْ وإلا سيصطادك النّدم، لكنّي سمعتُها في انكسارات اللّيل تُبجِّل الشّمعة، لعلّها تصير دليلي حين أخرج للمنحدرات وحدي، محاطًا بذئاب اللّيل ولكن تحرسني ظلالي.

من أنا؟ حين أقول إنّ الشّجرة أمّي الثّانية، وعمود الإنارة قمريّ في ليل المدينة، والذّكريات، وقد راكمتُها على رفوف العمر، هي سلالمُ صعودٍ لمن أغوته ثمرة الحياة، ورأى أنّه الأحقُّ بقطفها في نضجها، وهي أيضًا سلالمُ هبوطٍ للجبان، عندما تدلّى أمامه الحبل فظنّه الأفعى، وعندما صفّرتْ له الرّيح من شقوق النّوافذ والأبواب كي يمتطي خيلها، لكنّه أسدل لحافه عليه، وقرّر أن يغرق في النّسيان.

لو أضعْ كفّي في كفّ مجدافٍ، يصير البحرُ عبدي. لو أضعْ ساقي في حذاء المسافة، تتلوّى تحت خطوتي الأرض، وقد أُسابِقُ دورانَها فتختلطُ البداية بالنّهاية حين أقف، وقد أُصادف رجلاً واهمًا يركض للأمام، لكنّه في الحقيقة عائدٌ للخلف. وربما لو أدخل على حشد عقلاء ليلًا وأصرخ فيهم: أنا نقيضكم! لا أُثيرُ سوى ضحكاتهم، وربما ركلوني خارجَ جنّةِ الشّطط الّتي ينعمون بها.

أنا فردٌ يبحثُ عن فردٍ هو الأنا. فتحتُ كتبًا كثيرة تحت المطر ولم أجد بعدُ أغنيتي. وكأنّما الّذي ولدوه بفمٍ مغلقٍ، يصيرُ حين يكبرُ عمودَ إنارةٍ على رصيفٍ مهجور. ها أنا مُغمِضُ العينين أرمي للفقيرِ عملةَ الحظّ لكنّها تسقط في يد الغنيّ، وها أنا أرسلُ قُبلةَ الحبّ مع طائرِ الحرّيّة، لكنّه يرتطم بزجاج النّوافذ، ويسقط ويموت.

قال لي شاعرٌ هشٌّ: قصائدي أوراقُ يانصيب، والحياةُ حفلةُ مقامرة. قلتُ له: أنت أُسطوانةُ الخسران، وستظلُّ تدور وتدور إلى أن تنكسر الإبرة وتطعنك في الوجدان والخاصرة.

قال لي الفيلسوف: هل هناك عطلةٌ للزّمن؟ وحينها شعرتُ بثقلي وأنا الأخفُّ، وبقيدِ ارتباطي بالأرض رغم أجنحتي الكثيرة، وبأنّني السّببُ الوحيد لكلّ فتنةٍ ضامرة، ومن واجبي أن أفتح الأقفاصَ الفارغة كيّ أحرّرَ الرّيحَ من كلّ أفكارها. ولا يهمّ بعد ذلك لو لقبّوني بالمجنون الّذي لا يعي هذيانه أحد.

***

صباح بشير.. روائيّة وناقدة

21.06.2025

 

قبل الاستقلال كان الشعر هو الجنس الأدبي المنتشر في المغرب، وهو الذي كان يعبر عـن هموم الشعب المغربي وقضاياه الاقتصادية والاجتماعية، وكان هو سيف الأدباء في مواجهة المستعمر، وفـي استنهـاض همم الشـعب للتحدي والمواجـهة، وكان الشعر يـعبر أصدق تعــبير عن الواقع المعيش.

أما الرواية فقد تأخرت نشأتها في الأدب المغربي كثيرا، بالمقارنة مـع الأدب الأوربي الذي قطع شوطا كبيرا في الإبداع الروائي، ومــقارنة مع المشرق الـعربي وخاصة مـصر التي عرفت الفن الروائي مبكرا مع رواد كبار.

إن الأدب المغربي لم يعرف ظهور جنس الرواية إلا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، هذه المرحلة التي يمكن اعتبارها " أهم نقطة لتوقيت البداية "(1)، وقد عرفت هذه المرحلة ميلاد نص "في الطفولة" للكاتب عبد المجيد بن جلون الذي كان بمثابة أول نــص روائي يتكون في الأدب المغربي حيث أجمع النقاد المغاربة على اعتباره تأسيسا للــكتابة الروائية المغربية. وقد نالت" في الطفولة " إعجاب النقاد وعكست قدرة عبد المجيد بن جلون الفنية، وبراعته في التصوير والتحليل والتعبير. وعلى الرغم من كون هذا العمل في الواقع ما هو إلا قصة يحكي فيها الكاتب عن نشأته وطفولته وصباه ورحلاته ما بين المغرب وإنجلترا فإن " ماأسبغه عليها من ظلال سحرية وما رسمه فيها من انطباعات فطرية جعلها تفيض بالحيوية وتبلغ حد الإبداع، وبذلك طارت شهرته كقصصي ممتاز فغلبت على ما له من مواهب أخرى في الشعر والنثر " (2). وفي الحقيقة أن عبد المجيد بن جلون بتملكه ناصية الفن القصصي وإمساكه بزمامه فإنه يعد الروائي الأول في الأدب المغربي الحديث.

ويمكن القول إن الرواية المغربية في أواخر الستينيات من القرن الماضي قد بدأت تفرض نفسها وتنتشر انتشارا واسعا في الحركة الأدبية، ولعبت دورا كبيرا في التعبير عن همومنا ومشاكلنا الثقافية والاجتماعية. وبعبارة أخرى استطاعت أن تجسد الواقع المغربي في عهد الاستقلال، ورغم هذه المهمة الإيجابية التي أنجزتها الرواية المغربية فإنها لم تسر دائما في نفس السياق على اعتبار أن هناك بعض الروايات لم تكن مخلصة للواقع وحقائقه الموضوعية بل كانت مخلصة لنوايا مؤلفيها ونزواتهم الذاتية.

كما أن الرواية المغربية عبرت عن طبقة اجتماعية متميزة وهي الطبقة البورجوازية، إذ أنها عبرت عن تصوراتها وجسدت أفكارها وآراءها، وهذا مادفع النقاد إلى الربط بين البورجوازية ونشأة الرواية فقد " عدوا الرواية نوعا أدبيا نشأ أساسا للتعبير عن وعي هذه الطبقة " (3). ولعل النتيجة التي أسفر عنها هذا الربط بين نشأة الرواية المغربية والطبقة البورجوازية الوسطى على الخصوص، هي أن النقاد المغاربة ذهبوا إلى اعتبار ظروف ومشاكل البورجوازي الصغير محور أغلب الإبداعات الروائية، وقد انتشر هذا الحكم بين أغلب النقاد، إذ أنهم اعتبروا أن الركيزة الفكرية لجل الخطابات الروائية هي " الذهنية الطبقية التي كونها المثقف البورجوازي الصغير عن ظروف واقعه المادي وممارسته الاجتماعية، في خضم عملية بحثه عن معنى وجودة وقضايا تطلعاته " (4).

لقد كانت الإبداعات الروائية المغربية التي ظهرت في أواخر الستينيات من القرن الماضي تمثل بشكل فني القوى الاجتماعية التي تعيش في صراع يشتعل حينا وينطفئ حينا آخر، وقد كان لذلك كله انعكاس على الحقل الأدبي والفكري في المغرب. وإذا كانت هناك خصوصية تطبع هذه المرحلة في المغرب فهي الإخفاقات التي فجع بها اليسار، على أن هذا الانكسار في صفوف الحركة التقدمية لا ينهض وحده كسبب رئيسي لظهور روايات تعزف نغمة الرفض والاحتجاج وتهتم بالطبقة المسحوقة في المجتمع طالما أن السبب الرئيسي لنشاط الحركة الأدبية يعود أساسا إلى الصراع المادي بين الجماعات الاجتماعية التي تمثلها القوى الأساسية المتواجدة على الساحة الاجتماعية.

وإذا تأملنا الظروف التي عاشها المغرب خلال هذه الفترة التاريخية يمكن أن نقول بأنها تشبه إلى حد ما الظروف " التي عاشتها أوربا في القرن 19، وهذا ما يؤكد شيئا واحدا وهو أن الرواية عندنا لا تعود في حقيقتها أن تكون جزءا من جملة موروثنا عن الغرب البورجوازي " (5).

ولما كانت معظم الأعمال الروائية المغربية تمثل الطبقة البورجوازية الوسطى والصغرى فإن الذين أبدعوها ظلوا متشبثين بأوهام البورجوازية مما جعل الضباب القومي يطغى على رواياتهم، وجعلها عاجزة عن التعبير الصريح عن الطبقات المسحوقة، وهذا العجز "ليس ناتجا بالضرورة عن غياب التقاليد والأعراف الفنية الروائية في أدبنا المغربي فحسب بل هو ناتج أساسا عن افتقار رؤية روائيينا هؤلاء إلى الفهم الصحيح لجدلية الصراع الدائمة التي تحرك العلاقات الاجتماعية، وتسيرها بحتمية تاريخية نحو مصيرها النهائي " (6). وهذه السلبية هي التي جعلت الرواية المغربية في هذه المرحلة تفقد نكهتها الواقعية، حيث أصبحت بذلك خالية من البعد الثوري، وبقيت سجينة أفق بورجوازي ضيق، وهذا ما جعل أيضا بعض الروايات تطغى عليها النزعة الذاتية، ويبالغ مؤلفوها بسرد الأمور التافهة، ويعبرون عن خواطرهم ومشاكلهم الشخصية متجاهلين وضعية الإنسان المغربي ومستقبله، إنهم بحكم تكوينهم وانتمائهم الاجتماعي غير قادرين على احتضان السياق الراهن لهذه المرحلة التاريخية الحرجة، أو حمل تصور واضح على أفق المستقبل. وهذا القصور في الفهم والتفسير لا يمكن إدراك عوامله البعيدة إلا من خلال تحليل ارتباط الشكل الروائي كما ظهر عند الغربيين بالواقع الاجتماعي الذي أنتجه والمواقف التي اتخذها كتابنا لعكس وبلورة هذه العلاقة عبر رؤية معينة للواقع وعلاقات الإنتاج ودور كل جماعة اجتماعية. ولقد كان من المنتظر، وارتكازا على التقييم المخلص للواقع، وللقوى الاجتماعية المتواجدة فيه أن تظهر الرواية في المغرب بالمفهوم والشكل اللذين عرفت بهما في أوربا، ابتداء من الثلث الأخير للقرن الثامن عشر، لا كمجرد ترف ذهني وثقافي بل وفي المقام الأول كتعبير عن قوات وعلاقات تسود الساحة الاجتماعية وتحتل بحكم تفوقها المواقع الأمامية في الحركة الثقافية.

فالبورجوازية التي قادت معركة الاستقلال تمكنت من الاستمرار في الهيمنة- رغم انقسامها- على المستويين المادي والثقافي كما استطاعت الصمود والتحدي. وفي مقابل هذا الوضع تمكنت البورجوازية الصغرى من إغناء المسار الأدبي، وفرض نموذجها الذي لم يكتف برصد الهزائم التي لحقت بها. واستغلالها كخلفية إيديولوجية تغني العمل الفني، بل جاء ليكتشف طبيعة هذه القوة الاجتماعية الصاعدة.

لقد كان الصراع شديدا بين هذه القوى وكان على كل فئة أن تعطي ما عندها في المجال الثقافي، وكأنها " تبتغي العطاء أن يكون وسيلة من وسائل إثبات وجودها... ويعزز موقعها كطبقة تريد أن تستقطب أكبر عدد من المثقفين، وكان من الطبيعي كذلك أن تختار كل مجموعة لمصادرها والينابيع التي تعتبرها مواد خام صالحة تستقي منها مضامينها الملائمة وأفكارها المعبرة عن أمجادها التليدة، أو عن مطامحها القريبة أو البعيدة "(7).

وهكذ انصب اهتمام مثقفي الطبقة الصغرى على الواقع المعيش حيث راح هؤلاء ينتقدونه ويستغلونه استغلالا فنيا في أعمالهم الأدبية، وصوروا أبطالها من نماذج بشرية مغلوبة على أمرها، إذن فليس بدعا أن يحتل الإنسان البسيط المعدم مركز الصدارة في أعمال هؤلاء المبدعين لهذه الطبقة النامية التي خرجت من أحشاء البورجوازية وأصبحت تدعي أنها صاحبة المصلحة الحقيقية للبلاد.

ومن هنا ستظهر النزعة الواقعية في الرواية المغربية، هذه النزعة التي أصبحت تسير فيها أغلب الروايات، وأصبحت الواقعية هي هاجس معظم الروائيين الذين ألحوا على ارتباط الرواية بالواقع، واعتبروا أن وظيفتها الأساسية هي تصوير الحياة الواقعية، ومن بين هؤلاء عبد المجيد بن جلون الذي قال في بعض أحاديثه بأن " الغرض من القصة أن تصور في عين القارئ حياة واقعية بكل ما في هذه الحياة الواقعية من غنى وأصالة "(8).

وقد انصبت آراء بعض الروائيين المغاربة على علاقة الرواية بالواقع، وتميزت بتركيزها على التجربة الإبداعية كمعاناة ذاتية يحاول المبدع صياغتها كي تكتسي طابعا موضوعيا، ويرى حميد لحميداني في كتابه الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي أن "الرواية هي تلك التي تتجاوز في رؤيتها ماهو موجود في الواقع، من أجل البحث عن قيم أصيلة غير موجودة في الواقع"(9). كما أن أي عمل روائي لا يظهر إلا عندما يكون هناك استياء من القيم السائدة في المجتمع وطموح نحو قيم جديدة ومغايرة، ومن أجل هذا عرف الناقد البنيوي التكويني لوسيان غولدمان الرواية بأنها " تاريخ بحث عن قيم حقيقية في عالم متدهور، ويتميز هذا التدهور فيما يخص البطل الروائي بالتوسط، وبانتقال القيم الحقيقية إلى المستوى الضمني واختفائها كحقائق ظاهرة " (10).

ومن هنا يتجلى سر القيمة الإنسانية والفنية لأي عمل إبداعي. على اعتبار أنه ليس عملا ثانويا في حياة الإنسان، بل هو يساهم في تأسيس المستقبل الإنساني، ولهذا فالرواية كنتاج فكري ليس ترفا، أو شيئا ثانويا بقدر ماهي تعمل ضمن المساهمة الفوقية لحياة المجتمع الروحية فتمارس بذلك تأثيرها على الواقع في حدود إمكانياتها الخاصة.

وبعد هذا الاستعراض لنشأة الرواية والظروف السياسية والاجتماعية التي نشأت فيها والنزعة الطاغية عليها، لابد أن نتحدث باختصار عن المواضيع التي تطرقت لها الرواية المغربية خلال الأشواط والمراحل التي مرت منها.

لقد صورت الرواية المغربية منذ نشأتها مجموعة من القضايا الوطنية والاجتماعية، ولعل أولها كان هو النضال الوطني والنقابي، وهو الذي تمثل في روايات عبد الكريم غلاب وخاصة في "دفنا الماضي" و "المعلم علي" و "سبعة أبواب"، وهي روايات تعالج كلها الفترة السابقة عن استقلال المغرب، وسجلت حقبة تاريخية ماضية مليئة بالنضال، ولم تسجل هذه الروايات أي تصور للمستقبل، ولهذا يقول لحميداني حميد " إن النقطة النهائية التي تقف عندها روايات عبد الكريم غلاب هي تلك اللحظة السعيدة، ولذلك فهي لم تعكس أي بعد مستقبلي " (11).

أما التيمة الثانية التي عالجتها الرواية المغربية فهي صراع الأجيال، وتعكسه لنا رواية "جيل الظمأ" لمحمد عزيز الحبابي، وهي بعكس روايات عبد الكريم غلاب فهي تسجل فترة الاستقلال وتصور لنا " الجيل الجديد في حالة انتصار حاسم على الجيل القديم ومخلفاته"(12).

كما تناولت الرواية المغربية قضية هزيمة الأمة العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ونستشف ذلك من خلال رواية مبارك ربيع "رفقة السلاح والقمر"، وكذلك أعمال الكاتبة خناثة بنونة "النار والاختيار" و "الغد والغضب".

***

حسن لمين

.......................

هوامش

(1) إدريس الناقوري. المصطلح المشترك. دار النشر المغربية. الدار البيضاء. الطبعة الثانية. الصفحة 22.

(2) عبد الله كنون. أحاديث عن الأدب المغربي الحديث. دار الثقافة. الدار البيضاء. الطبعة الثالثة. 1981. الصفحة 125.

(3) فاطمة الزهراء أزرويل. مفاهيم نقد الرواية بالمغرب. نشر الفنك. الدار البيضاء. 1989.

الصفحة 90.

(4) عبد القادر الشاوي. سلطة الواقعية. اتحاد كتاب المغرب. دمشق. 1981. الصفحة200 .

(5) المصطلح المشترك. مرجع سابق. الصفحة 26.

(6) نفسه. الصفحة 26.

(7) نفسه. الصفحة 25.

(8) مفاهيم نقد الرواية بالمغرب. مرجع سابق. الصفحة 117

(9) لحميداني حميد. الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي. دار الثقافة. الدار البيضاء.

الطبعة الأولى. 1985 .

(10) مفاهيم نقد الرواية بالمغرب. مرجع مذكور. الصفحة 76.

(11) الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي. مرجع مذكور. الصفحة 195.

(12) نفسه. الصفحة 204.

قراءة في المجموعة الشعرية (مطرٌ على خدِ الطين) للشاعر حسين السياب

حين تبوح اللغة بقلق الإنسان:

الأدب ليس ترفًا لغويًا، بل فعل وجودي يعبّر عن قلق الإنسان وتساؤله عن المعنى، والعدم، والزمن. في النص الأدبي، تتحوّل اللغة إلى أداة كشف، وتصبح الكلمة مرآةً للذات، تُضيء عتمات النفس وتعيد تشكيل علاقتها بالعالم. أما الشعر، فهو التجلي الأعمق لهذا القلق؛ لغة تتجاوز الظاهر لتغوص في صميم التجربة الإنسانية. وكأن كل قصيدة هي محاولة للقبض على لحظة وعي أو لصياغة سؤال لا جواب له. وكما قال المتنبي:

"وما كنتُ ممن يدخل العشقُ قلبهُ، ولكن من يبصر جفونك يعشقُ".. فالعشق هنا ليس عاطفة سطحية، بل توق أنطولوجي نحو المطلق ويؤكد سارتر:

"أن الوجود يسبق الجوهر، والإنسان مشروع مستمر للخلق"..

فالكتابة عند الإنسان ليست تعبيرًا عن كينونة مكتملة، بل عن صيرورة دائمة تبحث عن المعنى وسط الخراب. ومن هذا المنطلق، هل يمكننا أن نقرأ ديوان (مطرٌ على خدِ الطين) للشاعر حسين السياب، كرحلة وجودية تتشابك فيها اللغة مع الطين، ويتحوّل المطر إلى استعارة كونية تمثل الخلق والانبعاث والتلاشي في آنٍ واحد؟.. وإلى أي حدّ تستطيع هذه الكتابة الشعرية أن تعيد تشكيل ذاتنا في مواجهة الموت والفقد والغياب؟1594 alsayab

1- الشعر أداة لكشف الكينونة:

يتجلى الشعر عند حسين السياب كأداة ميتافيزيقية تتجاوز حدود اللغة الاعتيادية، لتمارس دورها في الكشف الوجودي عن الذات والكون معًا. لا يتعامل السياب مع اللغة بوصفها وسيلة للتواصل فقط، بل بوصفها كيانًا حيًّا يملك قدرة على خرق الصمت وكشف المخفي وإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والعالم. الشعر لا يجيب عن أسئلة الوجود، بل يعيد تشكيلها في هيئة رموز وصور وانزياحات، تخلق توترًا دائمًا بين المعنى واللامعنى، بين الذات والعالم.

"أُعيد ترتيب الحكاية

دون انتصاف الليل"

"أجمع الأضداد بمحبرةٍ سيرياليةٍ تتدلى منها جماجمُ عارية الأوصاف"

هذا التكوين الشعري ينطلق من نقطة محايدة بين الحلم والفقد، بين اللغة والصمت، حيث تصبح القصيدة ضربًا من الفلسفة الكاشفة، لا لأنها تنظّر، بل لأنها تضيء المعتم في وجود الكائن الشعري.

2- اللغة الشعرية: أفق للتشظي والتحول:

ليست اللغة عند السياب مجرد وعاء شكلي لجماليات القصيدة، بل هي أداة هدم وبناء. في مفرداته، تتداعى الصور وتتراكب لتخلق عوالم تنفتح على التشظي

والاحتمال. تتحول اللغة إلى مكان صراع داخلي، وتتحطم التراكيب التقليدية تحت ضغط الذات الممزقة. القصيدة هنا لا تُروى بل تتفجر، والكلمات لا تصف بل تعيش وتتناسل.

"كأنني أبتلع طوفانًا من الصمت الأزلي"

"على عصا اللقاء المنتظر أتوكأ"

إن هذا الانغمار في اللغة هو انغمار في الذات بوصفها كينونة تتكوّن باستمرار، في فضاء مفتوح على الفقد والتحول. يتحدث السياب هنا من قلب الانهيار، وفي كل بيت، يعيد تشكيل وعيه بالزمن، بالعالم، وبذاته.

3- الطين والمطر: جدل الثبات والتحول:

ينبثق الطين في ديوان حسين السياب بوصفه رمزًا للتجذر، للثقل الأرضي، للجسد، وللمحدودية. بينما يمثّل المطر حركة خارجية، تأتي من السماء لتزلزل هذا الثبات، وتكسر الانغلاق. العلاقة بينهما ليست علاقة ضدين، بل علاقة تفاعل وجدليّة وجودية. المطر لا يغسل الطين فحسب، بل يعيد تشكيله، يفكك حدوده، ويبعث فيه معنى جديدًا.

"تعالي كنرجسة تمنح المطر رفاهية الانهيار على خد الطين"

هكذا تُعاد كتابة علاقة الإنسان بالمادة، بالجسد، بالهوية. لا يعود الطين مجرّد استعارة ترابية، بل يتحول إلى موقع للكتابة والخلق، حيث يُعاد فيه تأليف الوجود في كل مرة تمسّه قطرة مطر.

4- المطر: عمل وجودي وجمال مهدد:

في نصوص حسين السياب، المطر ليس ثيمة طبيعية أو زخرفية. إنه لحظة وجودية مكتملة، قوة خارجة عن السيطرة، تفرض على الذات مواجهة ذاتها. إنه الجمال حين يتحول إلى صدمة، إلى دهشة هايدغرية، توقظ الكائن من رتابته، وتدفعه إلى إعادة تأمل مصيره الهش.

"الأفكار توقد رأسي

وتُشعلني كسيلٍ

يُخيفني تفجرها..."

بهذا التصور، لا يتعامل السياب مع المطر بوصفه نعمة، بل بوصفه فوضى، حدثًا يتقاطع فيه الشعري بالميتافيزيقي، ويولد من خلاله فعل الخلق في أقسى تجلياته. إنه الماء الذي لا يروي، بل يهدم ويعيد البناء.

5- المنفى: طرد مزدوج من الجغرافيا والذات:

لا يُصوّر السياب المنفى كفقد مكاني فقط، بل كتمزّق أنطولوجي. المنفى عنده هو حالة طرد مزدوج: من الوطن، ومن الذات. إنه تجربة غربة مضاعفة، حيث تتحول الأماكن إلى أطياف، ويغدو الجسد نفسه غريبًا عن رغباته وألمه.

"ولا أُمسك ظلك

المسافر عبر حقول الأقحوان"

"أتعرى من كل المدن

التي لا تعود لي"

تعبّر هذه الصورة عن شوق يائس، وعن إدراك عميق بأن الانتماء لم يعد ممكنًا، لا خارجيًا ولا داخليًا. الذات المهاجرة تتفتت، وتلجأ إلى القصيدة كي تعيد رسم حدودها، ولو بشكل مؤقت.

6- الموت: من الفناء إلى فعل الكتابة:

الموت ليس غيابًا سلبيًا عند السياب، بل هو شرط للكتابة. هو النقطة التي تنبثق منها القصيدة بوصفها مقاومة للعدم. يعيد الشاعر تشكيل الموت ضمن اللغة، ليمنحه إمكانية جديدة: أن يكون بداية لا نهاية.

"أطرز كفنًا ناصع البياض للأمنيات"

"تسحبني بئر مهجورة

ولا أعرف كيف أنجو منكِ"

الموت لا يُلغى، بل يتحول إلى سؤال شعري مفتوح، وإلى مادة لغوية تُنتج المعنى. هكذا يتقاطع السياب مع كامو، حيث يصبح الاعتراف بعبثية الفناء شرطًا لتحرّر الوعي وصحوة الجمال.

7- اللغة والرمز: بين التمزق والتجاوز:

الرمز عند السياب لا يُستخدم لتزيين النص، بل لتفكيكه. إنه وسيلة هروب من المباشر إلى العميق، ومن السطحي إلى المتأزم. يتكئ الشاعر على رموز متعددة: من الأسطورة، من الدين، من الطقس، من الجسد، ليعيد بناء ذات تتكلم من داخله وتتشكل في لحظة الكتابة.

"في مهرجان الملائكة والشياطين

تتشظى قصائد مصابة بلعنة الماء"

هذا التوتر بين التطهير والانهيار، بين القداسة والانكشاف، يجعل من الرمز قناعًا شفافًا، ومن اللغة بؤرة مقاومة، تكتب الذات لا كما هي، بل كما يمكن أن تكون.

8- الحنين والألم: من رماد الفقد إلى شرارة المعنى:

الحنين عند السياب ليس عاطفة خافتة، بل قوة كامنة في كل بيت. إنه ألم داخلي يتحرك من الذاكرة إلى اللغة، ومن التجربة إلى المعنى. يتحول الحنين إلى مرآة تُعيد للذات ملامحها المفقودة، وتُحفّزها على الخلق.

"أغرس في تربة قلبك قصائد الخريف"

تلك سنابلك تحمل رائحة الشمس"

لا يعود الألم مجرد كرب شخصي، بل أداة كونية لصياغة المعنى. كما يرى نيتشه، فإن المعاناة تُنبت الفكر، والسياب يجسّد ذلك في كل شطر، حين يجعل من الوجع مدخلًا إلى التجاوز.

السياب والفلاسفة الوجوديون: مقاربة أنطولوجية في العمق

في ديوان (مطر على خد الطين): تتقاطع التجربة الشعرية لحسين السياب مع مسارات الفكر الوجودي، لا على مستوى التنظير المباشر، بل من خلال ما يمكن تسميته انفعالًا فلسفيًا ضمنيًا يتخلل اللغة والصورة والبنية. ففي عوالمه المتشظية، تتردد أصداء أساسية لأربعة من أبرز أعلام الفلسفة الوجودية: هايدغر، سارتر، كامو، ونيتشه، مما يجعل من قصائد حسين السياب مساحة مفتوحة لحوار غير معلن بين الشعر والفلسفة.

1- هايدغر والسياب: القلق كشرط أنطولوجي للكشف:

يرى مارتن هايدغر أن الإنسان يُلقى في العالم ليكون "كائنًا -  هنا" (Dasein)، يعيش في القلق بوصفه الحالة الأصلية التي تكشف له عن معناه. هذا القلق لا ينشأ من شيء خارجي، بل من تماس الذات مع هشاشتها، مع فراغها، مع نهايتها الممكنة. في شعر السياب، يتردد هذا القلق كنبض داخلي:

"مرآةٌ خرساء تصرخ فيّ"

"تطحنني أرصفةُ الغياب

تسكبني في فمِ الحياة"

ها هنا، لا يظهر القلق كاضطراب نفسي، بل ككثافة أنطولوجية تدفع الذات نحو مواجهة مصيرها. العالم ليس مكانًا للسكينة، بل فضاء لتكشّف الوجود من خلال الهشاشة والصراع. كما عند هايدغر، القلق ليس شيئًا ينبغي التخلص منه، بل هو بوابة للانكشاف، لإدراك الذات في لحظة الصدق العميقة مع مصيرها.

2- سارتر والسياب: الحرية بوصفها مشروعًا مستمرًا للخلق

في فلسفة جان بول سارتر، لا يولد الإنسان بذات جاهزة، بل هو مشروع حرية مستمر. الوجود يسبق الجوهر، والذات تُبنى عبر الفعل، لا تُعطى سلفًا. حسين السياب يتقاطع مع هذه الفكرة حين يُظهر الذات الشعرية في حالة من المقاومة المتواصلة، وكأنها تنهض من رماد الهزائم لتعيد تشكيل نفسها ضد القدر وضد الحتمية.

"لم أرتّب الليلَ قداسًا للفجيعة،

لن أستسلم للمتاهاتِ التي ترسلها الأقدار”

هنا تتجلى فكرة الحرية الوجودية لا بوصفها امتيازًا، بل مسؤولية مرهقة. فالذات، عند السياب، لا تبحث عن معنى جاهز، بل تبتكره، ترسمه من خلال الألم، وتكتبه في مواجهة التلاشي. إنها ذات سارترية بامتياز: مُدانة بالحرية، ومطالبة بالخلق.

3- كامو والسياب: العبث وتمرد الجمال:

يرى ألبير كامو أن مواجهة العبث لا تعني الاستسلام له، بل أن نتمرد عليه من خلال الجمال، من خلال التمسك بالحياة بالرغم من خوائها. في ديوان السياب، يتحول هذا التمرد إلى فعل شعري، لا يُنكر العدم، بل يجعله خلفية تزداد فيها الصور توهجًا.

"هذا البحرُ لي وحدي…

غريقٌ في أعماقه…

لا أريدُ النجاة"

إنها تجربة عبثية واعية، يرفض فيها السياب الإنقاذ السهل، ويرتمي بإرادته في لجة المعنى المراوغ. كما في منطق كامو، يصبح الموت نفسه مادة للخلق، وتتحول الحياة إلى رهان شعري: كل بيت هو فعل تمرد على العدم، وكل صورة هي محاولة لترسيخ الجمال في وجه الزوال.

4- نيتشه والسياب: الألم بوصفه قوة للخلق والتحول:

في فلسفة فريدريك نيتشه، الألم ليس عبئًا يجب التخلص منه، بل هو مصدر التحول الخلّاق. من المعاناة تولد الإرادة، ومن الجرح تنبثق القوة. هذا المبدأ يشكل بنية داخلية واضحة في شعر السياب، حيث تُعاد صياغة الذات من خلال لهيب الفقد والخذلان.

"أمارس غوايةَ الروحِ

في مجالس التوابين

أشتهي أن أضاجع دلالات الفرح"

لا ينفي الشاعر الألم، بل يعانقه حتى التخمة، ثم يصوغه مجازًا، ويجعله أساسًا لتكوين شعري جديد. كما في تصور نيتشه، يولد السياب من رماد ذاته، ويعيد ابتكار نفسه عبر الحنين، الخسارات، والفقدان. إنه الشاعر الذي يتجاوز هشاشته عبر القصيدة، ويجعل من كل جرح شرفة تطل على أفق جديد من المعنى.

9- ثنائية الأمل واليأس: توازن على الحافة:

يتحرك السياب بين الأمل واليأس كمن يرقص على جسر هش. لا ينهار في الحزن، ولا يطمئن تمامًا للنور. بل يجعل من هذا التوتر مبدأ للكتابة، ومن الحافة فضاء لولادة القصيدة. اليأس لا يُلغى، بل يُصاغ جمالياً.

"تلك مزامير الصيف لا أنصت لها

لأني وُلدت من ذاكرة غيمة محمّلة بماء الأوطان"

الأمل موجود، لكنه ليس يقينًا. إنه فعل مقاومة مستمر، يتجلى في الصور، في الانزياحات، في تردد الشاعر بين الحضور والغياب، بين التمسك والانفلات من الذات.

الخاتمة:

إن تجربة حسين السياب في ديوان (مطر على خد الطين) هي تجربة وجودية بامتياز. ليست الكتابة عنده فعل تعبير، بل فعل انكشاف، وتحول، وتجاوز. القصيدة عنده كائن حي، يصرخ، يئن، يتهشم، ثم ينهض من تحت الطين والمطر حاملًا لغته الخاصة، وهويته المتبدلة، وكينونته التي لا تكتمل أبدًا. لقد كتب السياب من حافة الموت، ومن هوامش الوجود، ومن فجوات الغربة؛ فجعل من الشعر بيتًا للقلق، ومن اللغة وطنًا متحركًا. فهل ما زال ممكنًا أن نرى الشعر تجربة جمالية خالصة بعد هذا العمق

الوجودي؟ أم أن علينا أن نعيد النظر في وظيفة الكلمة حين تصير بيتًا للفقد والمطر والطين؟

***

د. آمال بو حرب - ناقدة وباحثة

للشاعرة د. مرشدة جاويش

الغياب ككينونة: تمثلات الفقد في شعرية الرثاء عند مرشدة جاويش ضمن أفق ما بعد الحداثة.

ظل الرثاء في الشعر العربي تقليداً ذا طابع وجداني يركز على تمجيد الراحل والبكاء عليه، غير أن تحولات الكتابة الشعرية الحديثة، خاصة في ظل تيارات ما بعد الحداثة دفعت باتجاه مساءلة هذا النموذج التعبيري. فقد أضحت الكتابة الرثائية مجالاً لتفكيك الحدود بين الحياة والموت، اللغة والصمت، الذكرى والحضور.

تنطلق هذه القراءة من فرضية أن نص مرشدة جاويش لا يرثي الغائبة بقدر ما يعيد بناء الغياب بوصفه تجربة أنطولوجية ولغوية معقدة.

الإشكالية:

كيف تتجلى تجربة الحداد الوجودي في نص مرشدة جاويش؟ وما الملامح التي تجعل هذا النص يتجاوز الرثاء التقليدي ليندرج ضمن أفق الكتابة ما بعد الحداثية؟

من الرثاء إلى الحداد الأنطولوجي:

في هذا النص، تُبلور الشاعرة مرشدة جاويش ملامح حداد وجودي لا يشبه الرثاء التقليدي، بل يتجاوز فعل التأبين ليغدو تجربة أنطولوجية حيث يتحول الغياب إلى مرآة للكينونة، ويغدو "الفقد" فضاءً معرفياً تعاد فيه صياغة العلاقة بين الذات والآخر، وبين اللغة والذاكرة.

الكتابة كفعل وجودي:

تتجلى الكتابة في النص كفعل وجودي من خلال نفس ما بعد حداثي Postmodern يتكئ على شعرية التفاصيل الهامسة، ويتحرر من مركزية المعنى لينتج دلالات مفتوحة عبر تراكيب تراوغ الظاهر وتدفع القارئ نحو تأويل غير مستقر. إنها كتابة تحاكي الحلم بانسيابه، والتأمل ببطئه، والمناجاة بعزلتها. لا تقدم الغياب بوصفه نهاية، بل تسائل الفناء نفسه وتعيد ترتيب الأبجدية بعين فقدت النطق وبقي لها الصدى:

"كنتِ تسيرين كنسمةٍ / في فكرةٍ أخطأت تجسدها"

تصور الشاعرة الراحلة ككيان شفاف لا يحتمله الواقع؛ تجل لم يكتمل، أو فكرة روحانية رفض الجسد استيعابها. الغياب ليس انقطاعاً، بل تحول، والموت ليس سوى شكّ أنطولوجي.

اللغة كبيت للكينونة:

توظف الشاعرة صوراً بصرية ونفسية على مستوى عالٍ من التجريد:

"ترتبين الدمع كنظرية كونية للعزلة"

"لم أعد أجيد التفرقة بين ظلٍّ يَعبرني وبين طيفك الذي لا يغيب"

تتداخل الفيزياء بالعاطفة، والرمزية الوجودية بالحس الصوفي، وهو ما يحيل إلى قول هايدغر: "اللغة هي بيت الكينونة، وفي هذا البيت يسكن الإنسان". فالشاعرة لا تصف الموت، بل تقيم في اللغة، لتشيد حضوراً بديلاً للغائبة.

تفكيك الرثاء وإعادة بناء الغياب:

يتجنب النص الندب والصراخ العاطفي؛ إنه لا يعلن الموت، بل يتأمله ويقاومه بلغة النفي:

"أنا لا أرثيكِ / أنا أصدق قيامتكِ الصغرى"

هذا التحول من الرثاء إلى الاعتراف بقيامة رمزية يعيد بناء صورة الفقد على نحو يتجاوز المألوف ويضفي على النص بعداً صوفياً. كما يلتقي مع قول رولان بارت: "الكتابة تبدأ حيث تتوقف اللغة عن أن تكون وسيلة، وتصبح سؤالاً في ذاتها". فالنص لا يكتفي بالبوح، بل يقوض مفهوم الغياب، ويفتح اللغة على جوهرها الوجودي.

الخصائص البنيوية ما بعد الحداثية:

إلى جانب المحتوى الدلالي الغني يتجلى النص بوصفه بنية مفتوحة تنتمي إلى أفق الكتابة ما بعد الحداثية، سواء من حيث تقنياته الشكلية أو أنساقه التعبيرية. من أبرز سماته البنيوية:

انفلات علامات الترقيم: وهو ما ينتج إيقاعاً داخلياً غير خاضع لتقطيع نحوي أو منطقي تقليدي، فيتحرر النص من الإيقاع المنضبط ليحاكي ما يعرف في النقد البنيوي بـ"تفكيك البنية المعيارية للخطاب". هذا الانفلات لا يعد فوضى بل هو وسيلة لتقويض سلطة السرد الخطي وإنتاج "تيار وعي" لغوي أقرب إلى الهذيان التأملي، بما ينسجم مع مفاهيم جوليا كريستيفا عن "النص المفتوح" و"تعدد المعنى".

التكرار التأويلي (Interpretive Repetition): وهو تكرار لا يراكم المعنى بطريقة خطية بل يدوره، مما يعكس تشظي الذاكرة الذاتية. فكل عودة إلى الغائبة لا تعيد الحزن ذاته بل تعيد تشكيله ضمن بنية دائرية تقاوم الخاتمة أو التحديد. هذا الشكل من التكرار يندرج ضمن ما يسميه جاك دريدا بـ"الاختلاف différance"؛ حيث لا معنى نهائي بل انزلاق دائم للدلالة.

الإيقاع ما بعد الوزني (Post-rhythmic): فالإيقاع في هذا النص لا ينبثق من الوزن أو القافية، بل من توتر الصور وانزياح التراكيب، وتتابع المفارقات الدلالية. إنه إيقاع ينبع من الداخل من صدمة اللغة لا من انتظامها ويعيدنا إلى تصورات أدونيس مثلاً حول الشعر كـ"لغة ضد اللغة"، حيث تتحول الموسيقى الشعرية من شكل خارجي إلى توتر داخلي ينطوي على مقاومة للمألوف البنيوي والمعجمي.

 إن هذه الخصائص الشكلية لا تنفصل عن مضمون النص، بل تعزز وظيفته الوجودية، إذ تجسد الانهيار الداخلي للذات الشاعرة أمام الفقد وتحول النص إلى فضاء مفتوح على الصمت وعلى ما لا يمكن قوله، وهو ما يشكل جوهر الكتابة الما بعد حداثية كما تصورها رولان بارت وجيل دولوز، كتابة تقاوم المعنى النهائي وتسكن حدود اللغة لا مركزها.

إننا، في نهاية هذا النص لا نواجه رثاءً شعرياً بقدر ما نقف أمام مشروع لغوي وفلسفي يتقصى حدود الكينونة من خلال الغياب. لا تسعى الشاعرة مرشدة جاويش إلى تمجيد الراحلة أو تأبينها، بل إلى تفكيك مفهوم الغياب ذاته وبناء خطاب شعري يقاوم النفي بالصدى، والغياب بالحضور اللغوي. بهذا المعنى، فإن النص لا يرثي الموت بل يعيد مساءلته، ولا يتوسل اللغة كوسيلة بل يقيم فيها كبيت للكينونة على حد تعبير هايدغر.

تنتمي هذه الكتابة إلى أفق ما بعد حداثي يتسم بتشظي الدلالة، وتفكيك البنية، وتحرير الشعر من وزنه ومرجعيته. من هنا، فإن ما تقدمه الشاعرة مرشدة جاويش ليس فقط نصاً "ما بعد رثائي"، بل تجربة أنطولوجية تخاطب القارئ لا بوصفه شاهداً على الفقد، بل مشاركاً في إعادة إنتاج معناه.

إنّ هذه القراءة تكشف أن شعرية الرثاء المعاصر، حين تكتب من موقع الحداد الوجودي، تتحول إلى مرآة للذات وهي تعيد بناء عالمها المنكسر وتتحول الكتابة نفسها إلى فعل نجاة مفهومي ضد العدم. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن للشعر أن يعوض الغياب؟ أم أن اللغة، مهما ارتقت، تظل تكتب على حافة الصمت؟

***

من إنجاز فاطمة عبد الله

...........................

أَكْثَرُ مِنْ مَوْتٍ وَاحِدٍ

(لِينُ)

الغِيابِ في ذِكْرَاها

هُنا

فَوْقَ الرُّوحِ يَتَلاشى السُّؤالُ

وتَنْطَوِي الدُّموعُ على أَسْرَارِ الرَّحِيلِ

كنتِ تَسِيرِينَ كَنَسْمَةٍ

فِي فِكْرَةٍ أَخْطَأَتْ تَجَسُّدَهَا

كُنتِ خَفْقاً زَائِداً

فِي قَلْبِ الوُجُودِ

وَلَمْ يَسْتَوْعِبْكِ المَجَازُ

كنتِ تَسِيرِينَ فِي الحُلْمِ

كَأَنَّكِ بَقَايَا سَهوٍ إِلَهِيٍّ

تَكْتُبِينَ الأَبْجَدِيَّةَ

بِصَوْتِ الفَقْدِ

وَتُرَتِّبِينَ الدَّمْعَ

كَنَظَرِيَّةٍ كَوْنِيَّةٍ لِلعُزْلَةِ

فَمَاذَا نَفْعَلُ

أَنَا لَا أَرْثِيكِ

أَنَا أُصَدِّقُ قِيَامَتَكِ الصُّغْرَى

فِي كُلِّ نَفَسٍ

أَشْعُرُ أَنَّكِ

لَمْ تَمُوتِي

بَل أَنَا الَّذِي

تَفَكَّكْتُ فِيكِ

وَلَمْ أَلْحَقْكِ بَعْد

وأنا؟

لم أَعُدْ أُجِيدُ التَّفْرِقَةَ

بَيْنَ ظِلٍّ يَعْبُرُني

وبَيْنَ طَيْفِكِ الّذي لا يَغِيب

كُلُّ شَيْءٍ يُسَاوِمُنِي عَلَيْكِ

كُلُّ مَكَانٍ يَمُدُّ لِي يَدَهُ

فَأُحِسُّ نُقْصَاناً

كَأَنَّ يَدَكِ كَانَتِ الزَّائِدَةَ الَّتِي تَكْمُلُنِي

لم أَقُلْ شيئاً

غَيْرَ أَنَّ المَطَرَ يَتَسَاقَطُ فِي دَاخِلِي

وَالعَالَمَ يُواصِلُ مَشْهَدَهُ العَابِر

كَأَنَّكِ لَمْ تَكُونِي نُوراً

أَو كَأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ كَفَصِيلَةِ مَعْنًى

بِرَحِيلِكِ

فَكوني بَعِيدَةً

كَمَا يَلِيقُ بِمَنْ

عَبَرَ هذا العَالَمَ

وَتَرَكَ خَلْفَهُ

كُلَّ ضَوْءِهِ

وَإِذَا سَأَلُوكِ عَنِ الدُّنْيَا

قُولِي لَهُمْ:

"أَتَيْتُ لأَكْتُبَهَا

فَلَمْ تَتَّسِعْ لِي"

وعنِّي

لَنْ أُطْفِئَ قَلْبِي

سَأَتْرُكُهُ يَنْبِضُ

فِي كُلِّ شَيْءٍ سِوَاي

لِيَكُونَ هُوَ الدَّلِيلَ

أَنَّكِ كُنْتِ

***

مرشدة جاويش

للشاعر الفلسطيني "محمود علي سعيد"

- الشاعر "محمود علي سعيد".. مواليد فلسطين.. الجليل الغربي.. ترشيحا.

- رئيس فرع حلب للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

- رئيس تحرير مجلة المقاومة.

- عضو اتحاد الكتاب العرب.

- صدر له: ثمانية وعشرون كتابا (شعر – قصة – قصة قصيرة جداً – دراسات).

- من إصداراته:

1- افتراضات مضيئة على خارطة الوطن – شعر.

2- شمس جديدة في ترشيحا –شعر.

3- الرصاصة – قصص قصيرة جداً.

4- المدفأة – قصص قصيرة جداً.

5- قراءة في واقع الثقافة العربيّة المعاصرة.

6- لي من الحقل العصافير - شعر.

7- القصة القصيرة جداً – تجليات قوس قزح.

8- ترجم نتاجه إلى عدّة لغات.

9- ينشر نتاجه في معظم صحف ومجلات الوطن العربي المتخصصة.

10 هو عضو في العديد من المؤسسات الثقافية والاتحادية مثل:

(عضو أسرة مجلة النافذة الثقافية – وعضو أسرة مجلة الكاتب الفلسطيني – عضو اتحاد التشكيليين.. الخ.).

البنية الدلاليّة والفكريّة في القصيدة:

هي حال عشاق الوطن الذين فَرَضَ عليهم من جعل من أرضهم موطناً له باسم أساطير التاريخ، أن يُشردا في كل بقاء الأرض دون رحمة أو نزعة إنسانيّة، وحتى من يدّعون بأنهم حماة حقوق الإنسان، لم يهتموا بآلام وعذابات هؤلاء المشردين الذين اقتلعوا من أرضهم ووطنهم قسرا، وغالباً برغبة وعلم حماة هذه الحقوق الإنسانيّة أنفسهم.

هذا الإحساس بألم الغربة والتشرد، نجده عند الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود علي السعيد"، الذي شكل عنده الحنين للوطن هاجساً أو جذوة حنين لا تنطفئ نارها وهو يحلم بالعودة إلى مربى الصبا وألق الديار، وهو الذي لم تزل روحه تنزف شوقاً وحنيناً إلى أراجح الطفولة، ولم يزل يخطو إلى المجهول خطوة مدنف تتيم فيها جنوب الوطن بشماله. كما تحول الصمت عنده من ألم الفراق الطويل إلى صرخة تواقة أن يسمعها من يشتاقهم في وطنه. يقول الشاعر:

هيهاتَ يا ألقِ الديارِ يعودُ لي أفقٌ ترقرقَ خلفهُ الموالُ.

نزفتْ على الماضي أراجيحُ الصبا وأضاءَ مصباحُ النجومِ غزالُ.

أخطو إلى المجهولِ خطوةَ مدنفٍ فيها تتيمَ بالجنوبِ شمالُ.

الصمتْ أبلغُ صرخةٍ تواقةٍ لمسامعِ التوصيلِ حينَ تقالُ.

القاربُ المشتاقُ عرّشَ حولهُ من فرطِ ما اشتعلَ الهوى شلالُ.

وتطايرتْ فوقَ السطوحِ براعمٌ لتضجَ من ألمِ الفراقِ جبالُ.

الليلُ كأسٌ والنديمُ هلالُ والهمسُ في قلقِ السؤالٍ سؤالُ.

لم تكن الغربة تحقق يوماً الدفء والحنان والسعادة لمن غادر الديار مجبراً، فالجراح تظل نازفة حتى لو كانت ديار الغربة جنان، وكذلك الشوق والحنين للوطن، ونصوص الورد في ديار الغربة فكل ذلك يتحول إلى لغة مغرم، أما المزامير فتتحول إلى جراح تبكي نصالاً تنغرس في القب فتدميه.. ومسالك الغربة، تتحول كما يقول الشاعر "محمود علي السعيد" إلى غيمة تتسلقها آمال المشردين بالعودة للوطن.

أعيتْ نصوصُ الوردِ لَغْتَهَ مغرمٍ وبكتْ مزاميرَ الجراحِ نصالُ.

وغزا الصقيعُ الدفءَ في أعشاشهِ ما عاد في طبقِ الحرامِ حلالُ.

وتقطعتْ ولهاً مسالكُ غربةٍ سمقتْ على غيماتها الآمالُ.

يظل أمل العودة إلى ملاعب الصبا حلماً يداعب شغاف قلب مشردي فلسطين، ومنهم الشاعر "محمود علي سعيد" الذي يخاطب أهله وصحبه الذين شردتهم مثله الغربة ومزقهم شوق وحنين العودة قائلاً: لا تيأسوا واجعلوا آمالكم في العودة إلى الديار حقيقة، فالآمال حدائق ربيع جميل.. لن يبقى فيها القرنفل يشتكي هجر النسائم.. ثم يعود ليخاطب وطن الأصالة فلسطين ليقول له لقد هامنا الشوق إليك.. ليتك تجود علينا بقبلة لقد أورقت أصواتنا ونحن نناجيك، ولكن لا يعود لنا سوى الصدى الذي يحز في قلوبنا ويزيدنا شوقاً لك. حيث يقول:

أطلقْ جناحَ القوسِ في تسيارهِ صوبَ الحدائقِ فالربيعُ جمالُ.

ومُحالٌ أن يبقىَ القرنفلُ يشتكي هجرَ النسائمِ في الصباحِ محالُ.

وطنُ الأصالةِ لو تجودُ بقبلةٍ الصوتُ أورقَ والصدى قتّالُ.

نعم هي إرادة البقاء والعودة للوطن تظل تتفجر كبركان في داخل كل فلسطيني، فلا مساومة على الوطن ولا تخاذل ولا نسيان حتى لو أشعل العدو كل نيرانه بحق من هاجر أو ظل في الوطن يقاوم.

فهذا هو الشاعر المناضل المناضل "محمود" الذي لم يهدأ يوما ولم يخبوا صوته منذ أن أصبح يجيد الكلمة ويحولها إلى طلقة، وهو الذي قال يوما: الكلمة أشد فتكاً من الطلقة.. ها هو يقول بأعلى صوته لكل رجال فلسطين وأهلها، لا تخافوا أو تجزعوا إذا الحرائق اشتعلت وغرد الرصاص.. وإذا ضحى الرجال بأرواحهم من أجل فلسطين وتحولت دموع من يبكون على من استشهدوا إلى مياه زمزم ستطهر الأجيال القادمة.. هذه القدس منارة رغم كل ما يجري لها ولأهلها من ظلم وقهر، فكيف لا تشدّ لها الرحال، وتدق لها صدور الرجال : يقول الشاعر:

لا تعبأنّ إذا الحرائقُ أشعلتْ وهفا إلى شدوِ الرصاصِ رجالُ

وتبرجتْ في المقلتين جنازةٌ تزكو بزمزمٍ طهرها الأجيالُ

من لم يذقْ وجعَ الصبابةِ مرةً ويدقُ صدرَ فؤادهِ التجوالُ

القدسُ في نعشِ المساءِ منارةٌ إلا إليها لا تُشَدُّ رحالُ.

البنية الفنيّة والجماليّة في القصيدة:

لا شك أن البنية الفنيّة والجماليّة في القصيدة، هي مجموعة من العناصر التشكيليّة والجماليّة التي تساهم في خلق تأثير شعري مميز على المتلقي، وتساهم في إيصال المعنى والتأثير الجمالي إليه. هذا وتشمل عناصر البنية الفنيّة والجماليّة كل من الوزن، والقافية أو ما يسمى بالموسيقى، والوحدة الفنيّة، والأسلوب، واللغة، والصور البلاغية، والرمز.

اللغة في القصيدة:

تظل اللغة في القصيدة، أكثر من مجرد مجموعة كلمات، بل هي أداة للتعبير عن الأفكار والمعاني التي يريد الشاعر البوح بها بشكل فريد ومبهر. واللغة تلعب أيضاً دورًا حيويًّا في تشكيل معنى القصيدة، وإضفاء بصمات جماليّة عليها كونها تخرج عن اللغة المألوفة، وتتجاوز المعنى الحرفي للكلمات، لتثير المشاعر والأحاسيس، وتفتح آفاقًا واسعة من التفسيرات والإيحاءات.

من هذا الموقف المنهجي في رؤية جماليّة وفنيّة اللغة، نأتي إلى قصيدة الشاعر "محمود علي السعيد". (ضلعي)، فالشاعر يمتلك براعة الخلق اللغوي بسبب ما حاز عليه من خبرة طويلة قضاها في عالم الأدب بشكل عام والشعر والقصة القصيرة جداً بشكل خاص، لقد استطاع في قصيدته هذه، أن يزيل عن اللغة رتابتها، وينزع عنها برودتها، وليس ذلك بانتقاء لغة خاصة غير مألوفة، وإنما بإعادة صياغة تلك اللغة بطريقة فنيّة أعطتها بريقها، وحولت برودتها إلى توهج، فالكلمة في القصيدة جاءت لتجسد معاناة أمّة شرد وقتل مئات الآلاف من أبنائها.. لغة حملت في كل دلالاتها أصواتاً نابضةً بالحياة، فياضةً بالدلالة والحيويّة، أضفى عليها من روحه وعمق تجربته وأحاسيسه المرهفة ما جعلها كذلك، فهو يرتبط بلغته عن طريق عالقة خاصة تتجاوز المألوف.. وهذا ما جعل اللغة في القصيدة مع كل بساطتها وسهولتها وفصاحتها ورهافتها والأهم (نسيبها) المشبع بالشوق والحب والحنين، منسجمة مع السياق النفسي للشاعر، ومع تجربته الداخليّة العميقة.

لقد جاءت لغة القصيدة مشبعة بدلالات الغربة والتشرد والحنين والتحدي والألم: مثل (النصال.. بكت.. الصقيع.. الدفء..الجراح.. المشتاق.. الغربة.. الآمال.. ألم الفراق.. أراجيحُ الصبا.. المجهول.. مدنف.. أساك.. جفاك..) وغيرها من مفردات لغة القصيدة التي تكاد أن تشكل قاموساً لوصف حالات التشرد والحنين والشوق والعذاب والألم.. الخ.

الصورة في القصيدة:

تلعب الصورة الشعريّة في القصيدة دورًا أساسيًا في خلق جماليتها وإضفاء عمقٍ على المعنى. إنها ليست مجرد وصف مرئي، بل هي طريقة للتعبير عن الأفكار والمعاني بشكل إبداعي ومؤثر.. إنها تثير الخيال وتجعل النص أكثر حيويّة، ويكتسب الشعر أهميته ودوره من الصورة الشعريّة التي تعطي الألفاظ المؤلفة للغة قدرتها الإيحائيّة في الدلالة، بل تزيد من جاذبية القصيدة وتجعلها أكثر إثارة وجاذبيّة، ولا تقتصر أهميّة الصورة هنا على الشاعر والمتلقي، بل تتجاوزهما إلى الناقد الذي يتخذها معيارًا لتقويم تجربة الشاعر وبيان مدى أصالتها، والكشف عن قدرة الشاعر في تشكيلها.

من هذا المنطلق نأتي على الصورة في قصيدة الشاعر "محمود علي سعيد"، المتمكن من حرفته بسبب خبرته الطويلة، والمتميز بعمق ثقافته وشفافيّة إحساسه وانغماسه الكلي في هموم وطنه وشعبه.

إن الصورة عنده لم تأت من باب الزخرفة والتزويق في القصيدة بهدف خداع المخاطب وإيهامه، بل جاءت من كونها عمليّة تفاعل متبادل بين الشاعر والمُتلقِّي للأفكار والحواس، من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعريّة تستند إلى المجاز، والاستعارة، والتشبيه؛ بهدف استثارة إحساس المُتلقِّي واستجابته. دعونا نسلط الضوء على بعض الصور التي جاءت في القصيدة لنبين قدرة الشاعر على تصوير معاناته وخلجات الروح لديه أولا، وعند عموم المواطنين الفلسطينيين ثانياً، وكل ذلك يأتي من خلال ربط هذه المعاناة بالطبيعة والحلم والأمل والغربة والتشرد واستمراريّة جذوة النضال لتحرير الوطن والمواطن. لقد جاءت الصورة بعموم النص الحسيّة منها والتخيليّة إضافة لما حققته من جمال الشكل، جاءت وسيلةً للتعبير عن بنية النص الفكريّة أيضاً.

(الليلُ كأسٌ والنديمُ هلالُ).. (والهمسُ في قلقِ السؤالٍ سؤالُ).. (أعيتْ نصوصُ الوردِ لَغْتَهَ مغرمٍ).. (وبكتْ مزاميرَ الجراحِ نصالُ).. (وغزا الصقيعُ الدفءَ في أعشاشهِ).. (وتقطعتْ ولهاً مسالكُ غربةٍ).. (وسمقتْ على غيماتها الآمالُ).. (وتطايرتْ فوقَ السطوحِ براعمٌ).. (لتضجَ من ألمِ الفراقِ جبالُ)..( وطنُ الأصالةِ لو تجودُ بقبلةٍ).. (الصوتُ أورقَ والصدى قتّالُ).. ونأتي أخيراً إلى تلك الصورة التي يشكل مضمونها عنوان نضال كل فلسطيني وعربي أصيل. (القدسُ في نعشِ المساءِ منارةٌ).. (إلا إليها لا تُشَدُّ رحالُ.).

الموسيقى والايقاع في القصيدة:

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل في الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم وتنسجم مع الحروف والكلمات، ومع الوحدة الموسيقيّة العامة، إلا أن الشاعر الحديث المتمكن من حرفته يستطيع أن يلغي تلك الفروقات الطفيفة ليجعل من موسيقى قصيدته رتماً واحداً متجانساً في مكوناته.

لقد استطاعت قصيدة (ضلعي) في وزنها (البحر الكامل) ورويها (حرف اللام) وتناغم حروفها، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، وتحقيق الترابط ما بين المعنى والمبنى، أن تحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، فالشاعر استطاع أن يختار الوزن المناسب لمقام أغراض القصيدة حيث جعل من القافية وحروفها، وخاصة حرف الروي (اللام)، مناسبة لهذا الجو المفعم بالشوق والغربة والحنين والألم والضياع:

القاربُ المشتاقُ عرّشَ حولهُ من فرطِ ما اشتعلَ الهوى شلالُ

وتطايرتْ فوقَ السطوحِ براعمٌ لتضجَ من ألمِ الفراقِ جبالُ

هيهاتَ يا ألقِ الديارِ يعودُ لي أفقٌ ترقرقَ خلفهُ الموالُ

نزفتْ على الماضي أراجيحُ الصبا وأضاءَ مصباحُ النجومِ غزالُ

أخطو إلى المجهولِ خطوةَ مدنفٍ فيها تتيمَ بالجنوبِ شمالُ

ففي هذه الأبيات، بل في كل أبيات القصيدة نجد موسيقـى حـزينة كئيبـة شجيّـة، وخاصة عندما أختـار القافية أو حرف الروي المناسبة لهذا الجوّ وهذا المقام، وهو حرف (اللام) المكسور المضموم، وهو حرف من حروف اللسان، فكأنّه يقول بلسانه، وبملء فيه، أنا مكسور القلب ومشتاق لوطني ولملاعب صباي وذكريات طفولتي..

أما الايقاع الداخلي للقصيدة، فقد جاء في بنية القصيدة من خلال تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن للرمز والاشارة والايحاء في الأدب قبل كل شيء، معنىً خفيّاً، يحاول الأديب عكس ما يدور في خلده عبرهم. والرمز في الشعر العربي الحديث بشكل عام، يعتبر الوليد الشرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، فالأديب يصعب عليه أن يطلق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة، لذلك يلجأ الى تقنية الرمز والقناع. وتزداد قيمة الرمز والقناع وأثرهما محل الأشياء بكونهما تعبيراً لا شعوريّاً يتجاوز الواقع الى الايحاء به أو الاشارة له، فهو قد يبدأ من الواقع ولكن لا يرسم الواقع، بل يُردُّ الى الذات، وفيها ينهار عالم المادة وعلاقاتها الطبيعيّة لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتيّة لمستخدم الرمز.

بالرغم من غياب الرمز في القصيدة "ضلعي"، إلا أن حضور القناع بإيحاءاته وإشارته جاء منشراً في كل خلايا القصيدة، لعبر عن حالات من القهر والظلم والتشرد والأم، إضافة لتعبيره عن حالات وجدانية مشبعة بالحب والشوق والحنين للوطن وترابه وملاعب الصبا وكل ما يذكر به. فالقناع هنا لم يأت خوفاً من سلطة، وإنما لإبراز قدرات الشاعر الابداعيّة والجماليّة من جهة. إضافة لكونه يعني حالة باطنيّة معقّدة من أحوال النفس، وموقفا عاطفيّاً أو وجدانيّاً من جهة ثانية. وبوصفه أيضاً أكثر فاعليّةً وقدرةً على التعبير بدلالات واسعة مختلفة من جهة ثالثة.

إن عنوان القصيدة (ضلعي)، له دلالاته وإيحاءاته وإشاراته العميقة في القصيدة، فـ (الضلع)، هو أحد ركائز الصدر عند الإنسان، وهو بانحنائه يشكل قوسا تقوم عليه دعائم بوابة بيت وجمالية وطن وعمق تاريخ، وهو بانحنائه يعبر عن عاطفة حب وحنان جياشة عند الشاعر تجاه ما فقده في غربته وضياعه من مفردات وطنه. يقول الشاعر عن هذا الضلع الذي شغل كل إيحاءات وإشارات القصيدة:

وغزا الصقيعُ الدفءَ في أعشاشهِ ما عاد في طبقِ الحرامِ حلالُ

وتقطعتْ ولهاً مسالكُ غربةٍ سمقتْ على غيماتها الآمالُ

القاربُ المشتاقُ عرّشَ حولهُ من فرطِ ما اشتعلَ الهوى شلالُ

وتطايرتْ فوقَ السطوحِ براعمٌ لتضجَ من ألمِ الفراقِ جبالُ

هيهاتَ يا ألقِ الديارِ يعودُ لي أفقٌ ترقرقَ خلفهُ الموالُ

نزفتْ على الماضي أراجيحُ الصبا وأضاءَ مصباحُ النجومِ غزالُ.

ثم تأتي (القدس) في القصيدة رمزاً حسيّاً مقدساً لشعب آمن بأن القدس بالنسبة له هي سر وجوده وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي والثقافي.. وكيف لا تكون كذلك بالنسبة لكل فلسطيني عاش القهر والتشرد، وعرف طريق النضال والتضحية بدمه من أجلها. بل عُرف الرجالُ ذاتهم من خلال حبهم لها والتضحية من أجلها: يقول الشاعر "محمود علي سعيد":

القدسُ في نعشِ المساءِ منارةٌ إلا إليها لا تُشَدُّ رحالُ.

وعندما تشد الرحال إلى القدس فهي تُشدُّ بالضرورة لفلسطين كلها. فلسطين التي تم الايحاء بها بـ (الوطن) وهي التي عرفها الشاعر بوطن الأصالة.. ووطن الأصالة يرخص كل شيء من أجل تحريره وعودة المشردين من أهله إليه:

وطنُ الأصالةِ لو تجودُ بقبلةٍ الصوتُ أورقَ والصدى قتّالُ

أرشفْ رحيقَ العمرِ من عنقودهِ واخلعْ أساكَ إذا جفاكَ منالُ

لا تعبأنّ إذا الحرائقُ أشعلتْ وهفا إلى شدوِ الرصاصِ رجالُ

واستصرختْ قممَ النسورِ مآذنٌ وسما بأولى القبلتين بلالُ

وتبرجتْ في المقلتين جنازةٌ تزكو بزمزمٍ طهرها الأجيالُ

من لم يذقْ وجعَ الصبابةِ مرةً ويدقُ صدرَ فؤادهِ التجوالُ

إن القصيدة بعمومها شكلت لوحة فنيّة في صورها ولغتها ورمزها وإيحاءاتها ونسيبها ورتمها الموسيقي الحزين. صاغها أو رسمها شاعر عربي أصيل متمكن من حرفته وصادق في عواطفه وعشقه لوطنه. وجاء تكرار حرف (الواو) في اشتغاله على العطف في بنبة القصيدة (والنديمُ.. وبكتْ.. وغزا.. وتقطعتْ.. وتطايرتْ.. وأضاءَ.. ومُحال.. والصدى.. الخ.). ليربط كل مكونات القصيدة مع بعضها ويجعل منها لوحة فنية متكاملة في كل مفرداتها من صورة ورمز ولغة ليعطيها اسماً أو عنواناً آخر هو (جمر الحنين).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريا.

...........................

الشاعر محمود علي السعيد

قصيدة (ضلعي).

الليلُ كأسٌ والنديمُ هلالُ والهمسُ في قلقِ السؤالٍ سؤالُ

أعيتْ نصوصُ الوردِ لَغْتَهَ مغرمٍ وبكتْ مزاميرَ الجراحِ نصالُ

وغزا الصقيعُ الدفءَ في أعشاشهِ ما عاد في طبقِ الحرامِ حلالُ

وتقطعتْ ولهاً مسالكُ غربةٍ سمقتْ على غيماتها الآمالُ

القاربُ المشتاقُ عرّشَ حولهُ من فرطِ ما اشتعلَ الهوى شلالُ

وتطايرتْ فوقَ السطوحِ براعمٌ لتضجَ من ألمِ الفراقِ جبالُ

هيهاتَ يا ألقِ الديارِ يعودُ لي أفقٌ ترقرقَ خلفهُ الموالُ

نزفتْ على الماضي أراجيحُ الصبا وأضاءَ مصباحُ النجومِ غزالُ

أخطو إلى المجهولِ خطوةَ مدنفٍ فيها تتيمَ بالجنوبِ شمالُ

الصمتْ أبلغُ صرخةٍ تواقةٍ لمسامعِ التوصيلِ حينَ تقالُ

أطلقْ جناحَ القوسِ في تسيارهِ صوبَ الحدائقِ فالربيعُ جمالُ

ومُحالٌ أن يبقىَ القرنفلُ يشتكي هجرَ النسائمِ في الصباحِ محالُ

وطنُ الأصالةِ لو تجودُ بقبلةٍ الصوتُ أورقَ والصدى قتّالُ

أرشفْ رحيقَ العمرِ من عنقودهِ واخلعْ أساكَ إذا جفاكَ منالُ

لا تعبأنّ إذا الحرائقُ أشعلتْ وهفا إلى شدوِ الرصاصِ رجالُ

واستصرختْ قممَ النسورِ مآذنٌ وسما بأولى القبلتين بلالُ

وتبرجتْ في المقلتين جنازةٌ تزكو بزمزمٍ طهرها الأجيالُ

من لم يذقْ وجعَ الصبابةِ مرةً ويدقُ صدرَ فؤادهِ التجوالُ

القدسُ في نعشِ المساءِ منارةٌ إلا إليها لا تُشَدُّ رحالُ.

 

عند الشاعر عِذاب الركابي

مقدّمة: حين يُطلّ علينا الشاعر عِذاب الركابي بكتاباته في الهايكو، فإننا لا نواجه تجربة مكتملة البنيان، بل طورًا قلقًا، متوتّرًا، يتحرك بين التأسيس والانفعال، بين الانبهار بالشكل الياباني والاحتياج إلى هوية عربية داخلية.

تجربة الركابي – بوصفها من أوائل محاولات الهايكو العربي – تشبه في كثير من سماتها مرحلة المراهقة الشعرية؛ لا على سبيل الانتقاص، بل بوصف المراهقة مرحلة من التحوّل، الصراع، والبحث عن الذات.

هذا المقال يتقصّى ملامح تلك المراهقة من حيث اللغة، الشكل، الرؤية، والفلسفة، مع محاولة استجلاء لحظات القوة والضعف، التجريب والانفعال، وطرح السؤال: هل شكّلت تجربة الركابي تأسيسًا واعيًا، أم عبورًا قلقًا نحو نضج لم يتحقق بعد؟

أولًا: الهايكو العربي بوصفه مراهقة جمالية

الهايكو، بوصفه جنسًا أدبيًا يابانيًا، يتمحور حول اللحظة العابرة، الحدس التأملي، والاقتصاد اللغوي الصارم.

تجربة الركابي تعكس هذا الانبهار بالشكل، الذي لم يكن يُحسن بعد احتواء روحه:

يُبقي على الزهرة والمطر والعصفور…

لكنه يُقحم “الوجدان العربي” من حيث لم يكن في الأصل.

وهنا تتجلّى سمة المراهقة: الاقتباس غير المشبع، التبني الانفعالي، والانتقال من الحرفي إلى الشعوري دون ضبط.

تجربة الركابي بدت وكأنها تقول: “أريد أن أكتب هايكوًا، لكن بطريقتي!”

وهذه “الطريقة” لم تكن، في كثير من الأحيان، نابعة من وعي بل من رغبة في إثبات التميّز – سمة مراهقة بامتياز.

ثانيًا: الانفعال وتضخم الذات في هايكو الطبيعة

يصرّح الركابي مرارًا بأن قصيدة الهايكو هي “قصيدة الطبيعة”، وأن الشاعر ينبغي أن يُمحى ليترك للطبيعة أن “تكتب نفسها”.

لكن المفارقة أن قصائده تفيض بذات شعورية مترعة بالحزن، الأمل، الغياب، الأسى، والعاشق:

بلاغة:

لن أنسى ما حييت نظرة تلك الوردة؛

لن أنسى ما حييت ثقة قطرة الندى بنفسها؛

لن أنسى ما حييت بلاغة الألم!!

(المصدر: ديوان “العصافير ليست من سلالة الرياح”، 2017)

فالقول بـ”الغياب” يقابله “تضخم حضور الذات”، والحديث عن “الطبيعة كناطقة” يُقابله شاعر يملي على الزهرة أن تحزن، وعلى العصفور أن ينوح، وعلى الخريف أن يستقيل. بهذا، تتحول تجربة الهايكو إلى مسرح إسقاط ذاتي، حيث تُحمل الطبيعة حمولة وجدانية لم تعهدها في السياق الياباني.

ثالثًا: توتّر الهوية بين الياباني والعربي

المراهقة ليست فقط مرحلة انفعالية، بل أيضًا مرحلة أزمة هوية. هايكو الركابي يتأرجح بين الانتماء إلى الشكل الياباني من حيث التركيب والاقتصاد، وبين الرغبة في إضفاء روح عربية عليه.

وداع:

خطواتُنا

غمغمة على أوتار قيثار بعيد

(المصدر: صحيفة روناهي – “بداية الهايكو العربي – 3”)

الصور هنا تحمل بلاغة عربية مشحونة بالعاطفة والتكرار والاستعارة. وهكذا تتحوّل التجربة إلى مراهقة هوية: لا هي هايكو خالص ولا هي ومضة شعرية عربية صافية بل نصوص مترددة، متحوّلة، غير مستقرة على شكل واحد أو روح ثابتة.

رابعًا: غياب المرجعية الكونية وتجاهل الاتجاهات الحديثة

يستند الركابي في تنظيره إلى تصوّر ضيّق للهايكو بوصفه “قصيدة الطبيعة الخالصة”، كما يتجلى لدى ناتسومه سوسيكي (1867–1916)، أحد أبرز شعراء وروائيي اليابان.

هذه الرؤية التأملية، حيث الطبيعة نقيض الذات، تعود إلى بداية القرن العشرين. لكن الركابي، في تنظيره، تجاهل مسارات تطور الهايكو الياباني والعالمي، والتي تشمل:

الاتجاهات اليابانية:

الهايكو الحرّ: كسر بنية 5–7–5 وتخلّى عن “الكيغو”، وبرز فيه شعراء مثل تانيدا سانتوكا وأوزاكي هوساي.

هايكو المدينة: انزياح من الطبيعة نحو حياة الشارع، الأضواء، العزلة الحضرية.

الاتجاهات العالمية:

عزرا باوند (Ezra Pound): قصيدته “In a Station of the Metro” (1913) تُعد ترجمة رمزية للهايكو في لحظة حضرية.

جاك كيرواك (Jack Kerouac): ابتكر “الهايكو الأمريكي” المرتبط بالروح البوهيمية، المدينة، والصمت الداخلي.

بانيا ناتسويشي (Ban’ya Natsuishi): دعا إلى “الهايكو الكوني”، متحرر من المركزية اليابانية، منفتح على السياسة، الهجرة، الحرب.

هذه الاتجاهات كلها وغيرها لم يُشر إليها الركابي، ما يجعل تجربته متمركزة على لحظة كلاسيكية واحدة، دون استيعاب لتاريخها الديناميكي.

فإصراره على الطبيعة وحدها لا يُعد وفاءً للشكل، بل نكوصًا عن الإمكانيات الأحدث التي تتيح للهايكو أن يكون صوتًا عالميًا، لا قُطريًا فقط.

خامسًا: التنظير بوصفه مراهقة سلطوية

من سمات المراهقة أيضًا الإفراط في التنظير لتبرير الممارسة.

يكتب الركابي كثيرًا في الدفاع عن “طهارة” الهايكو، ويحذّر من أدلجته، ويهاجم “الآخرين” الذين لا يفهمونه.

لكن هذا الخطاب يكشف قلقًا داخليًا، إذ يتّخذ صيغة سلطوية مراهقة:

- يقصي الآخر

- يحيط نفسه بهالة تنظيرية

- ينتج نصوصًا تناقض خطابه (كما في هايكو “وطن”):

وطن:

كم يلزمك من الكذب

كي تنام،

ليلةٌ ثلجية،

في سرير الوطن.

(المصدر: صحيفة روناهي، 2021)

هكذا، تتحوّل الممارسة إلى محكمة رمزية: من يكتب كما أكتب، فهو هايكوي؛ ومن يختلف، فهو خارج الإطار.

خاتمة

إنّ تجربة عِذاب الركابي في الهايكو، من منظور المراهقة الشعرية، تجربة حيوية وقلقة في آن:

تمتلئ بالتجريب والانفعال

تتأرجح بين الاقتباس والصناعة

تبحث عن هوية وتتنكّر لها في الوقت نفسه

تؤسس وهي تهدم

تتكلم عن الصمت وهي تفيض بالكلام

وإذا كان الشعراء المراهقون – كما يقول رامبو – هم من “يخترعون المستقبل”،

فلعل الركابي قد فتح الباب لاكتمالات قادمة لم يكن هو معنيًا أن ينجزها، بقدر ما هي مسؤولية القادمين من بعده.

***

عباس محمد عمارة

 

ومضة

بقلم: يحيى السماوي

صمتي صراخٌ أخرس..

وصراخي صمتٌ مسموع..

*

أنا لستُ (الحمزة بن عبد المطلب)

وأنتِ لستِ (هند بنت عتبة)

فلماذا أكلتِ كبدي؟

أنا أتألّمُ؟

إذن

أنا على قيدِ الحياة..

مساكينٌ الموتى

فهم:

لا يتألمون

النص الصوري القصير جدا استحضار اللحظة التي يغلب عليها الطابع الحسي والجمالي بتوظيف لغة تعتمد خطين متداخلين: الصياغة اولهما. والتعبير ثانيهما.. كونها تقوم على اسلوبية الكم التي تلتزم الصياغة المركزة ايجازا وتكثيفا في اللغة.. والكيف الذي يعتمد ابراز الحدث والفكرة في الرؤية التعبيرية الدالة على الايحاء والرمز في البنية النصية.. انه نص الواقع الذي يخلق التساؤل ويحرك الخزانة الفكرية للمستهلك كي يستنطقه ليكشف عن الوظيفة الجمالية والدلالة الاجتماعية.. ..

صمتي صراخٌ أخرس..

وصراخي صمتٌ مسموع..

فالمنتج (الشاعر) يترجم الاحاسيس والانفعالات بنسج شعري يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعالمها المتناسق جماليا مع دقة تعبيرية ودلالة مكثفة.. خالقة لنص يتسم بخصوصيته التركيبية ووحدته الموضوعية وحركته الدرامية.. مع تفرد في بناء صوره المشهدية بتوظيف لغة موحية بالفاظها.. واكتناز مضمونها الاعترافي المتكىء على المتناقضات (صمتي/صراخي) التي اسهمت في تنامي مشاهد النص الدرامية.. .التي تستدعي التاريخ بحركاته الزمنية (الماضية) واحداثه وشخوصه..

أنا لستُ (الحمزة بن عبد المطلب)

وأنتِ لستِ (هند بنت عتبة)

فلماذا أكلتِ كبدي؟

فالنص يكشف عن صور مكتنزة المعاني والتراكيب والدلالات الشعرية التي تتناسب وحركة السرد الشعري القائم على متوالية شعرية قصيرة جاذبة بنبضها الجمالي وتنوع اساليبها وتقنياتها الفنية والاسلوبية كـ (التنقيط والاستفهام وصراع الاضداد وتعدد الضمائر،..)..

فلماذا اكلت كبدي؟

أنا أتألّمُ ؟

إذن

أنا على قيدِ الحياة..

مساكينٌ الموتى

فهم:

لا يتألمون

فالمنتج (الشاعر) يستثمر الجملة اللغوية المشحونة بطاقة تعبيرية تسهم في بناء النص دراميا مستمد من تفاعل الذات الشاعرة وواقعها.. فضلا عن اعتماده نزعة سردية ومقصدية رامزة مع توظيف عنصر الاستقصاء الذي اسهم في تصعيد الحدث والكشف عن توتر نفسي للذات المنتجة.. السابحة في عالمين شعريين متداخلين (حسي ووجداني)..

من كل هذا نستنتج ان النص عند السماوي يقوم على اسلوبية الكم بالتزامه الصياغة المركزة ايجازا وتكثيفا لغويا.. واسلوبية الكيف التي تبرز الفكرة في الرؤية التعبيرية الدالة.. .فضلا عن تحريك دلالات النص ببناء فني يعتمد التكثيف والايجاز مع اقتصاد في الالفاظ بنسج فني يستوعب (اتساع المعنى لضيق العبارة) الخالقة لجمالية مستفزة لذهن المستهلك وتحريك خزانته الفكرية عبر خطاب سايكولوحي ولغة تنزع نحو التصوير المؤثث لفضاء النص..

***

علوان السلمان

...................

ـ اللوحة للفنان الهولندي الذي مثلت لوحاته الابداع الانطباعي فينسنت فان جوخ1853ـ 1890.. تميز بلوحاته اللونية المفعمة بالحيوية..

ـ هند بنت عتبة " هي زوجة أبي سفيان، شهدت معركة أحد، تلقّب بآكلة الأكباد لأنها مثّلت بجثة عم النبي الحمزة بن عبد المطلب بعد استشهاده في معركة أحد ويقال أنها أخرجت كبده وأكلته..

للأديب حمودي الكناني

تتناول هذه السرديات في فن الاقصوصة الحديثة، عوالم مختلفة في جوانبها المتعددة، من زوايا مختلفة من الحياة، أي أنها تضع الحياة والواقع على مشرحة التحليل وتشتغل عليه، في قضاياه الأساسية والحساسة. في الجانب السياسي والاجتماعي والديني بما فيها موضوع المرأة، والنصوص السردية تحمل براعة الصياغة الفنية وهندستها، في التكثيف والتركيز والايجاز في حدث سريع يصيب هدفه مباشرة، تملك رؤية فكرية ومواقف واضحة المعالم، في جملة أحداث تحدث وحدثت على الواقع المعيشي والحياة العامة والخاصة، هي تخص ابعاد حكايات الوطن في مجمل ابعاده في الازمة الحياتية القائمة، تملك براعة الحبكة الشفافة في تكوين الحدث السريع،تناول المناخ السائد منذ كثر من عقدين من الزمن، وقد حدث فيه انقلابات ومتغيرات كبيرة وصادمة، في الظواهر المكشوفة والمخفية، التي تمثل الصراع القائم بين قوتين المتناقضتين، الاولى تغمط الحقيقة وتخفيها عمداً وقصداً لغايات مصلحية ونفعية فئوية ضيقة، والثانية تناصر الحقيقة في دعم في ابرازها وإظهارها حتى من تحت كثافة الغبار التي يغطيها، لانه ببساطة لا يمكن لاحد ان يستطيع اخفاء الحقيقة، كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمال، هو صراع بين قوتين، الاولى تملك جبروت الواقع وتسلطه، وتجيره بما يدعم هيمنتها المتسلطة، بكل الطرق اللاشرعية، والقوة الثانية لا تملك سوى الرفض والاحتجاج والتذمر بالسخرية اللاذعة، في المناخ السائد في الفعل والحركة، دلالاتها تحفز ذهن القارئ بالتفكير والتأمل، من أجل يدرك بما يدور حوله من متغيرات غير منطقية، الحدث السريع في حبكته المتكون، يملك مواقف واضحة وصريحة تجاه الوطن، وما يدور في داخله، بالاشارة والدلالة البليغة، لان مهما كان علو شأن التحريف والوصولية والانتهازية تبقى ناقصة، في تفكيرها المهادن والمساوم من اجل نفعية ضيقة على حساب المصلحة العامة، سرديات او نصوص قصصية تثير السؤال والتساؤل، من خلال صور السردية الباذخة في المعنى والمغزى والرمز والايحاء الدال. في مجريات الواقع، التي تخرج عن المعقول والمنطق. في إيقاعات سريعة بليغة، اي انها تشتغل على فهم الواقع المعيشي القائم بمفرداته المختلفة. لنأخذ بعض السرديات في إيجاز شديد:

× قصة (دوامة): تشير وتدل بشكل بليغ، بأن ضمير العالم امتلئ بالنفايات، مثل البحر الذي يمتلئ بالنفايات، وتحذر ضمير العالم ان يستيقظ قبل ان يتحول الى نفايات.

× قصة (على الحافة): طابور الكلاب تتجمع في مناقشة الوضع المعيشي في البلاد، وكيفية تسيير شؤون الناس، تتلخص بتحويلهم الى دم، حتى يكونوا ماكينة لحس الدم.

× قصة (الزورق): تدل بالرمز بليغ المعنى والدلالة، بأن المشرفون على لقمة العيش، يحولون اعمار البشر، عبارة عن بحث لقمة العيش في مقبرة، تدل على تأزم عيشة البشر نحو الأسوأ أكثر فاكثر. كالزورق الذي يبحر في طريق مجهول.

× قصة (طاقة): تتناول عن المشاريع لم تكتمل وتترك في النصف دون الاكتمال. مثل نصب اعمدة كهرباء، بدون ربطها بالأسلاك، كأن الاعمدة تلتفت يمينا وشمالاً دون جدوى. وهي تشير الى ماكنة الفساد المالي.

× قصة (كرسي): كيف تحول الجالس عليه الى ببغاء او خروف، لا يعرف شيئاً سوى ان يصيح ماع... ماع، ولله في خلقه شؤون.

× قصة (رفرفة روح): بعد غربة طويلة يعود الى مسقط رأسه، فلا يجد سوى التصحر والجفاف والغرابة، يجد نفسه في وضع سيء وصعب، ويضطر ان يعود من حيث أتى، وهو يحترق في داخله، كأنه ينتحر، فعاد ينحت بيتاً من الفراغ هناك.

× قصة (تعويض): محتجاً على الوضع المعيشي الصعب، يحرق نفسه ويشيع الى القبر، والدفان يناديه بالكلام البليغ: اسمع يا........ عبدالله... ان فكرت بالرجوع الى الدنيا لن تجد اسمك في قائمة المتضررين، بل في قوائم سارقي أكفان الموتى !!، سردية ناطقة بألف معنى ومعنى.

× قصة (رحى): تتناول عن الاعلام المزيف والمنحرف في تجديف الحقائق وافراغها، بحيث تحول المعجبين بها الى سلاح لقوات مكافحة الشعب !!.

× قصة (خروج على النص): تدل على الإرهاب وتكميم الأفواه حتى الاغتيال، في قمع حرية التعبير بالإرهاب الفكري والأدبي، بحجة خروج على النص المسموح.

× قصة (مساس): تتناول سرقة وخداع الرأي العام في الحشود الثائرة من بعض الخطباء، لكي يصعدون على أكتافهم، ويعملون بعد ذلك على تجنب بعض المطاليب بحجة التوافق الوطني، لكن يقابلون بالسخرية والتهكم بأنهم تحولوا الى اصبع للنظام.

× قصة (نفق): تتناول في إدراك وفهم ناضج، في السؤال الذي يخطر في ذهن كل عراقي: من قتل المتظاهرين ؟؟؟، ومازالت الاجابة مفقودة وغائبة، مثل الشعار الذي يكتب على جدران ويمسح بعد ذلك، كأنه الجواب كامل على ذلك .

***

جمعة عبد الله

 

يشكّل كتاب الوشم للدكتور عبد القادر الرباعي تجربة سردية مركّبة تتجاوز حدود السيرة الذاتية، لتغدو وثيقة فكرية وجمالية تقرأ تحولات الذات والجماعة في مرايا التاريخ والسياسة والثقافة. عبر كتابة تتداخل فيها الأزمنة واللغات والطبقات الدلالية، ينسج الرباعي نصًا مشبعًا بالرمزية، تبرز فيه ثيمة "الوشم" كعلامة محورية تتقاطع عندها تأملات الهوية، الذاكرة، الألم، والتمرد.

الوشم: أثر الجسد وندبة الذاكرة

الوشم في هذا النص ليس عنصرًا زخرفيًا، بل دلالة وجودية مشبعة بالرموز. إنه أثر دائم يحيل إلى الألم والذاكرة، شهادة على مرور الإنسان بالعالم، لا من خلال ما يقوله، بل بما يتركه على جسده من علامات. الجسد هنا يتحوّل إلى صفحة تُكتب عليها التجربة، أرشيف حيّ لتاريخ ذاتي وجماعي، تختزن فيه الندوب والصرخات المكبوتة.

يقول السارد: "كان الوشم يلسع جلدي كلما مررتُ بذاكرة الغياب." بهذا المعنى، يغدو الوشم استعارة للكتابة ذاتها، بلغة الجسد لا القلم. وهو ما يجعل الرباعي قريبًا من تأويلات ما بعد البنيوية، حيث يُقرأ الجسد كنصّ، والجلد كسطح تتراكم عليه العلامات الدالة على الصراع والتمرد والانتماء.

يمثل الوشم أيضًا فعل مقاومة في مواجهة القوالب الاجتماعية والثقافية، ورفضًا خفيًا للرقابة والانتماءات القسرية. فالراوي لا يوشم جلده للزينة، بل ليصرخ بصمت: "لم أسأل عن معنى الوشمة، كنت أحتاج فقط إلى أن أصرخ على جلدي."

كل وشمة، في هذا السياق، تحكي قصة، وتحمل هوية، في مواجهة الهوية الرسمية التي تصوغها السلطة. هكذا يتحول الجسد إلى هوية بديلة، حرّة، تختار ذاتها في مجتمع يفرض الانتماء ولا يقترحه.

الذاكرة كإيقاع سردي

لا تشتغل الذاكرة في الوشم بوصفها عملية تذكّر خطي، بل كمجال تشكيلي يعيد بناء العالم من خلال استحضار الماضي بطريقة شعورية ووجدانية متقطعة. فهي تظهر في النص على شكل ومضات، طيفية ومتحركة، تتقاطع مع الأمكنة: البيت القديم، الزقاق، القرية، والتي تتحول بدورها إلى شخصيات سردية فاعلة، حاملة لندوب التجربة الجمعية وملامح الصراع الداخلي.

الذاكرة هنا ليست فقط مادة للسرد، بل آلية تتحكم بإيقاع النص، وتفرض على القارئ وتيرة خاصة في التلقي والتأويل. وهذا ما يمنح "الوشم" طابعًا مفتوحًا على تعدد القراءات، حيث يتشارك القارئ في إنتاج المعنى، لا في استهلاكه.

بين التعدد الصوتي والتأمل النفسي

يتجاوز الرباعي في بنائه السردي الصوت الواحد، ليقدّم نصًا تعدديًا من حيث زوايا النظر والأصوات الداخلية. الراوي لا يتحدث فقط بلسان الذات، بل يستحضر الجماعة، الماضي، والطفولة، كما يدخل في حوار داخلي مع ذاته، ما يمنح النص عمقًا نفسيًا وفلسفيًا. فالتمزق بين الموروث والطموح الحديث يتجلّى في هذه التعددية الصوتية، التي تعكس صراعًا داخليًا وتجربة وجودية لا تخلو من الأسئلة الكبرى حول المعنى والانتماء.

هذا الغوص في الذات لا يفصلها عن الجماعة، بل يجعلها بوابة لفهم التجربة الجمعية. فالألم الشخصي – كما في الحديث عن "الندبة التي لا يراها أحد" – يُعاد تأويله كألم تاريخي، ثقافي، جماعي.

المكان والبعد الثقافي السياسي

يحتل المكان في "الوشم" موقعًا جوهريًا، ليس بوصفه إطارًا للأحداث، بل كذاكرة حيّة، تحفظ الصراعات، وتستبطن التحوّلات. فالقرية والمدرسة والحي الشعبي تتحوّل إلى مكونات وجودية في تشكيل الراوي. إنها ليست مجرد جغرافيا، بل تاريخ حيّ، وأرشيف سردي.

كما يُحمّل الرباعي نصه دلالات ثقافية وسياسية عميقة، دون أن يسقط في المباشرة. فكل إشارة للسلطة، للرقابة، أو للهوية المملاة، تنبثق من التجربة الفردية لا من الخطابة. وهكذا يغدو النص مساحة نقدية للتأمل في أوضاع الإنسان العربي، وعلاقته بجسده، بانتمائه، وبالسلطة التي تطال حتى جلده.

بنية رمزية متماسكة

من منظور بنيوي، يشكّل الوشم وحدة دلالية مركزية، تتفرع منها معظم ثيمات النص: المنفى، الحب، الاغتراب، السلطة، الجسد، الوطن. تكرار الوشم وإعادة صياغته في أشكال مختلفة يخلق تماسكًا رمزيًا يجعل من النص نسيجًا دلاليًا غنيًا.

أما على المستوى الرمزي، فإن الوشم يكتسب أبعادًا أسطورية. إنه علامة بين المقدّس والمدنّس، بين المحرّم والمباح. لا يُفصح عنه تمامًا، لكنه حاضر في خلفية كل سرد، كأنّه "تابو" لا يمكن التخلّص منه، ولا مواجهته بالكامل.

خاتمة

الوشم ليس مجرد عمل سردي، بل نص يتجاوز حدوده ليصبح وثيقة فكرية وجمالية ترصد تشكّل الذات في علاقتها بالجسد، بالذاكرة، بالهوية، وبالمجتمع. عبقرية عبد القادر الرباعي تتجلّى في تحويل التجربة الشخصية إلى خطاب رمزي واسع، يحفر في طبقات النفس والثقافة معًا. إنه نص يكتب الألم بلغة الجسد، والهوية بالحبر الحارق لذاكرة لا تهدأ.

وبهذا، يمكن القول إن الوشم ليس سيرة ذاتية فقط، بل مشروع سردي ومعرفي، يعيد مساءلة الذات العربية في لحظات انكسارها وتمردها، من خلال علامة بسيطة – لكنها دالة – على جلد الإنسان.

***

ربى رباعي - الاردن

حين تصير الحساسية مِلاكَ الحُكم الجمالي

ليس النقد الأدبي علماً يُدار بمسطرة المنهج، ولا هو صنعة محايدة تُفرز الجمال كما تفرز الفيزياء الكتلة أو تزن الرياضيات المعادلات. بل هو، في جوهره، فنٌّ يقيس بالفؤاد، ويحكم بالذوق، ويتكئ على الحساسية بوصفها مرآة النفس وقدرتها على استقبال الإشعاعات الخفية التي لا يلتقطها العقل وحده. من هنا، يغدو الادّعاء بأن النقد الأدبي موضوعيّاً كالهندسة أو الكيمياء، خيانة لطبيعته الوجدانية، وتجريداً له من جوهره الحيّ.

لذا نبحث هنا عن الحساسية لا المنهج. وهو مفتاح الدخول إلى عوالم الأدب.

إنّ كلّ أثر أدبي، إذا ما جرّدناه من أثره فينا، من رعشته في أوتار وجداننا، غدا نصّاً ميتاً، حبراً على ورق. فليس النص الأدبي ما يُكتب، بل ما يُوقظ، ما يُلامس، ما يهزّ القارئ في منطقة لا يصلها سوى الفن. في هذا المستوى، يغدو النقد الأدبي استجابةً قبل أن يكون تحليلاً، ارتجافةً شعورية قبل أن يكون مقاربة تقنية.

لأنّ الحساسية تلك القدرة الغامضة على التنبّه لما يتوارى خلف الحروف، لما لا يُقال، لما يُوشك أن يُلمَح، هي جوهر ما به يحكم الناقد الجمالي على العمل، وهي وحدها القادرة على إدراك "النفَس" في النص، ذلك النسغ الخفي الذي يُضفي عليه الحياة. ولهذا، فإن الناقد، وإن تمرّس بالمناهج، يبقى طفلاً أمام الجمال إذا فقد الحساسية، وإذا جفّت فيه عروق الذائقة.

كون الذائقة كقوة استبطان وانحياز نبيل. فالذائقة ليست مزاجاً عابراً ولا محض تفضيل شخصي، بل هي حصيلة تراكم، وخلاصة ترقٍّ في القدرة على التلقي. إنها ذلك "الميزان الداخلي" الذي به تُوزن الأشياء لا بحسب ما تظهر عليه، بل بحسب ما تختزنه من عمق، من صدق، من توهّج. والذائقة الرفيعة هي الحساسية حين تنضج، حين تصبح قادرة على اقتناص المدهش في الخفي، وعلى تمييز النفيس من بين ركام المتشابه.

من هنا، لا يُعرض الأدب على الذائقة لأنّها تحكم تعسّفاً، بل لأنها تختزن خبرة الروح، وتمثّل ذروة التطوّر في التلقّي. وما قيمة أي عمل أدبي، إن لم يكن له أن يتسلل إلى الذائقة، أن يهزّها، أن يترك فيها أُثراً كأثر الحلم حين يوقظ ما كان نائماً في أعماق النفس؟

 النقد بين نزعة التفسير ورهبة التذوّق. لقد سعى بعض النقّاد إلى صبّ الأدب في قوالب صارمة من التحليل المنهجي، فأخضعوا النصوص لأبجديات بنيوية، أو قرأوها بعدسة تاريخية، أو سلطوا عليها مناهج تفكيكية، ظانين أن الفهم وحده يكفي، وأن التحليل قادر على الكشف. بيد أن النص الأدبي، في جوهره، لا يُفهم فحسب، بل يُحَسّ، ويُعاش، ويُكابد. وكم من تفسير أطفأ وهج القصيدة، وكم من تحليل حوّل الرواية إلى معادلة باردة!

إنّ النقد حين يغدو تفسيراً محضاً، يتحوّل إلى خطاب ثانٍ يبتعد عن روح النص، وربما يخونه. أما حين يكون تذوّقاً، استبطاناً، إنصاتاً للذبذبات الدقيقة في نسيج اللغة، فإنه يُنصف الأدب، ويعيد له مقامه بوصفه كياناً حيّاُ لا مجرد موضوع للتحليل.

من هنا كانت الذات كمرآة للمعنى، لا نقد بلا انفعال. فكلّ نقد، في نهاية المطاف، هو شهادة ذاتية. لا بمعنى العشوائية أو المزاجية، بل بمعنى أن الناقد، وهو يتفاعل مع النص، يكشف عن نفسه بقدر ما يكشف عن النص. ولئن كان كلّ علم يسعى إلى الموضوعية عبر نزع أثر الذات، فإن النقد الأدبي يبلغ ذروته حين تحضر الذات، لا بوصفها حاجزاً، بل بوصفها وسيطاً.

إنّ الذات القارئة هي التي تمنح للنص حياته الثانية. وهي في لحظة نقد تصير صدىً لما فيه من نبض. ومن هنا، فإن الاختلاف بين النقّاد ليس دليلًا على ضعف النقد، بل على قوته: إذ تتعدّد القراءات بتعدّد الحساسيات، وتتلوّن الأحكام بتنوّع الذوائق.

لذا فالشهرة لا تبرّر القيمة، والحكم للذوق لا للصيت. فكم من عمل أدبيّ شاعت شهرته، لكنه فارغ كقنينة لامعة؟ وكم من نصّ مهمل ظلّ صامتاً حتى تبنّته ذائقة أصيلة فبعثته إلى الحياة؟ إنّ المعيار في الأدب ليس الصدى، بل الصدق. وما من شيء أصدق من ذوق ناضج، حرّ، لا تشتريه الجوائز، ولا تُغويه الموضة.

ولذا، يظلّ العرض على الذوق هو المعيار الأصيل. ما قبله فهو خليق بالبقاء، ولو كُتب في ظلمة العزلة، وما رفضه فمصيره الذبول، حتى وإن تُوِّج بتصفيق المجامع وشُهر في المعارض. فإنّ الذائقة الحقّة لا تُخدع، لأنها لا تتعامل مع المظهر، بل مع الجوهر.

وهنا تبدو الحساسية بوصفها فنّاً للحكم وسرّاً في الرؤية.

النقد الأدبي، في مآله الأصفى، ليس علماً يُصنّف النصوص وفق معايير ثابتة، بل فنّاً ينصت إلى نغمة خفيّة في عمق الكلمة، ويكشف عن المعنى حيث لا يراه سواه. هو فنّ الإصغاء للحياة وهي تنبض في اللغة، وفنّ الحكم لا بالمنطق الصارم، بل بالذوق المُصفّى، والوجدان المفتوح، والروح المُدرّبة على الانفعال الصادق.

إن الحساسية الجمالية، بما هي اشتعال داخليّ واستجابة متوهّجة، تظلّ مناط القيمة في النقد. ومن لا يمتلكها، فليتأدب بالصمت أمام النصوص التي لا تُكاشف إلا من استوفى شرط الذائقة، ومن أعدّ ذاته لأن تكون وعاءً لرعشة الجمال، لا مختبراً لإطفائها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

قراءة تحليلية في نص (الجريمة والغياب) للشاعر والناقد العراقي القدير علاء الأديب

***

الجريمة والعقاب

أمشي في طريق الحبّ

كما يمشي المذنبُ نحو اعترافٍ مؤجَّل،

أخبّئ قلبي

في جيب معطفٍ ممزق،

أقول: لعلّ العابرين

يفهمون لغة الانحناء.

*

كلّ البدايات...

تشبه النورَ في زنازين الروح

رقيقةٌ.. مربكةٌ..

كضحكةٍ تسقط في بئر من البكاء.

*

هم أتوا

وفي حقائبهم ارتباكُ اللحظة الأولى..

وردٌ كثيرٌ لا يعيش أكثر من يوم..

دافئا كان صوتُهم ..

لكنّه لا يعرف الطريق

إذا طال المساء.

*

كنتُ أكتبُ رسائل لا تُرسل،

أُطعِم الغيابَ فُتاتَ الانتظار،

أرسم ظلّي

على حيطان مَنْ لم يلتفت.

*

كلّ اقترابٍ منهم

كان مصادفةً تُنكر نفسها،

نوبةَ احتياجٍ تتعلّق بأول جذع..

ثم تهرب حين تنبت لها أجنحة.

*

لم يحدث أن تخلى أحدهم عن يقينه

ليتقن مشيي المائل..

لم يقاسم أحدٌ رعشتي

أمام فكرة الرحيل.

*

لذا،

حين يُسأل عني الغياب،

سيجيب:

كان يُحبّ كأنّه يرتكبُ جريمة،

ولا أحد استحقّ

أن يُحاكمَ معه. فهو المجرم الوحيد

***

علاء الأديب

.....................

مدخل: صدى الروح في أروقة الحداثة

في فضاء الشعر العربي المعاصر حيث تتلاشى الحدود بين الذاتي والموضوعي وتتداخل أصوات الوعي مع صمت الوجود يبرز نص الشاعر علاء الأديب.

/ الجريمة والعقاب/ كصرخة مدوّية تعكس قلق الذات الحداثية وتوقها إلى فك شفرة تجاربها العميقة. ليس هذا النص مجرد قصيدة عن الحبّ أو الفقد بل هو محاولة جريئة لاستكشاف تضاريس الروح المعذبة والتي ترى في الحبّ /جريمة/ لا يشاركها فيها أحد ويصير فيها العقاب جزءاً أصيلًا من فعل الإحساس.

يتقاطع النص مع مفاهيم حداثوية كالعبثية وعزلة الفرد وتفكك السرديات الكبرى ليقدم لنا صورة للذات وهي تحاكم نفسها في محكمة الغياب، حيث لا قاضٍ ولا جلّاد سوى صدى الوعي المتذبذب

1- تحولات الوعي: الحبّ كـ / جريمة/ وعقاب /الوحيد/

يتجاوز النص الرؤية التقليدية للحبّ ليقدمه كتجربة وجودية معقدة تقارب في عنفها ووطأتها / لجريمة/ هذا التصور ليس مجرد مجاز شعري بل هو انعكاس لوعي حداثي يرى في العلاقات الإنسانية مصدراً للألم بقدر ما هي مصدر للسعادة وفي الانكشاف العاطفي نوعاً من المخاطرة الكبرى التي قد تؤدي إلى / عقاب/ الانفراد

اغتراب الذات وتصنيع /الجريمة

يفتتح الشاعر نصه بتشبيه المشي في طريق الحبّ بـ /المذنب نحو اعتراف مؤجل/ مما يضعنا مباشرة أمام مفهوم الذنب المتأصل في فعل الحبّ ذاته هنا الذنب ليس ناتجاً عن فعل خاطئ بالمعنى الأخلاقي بل هو شعور داخلي متأتٍ من هشاشة التجربة ووعي الذات بمسؤوليتها الكاملة عن مصيرها العاطفي إن / تخبئة القلب في جيب معطف ممزق/ هي محاولة بائسة لإخفاء هذا /الجرم/ أو ربما للتخفيف من وطأته لكنها تكشف في الوقت نفسه عن الانكسار والضعف.

/لغة الانحناء/ لا تُفهم من /العابرين/ مما يؤكد على عزلة الذات وعدم قدرة الآخر على اختراق عالمها الداخلي المعقد البدايات كـ / نور في زنازين الروح/: يقدم الشاعر صورة مضادة للبدايات الحداثية لا كفجر وواعد بل كـ /نور في زنازين الروح/ هذا التناقض الصارخ بين النور والسجن يشي بتجربة حبّ محاطة بالقيود الداخلية والشكوك /رقيقة مربكة كضحكة تسقط في بئر من البكاء/ هذه الاستعارة العميقة تجسد هشاشة اللحظات الأولى في مقابل حجم الألم الكامن. فالضحكة رمز الفرح لا تجد سبيلاً للبقاء سوى السقوط في بئر البكاء مما يعكس استحالة السعادة المطلقة في عالم الذات المعذبة

زيف الاقتراب وهشاشة الآخر:

تتجلى رؤية الشاعر للآخرين بوضوح في وصفه لهم بـ / ارتباك اللحظة الأولى/ و / ورد كثير لا يعيش أكثر من يوم/ هنا يتم نزع القدسية عن العلاقات الإنسانية فالآخرون لا يحملون سوى الوعود الزائفة والجمال المؤقت

/دافئاً كان صوتهم لكنّه لا يعرف الطريق إذا طال المساء/ هذه الجملة تكشف عن سطحية التواصل وعدم قدرة الآخر على تجاوز اللحظة الراهنة والانخراط في عمق التجربة الوجودية للذات خاصة عندما يمتد الألم أو / يطول المساء/

عبثية الانتظار وخطاب الغياب:

يعيش الشاعر حالة من العبثية الوجودية من خلال / كتابة رسائل لا ترسل/ و / إطعام الغياب فتات الانتظار/ هذه الأفعال تجسد غياب الأفق والغاية فليس هناك من متلقٍ حقيقي للرسائل والغياب لا يتغذى إلا على ما تبقى من أمل زائف / رسم ظلي على حيطان من لم يلتفت/ هو تعبير قاسٍ عن اللامبالاة والتجاهل حيث تحاول الذات أن تترك بصمتها في وجود الآخر الذي لا يعيرها اهتماماً مما يرسخ الشعور بالوحدة والعدمية

الاقتراب كـ / مصادفة تُنكر نفسها /: يؤكد الشاعر على طبيعة العلاقات المتقطعة والمنفصلة فالاقتراب ليس نتيجة رغبة حقيقية أو التزام بل هو / مصادفة/ تتبرأ من وجودها

إنها / نوبة احتياج تتعلق بأول جذع ثم تهرب حين تنبت لها أجنحة/ مما يصور العلاقات كنوبات مؤقتة من التشبث بالآخر تنتهي بمجرد أن تستعيد الذات حريتها أو تجد طريقها للهروب من الالتزام أو ربما من الألم

(المشي المائل) و(رعشة الرحيل):

يصل النص إلى ذروته في إبراز عزلة الذات وعدم فهم الآخر لها / لم يحدث أن تخلى أحدهم عن يقينه ليتقن مشيي المائل/ تعبير عن عدم قدرة الآخرين على التخلي عن قناعاتهم الراسخة والتكيف مع خصوصية الذات الشاعرية التي تسير / بمشي مائل/ خارج المسار المألوف

/لم يقاسم أحد رعشتي أمام فكرة الرحيل/ هذه الجملة تكشف عن قمة الوحدة في مواجهة القرارات المصيرية والألم الداخلي الذي لا يمكن للآخر أن يشاركه / جريمة/ الحبّ و/ المجرم الوحيد/: تختتم القصيدة بجملة صادمة ومكثفة تجيب على سؤال افتراضي يطرحه / الغياب/ عن الشاعر: / كان يحب كأنه يرتكب جريمة

ولا أحد استحق أن يحاكم معه فهو المجرم الوحيد/ هذه الخاتمة هي خلاصة الرؤية الحداثية للحبّ: فعل فردي بامتياز محفوف بالمخاطر وقد يؤول بالمرء إلى الشعور بالذنب والعزلة دون أن يشاركه أحدٌ تبعات هذا /الجرم/ إنها رؤية للذات المنفردة في مواجهة الكون التي تتكبد وحدها أعباء خياراتها وعواطفها وتكتشف أن أعمق مشاعرها قد تتحول إلى عبء ثقيل لا يمكن لأحد أن يتقاسمه معها هذا /المجرم الوحيد/ هو تجسيد للذات المعاصرة التي تحمل على عاتقها وزر وجودها وتكتشف أن أعمق مشاعرها قد تتحول إلى عبء ثقيل لا يمكن لأحد أن يتقاسمه معها.

2. تقنيات التعبير الحداثي وما بعد الحداثي في القصيدة

تتجاوز القصيدة السرد الخطي التقليدي وتوظف مجموعة من التقنيات التي تعكس حساسية حداثية وما بعد حداثية في التعبير:

التشظي واللاخطية: لا تتبع القصيدة مساراً سردياً واضحاً للحدث العاطفي بدلاً من ذلك تتنقل بين صور ومشاعر متقطعة تشبه الومضات أو الذكريات المتناثرة هذا التشظي يعكس حالة الوعي المضطربة وغير المستقرة للذات حيث لا توجد بداية واضحة ولا نهاية محددة للمعاناة.  كل مقطع يقدم جزءاً من الصورة الكلية لكن دون ربط منطقي صارم مما يترك للمتلقي مهمة تجميع هذه الشظايا.

التكثيف الشعري والصور المتناقضة:

يعتمد الشاعر على تكثيف المعنى في عبارات قصيرة ومكثفة مثل / نور في زنازين الروح/ أو / ضحكة تسقط في بئر من البكاء/ هذه الصور تجمع بين المتناقضات (النور -والزنزانة- الضحك -والبكاء) لخلق توتر دلالي يعكس التعقيد الداخلي للتجربة.  هذا التكثيف يدفع المتلقي إلى التوقف والتأمل في المعاني المتعددة والمحملة ضمن كلمات قليلة

المفارقة والسخرية المريرة:

يبرز عنصر المفارقة في النص من خلال التناقض بين التوقعات العاطفية والواقع المؤلم.  فالحب الذي يُفترض أن يكون مصدراً للفرح يتحول إلى /جريمة/ والبدايات المبهجة تصبح /زنازين/ هذه المفارقة تحمل في طياتها نوعاً من السخرية المريرة من هشاشة العلاقات البشرية وتكشف عن وعي الشاعر بعبثية بعض المساعي الإنسانية.

اللغة المجردة والرمزية:

على الرغم من وجود بعض الصور الحسية تميل اللغة في القصيدة إلى التجريد والرمزية. / الغياب/  /الانحناء/ /المشي المائل/ كلها مفاهيم لا تشير إلى أشياء مادية بقدر ما تشير إلى حالات نفسية ووجودية. هذا التجريد يجعل القصيدة أكثر انفتاحاً على التأويلات المتعددة ويمنحها بعداً فلسفياً يتجاوز التجربة الشخصية البحتة.

غياب الأنا والضمير المنفصل:

على الرغم من أن القصيدة تعبر عن تجربة ذاتية عميقة إلا أن الشاعر يستخدم في أحيان كثيرة ضمير الغائب / هم أتوا/

/ لم يلتفت/ / تخلى أحدهم/ يقاسم أحد/ هذا التحول من الأنا المتكلمة إلى ضمائر الغائب قد يشير إلى محاولة الشاعر لتشييء التجربة  أو لتصوير الذات كجزء من تجربة إنسانية أوسع. أو ربما كنوع من الانفصال النفسي عن الألم وفي النهاية يعود لضمير الأنا في الجملة الختامية / فهو المجرم الوحيد/ ليؤكد على مركزية الذات في تحمل العبء

3. العبثية والوجودية في فضاء القصيدة

تتقاطع القصيدة بشكل عميق مع تيمات الفلسفة العبثية والوجودية:

العبثية في السعي العاطفي: تعكس القصيدة إحساساً عميقاً بالعبثية في السعي نحو الحبّ والتواصل

فالرسائل لا ترسل والانتظار يغذي الغياب والآخر لا يلتفت هذه الأفعال المتكررة التي لا تفضي إلى نتيجة. أو التي تفضي إلى عكس المتوقع.  تجسد المفهوم العبثي الذي يشير إلى غياب المعنى والغاية في الوجود

الوحدة والعزلة الوجودية: المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة هو الوحدة المطلقة للذات / لا أحد استحق أن يحاكم معه/ تؤكد على هذه العزلة الجذرية حتى في أكثر التجارب حميمية كالحب تجد الذات نفسها منفردة في تحمل الألم والعواقب هذه الوحدة ليست مجرد غياب للآخر  بل هي شعور عميق بأن الذات محكومة بقدرها الخاص الذي لا يمكن لأحد أن يشاركه  حرية الاختيار وعبء المسؤولية: على الرغم من الألم يمكن قراءة النص على أنه يعكس وعياً بالحرية الوجودية فالبطل / يمشي في طريق الحبّ/ باختياره حتى لو كان هذا الطريق يقود إلى /جريمة/ يتكبد هو وحده عقابها.  هذه الحرية تأتي بثمن باهظ وهو عبء المسؤولية الكاملة عن الذات وعن نتائج تجاربها مما يعزز فكرة / المجرم الوحيد/

خاتمة: بين الانفلات والاحتواء يبقى صدى الذات

في قلب / الجريمة والعقاب/ نجد صدى الوعي الحداثي وهو يصارع ليحتوي مفارقات الوجود. ليس النص مجرد قصيدة  بل هو مرآة تعكس تجربة الذات في زمن يتسارع فيه تفكك اليقينيات وتزداد فيه عزلة الفرد. لقد جسد الشاعر ببراعة الألم الوجودي وحوّل الحبّ من تجربة رومانسية بحتة إلى / جريمة/ فردية يحاكم فيها المرء نفسه بنفسه ويدان بذنوب ليست له في الواقع سوى أنها تهمة الحبّ ذاته. لقد أتقن المبدع الأديب استخدام تقنيات التشظي والتكثيف والمفارقة لتجسيد هذا العالم الداخلي المعقد مما جعل القصيدة نصاً مفتوحاً على قراءات متعددة يعكس بصدق حالة الوعي المعاصر في عالم تتلاشى فيه المعاني ويهرب فيه الآخر من المشاركة الحقيقية.  تبقى الذات هي السجن والقاضي والمدان. إنّ هذا النص يمثل دعوة صادقة للتأمل في هشاشة الوجود الإنساني.  وقسوة التجربة العاطفية في عالم لا يُبقي للحب أحياناً إلا أثر / الجريمة/ التي يرتكبها قلبٌ وحده وهو ما يجعله نصاً شعرياً بامتياز.  يتجاوز حدود القصيدة الغنائية ليلامس عمق التجربة الفلسفية المعاصرة

أبدعت ايها القدير

***

انجاز: مرشدة جاويش

 

قِرَاءَةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ فِي مَجْمُوعَةِ رِضْوَانَ عَاشُورَ (نجوى)

تَقْدِمَةٌ: القَصِيدَةُ بِوَصْفِهَا صِرَاعًا وَشَهْقَةً"

اِسْتِهْلَالاً لَمْ تَتَيَسَّرْ لِي فُرْصَةُ الإِحَاطَةِ الكَامِلَةِ بِمَجْمُوعَةِ "نَجْوَى" لِلشَّاعِرِ الفِلَسْطِينِيِّ رِضْوَان عَاشُور، بِحُكْمِ ظُرُوفِ النُّزُوحِ وَتَقَلُّبَاتِ الوَطَنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحُولُ بَيْنَ القَارِئِ وَنَصِّهِ. إِلَّا أَنَّ اقْتِرَابِي مِنْ نَصُوصِهِ كَانَ اقْتِرَابَ المُدْرِكِ لِجَمْرَةِ الإِبْدَاعِ، وَصَدَاهَا فِي نَبْضِ اللُّغَةِ وَمَغْزَاهَا، وَهُوَ اقْتِرَابٌ مَلِيءٌ بِالإِحْسَاسِ وَالمَعْرِفَةِ، وَإِيمَانٌ أَكِيدٌ بِأَنَّ مَا كُتِبَ فِي "نَجْوَى" لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ نَصٍّ، بَلْ مَقَامُ شَهِيقٍ شِعْرِيٍّ فَاتِنٍ، يَنْفَتِحُ عَلَى الغَزَلِ كَمَا يَنْفَتِحُ عَلَى أَشْوَاكِ الوَطَنِ، وَهُوَ صِرَاعٌ جَمِيلٌ وَجَارِحٌ فِي آنٍ مَعاً

/ تَتَسِمُ نُصُوصُ المَجْمُوعَةِ بِانْحِيَازِهَا النَّاعِمِ وَالحَادِّ فِي آنٍ نَحْوَ الأُنْثَى لَا بوصْفِهَا مَعْنًى غَزَلِيّاً فَحَسْب بَلْ بِوَصْفِهَا مُجَازَ الوَطَنِ وَجِسْرَ العَطَاءِ وَفَيَضَ الكَائِنِ وَالذَّاكِرَةِ. وَيَجْمَعُ الشَّاعِرُ فِي نَصِّهِ بَيْنَ طَرَفَيْ  /المُعَادَلَةِ الجَارِحَةِ: المَكْبُوتِ العَاطِفِيِّ وَالمَسْكُوتِ الوَطَنِيِّ فَيُقَدِّمُ لُغَةً تَتَّسِمُ بِالشَّفَافِيَّةِ وَالمُرَاوَغَةِ، وَتَرْفُضُ أَنْ تَسْقُطَ فِي التَّعْبِيرِ الفَجِّ أَوِ المُبَاشِرِ، فَتَأْتِي كَنَصٍّ يُبْهِرُ وَيُرْبِكُ وَيُشَاغِبُ.

فِي مُوَاجَهَةِ الْمَجْمُوعَاتِ الشِّعْرِيَّةِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ جُرْحٍ وَطَنِيٍّ مَفْتُوحٍ، يَصِيرُ التَّعَامُلُ مَعَ النَّصِّ لَا بِوَصْفِهِ مُنْتَجاً جَمَالِيّاً فَحَسْبُ، بَلْ بِوَصْفِهِ وَثِيقَةً وِجْدَانِيَّةً، وَمِرْآةً لِتَجْرِبَةٍ تُؤَنْسِنُ الْقَضَايَا الْكُبْرَى دُونَ أَنْ تُخْضِعَهَا لِنَمَطِيَّةِ الْمُبَاشَرَةِ. وَمِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ  / تَنْفَتِحُ مَجْمُوعَةُ "نَجْوَى" لِلشَّاعِرِ الْفِلَسْطِينِيِّ رِضْوَانَ عَاشُورَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أُفُقٍ دَلَالِيٍّ وَشُعُورِيٍّ، بَدْءاً مِنَ الْغَنَائِيَّةِ الْمُشْبَعَةِ بِرُوحِ الْأَرْضِ وَصُولاً إِلَى الِانْخِطَافِ بِعَوَالِمِ الْأُنْثَى كَكائِنٍ رَمْزِيٍّ يَتَقَاطَعُ فِيهِ الْجَمَالِيُّ بِالْوَطَنِيِّ وَالرُّوحِيُّ بِالْوُجُودِيِّ.

شَاعِرِيَّةٌ تَنْبِضُ بِالْحُرْقَةِ وَالْجُرْأَةِ

وَإِذَا كَانَ الظَّرْفُ الْمَوْضُوعِيُّ  بِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ نَفْيٍ وَنُزُوحٍ  قَدْ حَالَ دُونَ الِانْكِبَابِ الْكَامِلِ عَلَى الْمَجْمُوعَةِ بِدِرَاسَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، فَإِنَّ الِاقْتِرَابَ الْأَوَلِيَّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ جَاءَ عَلَى عَجَلٍ، يَكْشِفُ عَنْ شَاعِرٍ يَمْتَلِكُ حُرْقَةَ الْقَوْلِ، وَجُرْأَةَ الْكَشْفِ، وَحَسَاسِيَّةَ اللُّغَةِ الَّتِي لَا تُصَنَّفُ تَحْتَ لَافِتَةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ أَوْ سُكُونِيَّةٍ. إِنَّهُ يَكْتُبُ مِنْ مَكَانٍ مُكْتَظٍّ بِالذَّاتِ، مُثْقَلٍ بِالْمَرَارَةِ، مَحْكُومٍ بِضَرُورَةِ الْبَوْحِ، وَمَفْتُوحٍ فِي آنٍ عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّعَدُّدِ.

/ ثُنَائِيَّةُ الْأُنْثَى/الْوَطَنِ: تَجْسِيدٌ فَرِيدٌ لِلِانْتِمَاءِ

تَنْبَنِي الْمَجْمُوعَةُ عَلَى قُطْبَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، مُتَعَانِقَيْنِ فِي الْعُمْقِ: الْأُنْثَى/الْوَطَنِ. وَفِي حِينٍ قَدْ تَبْدُو هَذِهِ الثُّنَائِيَّةُ مَأْلُوفَةً فِي الْقَصِيدَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ، فَإِنَّ عَاشُورَ يَذْهَبُ بِهَا إِلَى مَنْحَى خَاصٍّ، إِذْ لَا يُقِيمُ فَاصِلًا بَيْنَ الْحَبِيبَةِ وَالتُّرَابِ، وَلَا يَجْعَلُ مِنَ الْوَطَنِ نَشِيداً بَلَاغِيّاً يُرْفَعُ بَلْ كَيَاناً مَحْسُوساً يُحْتَضَنُ، يُشْتَهَى يُجْرَحُ وَيُضَمَّدُ

 وَمِنْ هُنَا تَأْتِي نَبْرَتُهُ الْمَاكِرَةُ الَّتِي تُوَظِّفُ الْغَزَلَ بِوَصْفِهِ طَرِيقَةً لِلْقَوْلِ، أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ غَايَةً لِلْبَوْحِ، وَتُضَمِّنُ الْجَسَدَ حُضُوراً اسْتِعَارِيّاً رَقِيقاً دُونَما تَفَلُّتٍ مِنِ اتِّزَانِ اللُّغَةِ وَمَسْؤُولِيَّةِ الرَّمْزِ

ثُمَّةَ مَا يُشْبِهُ "الِاحْتِرَافَ الْعَاطِفِيَّ" لَدَى رِضْوَانَ عَاشُورَ، لَا بِمَعْنَى التَّزْيِيفِ أَوِ الْأَدَاءِ، بَلْ بِوَصْفِهِ اقْتِدَاراً عَلَى تَطْوِيعِ اللَّحْظَةِ الشَّخْصِيَّةِ لِتَسْتَحِيلَ حَالَةً إِنْسَانِيَّةً جَامِعَةً

فَالتَّجْرِبَةُ الْيَوْمِيَّةُ كَمَا تَظْهَرُ فِي بَعْضِ نُصُوصِهِ لَا تَبْقَى أَسِيرَةَ الْيَوْمِيِّ  بَلْ تَتَحَوَّلُ عَبْرَ التَّشْكِيلِ الشِّعْرِيِّ إِلَى  سُؤَالٍ جَمَالِيٍّ مُتَوَتِّرٍ: عَنْ مَعْنَى الِانْتِمَاءِ، عَنْ حُدُودِ الْغِيَابِ، عَنْ لَذَّةِ التَّذَكُّرِ، وَعَنِ الْخِيَانَةِ بِوَصْفِهَا سُؤَالاً وُجُودِيّاً أَكْثَرَ مِنْهَا حَدَثاً عَابِراً.

لُغَةٌ تُنَاوِرُ وَتُكَثِّفُ: بِنْيَةٌ حَدَاثِيَّةٌ مُقَاوِمَةٌ لِلِاسْتِهْلَاكِ

اللُّغَةُ فِي "نَجْوَى" لَا تَعْلُو عَلَى مَعْنَاهَا، لَكِنَّهَا لَا تُسَلِّمُهُ بِسُهُولَةٍ أَيْضًا. بَلْ تُرْبِكُ الْمُتَلَقِّيَ بِلَذَّةٍ تَدْفَعُهُ لِلتَّوَرُّطِ فِي الْعِبَارَةِ

 لَا مِنْ بَابِ الْغُمُوضِ الْمَجَّانِيِّ بَلْ مِنْ بَابِ بِنْيَةٍ شِعْرِيَّةٍ تَمْلِكُ حَرَارَتَهَا الدَّاخِلِيَّةَ وَتَعْرِفُ كَيْفَ تُخْفِي أَكْثَرَ مِمَّا تُصَرِّحُ

 إِنَّهَا لُغَةٌ تُنَاوِرُ، تُكَثِّفُ، تُسْقِطُ، وَتُلَوِّحُ أَكْثَرَ مِمَّا تُمْسِكُ، وَهِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَنْحُو نَحْوَ بِنْيَةٍ حَدَاثِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى مُقَاوَمَةِ الِاسْتِهْلَاكِ

فِلَسْطِينُ: حُضُورٌ وُجُودِيٌّ وَمُقَاوَمَةٌ شِعْرِيَّةٌ

فِي بُعْدِهِ الْوَطَنِيِّ، يَبْدُو الشَّاعِرُ مَسْكُوناً بِقَضِيَّةِ فِلَسْطِينَ لَا بِوَصْفِهَا شِعَاراً بَلْ بِوَصْفِهَا لَحْظَةً وُجُودِيَّةً لَا مَهْرَبَ مِنْهَا يَكْتُبُ مِنْ دَاخِلِ الْجُرْحِ، لَا مِنْ فَوْقِهِ، وَيُسَجِّلُ فِي قَصَائِدِ الْمَجْمُوعَةِ وُقُوفاً صَلْباً فِي وَجْهِ الْتِبَاسَاتِ الزَّمَنِ وَمُرَاوَغَاتِ التَّارِيخِ، كَمَا لَوْ أَنَّ الشِّعْرَ عِنْدَهُ فِعْلُ مُقَاوَمَةٍ لَا يَقِلُّ عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ. إِنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِتَمْجِيدِ مَنْ نَافَحُوا بِبَسَالَةٍ، بَلْ يَجْعَلُنَا نُشَارِكُهُمُ الْمَعْنَى، نَحْمِلُ مَعَهُمْ خَيْبَاتِهِمْ وَبُطُولَاتِهِمْ، نَذْرِفُ بِصَمْتِهِمْ دَمْعاً مُتَخَيَّلاً وَنُحِسُّ مَعَهُمْ خَدَرَ الِانْتِمَاءِ حِينَ يَصِيرُ الْحُلْمُ وَعْياً سِيَاسِيّاً وَشِعْرِيّاً فِي آنٍ.

 الْأُنْثَى: رَمْزٌ لِلْخَلَاصِ وَالِانْبِعَاثِ

أَمَّا حُضُورُ الْأُنْثَى فَهُوَ مَائِزٌ أَسَاسٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَأْتِي بِوَصْفِهَا اسْتِجَابَةً لِحَنِينٍ جَسَدِيٍّ فَحَسْبُ، بَلْ كَصُورَةٍ اسْتِعَارِيَّةٍ تَتَّسِعُ لِتَشْمَلَ مَعَانِيَ الْخَلَاصِ وَالِانْبِعَاثِ وَالْوِلَادَةِ وَالِانْهِيَارِ. إِنَّ عَاشُورَ لَا يُقَيِّدُ أُنْثَاهُ بِشَكْلٍ أَوْ نَمَطٍ شِعْرِيٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَمْنَحُهَا حُرِّيَّةَ التَّجَلِّي ضِمْنَ أَنْمَاطٍ شِعْرِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنَ النَّثْرِ الْمَوْزُونِ إِلَى التَّفْعِيلَةِ الطَّلِيقَةِ، مِمَّا يَعْكِسُ وَعْيًا بِالشَّكْلِ بِوَصْفِهِ حَامِلًا لِلْمَعْنَى لَا قَالَباً جَاهِزاً لَهُ.

"نَجْوَى": دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّوَاطُؤِ الْوِجْدَانِيِّ

فِي نُصُوصِ الْمَجْمُوعَةِ، تَلْتَقِي الْفَلْسَفَةُ بِالْحِسِّ، وَالْمَعْرِفَةُ بِالشَّهْوَةِ، وَالْمَوْقِفُ الْجَمَالِيُّ بِالْمَوْقِفِ الْوُجُودِيِّ. وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا مَا يَجْعَلُ مِنْ "نَجْوَى" مَجْمُوعَةً لَا تُقْرَأُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ تَقْتَضِي عَوْدَةً وَتَأَمُّلًا وَتَوَاطُؤاً وِجْدَانِيّاً مَعَ ذَاتٍ تَصْرُخُ حِيناً وَتَهْمِسُ حِيناً وَتَلُوذُ بِالشِّعْرِ دَائِماً

إِنَّ رِضْوَانَ عَاشُورَ لَا يَنْتَمِي إِلَى شِعْرِ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ التَّهْوِيمِ، بَلْ هُوَ فِي مَا نَقْرَأُ شَاعِرُ مَوْقِفٍ، وَفِكْرٍ، وَلُغَةٍ، وَتَوَتُّرٍ جَمَالِيٍّ يَعِي مَسْؤُولِيَّتَهُ

 وَهُنَا تَبْرُزُ جَدَارَةُ انْتِمَائِهِ إِلَى طَلِيعَةِ الْكَلِمَةِ الْفَاعِلَةِ، حَيْثُ الشَّاعِرُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاهِداً عَلَى الْخَرَابِ

 بَلْ شَرِيكاً فِي تَجَاوُزِهِ، أَوْ لَنَقُلْ: مُغَامِراً بِوَسَائِلِ التَّعْبِيرِ لِيَخْلُقَ مِنْ هَشِيمِ الْوَاقِعِ جَمْرَةَ شِعْرٍ لَا تَنْطَفِئُ

***

مرشدة جاويش

تمحور هدف هذه المقالة حول فهم وسبر غور طبيعة النصوص الشعرية وقصائد ناظم التورنجي النثرية. وذلك لأن الإبحار في عالم أبو حازم التورنجي كما يحب أن يكني نفسه مسألة ليست سهلة وذلك لتعدد مواضيع هاتين المجموعتين التي بين يدينا حسب التسلسل الزمني لصدورهما. الأولى بوح الغربة الصادرة في العام 2023 من قبل دار نشر مطبعة الشاعر في البصرة والثانية رسائل غربة الصادرة في العام 2024 من قبل مطبعة الشاعر أيضا في مدينة البصرة ثغر العراق الباسم.

تنقل وأقام أبو حازم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في عدد من الدول العربية وأوروبا الشرقية ومن ثم في كردستان العراق ضمن قوات الأنصار الشيوعيين العراقيين، عاكسا في نصوصه وقصائده الشعرية والنثرية الأحداث السياسية والاجتماعية التي عايشها بجميع جوارحه وأحاسيسه طالما أن الانسان وليد بيئته التي يحن اليها وهو يعكس دائما هموم أناسها وساكنيها من خلال ترجمة هذه الحوادث الى نصوص شعرية سهلة القراءة والفهم من قبل جمهوره الواسع الذي يتفاعل معه في المهرجانات الثقافية سواء كانت في العراق أو في مصر الكنانة أو في تونس أو في دول الخليج العربي والدول الاسكندنافية في السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا.

يتميز أسلوب أبو حازم الحماسي وطريقة قراءته للنصوص والقصائد الشعرية التي تشد الجمهور اليه بالتفاعل مع موضوعة القصائد التي تعبر عن إحساس الجمهور واعجابه بها. ولهذا ترى انشداد المتواجدين في القاعة اليه مما يضفي على جو الاحتفال الارتياح والبهجة والسرور بمعنى كلماته الثورية والحماسية وانتقاد الوضع القائم من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق.

كما يشغل الشعر الوجداني والغزل حيز لا بأس به في هاتين المجموعتين. ولهذا نورد بعض الأمثلة من نصوصه الشعرية.

من النصوص الشعرية المهمة في بوح الغربة هي قصيدة جسر الزيتون الذي كتبها ناظم زغير التورنجي تمجيدا لانتفاضة الشباب المناضل من أجل مستقبل أفضل حيث يقول في مقدمتها: انحناء واجلالا وتمجيدا لشهداء جسر الزيتون في الناصرية في الذكرى الثالثة التي تصادف يوم الاثنين 28 تشرين الثاني 2023 ص35-37.

يا جسر الزيتون تكلم

هل من بقايا ذكرى لوجوه

غادرتك دامية؟

بلا ذنب بلا معصية

لجيل يروم الحرية

يا جسر الزيتون

هل لحكاية هذا الوطن المستباح

من خاتمة وبقية؟ٍ

لم يعد في حضن الام بعد

ذي العشرين ربيعا

امنية يا جسر الزيتون

تظل قضبانك مصبوغة

بدم الشبان وإن أعادوا صبغها

بكرة وعشية

يا جسر الزيتون

وقد غدوت محرابا وقبلة

ما بقيت من العمر بقية

تتوارث ملحمتك ضمائر بقية

ومن قصائد بوح الغربة أيضا – حقائب سفر ص 74-76

أهرع لمدن نستني وما نسيتها

بحثا عن دفء به شيء من دفء أمي

مر سريعا قطار زمني

ولم يقف عند محطة الاحلام

بل كانت مجرد أوهام

ظلت امتعتي تدور معه

في المحطات الغريبة والبعيدة

ركاب لا اعرفهم

ركاب اعرفهم ولا يعرفوني

ركاب لا يريدون ان يعرفوني

غريبة هي روائح أجساد

لم تتطهر بغدير الفراتين

لا تلمني يا صاحبي

ان عجلت السفر

فقطار العمر مازال يخترق الآفاق

وحقائبي ما زالت فيه والدنيا ما عادت

كما رسم معالمها الاباء والأجداد

ولا شيء يثقل كاهلي

غير الاسفار وحيدا

ومشاعري حبيسة في حقائب السفر

ومن المواضيع التي كتب عنها أبو حازم هي التغرب وانتشار العراقيين في المنافي:

جيل الغربة ص80-82

غرباء عاشوا في الوطن

وغرباء عاشوا في المنفى

غرباء هم هنا وهناك

هناك حملوا أماني للوطن

وهنا ماتوا غرباء

يملأ عيونهم طيف

بوطن ليس كهذا الوطن

الطاعن و المطعون

وليت تلك الامنيات وهذه الاحلام

لا تغدو سنبن وأرقام في حساب شائك مربك

جيل يندثر تحت ركام الأماني

والأحلام المستحيلة

وجيل يتحاشى الاقتراب من لوعة الكهول

في الأرقام المتشابكة لسنوات العمر في محطات

ويستمر ناظم زغير في عكس الحالة النفسية التي مر بها بعد خروجه من المعتقل في شهر آب 1980 ص 83- 84

حين خرجت من المعتقل حطاما

تهاويت في حضن امي وبكيت

وبكت هي الأخرى قائلة :

(يا وسفة) على الرجل يبكي لجراح في الجلد

هل نسيت درب أبيك؟

كم كان معبدا بالآلام معمدا بالدم!؟

يا أمي أنا لا أبكي

بل روحي تتوجع وتتشنج

على مكتبة كمملكة ورسائل عشق سرية

وحكايات غرام لمساري

صادرها الجهلة الأوغاد

وقد أفنيت السنوات في بنائها

كما يبني الطير عشه

وينتقل أبو حازم الى نص شعري غزلي، ص 94-96 نقتبس منه بعض الأبيات:

صليب بين نهديها والمسيح

يلجمني يكبلني

يهز يطيح بما تبقى لي

من كياسة و وقار

فكيف بي أن أستكين وأستريح

أنا عاشق سيدتي فهل من خطيئة

أن يعشق الكهل

وهل القلوب مختومة بختم الأديان؟

مغرم ومتيم وتائه في البطاح

فهل يرضيك

حبس البوح في دهاليز الأرواح؟

فإن كان كذلك

فقولي لي كيف هو الخلاص؟

وأي قس يقبل اعترافي وتوبتي؟

وكل شيء في نفسي لهواك مباح

أيبقى حبي في صمت محتبس؟

لا ألومك فيه فالذنب ذنبي

ما زلت بقلب نزق

لا يعرف يعتنق العشق ديناً ومعتقداً

لا يركن إلاً لوجهك قبلة

لا يرى سواه وجها

ملائكياً بين الملاح .

كما أن الوطن موجود في نصوص أبو حازم دائما كما هو في النص التالي الذي نقتبس منه بعض الأبيات:

أنت وطني وانتمائي الأوحد ص 102-104:

لم يبق لي سواك من وطن

بل أنت آخر الاوطان

فكل الأوطان التي زرعتها في ذاكرتي

كان بعضها وهما

والآخر مجرد خيبات

تتلو خيبات في الزمن المرً

في أحضانك عرفت روحي موجات الحب

وهوية عشق أبدي

وقبلك لم أعرف

سوى وريقات تمنح للمساكين من المنفيين

طوعا أو قسرا

فهل عرفت الان لم أنا بك معتصم؟

ولا شيء يستحق انتمائي سواك

ولا شيء جدير بولائي غير همساتك.

لم يترك الشاعر ناظم التورنجي موضوع الغربة بعيدا، فقد عاد اليه مرة أخرى في مجموعة رسائل غربة: تأملات عند أبواب الغربة ص 11-14

إلى من كان معي عند الحدود

في الذهاب والإياب

أطرق ذات الأبواب ثانية هنا وهناك

ارتحلت ويا ليتني لم أرتحل

وعدت ويا ليتني لم أعد

أنا الغريب في ذاك الوطن

وأنا الوطن في هذه الغربة

وطن وأي وطن!؟

فما عاد كذلك الوطن

كابوس في الحلم وخربة في الصحو

فهل سيعذرني من علمني في الصغر معنى الوطن؟

وهل يفهمني من ذاق هذا الطعم؟

آه، ما أشق هذه العذابات يا أحبتي هناك

ننتقل الى رسالة أخرى، ومضة في مطارات الغربة

كم من البحار ستعبر لهناك

كم من الحدود ستتخطى

ما الذي يحدوك كي تسرع في خطاك

كم من رجال والجمارك والأمن

يسألونك الوجهة والغرض

ولم أنت بلا حقائب

ولا أ متعة معلمة الأوصاف

إني أحمل وطني والحمل ثقيل

ألا يكفي ذلك؟

وطن يحتل القلب ويملأه

وإذ ذاك هويتي وجواز مروري

يا هذا المسكون بالأسئلة الصماء

أيها الموزع المتشظي أما كفاك؟

وهكذا يتجلى شاعر الغربة في نثرية أخرى يتكلم فيها عن الأحلام الباهتة ومفردات صلاته في محراب اليقين ونزق الهوى وسهد الليالي من الكياسة والفطرة النبيلة مع الخط في الرمال بوجود الجراح الغائرة في الجسد وهو يناجي صاحبه حينما يرقص على أنغام ما عاد لها ذكر في السلم الموسيقي للعازفين على رفسات الأجساد المذبوحة من القفا. ومع ذلك يبقى يحلم ويحلم وهو يسأل هل أن الحلم كثير عليه بغض النظر من أن كل المدن لفظته وغادرها بخيبة لا تحمل شيئا من هوية روحه المختومة بهاجس البحث عن بصيص ضوء في العتمة لا الخدمة في قصور السلطان وهو يرجو صديقه أن يتركه يتدثر بلحاف الحلم فلكل منهما حلمه، نثرية حلمي أنا ص18-21 ، رسائل غربة.

من رسائل الغربة نقرأ أيضاً رسالة عانقيني ص 39-41.

يعود صديقنا ناظم زغير مرة أخرى الى شعر الغزل الوجداني في قصيدة عانقيني

ص39-41. نقتبس جزء منها:

تعالي وعانقيني

عانقيني بقوة، بعنف مثلما تشتهين

فمنذ زمن بعيد وأنا أحلم بك

وبعناق كعناق جندي عاد للتو من حرب

عانقيني ودعي أجسادنا تلتقي بل وتلتحم

ولنودع السنة بعناق يذيب

ثلوج غربة روح تحاصرني

لا تتأسي وتواسيني

إذا ما اختلت دقات قلبي

فعناقك هو البلسم لهذا القلب

المضطرب النبض.

وينتقل أبو حازم التورنجي الى موضوع تراكم الثلوج ولكن بمعنى آخر. حيث يربطه بشجرة العمر والأحزان التي تتكدس في أودجة قلب كسير. هذا ما جاء في رسالة عنوانها عبث شتاء مازال في الصفحات 42-43. حيث يتناول موضوع ولاءات العصر المشؤوم وراقصات الفحش والحاصلين على الريع النفطي لأن كل ما هو موجود في باطن الأرض يعود لهم:

الحكايات البليدة من زمن الانكسارات

وهزائم شيوخ العبادات الصنمية

والاسئلة تتطاير في كل الأنحاء

تبحث عن أجوبة تسد الأفواه الفاغرة

من هول المهزلة المتجددة

عند حدود أرصفة اختلطت

أصباغها الزيتية بالدم القاني

والعويل ما زال يهدر

من أطراف الأكواخ وبيوت طينية

تزدحم على جدرانها

صور من رحلوا غيلة وغفلة وقسرا

والناعي ينسى الأسماء والتواريخ

متوهما بأسعار صرف العملات

في سوق مهرجي الولاءات الرخيصة

وعجائز الحي يتفكهن عصر كل يوم

بحكايات زواجات العهد المشؤوم

من راقصات الدرجة الرابعة.

هناك مواضيع كثيرة كتب عنها ناظم زغير في رسائل غربته منها على سبيل المثال لا الحصر:

- في ذكرى رحيل الصديق والرفيق العزيز صمد المباغت

- العيد المزور

- زمن الفواجع المتواصل

- الوطن المستباح

- عناق وقبلة

- أنا هنا

- صخب الجوقة

- الشهداء يعودون

- الناس والنخل والصمت

أختم هذه المقالة بالقول أن هاتين المجموعتين للشاعر الصديق أبو حازم التورنجي تستحقان الثناء والتقدير كونهما تعكسان تجربة انسان عايش وعاصر أحداث حياتية بين المدينة والجبل وفي مختلف أصقاع الدنيا. طوبي لهذا الانسان المكافح من أجل حرية الانسان والعيش بكرامة بين أبناء جلدته أينما كانوا في الوطن وفي المهجر.

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

رواية عين التينة للدكتور صافي صافي الصادرة عن الإتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله العام2025. يمكن تجنيسها ضمن باب أدب الرحلات وإن كانت مطعمة بعض اللقطات ذات النكهة السياسية. فعلى خطى غسان كنفاني العائد إلى حيفا نجد حنان تصرح بأنها عائدة إلى بيسان وتردد مع فيروز أغنيتها المحببة خذوني إلى بيسان، "كانت لنا من زمان بيارة جميلة وضيعة ظليلة ينام في افيائها نيسان".

توضح لنا حنان تعلقها بمدينتها وتفضيلها حتى على باقي المدن الفلسطينية بما فيها القدس وما تعنيه القدس فبرغم حبها للقدس إلا أنها تقول: "لكنني جئت من أجل بيسان".

إمتازت الرواية بلغة سلسة ورشيقة وإقتصرت شخصياتها الرئيسة على حنان ورفيقها السارد إلى جانب بعض الشخصيات الثانوية مثل وحيد الجولاني وابو المجد والراقصة مها. وكان الأسلوب السردي هو الطاغي إلى جانب بعض الحوارات والتساؤلات التي بقيت دون أجوبة واضحة. فمثلا في أحد الحوارات بين بيسان ورفيقها السارد تسأله: هل سيرحلون؟ هل سنرحل؟هل نبقى جميعنا؟ هل يقبلوا بنا ليعيشوا بيننا ونعيش بينهم؟ فيكون جوابه لست أدري، لقد مرت عقود ونحن نناقش هذه الإفتراضات دون ان نحصل على أجوبة شافية. كما تشير الرواية إلى ما يشبه الضياع او انعدام الرؤية حول القضية الأم فتقول: مرت علينا فترة مراهقتنا وكنا نعتقد اننا نملك الإجابة لكل سؤال، فرحنا نفترض أسئلة وأجوبة. كنا واثقين أن ثورتنا ستنتصر لقد كنا مراهقين، واليوم نردد عبارة لست أدري ونخشى ان تكون هذه العبارة دليل إحباط وقنوط. فماذا نسمي الإنشقاقات المتتالية في حركتنا الوطنية؟ ماذا نسمي انتقالنا قسرا وجهرا من ساحة إلى أخرى؟.

المكان كان حاضرا في هذه الرواية والأمكنة بالنسبة للفلسطيني راسخة في ذاكرته ووجدانه، فبدلا من أن تحكي حنان قصص الأطفال لأحفادها فقد كانت تستبدلها بقصص عن مدينتها بيسان حتى يبقى الوطن في ذاكرة الأجيال المتعاقبة. وتظهر لنا الرواية تعلق حنان بمدينتها بيسان وإصرارها على زيارتها ورؤية ما بقي من بيوتها وإن كانت مهدمة ولا تريد أن ترى المدن التي استحدثها الإحتلال رغم جماليتها وحداثتها، فبيسان بالنسبة لها هي القفص الذهبي الذي تعيش فيه، فهي ترى الوطن كله من خلال بيسان. وتعبر عن هذا الحنين بالقول: جئنا لنقف على أطلال بلادنا، ونبحث عن ظلال الذين رحلوا، ونشتم رائحة الماء والتراب والحجارة. وتعود بالذاكرة إلى سوق الخميس والبيادر في بيسان وساحتها التي تقام فيها الأعراس. وعندما شرح لها رفيقها السارد كيف أن الإحتلال قام بتجفيف بحيرة الحولة لإفراغ المنطقة من سكانها أجابته: لن يستطيعوا أن يجففونا حتى ونحن في الشتات.

وللدلالة على التمسك بالهوية الفلسطينية يصف السارد مدينة رام الله بأنها "مدينة كل المدن والقرى الفلسطينية" حيث ان واجهات محلاتها تزدان بذكر أسماء العائلات المرتبطة كل منها باسم مدينة أو قرية مثل اللداوي، الحيفاوي، الرملاوي، الطيراوي وغيرها.. وكأن هذه المحلات تمثل سفارات او ممثليات لتلك القرى والبلدات. وخلال رحلة حنان برفقة السارد كنا امام توصيف للأماكن، فيحدثنا السارد عن عين التينة فيقول: إنها عين التينة الثابتة الصابرة تقف منتصبة على حدود هضبة الجولان وتطل على سهل الحولة. وهي إحدى أهم عيون الماء وسميت بعين التينة نسبة لأشجار التين التي تملأ المكان. وقد جرى احتلالها إثرعملية يفتاح في شهر أيار 1948، وهي منطقة تكثر فيها الينابيع وأهمها نبع الدرباشية. ولم يكتف السارد بوصف الأماكن بل انتقل لوصف أشجار التين وانواعه فهي أشجار خضراء يانعة بأصابع أوراقها الخمس وتتوزع أنواعها ما بين البياضية، العسيلية، دعيبلية أو غزالية وغيرها من التسميات.

كما تبرز الرواية السياسة التوسعية للمحتل وقضمه للأراضي، عندما باعت عائلة سرسق سهل الحولة لشركة يهودية اعتبر اليهود ان كل القرى المقامة في السهل امتيازا لهم، وهنا أشير إلى أننا في لبنان ونتيجة لعملية البيع هذه ومثيلاتها فقدنا عددا من القرى تسمى في قاموسنا بالقرى السبع ومن ضمنها هونين والحمرا التي ورد ذكرهما في الرواية. وللدلالة على ما يقوم به الإحتلال من تمزيق للنسيج الإجتماعي وتشتيت العائلات تطرقت الرواية إلى ما حدث لقرية الباقة التي قسمت عام 1949 إلى شرقية وغربية بحيث وتوزع أفراد العائلة الواحدة بين هذين القسمين.

وفيما يشبه النقد للأطراف السياسية المتباعدة يصف السارد حنان بأنها ترى أوسع من الأطراف السياسية، حيث أن الأمور فلتت من عقالها فيتبارون في تسجيل نقاط على بعضهم حتى غاب الوطن في عقول الشباب بعد أن ظهر الولاء وغاب الإنتماء. كما تثير الرواية مسألة عدم تضافر الجهود الكافية بين الداخل والخارج حيث تقول حنان "وأنا في الخارج لم أفعل كثيرا كي أعود ولم تفعل أنت أيضا وانت داخل الوطن، أنت تنتظر منّا في الخارج أن نأتي فاتحين، منقذين ومنتصرين، أما أنا فأرى في أمثالك بوصلة للتغيير والتعديل. كل واحد ركن على الآخر وبقيت علاقة الداخل مع الخارج غير واضحة".

في إشارة لافتة تعبر عن رفض حنان لما يمكن ان نسميه التكاذب العربي والأغاني الحماسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع نراها تطلب من سائق الحافلة أن يغلق المذياع الذي يصدح بأغنية وطني حبيبي الوطن الأكبر لتقول "يكفيني صوت محرك الحافلة واحتكاك عجلاتها بالطريق لأعرف أنني هنا في وطني". وفي موضع آخر تقول: لقد تم بيعنا أكثر من مرة كل مرحلة ولها سعرها.

وفي اشارة إلى ما زرعه الإستعمار من بذرة الخلاف بين الدول العربية وترسيم حدودها يبرز السؤال هل عين التينة والدرباشينية فلسطينيتان أم سوريتان؟ مشاكل مصطنعة ارادها المستعمر بحيث جعلنا كما ورد في الرواية نختلف على جلد الغزال قبل صيده، والشيء بالشيء يذكر فلا تزال مزارع شبعا موضع أخذ ورد حول هويتها هل هي لبنانية أم سورية.

تبرز الرواية الثقافة العنصرية للمحتل، حين تم محاصرة الفريق الراغب بزيارة عين التينة من قبل المحضرين للجندية، حيث بدأت إحدى المجندات بالصراخ والسباب مشيرة الى الارض وهي تقول هذه لنا وانتم الغرباء، نحن السادة وانتم العبيد.

وبالرغم كل التعجرف والتعالي الإسرائيلي إلى ان لاوعيه يجعله يعيش هاجس الخوف دوما من الفلسطيني، لأنه يعرف ان هذه الأرض ليست له فعندما طلب أحد الجنود من أعضاء الفريق رمي عصيهم في الماء أجابت حنان أنكم تحملون سلاحا وتخشون العصي؟ ليجيبها نعم ونخشى حجارتكم وما في داخل عقولكم، وفي إشارة إلى التغيير الديمغرافي المحتم يقول وايضا نخشى تناسلكم الذي سيأتينا بأسوأ منكم.

وتطرقت الرواية إلى إشكالية ربما لا تزال قائمة وهي امكانية نشؤو صداقات بين الفلسطيني واليهودي فهناك البعض من فعل هذا والبعض الآخر لم يفعل ولكل مبرراته كما يقول السارد.

وفي إشارة ربما إلى أن العودة الحقيقية لم يحن أوانها بعد، يقول السارد: رأينا العين من بعيد ولم نقف على نبعها، ولم نغسل أجسادنا بماء شلالاتها الصغيرة لأننا حوصرنا من مستوطنين ومن الجيش الذي جاء لحمايتهم. وأيضا لم تستطع حنان رؤية بيسان والتجول في شوارعها لانها وصلتها ليلا وتم اعتقالها مع رفيقها.

ختاما نلحظ أن المؤلف تعمد إبقاء نهاية روايته مفتوحة على كل الإحتمالات تاركا للقادم من الأيام وما قد يحمله من تغيرات سياسية وضع النهاية المرجوة لرحلة حنان وغيرها من فلسطيني الشتات وأملهم بالعودة ليس إلى بيسان فقط بل إلى كل فلسطين.

***

بقلم عفيف قاووق- لبنان

قراءة رمزية نفسية في قصيدة الشاعرة عفاف عمورة"

تمهيد: القصيدة موضوع الدراسة ليست مجرد نَظم وجداني، بل هي صرخة وجودية تنبثق من قلب الجرح الفلسطيني، وتتشكل في لغة رمزية مكثفة تتراوح بين الانكسار والصمود، بين الندبة والأمل، بين النفي والانتماء. تحمل القصيدة نبضاً داخلياً مشحوناً بتوترات الذاكرة الجمعية والهوية، كما تنضح بالحنين إلى وطن يتعذر احتضانه جسدياً، لكنه يفيض حضوراً شعورياً ونفسياً.

أولاً: البنية الرمزية – الأرض، النار، الانكسار

توظّف الشاعرة رموزاً ذات دلالة كثيفة:

* "الجرح"، "النار"، "الظلال": ترمز إلى الألم الجماعي، الخسارات المتتالية، ودوامة النفي والشتات.

* "القدس"، "الدار"، "الديار": هذه الكلمات تتكرر لترسّخ الحنين المكاني وتُجسد الوطن بوصفه معادلاً رمزيًا للأم، للقداسة، للهوية.

* "الانكسار": يُعاد لفظيًا ودلالياً، لكنه لا يُستسلم له، بل يُعادِل بشعار لا يرضى الاستسلام:

"سَمًا بِأنَّا لا نُطيقُ انْكِسَارا"

فالرفض لا يعني غياب الانكسار، بل المجاهدة في تجاوزه.

البعد الرمزي للـ"الماء" والـ"دمع":

"ونَسْقِي مِنْ مَدامِعِنا الدِّيارَا"

الدمع هنا ليس ضعفاً بل طقس تطهير، رمزياًً يحمل دلالة الخصوبة والارتواء، كأن الحزن الفلسطيني يُخصّب الأرض في انتظار الربيع.

ثانياً: التحليل النفسي – الهوية في مواجهة النفي

القصيدة مرآة لوجدانٍ مشتّت، بين انفعال الحنين وانضباط الأمل، بين صدمة الاقتلاع وشرارة الاستمرار.

1.  ملامح الإنكار والتحوّل:

"وَنَسْكُتُ – والضّمائرُ في اشْتِعالٍ –

كَأَنَّ الصَّوْتَ قدْ خَافَ انْكِسَارَا"

السكوت هنا ليس صمتًا تاماً، بل صراع داخلي بين ما يجب أن يُقال وما يُمنع قوله. وهو ما يعبّر عن آلية دفاعية نفسية تُعرف بـالإنكار، حيث يصير الصمت ملاذاًً من القهر، بينما الحقيقة تشتعل داخل الضمير.

 2. أيديولوجيا الأمل كإستراتيجية مقاومة نفسية:

"ولَوْ طَالَ الزَّمانُ بِهِ انْتِظَارَا"

الإصرار على الأمل، رغم الامتداد الزمني للألم، يعكس حاجة النفس لتشكيل هوية مستقرة في وجه التفكك، فالأمل – وفقاً لتحليل كارل يونغ – يشكل النقيض المعادل للظل، أي إنه وظيفة نفسية تُوازن الجرح الجماعي.

ثالثاً: المقاربة السوسيولوجية – الذات الجماعية تحت الاحتلال

القصيدة تمثّل صوت الهوية الجمعية الفلسطينية وهي تحاول أن تُرمم ذاكرتها وتعيد بناء معنى الكينونة الوطنية:

"نُطَهِّرُ تُرْبَها مِنْ كُلِّ دَخْنٍ

وَنُطْفِئُ في الحِمَى وَجَعًا وَشَوْقَا"

التطهير هنا يتجاوز المعنى الديني أو الطقسي، ويأخذ بعداً اجتماعياً: مقاومة التشويه الرمزي والمعنوي للهوية الفلسطينية. فـ"الدخن" هو كل ما علق بالهوية من تحريف، من تزييف، من احتلال للوعي.

السرد الجماعي مقابل السرد الاستعماري:

"نَرُدُّ إلَى حِكايَتِنا اعْتِبارَا"

في هذه العبارة تتكثف وظيفة الشعر كمقاومة سردية، حيث التاريخ المستلب يُستعاد بالكلمة، ويُسترد بالذاكرة. القصيدة هنا ليست فقط أدبًا، بل فعل اجتماعي رمزي يعيد صياغة سرد الذات في مواجهة محوها.

رابعاً: فلسفة القصيدة – بين ثنائية الألم والأمل

القصيدة تتأرجح فلسفيًا بين نقيضين: الانكسار بوصفه قدراًً، والكرامة بوصفها خياراً. وبينهما، تقف "عفاف عمورة" على تخوم الذات المنفية، ترسم حدود الجرح، وتفتش عن خلاص لا يأتي من الخارج بل ينبثق من وعي الداخل.

"وَلكنَّا نُرَمِّمُ مِنْ شُظايَا

رجاءَ القلبِ... لا نَرضَى انْتحَارَا"

هذه الخاتمة هي ذروة القصيدة فلسفياً ونفسياً، فـ"الانتحار" هنا ليس فعلاً جسدياً بل استسلامًا رمزياً للعدمية. و"الترميم" هو إعادة بناء الأمل من شظايا الذات، من كُسورها، من ذاكرتها.

خاتمة: الكلمة جسدٌ للمقاومة

تقدم القصيدة نموذجًا شعريًا لمقاومة لا تقتصر على البندقية أو القرار السياسي، بل تشمل اللغة، الرمز، والذاكرة. القصيدة تُمارس فعل مقاومة من نوع آخر: مقاومة النسيان والتشظي والانكسار الداخلي، عبر بلاغة الشعر وحرارة النفس.

الرسالة الأعمق للقصيدة:

نحن لا ننتصر لأننا لا ننكسر، بل لأننا نُعادِل الانكسار بالإصرار، ونتجاوزه بالإبداع، ونحوّله إلى ذاكرة قادرة على الإنبات.

***

عماد خالد رحمة

...........................

نص القصيدة

سَمًا بِأنَّا لا نُطيقُ انْكِسَارا

ولنَرْفَعَنَّ عَلى الجِراحِ شِعارَا

فِلَسْطينُ الحَبيبَةُ سَوْفَ تَبْقَى

لَنا وَطَنًا، وَقُدْسُ اللهِ دارَا

وما زِلْنَا بِطُولِ البُعْدِ نَشْقَى

وَنَصْلَى في النَّوَى جَمْرًا وَنارَا

وَكَمْ ضَاقَتْ خُطَانَا في الظَّلالِ

وَمَدَّتْ في صُدورِ الحُلمِ ثَارَا

تَعالَتْ في زَوايَا القَهْرِ أَيْدٍ

تُشِيعُ الموتَ، تَغْرِسُ في الدِّيارَا

وَنَسْكُتُ – والضّمائرُ في اشْتِعالٍ –

كَأَنَّ الصَّوْتَ قدْ خَافَ انْكِسَارَا

سَنَمْضِي، خَلْفَها بِالْحَقِّ نَرْقَى،

وَيَوْمًا مَا سَنَغْمُرُها انْتِصَارَا

نُطَهِّرُ تُرْبَها مِنْ كُلِّ دَخْنٍ

وَنُطْفِئُ في الحِمَى وَجَعًا وَشَوْقَا

ونَسْقِي مِنْ مَدامِعِنا الدِّيارَا

فَتَزْهُو في الرُّبَى زَهْرًا وَنَوَارَا

تَسَمَّعَنا الدُّنَى غَرْبًا وَشَرْقًا،

نَرُدُّ إلَى حِكايَتِنا اعْتِبارَا

بِعَوْدَتِنا تَطِيبُ الأَرْضُ عِرْقًا،

وَتَمْسَحُ عَنْ سَماءِ البَيْتِ عَارَا

ويَحْلُو مَعْ رُجوعِ الأَهْلِ مَلْقًى

يَرُودُ الفَجْرَ، يَفْتَتِحُ النَّهَارَا

ونَصْنَعُ مِنْ صَفَائِحِهمْ جُسُورًا

وَنَسْقِي مِنْ جِرَاحِهمُ الحِوارَا

لَنَا حَقٌّ، وسَوْفَ يَعُودُ حَقًّا،

ولَوْ طَالَ الزَّمانُ بِهِ انْتِظَارَا

فَكَمْ مِنْ مُرِّ دَمْعٍ خَلْفَ ظِلٍّ

سَقَانا الذُّلَّ، فَاِتَّقَدَ انْكِسَارَا

وَلكنَّا نُرَمِّمُ مِنْ شُظايَا

رجاءَ القلبِ... لا نَرضَى انْتحَارَا

 

حـرب ... لكنها مقـدّسة (*)

بقلم: يحيى السماوي

مـا بـيـنـنـا فـي الـعـشـقِ حَــربُ

ساحاتــــها مـــقل وقـــــلب

*

وضــــرامُـهــا ليس مثلـهما أحــــب: قـــُبَــلٌ وضَــمٌّ

*

الـقـوسُ : حـاجـِبُـكِ الـمُـظـلـلُ

بالسنى.. والســـــــــهم هـدب

*

وحــــمـامــتـاكِ: الــرّايــتـان

واضـــــــــــلأعي للغنم سلبِ

*

حــــــربٌ مُــقــدَّســـة

أوصى بها الانـــــــتسان رب.. كــأنْ

*

الــنــصـرُ فــيـهـا لــــلأســيــر

قــــيوده شغـــــف وحــــــــبِ

*

ولــقــد يـطــيــبُ لـخـاسِــــــر ٍ

في الحرب فوق الخصر صلب

*

زعَــلَ الـحــبــيــبُ فـأظـلـمَـتْ

شمسي وشل الــــدرب رعـــب

*

وعـفـا فـأشـمَـسَـتِ الـكـهـوفُ

ودثر الصــــــــــــحراء عشـب

فإذا بـقـلـبـي لـلــــــــــمـسـرّة

بـعد فاجـــــعة مصـــــــــــــب

*

هـو وحـدُهُ: فـرضُ الـوُجـوبِ

وكــل فرض مستـــــــــــــحب

*

يـا بـرْدُ : كـنْ نـارا ً وحـــربـا

حين اشــــــــواقي تشـــــــــبً*

***

إنّ ما يربط القصيدة بالذاكرة الشعرية هو الإدراك الشعري لمظاهر الحياة والتعبير عن الحساسية المشتركة القائمة على اشتغال لغوي متفرد بجمله الصورية المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد.. باعتماد قوة العاطفة وتكثيف الرؤيا الخالقة لبنية مركزة متداخلة في الفعل الشعوري والاستدلالي والانفعالي..

وبتأمل النص الشعري (حرب..لكنها مقدسة) الذي نسجته انامل منتجه الشاعر يحيى السماوي مشكلا رؤية تلخص الواقع ببوح وجداني  رومانسي ونزوع انساني متمثل في السلوك القائم على الثنائية الخارجة عن الذات.. ابتداء من العنوان الوحدة الدلالية والنظام السيميائي الذي ترتبط به التجربة  الشعرية التي تتمحور حول بؤرته الزمانية والمكانية فتسهم في اكتشاف تضاريسه وتشكيلاته البنيوية على المستويين:الدلالي والرمزي..

مـا بـيـنـنـا فـي الـعـشـقِ حَــربُ

ســاحــاتـُهــا مـُـقـَـلٌ وقــــلـــبُ

*

وضـرامُـــهــا :   قـــُبَــلٌ وضَــمٌّ

لــيــس مــثــلــهـــمـــا أحَـــبُّ

*

الـقـوسُ : حـاجـِبُـكِ الـمُـظـلـلُ

بالـسـنى .. و الـسـهـمُ : هُــدبُ

*

وحـمـامــتـاكِ : الــرّايـــــتـان ِ

وأضـلـعـي للغـــنم ســــــــلب

فالنص تأسيس على الاضاءة  الخالقة لفن متسع الرؤى.. قوامه اللمحة الفكرية  الجمالية التي تكشف عن حالة نفسية بلغة موحية بمفرداتها المشكلة وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل المنتج على تفجير قدرتها الايحائية والانزياحية كي يعلن عن وظيفتها الجمالية الناتجة من  (الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا.. مع توهج لفظي وتأطير بوحدة موضوعية حاضنة لعمق الرؤيا وشفافيتها.. كون الشعر هو التكامل بين العاطفة والصورة التي تعكس عوالمها التي اكدها علماء الجمال حين قالوا(الشعر هو التفكير بالصورة)..

حـربٌ مُــقــدَّســـة ٌ .. كــأنْ

أوصـى بـهـا الإنـسـانَ ربُّ

*

الــنــصـرُ فــيـهـا لــــلأســيــر ِ

قــيـــــــودُهُ شغـــف وحـــــب

*

ولــقــد يـطــيــبُ لـــخـاسِــــر ٍ

في الحربِ فوق الخصر صلب

فالشاعر يحاول خلق عالم متميز بنسقه الجمالي الذي ينم عن عمق المعنى والرؤية.... وهو يترجم احاسيسه وانفعالاته بنسج شعري يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعوالمها المتناسقة جماليا مع دقة تعبيرية بالفاظ موحية ودلالة مكثفة بتوظيف تقانات فنية محركة للنص كالرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بشعريته واتساع مساحة دلالته..والتنقيط (النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك لملء فراغاته..

فــإذا بـقــــلـبـي لـلـــــمـسـرّة

بـعـد فـاجــــــــــــعـة ٍ مـصَـبُّ

*

هـو وحـدُهُ : فـرضُ الـوُجـوبِ

وكـلُّ فـرض ٍ : مُــسْـــتـَـحَــبّ

*

يـا بـرْدُ : كـنْ نـارا ً وحـربـا ً

حـيـن أشــواقــي تــــــشــبُّ

فالمنتج (الشاعر) يركز على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) لخلق نص الرؤيا في اطاره البنيوي والانطلاق في فضاء الوجود والطبيعة وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية التي خلقها التناصّ المقلوب(يابرد كن نارا وحربا /حين اشواقي تشب) مع قوله تعالى  (يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم) آية / 69/سورة الانبياء.. اضافة الى  تخطيه  الحسيات الى افق الرؤيا باعتماد تقنية السرد الشعري لبناء نصه وتأثيثه بالتداعيات التي ينضحها زمن خارج الذاكرة المتميز بتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي حاد..اضافة الى اتكاء المنتج على الحلم واللغة الشعرية الحالمة للخروج عن إطار الواقع وتجاوز الفضائين الزماني والمكاني، والسمو إلى عالم الصورة والخيال.. فيشكل الحلم بؤرة محورية وتشكل اللغة الشعرية بما تتسم به من انزياحات ورموز وتعابير صورية مكونا وخاصية اساسية في هيكلية النص..

زعَــلَ الـحــبــيــبُ فـأظـلـمَـتْ

شـمـسـي وشَــلَّ الـدَّربَ رُعـبُ

*

وعـفـا فـأشـمَـسَـتِ الـكـهـوفُ

ودثــَّـرَ الــصـحــراءَ عــشــبُ

فالشاعر يحاول التحليق في أفق الصورة الشعرية وهو يلّون في أدائه وأسلوبه فنراه فنان يجيد الرسم بالكلمات مع قدرة واضحة على تطويع اللغة بما يتناسب مع الموضوع المطروح, وينسجم مع الصورة الشعرية المعبّرة...فضلا عن توظيفه المتناقضات(اظلمت / اشرقت) للسمو بعوالم النص وتناميه..

وبذلك قدم الشاعر نصا شعريا يستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول تسهم في اتساع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية..فضلا عن  تلوين عوالمها بايحاءات بصرية وصوتية كي يمنح بؤرة النص ابعادا حركية معبرة عن الحالة الشعورية والنفسية باسلوب دينامي حالم.. وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبه الجملية..فكان تشكله وفق تصميم ينم عن اشتغال عميق يعتمد الجزئيات وينسجها نسجا رؤيويا يرقى من المحسوس الى الذهني..

***

علوان السلمان

...........................

* مقطع من قصيدة طويلة

* تناصّ مقلوب مع قوله تعالى: (يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم)

ـ اللوحة من أعمال الصديق الفنان التشكيلي د. مصدق الحبيب

قراءة نقدية في تمثيلات الذات والرغبة والقداسة في نص (الوهم العاري) للشاعرة د. مرشدة جاويش

التمهيد النظري: تنتمي هذه القراءة إلى مقاربة نقدية مركبة في محاولة لاستجلاء مستويات اشتغال اللغة وتكثيف الذات وإزاحة المعنى في نص (الوهم العاري) للدكتورة مرشدة جاويش كأنموذج شعري نسوي ما بعد حداثي يعيد تعريف العلاقة بين الجسد والهوية والغياب والمقدس...

موقع النص في الخريطة الشعرية الحديثة

ينتمي نص "الوهم العاري" إلى فضاء الشعر الحداثي النسوي حيث تنتج اللغة معانيها لا كمرآة للواقع بل كمختبر جمالي وانفعالي للذات وهي تمر بأزمات الوعي والجسد والعلاقة بالآخر. فالنص لا يروى من الخارج بل يمارس من الداخل إذ تكتب فيه الشاعرة انكشافات الذات في حالة من التعرية الوجودية مستعينة بشحنة رمزية عالية ترتكز على المفارقة واللغة المجازية الكثيفة والخلط بين الخطاب الصوفي والمشهد الحسي...

البنية اللغوية والدلالية: من الثبات إلى الانزلاق

يشتغل النص ضمن منطق الانزياح الدلالي والانفلات من البنية الخطية في التعبير لتوليد شبكة دلالية مفتوحة:

"ما زِلْتَ بعيداً كَأنِّي أراكَ تُعانِقُ لَوْنَ الهَبَاءِ وتَنْقُرُ في النّارِ أهدابَ مَنْ باعَها الوَقْتُ"

تتأسس هذه العبارة على مفارقة لغوية: رؤية الغياب. فالهباء رمز العدم يعانق، والنار رمز التطهير أو العقاب تنقر أهدابها، وهي إشارة أنثوية محملة بدلالات جسدية. هكذا ينقلب فعل المشاهدة إلى وهم بصري وتتحول اللغة إلى فضاء للتعمية أكثر من التعيين.

وهنا تحضر رؤية بول ريكور عن الشعر بوصفه:

"نظاماً من العلامات ينتج المعنى عبر الانزياح لا عبر المطابقة فكل صورة شعرية هي اختلاق لإمكانية تأويل لا نهائية."...

تقويض المعنى وإنتاج التعدد

عند قراءة النص من منظور جاك دريدا نلاحظ أن البنية النصية لا تؤسس لمعنى قار أو متماسك، بل تعمل على تفكيك كل مرجعية دلالية مستقرة. فالمعنى في هذا السياق لا يُبنى على الحضور أو الثبات، بل على التوتر الدلالي والتأجيل المستمر لما يفترض أن يقال، فيما يسميه دريدا بـ"الاختلاف" (différance)—وهو تأجيل المعنى وانزياحه بفعل اللعب اللغوي.

"هَلْ أفْرَطْتَ في شَهْقَةِ العَارِ حَتّى اسْتَعْذَبْتَ انْكِشافَ النّسَاءِ؟"

في هذه العبارة، يتولد المعنى من تقاطع الحقل الحسي (شهقة العار، انكشاف النساء) مع الحقل الاجتماعي الأخلاقي. فكلمة "العار" لا تستخدم هنا كقيمة أخلاقية سلبية، بل تنقلب إلى لحظة انكشاف ملتبسة بالمتعة، بما ينسف المعنى الأخلاقي التقليدي للخطيئة ويحوله إلى فضاء دلالي مفتوح على التواطؤ واللذة. إن اللغة لا تظهر هنا معنى واحداً، بل تتعدد تأويلاتها بفعل المفارقة والانزياح الرمزي.

ومن هنا تكتسب مقولة دريدا وجاهتها حين يقول:

"اللغة لا تنتج التشابه بل الفرق، وكل علامة تحمل أثر علامة أخرى بداخلها."

فالنص لا يبوح بمعناه بل يؤجله ويستدرج القارئ إلى لعبة لا نهائية من التفسير حيث يتحول المعنى إلى أثر، لا إلى حضور مكتمل.

الجسد والهوية والرغبة المكبوتة

يلعب الجسد في النص دوراً محورياّ لكنه ليس جسداً بيولوجياً مباشراّ بل جسداً رمزياً ونفسياً تسكنه الرغبة وتتحرك فيه الذاكرة اللاواعية:

"هلْ أَنا الماءُ الّذي دَلَكَتْهُ الغُيُومُ عَلَى خَاصِرَةِ الرُّوحِ؟"

في هذا المشهد، يتم تشتيت الذات إلى عناصر طبيعية: ماء وغيوم وخاصرة. إنها صورة للذوبان لا للتماسك حيث تتحلل الهوية في عنصرها الأنثوي الأصل (الماء)، في استدعاء لاواعي للأمومة والانتماء الأول وربما حتى لآليات التحلل الأنوي كما طرحها جاك لاكان Lacan حين قال:

"الرغبة ليست ما نريده، بل ما يفتقده خطاب الآخر فينا."

الرغبة في النص ليست رغبة جنسية مباشرة بل رغبة في انكشاف الذات دون قناع. حتى الخيانة التي يلمح إليها لاحقاً ليست فعلاً ضد الآخر بل ضد صورة الذات التي رسمتها المرايا....

زمن الفقد والذاكرة الجمالية: اللقاء المجهض كمشهد تأويلي

واحدة من أقوى لحظات النص تكمن في استحضار فكرة اللقاء الفائت باعتباره جوهر الخسارة والتأجيل:

"وَاللِّقَاءُ الّذي أَفْلَتَ مِنْ شِبَاكِ الزَّمَانِ كَسَرَ المَرَايَا وانْدَسَّ في فَمِ صَدًى لَمْ نَكُنْ قَدْ نَطَقْنَاهُ"

المرايا هنا لا تعكس الحقيقة بل تنكسر لحظة المواجهة كأنها تعيد إنتاج ذات مفتتة لا ترى إلا صدى لما لم ينطق بعد وهي رؤية تتقاطع مع مفهوم انكسار الأنا في خطاب الآخر كما يطرحه جاك لاكان. ومن هذا المنظور، تبدو هذه اللحظة كمأساة إدراك متأخر، تسكن وجدان الذات كبذرة فقد لا شفاء منه. ومن هنا تتجلى رؤية والتر بنيامين في قوله:

"اللحظة التي لا تلتقط تصبح ذكرى ناقصة تسكن الألم."....

المقدس والمدنس: استحضار الإله بوصفه مرآة خيانة الذات

في تصعيد درامي يبلغ ذروته، يجعل النص من الخيانة فعلاً وجودياً لا يواجه الآخر فقط، بل يواجه الإله نفسه:

"لِتَبقَى تَحْمِلُ اسْمَكَ كَمَنْ يَحْمِلُ خِيَانَتَهُ فِي وَجْهِ الإلَهِ"

فالاسم هنا، بوصفه هوية يتحول إلى عبء، وحمل الخيانة لا يقاس اخلاقياً فحسب، بل وجودياً إذ تختبر فيه الذات أمام سلطة عليا. وهو شكل من أشكال الاعتراف المقلوب، لا بوصفه سعياً للخلاص كما في اعترافات أوغسطين، بل كمواجهة جمالية وجودية تتقاطع مع أطروحات نيتشه، لا سيما حين يقول في هكذا تكلم زرادشت:

"على الإنسان أن يحتمل عُريه في وجه السماء."

وهنا يصبح "الوهم العاري" نصاً يتحدى ثنائية الخطيئة/الخلاص، ليكتب الذات في أقصى لحظات انكشافها وعزلتها الرمزية....

الأسلوب والإنشاء الفني: تفكيك البنية الجمالية للنص

يتسم البناء الفني في نص "الوهم العاري" بجملة من الخصائص الأسلوبية التي تكرس انزياحه عن النموذج الخطي التقليدي وتمنحه طابعه الحداثي والتجريبي:

تفكك الخطاب الخطي المباشر: يقوم النص على فواصل شعورية ومقاطع وجدانية تنأى عن السرد أو التسلسل المنطقي، ما يعكس بنية داخلية تشبه تداعي المعاني أو تيار الوعي حيث تتولد الصورة من الإحساس لا من الحكاية.

هيمنة السؤال التهديمي: تستخدم أدوات الاستفهام لا بهدف تحصيل إجابة، بل كاستراتيجية لهدم اليقين وإرباك المرجعيات الثابتة. فالسؤال هنا لا يكشف، بل يزيد كثافة الغموض، بما يعزز من التوتر الدلالي للنص.

التكثيف الرمزي والإيقاعي: يعتمد النص على صور شعرية مركبة ذات وظائف شعورية لا وصفية، تتكئ على المجاز والمفارقة والاشتباك الدلالي بين الحسي والمتعالي، ما يضفي عليه بعداً موسيقياً داخلياً حتى في غياب الوزن التقليدي.

الحس الرؤيوي للنص: لا يقدم النص ذاته بوصفه شهادة على تجربة واقعية، بل كنوع من الرؤيا الجمالية والوجودية التي تنبع من الداخل، وتكتب بوصفها كشفاً عن اللاوعي أو استبصاراً شعرياً لما لا يقال عادة في الخطابات اليومية أو المباشرة....

وبذلك يعد نص (الوهم العاري) ممارسة شعرية حداثية تجريبية تعكس ما أسماه رولان بارت بـ"كتابة الدرجة الصفر"، حيث تتخلى اللغة عن سلطتها المرجعية لتصبح طقساً تأويلياً مفتوحاً على الاحتمال واللايقين. ومن هذا المنظور، تؤسس الشاعرة لكتابة نسوية وجودية تحرر الجسد من أسر التصنيفات الجاهزة وتعيد تخييل العلاقة بين الذات والآخر المقدس ضمن أفق لا نهائي من الرغبة والفقد والاعتراف المعكوس. كما يقول بول ريكور: "نحن لا نعيش التجربة إلا حين نرويها ولا نرويها إلا بلغتها الرمزية"، وهكذا يتحول النص إلى شكل من النجاة الجمالية من صمت الذات وعتبة المعنى.

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

....................

الوَهْمُ العَارِي

ما زِلْتَ بعيداً

كَأنِّي أراكَ تُعانِقُ لَوْنَ الهَبَاءِ

وتَنْقُرُ في النّارِ

أهْدابَ مَنْ باعَها الوَقْتُ

وارتَدَّ عنها الغِطاءُ

هَلْ أفْرَطْتَ في شَهْقَةِ العَارِ

حَتّى اسْتَعْذَبْتَ انْكِشافَ النّسَاءِ؟

وهَلْ كُنْتَ حَقّاً

تُبيحُ الحُرُوفَ لِعَيْنِ العَلانِيَةِ

مِثْلَ احْتِرَاقِ السُّؤَالِ؟

لَمْ تَكُنْ

تَحْتَ كَفِّ الحَنَانِ

سِوَى نَفْسِكَ المُتَّكِئَةِ

عَلَى هامِشِ الرِّيحِ

تُسَرِّحُ ظِلَّكَ

في سُوقِ أشْبَاهِهَا

ما أجْمَلَ الفَجْوَةَ

حينَ تُبَاغِتُ رَغْبَتَهَا

مِنْ جِهَةٍ لا تَرَاهَا المَرَايَا

وتَسْحَبُهَا

مِنْ رَجْعِهَا المُسْتَهَانِ

أتُرَاكَ

سَتُسْعِفُ هذَا الضِّيَاءَ اليَتِيمَ

بِأَثَرٍ نَسِيَتْهُ الآلِهَةُ فِي مَمْشَاهَا؟

أمْ أَنَّكَ

سَتُرَتِّبُ حُمَّاكَ

فَوْقَ ضَفَائِرِهَا

وتَعُودُ إلَيْنَا

بِصَوْتِ الحُطَامِ؟

حينَ جِئْتَ منَ الفَجِّ

كُنتُ أَنا

بِاسْميَ الأوَّلِ

الذي خَبَّأَتْهُ النُّبُوءَاتُ

في نَفَسِ اللَّيْلِ

وكانَتِ النَّوافِذُ

تُدِيرُ ارْتِجَافَ الصَّبَاحِ

كَأَنَّهَا تُنصِتُ

لِأُنثى

تَخَلَّتْ عنَ الشَّوْقِ

لِتَحْمِلَ ما لا يُقال

هلْ أَنا الماءُ

الّذي دَلَكَتْهُ الغُيُومُ

عَلَى خَاصِرَةِ الرُّوحِ

في خِلْسَةِ الانْكِشَافِ؟

لَنْ أَقُولَ

بِأَنَّ صَدَى الجُرْحِ

افْتَرَشَ السَّماءَ

وَارْتَفَعَ بي

لَنْ أَقُولَ

بِأَنَّكَ كُنْتَ

سُلالَةَ ما لَمْ يَقُلْهُ الغِيَابُ

كُنَّا

وَرَاءَ الخَيَالِ

وما وافَى سِوَى ظِلٍّ

خَلَقْنَاهُ مِنْ نَسْيِاننَا

لِيَنْفَلِتَ الآنَ

كَهَمْسٍ أَضَاعَ اتِّجَاهَ المَخَاضِ

هلْ صَدَّقْتَ

نَبْرَةَ ما انْسَكَبَ مِنْهَا؟

أقُولُ:

إنَّها لَحْظَةٌ

لِلْخِيَانَةِ

بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ

وَغَزَلٍ يُرَى مِنْ جِهَاتِ المَكَانِ

وَاللِّقَاءُ

الّذي أَفْلَتَ

مِنْ شِبَاكِ الزَّمَانِ

كَسَرَ المَرَايَا

وانْدَسَّ في فَمِ صَدًى

لَمْ نَكُنْ قَدْ نَطَقْنَاهُ

لِتَبقَى

تَحْمِلُ اسْمَكَ

كَمَنْ يَحْمِلُ خِيَانَتَهُ

فِي وَجْهِ الإلَهِ

***

مرشدة جاويش

 

للأديب القاص محمد باقي محمد

الأديب "محمد باقي محمد" خريج جامعة دمشق - كلية الآداب قسم الجغرافيا - دبلوم التأهيل التربوي، يعمل حاليّاً مدرساً في اختصاصه - عضو اتحاد الكتاب العرب - جمعية القصة والرواية منذ عام 1989- عضو في المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في مدينة الحسكة.

نشر الأعمال التالية:

- أغنية منتهية بالرصاص -قصص - 1986

- عن اختفاء العامل يونس –قصص - 1988

- الطوفان - قصص - 1991

- فوضى الفصول – رواية - 1997

- للقندريس البرّي.. مجموعة قصصيّة . ومنها القصة موضوع دراستنا.

له قيد الإعداد، مجموعة قصصية بعنوان: (هواجس شخصيّة).

ينشر في الدوريات العربيّة والمحليّة. ترجمت متفرقات من أعماله إلى البلغاريّة والروسيّة والكرديّة.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

تعالج القصة قضيّة من قضايا السجناء السياسيين في عالمنا العربي، وهي من القضايا التي تعبر ليس عن استبداد السلطات الحاكمة وقهرها لشعوبها ومحاصرة حريّة الرأي فحسب، بل تعالج أيضاً كيف يعامل الإنسان المختلف سياسيّاً في سجون هذه السلطات المستبدة.

"سليم"، ناشط سياسي، ينتمي لأحد التنظيمات السياسيّة المحضورة في البلاد، التي لا يجيد أعضاؤها التهريج والتصفيق للنظام السياسي الحاكم، وخاصة لقائده الملهم ... يلاحق لفترة زمنيّة، لكن رفاقه يؤمنون له ملجأً بعيداً عن أعين المخابرات والمخبرين خارج مدينته لفترة من الزمن.. وهو في ملجئه، تصله عن طريق أصدقائه بأن والدته مريضة وهي على فراش الموت.. يقرر ترك مخبئه والذهاب إلى مدينته حيث يسكن أهله وزجته وابنته الطفلة التي تركها بعد ثلاثة أشهر من ولادتها... قبل وصوله منزل أهله يقبض عليه ويقاد إلى السجن ليحكم عليه بالأعمال الشاقة المؤبدة.

هناك في غرف التعذيب، والغرف المنفردة، يصف لنا " سليم" كيف تتم عمليات التعذيب للسجناء.. ومن عاش حياة السجن السياسي ليس كمن سمع عنه!.

يقول القاص "محمد باقي محمد": في السجن تغيب كل القيم الإنسانيّة.. فوسائل التعذيب وأدواتها تدخل في عالم آخر من الإجرام المشرعن، وتكون أكثر قسوة وشدّة على الذين يتمسكون بمبادئهم وبأسرار تنظيمهم ولا يفشون منها شيئاً، وهذا ما كان عليه حال " سليم" الذي (صمد في وجه جلاّديه، فلم يفلح الإطار المطّاطيّ، ولا الكرسي الألماني، ولا المنع من النوم ولا الكهرباء التي تلامس مناطق الجسد الحساسة أو المنع من شرب الماء، ولا تعليق الجسد بكلاب يكون فيه الرأس إلى الأسفل والقدمين إلى الأعلى. ولا استخدام الدولاب وتناوب العصي و(القرابيج) على القدمين وكل تضاريس الجسد دون رحمة أو شفقه... ولا... ولا.... للنيل من إرادته، إذ لم تصدر عنه حتى النأمة، فمنعوا عنه أي اتصال بالخارج، وعجز عن معرفة ما حلّ بزوجته الشابّة، أو بابنته ذات الأشهر الثلاثة، أو بأهله، لأنّ سنوات التخفّي كانت قد جبّت رؤيتهم عنه!.

في السجن السياسي تتعدد أصناف وأساليب التعذيب - التي يتفتق عنها الذهن البشريّ في وجوه وأجساد السجناء ... فالتعذيب كما يقول "سليم": يظلّ مبذولاً كالهواء على مدار الساعة، ليطال كل تفاصيل الجسد دون رحمة. ثمّ إنّ السجّانين سيعمدون إلى إحياء طقوس حفلهم الغريب، كما لو كانوا يحتفلون بمناسبة شخصيّة، لقد أعدّوا لكلّ شيء، - مُذ تكهّنوا باقتراب موعده - راحوا يجتهدون في إعداد عصي وسياط مختلفة في أطوالها وسماكاتها، وسط مظاهر احتفاليّة يشوبها صخب يُتناغم وحبورهم اللافت، لقد طالهم السجن في إنسانيّتهم فشوّهها، إنّهم يستمرؤون تعذيب المساجين كما لو كانوا يحقّقون إنجازاً يُسجّل لهم.

ولكن من الذي يشرعن حقّ احتجاز إنسان من قبل آخر مثله؟! الحقّ.. وما هو الحق؟! من الذي يحوز التخويل بإثباته؟! ومن المُخوّل بنفيه؟! ثمّ أين الصواب فيما تقدّم من الخطأ؟! بل ما هو الصواب، وما هو الخطأ؟! كيف يتحدّد هذا من ذاك؟! ومن هو الحكم المجاز بالفصل بينهما؟!. أسئلة الحق واختراقه كثيرة تطرح في سجون الأنظمة المستبدة في عالمنا العربي ولا جواب.

في باحة السجن الضيقة.. تجمع السجناء يتهامسون حول قضيّة انتشرت كالنار في الهشيم عند السجناء. بأن هناك مقابلة تمت بين السجين "سليم" وفتاة، وقد أعطته صورة لفتاة. رغم ضحالة هذه المسألة، إلا أن السجن بكل عذاباته وما حققه من حرمان للسجناء ومنه الحرمان الجنسي، جعل من قضيّة الفتاة والصورة موقفاً شغل بال وعقل وعواطف السجناء لمعرفة الصورة ولمن تكون.

كان السجناء قد لاحقوا "سليم" في الباحة طويلاً، مدفوعين بتوق عارم لمعرفة صورة أنثى.. أيّ أنثى.!، فيما وقف بعضهم مدهوشاً يتأملون، "سليم" متسائلين عن السبب، لقد حاول أن يتخلّص منهم، إلاّ إنّ محاولاته أخفقت، كانت الباحة ضيّقة، ولم يكُ ثمّة منافذ للهرب، لهذا سرعان ما أمسكوا به، وألقوه على الأرض، لينتزعوا منه الصورة، فتشبّث بها بكلّ ما فيه من قوّة، ولكن ما الذي يستطيعه فرد أعزل في مُواجهة جمع أهوج؟! وعندما انتزعوها، وقرأوا ما كُتب على ظهرها، وقفوا في مُنتصف المسافة ملجومين بالذهول، وأسقط في أيديهم، إذ لم يعد التراجع مُتاحاً، ثمّ إنّ الندم ما عاد يُجدي، ولا الاعتذار، فكيف يعبّرون عن أسفهم وأساهم؟! أيّ كلام يمكن أن يُساق في مقام كهذا؟! على هذا طأطأوا رؤوسهم، وتناؤوا على تعثر وخجل بخطوات مُرتبكة، تماماً كما صورة سينمائيّة أبطئت حركتها، هل تمنّوا أن تغور بهم الأرض حين قرأوا الكلمات على ظهر الصورة؟! كانت ابنة "سليم قد كتبت لأبيها " أبتي.. لقد اشتقت إليك كثيراً؟! " ووثقت كلماتها في الأسفل بـ " ابنتك المحبّة بثينة "!.

البنية الفكريّة للقصة:

كانت ولم تزل دول عالمنا الثالث تُحكم بالحديد والنار، من قبل قوى سياسيّة لم تفكر يوما بمصالح شعوبها، بقدر ما تفكر بمصالحها، حتى عندما تهتم إلى حد ما بمصالح هذه الشعوب، فيأتي هذا الاهتمام من منطلق شعبوي، وليس من منطلق قانوني ومؤسساتي يقوم على فكرة أن الشعب هو المصدر الأساس للسلطة، وليست اَلْغُلْبَةُ والوراثة والتدليس السياسي وشراء الأصوات والاعتماد على الفاسدين والمفسدين في الوطن، وبالتالي فالشعب هو من يأتي بهذا الحاكم أو ذاك بإرادته، وهو من يختار نظام حكمه ودستوره وطبيعة نظامه البرلماني وفقاً لمصالحه.

تحت مظلة هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، فمعظم أنظمة الدولة وسياساتها الداخليّة والخارجيّة يشرع لها وفقاً لمصالح الحاكم المستبد، فهو من يحدد مفردات الدستور، وصيغ الديمقراطيّة والعلمانيّة، والمتاجرة بها، وهو من يختار فريقه السياسي والاقتصادي والثقافي والاعلامي، وأي خروج عن ما يخطط له الحاكم بأمر الله، يعتبر انتهاكا لقيم الوطن والمواطن، وهنا يأتي الجيش والقوى الأمنيّة لتعيد رسم ملامح الطريق الصحيح لمن تسول له نفسه الخروج عن عالم " القندريس البريّ".

البنية الفنيّة والجماليّة للقصة:

عنوان القصة:

لم يأت عنوان القصة (للقندريس البري) عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. "فالقندريس البري" هو نوع من النباتات الشوكيّة التي تعيش في الصحراء، وتفتقد إلى العناية من قبل الإنسان، ورغم أن في ثمرها ما يشفي الإنسان من بعض امراضه، إلا أن الشوك المحيط بها أفقدها حضورها لدى الإنسان، وهذا ما ينطبق على حياة الإنسان السجين السياسي الذي وضع في سجن مليء بالعذاب (الشوك)، حتى فقد دوره ومكانته الاجتماعيّة، رغم إنسانيته.

الشكل الفني القصصي:

إن القاص المتمكن من حرفته، يمهد للحدث ويهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق، يستجيب مع المواقف بشكل يثير الشوق ويجذب القارئ لمعرفة النهاية. وهذا ما تم في القصة منذ بدايتها فبراعة القاص " محمد عبد الباقي محمد" تجلت في تصوير أو وصف حالة ارتباك المساجين النفسيّة والجسديّة عندما راحوا يتداولون بصمت وحذر مسألة الصورة التي وصلت إلى سليم، ثم انتقاله إلى كيفيّة القبض على سليم وما تلقاه من عذاب في السجن وأساليب التعذيب والسجانين، وصولاً إلى كشف سر الصورة، وما حل بالمساجين الذين جعلهم الحرمان الجنسي يبذلون طاقة جهدهم لمعرفة صاحبة الصورة. لم تكن نهاية القصة مفاجئة، بل كانت منسجمة مع نسيج القصة ولا تبدو مقحمة وغريبة.

يمتاز تشكيل القصة بالبساطة، حيث اعتمد القاص في سرده الحكاية على الأسلوب الوصفي، ووضوح اللغة وغنى دلالاتها، وسهولتا، وهذا يشير إلى أن الكاتب قدير ومتمرس في الكتابة ويمتلك قدرات فنيّة تجلت من خلال تجربته الطويلة في الكتابة. لقد كان وصف الشخصيات في القصة رائعاً، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً صيغت بألفاظ سهلة لكنها مشحونة بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين.

إن القصة بعمومه تفتقد إلى الحوار، وحتى عندما وجد الحوار في القصة بين المساجين حول الصورة التي وصلت السجين "سليم" كان يجري بحالة الهمس بينهم، وكأنهم يتحدثون عن أسرار لها خصوصيتها الأخلاقيّة والقيمّة.

إن فقدان الحوار ساهم في إبراز دور القاص من الخلف، أو ضمير المتكلم، وهو دور العارف بكل خفايا نفوس أبطال القصة، وما جرى لها داخل السجن، لقد كان يتحدث عن معاناتهم وقهرهم وعذاباتهم، وهذا ما جعل القصة تمتاز بوضوح الرؤية وسلاستها وبساطة عرض أحداثها، وبالتالي غياب الحاجز بين الكاتب والمتلقي. لقد كان بناء القصة متماسكاً، والشخصيات رغم بساطتها، إلا أنها أدت وظيفتها التي رسمها لها القاص في القصة.

الشخصيات في القصة:

تدخل قصة "للقندريس" البري" في مضمار القصة الاجتماعيّة/ والسياسيّة، لذلك استطاعت أن تقدم شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف أي سجن سياسي، يسهل التعرف عليها. أي إن القاص قدم في قصته شخوصاً هامدة ساكنة خائفة مسلوبة الإرادة والتفكير وحتى الكلام. وإن تكلمت فهي تتكلم بصمت يشوبه الخوف، وهذا ما جعل الوصف في أحداث القصة مسيطراً تماماً على متن أو بنبة القصة.

لقد استطاع القاص "محمد باقي محمد" في الحقيقة، أن يقوم بتصوير شخصياته تصويراً عقلانيّا خارج نطاق الفانتازيا أو الخيال، فهو قاص مبدع ذو خبرة وثقافة عالية، ويمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة، مكنته من فهم النفس الإنسانيّة داخل سجون القهر والتعذيب، ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها.

ميزات القص وأسلوب القاص:

يمتاز القاص بحسه الفني الرقيق، وذوقه المثقف، ورهافة اللفظ، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة، ويبرز أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، ويكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها، أو مع الآخرين، ولأن هذه الشخصيات، مقهورة ومضطهدة، إلا أن ما تحمله من مبادئ وقيم سياسيّة، يجعلها رغم ما تتعرض له من عذاب، قد ينال الجسد إلا أن الروح تظل فيها جذوة الأمل بالخلاص الفردي والجماعي تسعر في نفوسهم وهذا ما يساعدهم في الانتصار على أزماتهم والخروج في نهاية المطاف منتصرين على ضعفهم، وهذه أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين.

إن الشخصيات التي قام بتوصيفها القاص "محمد باقي"، كلها هامشية تقريباً عدا شخصيّة السجين "سليم" الذي سلط عليه الكاتب الضوء منذ القبض عليه حتى زيارة ابنته له وإشكاليّة الصورة التي وقعت بينه وبين السجناء، إن القصة في مجملها تقوم على وصف أدوات التعذيب في السجن، ووصف البعد النفسي والأخلاقي للسجانين الذين أفقدتهم مهنتهم حسهم الإنساني، حتى تحولوا إلى شبه وحوش بشريّة في أمكنة ضيقة محكمة الإغلاق يمارس فيها قهر وظلم الإنسان، بسبب انتمائه السياسي الذي يختلف عن البعد السياسي الحاكم. إن غياب الحوار داخل القصة، أفقد القصة معرفة بعدها الفكري والاجتماعي والسياسي للسجناء، لذلك ظلت أحداث القصة تدور حول السجن والتعذيب ومبدئية بعض السجناء في الحفاظ على أسرار تنظيمهم رغم ما يتعرضون له من عذاب، وتدور أيضاً حول الحرمان الذي يعانيه السجين ومنه الحرمان الجنسي.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

قراءة في انزياحات اللغة وقلق الهوية في نص "حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهاً آخر للفجر" للأديب ثامر الخفاجي.

تنتمي هذه القراءة إلى أفق نقدي يرى النص الأدبي بوصفه كياناً مفتوحاً لا يقاس بمنطقه الداخلي فقط بل بقدرته على توليد المعنى وخلخلته في آن. وكما يقول رولان بارت:

"النص هو نسيج من اقتباسات من ألف مصدر ومصدر... هو فضاء متعدد الأصوات، لا ينتج المعنى بل يطلقه."

انطلاقاً من هذا التصور، نتعامل مع النص المدروس لا بوصفه حاملاً لمعنى ثابت بل كفعل لغوي يتشظى عبر الذات والزمان والدلالة ويعيد إنتاج علاقات الإنسان بالخيبة والانكسار والضياع من داخل اللغة نفسها.

العنوان:

"حين تصبح الخيبة وجهاً آخر للفجر"

العنوان يلعب دوراً تأسيسياً في بناء المعنى، فهو يُقارب بين زمن النهوض (الفجر) وحالة الانكسار (الخيبة) في مفارقة تولد التوتر الدلالي الذي يشحن النص لاحقاً. هذه الازدواجية تعكس رؤية حداثية للعالم حيث التناقضات تتعايش وتنتج وعياً شقياً لا يؤمن بالثنائيات المطلقة.

البنية النصية والدلالية:

النص يتخذ شكل مونولوج داخلي تأملي تحكمه بنية تشظ لغوي وسردي في آن، تتقاطع فيه الذات مع الزمان والمكان لتخلق فضاءً تعبيرياً مركباً. لا يعنى النص بسرد خطي أو حبكة واضحة بل يؤسس لمعنى متحول يتكون عبر التكرار والاستبطان والانزياحات المجازية الكثيفة.

تقول الذات: "لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني"

هذا التصور الذاتي للزمن، الممزق والمندغم يتجاوز البعد الكرونولوجي ويقترب من ما يعرف بالـtemps psychologique حيث التجربة الذاتية تفرض إيقاعها الخاص وهو ما يعيد تشكيل الخيبة كحالة مستمرة لا ترتبط بزمن خارجي محدد..

الذات المتكلمة مأزومة ومشروخة تمارس نقداً داخلياً صارماً. هي ذات ما بعد حداثية بامتياز تتشكك في المسلمات وتشتبك مع الواقع عبر اللغة لا عبر الفعل.

الحضور القوي لفكرة التكرار (الخيبة، التيه، النافذة، الانكسار) يوظف لا كأداة بلاغية فقط، بل كآلية وجودية تفضح عقم التكرار نفسه وتستحضر أثر "الدوائر المغلقة" التي تلتهم الحلم واليقين معاً..

اللغة والانزياح الأسلوبي:

تقوم اللغة في هذا النص بدور يتجاوز النقل أو التصوير فهي تمارس تفكيكاً معرفياً وجمالياً للواقع عبر ما يمكن تسميته بـالانزياح الأسلوبي والانحراف عن المألوف التعبيري. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى لغة الشعر الحر الحديثة منه إلى النثر التقليدي.

تمتلئ التراكيب بتوتر دلالي وتشظ لغوي في المعنى كما في قول الكاتب:

"الزمان قد اختلط في شراييني" و"بما لم يقل، وبما قيل خطأً، وبما تم السكوت عنه"، وهي أمثلة تبرز ميلاً نحو "اللغة التي تُخفي أكثر مما تُفصح"، حيث يصبح المعنى إمكاناً مفتوحاً لا حقيقة مغلقة وهو من سمات الكتابة الحداثية.

كثافة المجاز تساهم في زعزعة العلاقات الثابتة بين الدال والمدلول. الأشياء تفقد هويتها الثابتة وتعاد صياغتها دلالياً وهو ما يلتقي مع مفهوم "تفجير اللغة" عند رولان بارت وبول ريكور حيث اللغة لا تشير إلى العالم بل تصنعه.

وفي هذا السياق، نواجه مشهداً لغوياً بالغ الدقة في قوله:

"أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال"،

هنا، تتحول صورة الأمل (النور) إلى خيط هش لا يمسك والذات المثقلة بالصمت والعجز تعجزها اللغة عن الإمساك بالنجاة.

إننا أمام لغة تعبر بالغياب لا بالحضور تمارس التورية والتأجيل مما يجسد ما أشار إليه بارت حول "تفكيك المعنى داخل النص"، حيث القول لا يكشف بل يعقد والمعنى ليس جاهزاً بل مؤجلاّ على الدوام.

البُعد الفلسفي والوجودي:

يحمل النص بعداً وجودياً عميقاً يتجلى في تشظي الذات وانهيار المعنى والتماهي بين الضياع واليقين.

العبارة الختامية:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهي عبارة تمثل نواة فلسفية تعيد تأويل المفاهيم من داخلها. هذا الانقلاب في المعنى هو ممارسة حداثية بامتياز تزعزع الثنائية السائدة (ضياع/هداية)، وتعلي من تجربة الذات في مواجهة الوجود الغامض القلق كما في نصوص كامو أو سارتر.

التناص والمرجعيات الثقافية:

يتكئ النص على شبكة تناصية متعددة المستويات تضمر خلفها مرجعيات روحية وفكرية وحداثية تسهم في إنتاج المعنى لا عبر الكشف بل عبر التداخل والاختلاف انسجاماً مع تصور جوليا كريستيفا للتناص بوصفه "تشابك نصوص لا يقرأ أي نص بمعزل عنها".

التناص الصوفي

يحضر التناص الصوفي ضمنياً من خلال استعارة "الضياع كطريق"، وهو نمط من التفكير الروحي الذي يرى في التيه سبيلاً للمعرفة والانكشاف لا للسقوط. هذه الدلالة تظهر جلياً في عبارة:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهو تصور قريب من فكر ابن عربي والنفري حيث الضياع لا يناقض الهداية بل يفضي إلى نوع من التجلي الداخلي.

المرجعية الوجودية

يتناص النص مع الفكر الوجودي الحديث، لا سيما في تمثلاته للقلق وعبثية الزمن وانهيار المعنى. يظهر هذا في مساءلة الذات وانكشاف هشاشتها الداخلية، كما في تساؤل الكاتب:

"من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟"

وهي عبارة تمثل لحظة وعي وجودي حاد، تلامس جوهر الذات في لحظات التخلي والتأمل حيث يصبح الانكسار غير مرئي إلا للذات التي تجرؤ على مواجهة نفسها دون مراوغة. هنا، تلتقي اللغة مع قلق الوجود في أقصى درجات الصدق والتجريد وتستدعى فلسفة سارتر وكيركغارد ونيتشه، ممن نظروا إلى الذات بوصفها كينونة متفككة واللغة بوصفها أداة قاصرة عن الإمساك بجوهر العالم أو النجاة منه..

جمالية العبث

أما من حيث الشكل والبنية الزمنية، فثمة تقاطعات مع جمالية العبث عند ألبير كامو وصامويل بيكيت خصوصاً في دوران الزمن حول الخسارة وتكرار الانتظار وضياع اليقين. فالنص لا يتطور نحو حل بل يدور في حلقة من اللااكتمال والتأجيل الوجودي حيث "المرآة لا تعكس الذات، والصلاة تضيع"، وهي صور تناظر حالة العبث في نصوص "في انتظار غودو" و"أسطورة سيزيف".

التوظيف العام للتناص

هذه التناصات لا تستدعى كزينة معرفية بل تدمج عضوياً في بناء المعنى وتسهم في خلق نص هجين تتداخل فيه مرجعيات الهوية والشك والانخطاف الروحي، ما يجسد حداثة النص لا عبر "حداثة الشكل" فقط بل عبر تفكيك المرجع وتحويره داخل بنيته.

بالتالي يمكن تصنيف النص ضمن الكتابة الحداثية الواعية بذاتها، حيث لا ينتج المعنى بوصفه حصيلة نهائية بل يفعل قلقاً معرفياً وشعورياً يهدف إلى تفكيك الطمأنينة واستبدالها بـ"اللايقين المنتج".

تتأسس بنيته على شروخ الذات وارتباك اللغة فيتجاوز دور التعبير إلى فعل تأويلي يسائل الأنا والعالم في آن.

النص ينجح في تفكيك البنية المغلقة للمعنى عبر لغة تتأرجح بين الشاعرية المجازية العالية والتأمل الفلسفي المجرد مما يمنحه كثافة رمزية ويفتحه على قراءات تأويلية متعددة وفق منظور القارئ وسياق التلقي.

بذلك يندرج النص ضمن الكتابة الحداثية التي لا تسعى إلى تثبيت المعنى أو إنتاجه كحصيلة نهائية بل تفتحه بوصفه فعلاً تأويلياً دائم الحركة، يتشكل في كل قراءة ويظل عصياً على الاختزال...

***

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهًا آخر للفجر"

لن أُخَبِّئَ هَفَواتي في دَهالِيزِ ظُلْمَةٍ، قد تَتَغَيَّرُ سِحْنَتُها عِندَما يَحينُ بُزوغُ الفَجْر، وهو يَحْمِلُ صَحائِفَ خَيْبَتِنا لِيَوْمٍ جَديدٍ تَأَسَّرَتْ فيه أَحْلامُنا العَصِيَّةُ، الَّتي لَم نَبْرَحْ نُغازِلُها كُلَّ يَومٍ بِبَقايا دُعاءٍ نَسِيَهُ أَحَدُهُم عِندَ صَلاةِ الفَجْر.

لَم أَكُنْ على اطِّلاعٍ بِتَفاصيلِ حِكايةِ يَومٍ أَلْعَنُ فيهِ خَفايا ما تُضْمِرُهُ لَنا السّاعاتُ، وأحاديثُ قَومٍ يَنُوءُونَ بِأَحْمالِ أَوْزارِ ماضٍ كَبَّلَهُم بِتُرَّهاتِ أَمْجادٍ مَصْلُوبَةِ الهُوِيَّةِ، الَّتي لَم تَصْلُحْ سِوى لِعُبُورِ نِقاطِ التَّفْتيشِ الوَهْمِيَّةِ في حاضِرٍ يُحاوِلُ فَكَّ أَسْرِ أَوْهامٍ لَم نُحْسِنِ الظَّنَّ بِها.

وأنا، في غمرة هذا التيه المُقيم، لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني، أو كأنَّ لحظاته تُعيد نسج ذات الخيبة بألوانٍ باهتةٍ تختلف في شكلها، لكنها تَصْدُقُ في مرارتها.

كثيرًا ما كنتُ أبحث عن نافذة، لا تُطلّ على الخراب. نافذة لا تمرّ بها رياح الذكريات، ولا تنعكس على زجاجها ملامح من نسيناهم عمدًا، ثم فوجئنا بهم يعودون، يسكنون زوايا الكلام، وحنجرة الصمت.

أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال، وبما قِيل خطأً، وبما تمّ السكوت عنه حين كان الكلام ضرورةً لا ترفًا.

من علّمني أن أُجمّل السقوط بالكلمات؟

من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟

"ليس كل من تاهَ ضاع، فبعض الضياع هو الطريق."

من قريته "أرَاكَاتَاكَا" المغمُورة بسكّانها الأصليّين إلى "مَاكُوندُو" المشهُورة بغُزاتها الوافدين

وُلد غابرييل غارسيا ماركيز فى قرية «أراكاتاكا» فى السادس من مارس 1927. كانت هذه القرية التي رأى فيها النور منسيّةً مغمورة بمنطقة الكارايب الكولومبي، وقد تحوّلت فى روايته الشهيرة «مائة سنة من العزلة» إلى حاضرة مشهورة تحمل اسم «ماكوندُو»، هذا المكان الذي تتعايش وتتآخىَ وتتعانق فيه الحقيقة والخيال والأسطورة والتاريخ . فتح «غابو» ــ كما يسمّيه أصدقاؤه ــ بهذه الرواية البابَ على مصراعيه لإبداعاته الأدبية التي جـاءت فى قـوالبَ جديدة مستحدثة، وأساليبَ روائية مبتكرة، حيث اعتُبِربعد نشرها من أكبر أقطاب كتّاب الرواية فى موجة ما يُعرف بـ (الواقعية السّحرية) فى الآداب الأمريكية اللاّتينية التي حقّقت شهرة واسعة منذ اوائل الستيّنيات من القرن المنصرم فى مختلف أنحاء المعمور.

 هذه الرّواية رحلة إبداعية قادته لمعانقة نوبل

آخر كتاب نُشر عن ماركيز قيد حياته كان يحمل عنوان «غابو.. صحافيّاً»، وقبله بقليل كان قد صدر كتاب آخر عنه تحت عنوان «غابو.. رسائل وذكريات» لصديقه الحميم بيلينيُو أبوليّو ميندُوسا (أنظر مقالي بالقدس العربي حول هذا الكتاب، عدد7356 في 12 فبراير/شباط 2013). يقول الناقد الإسباني «خوَان كرُوث» عن هذا الكتاب :" إعتبُر هذا الكتاب عند صدوره فى طبعة خاصّة كنزاً ثميناً فى عالم الخلق والإبداع الصّحفي والأدبي على حدّ سواء، فبعد أن تمّ توزيعه بالمجّان، أصبح يباع اليوم بثمن باهظ، لذا فإنّ الصّحافيين الذين أمكنهم الحصول على النسخ القديمة منه قد أخفوها فى مكان مأمون لهذه الغاية، فالأمر يتعلق بصاحب رواية «مائة سنة من العزلة» التي بيع منها منذ صدورها عام 1967 إلى اليوم الملايين من النّسخ والتي تُرجمت إلى 37 لغة بما فيها لغة الضاد".

تُعتبر «مائة عام من العزلة» من أشهر روايات ماركيز على الإطلاق، التي توّج بها رحلته الإبداعية بجائزة نوبل فى الآداب عام 1982، كُتبت هذه الرواية خلال إقامة ماركيز فى «المكسيك» ونُشرت فى «بونس أيرس» بالأرجنتين، ولم يكن ماركيز يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. كان المشرف عن دار النشر الأولى التي أُرْسِلتْ إليها هذه الرواية قد نصح ماركيز بالتخلّي عن الكتابة وهجرها وليبحث له عن عمل آخر، إلاّ أنّ أوّلَ نقد بنّاء فطن لأهمية الرواية غداة صدورها كان للناقد المكسيكي «إيمانويل كاربايو» عام 1967، فقد ذهب إلى القول منبهراً : «إنّه وجد نفسَه أمامَ واحدةٍ من أعظم الرّوايات فى القرن العشرين». غادر ماركيز قريته أراكاتاكا عام 1930، إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لها وللذكريات التي عاشها فيها فى صباه وفى شرخ شبابه، حيث حمل معه مختلف العادات والتقاليد وحتى طريقة إرتداء الأقمصة المُزركشة ذات الألوان البيضاء الناصعة التي يوثر سكان منطقة الكاريبي على ارتدائها ويطلقون عليها إسم (Guayabera)، لذا كان غابو يبدو غريباً عندما وصل إلى بوغوتا وكان سكان العاصمة الكولومبية ينظرون اليه باستغراب، وذات مرّة سقط ثلج غزير على المدينة العملاقة فصار يجري، ويقفز وهو يغني ويدندن غيرَ آبهٍ بالناس الذين تجمهروا حوله وهم ينظرون إليه فى شدوه إذ لم يكن قد رأى الثلج من قبل فى قريته الصغيرة المغمورة التي أصبح يعرفها الملايين من الناس فى مختلف أرجاء المعمور باسم «ماكوندو» فى روايته .

المغتربون العرب فى مائة سنة من العزلة

تتعرّض هذه الرواية الذائعة الصّيت للمغتربين العرب الأوائل الذين استقرّوا واستوطنوا قرية «أراكاتاكا» ، كما يتعرّض ماركيز للمهن التي كانوا يزاولونها، مثل التجارة كباعة متجوّلين، وكان يطلق عليهم ماركيز اسم «الأتراك»، وهو مصطلح غير دقيق، إذ كان الناس يطلقون عليهم هذا الإسم لأنّهم عند وصولهم إلى كولومبيا كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من قِبل الدولة العليّة العثمانية، فنجد فى الرّواية غير قليل من العادات والتقاليد العربية، فالشارع الذي يُشارإليه بـ «شارع الأتراك» فى الرواية، سيصبح فضاء فسيحاً سرعان ما سيعرف تحوّلات كبرى سيكون لها تأثير بليغ على معظم سكان أراكاتاكا أو «ماكوندو» التي يقول عنها ماركيز إنّها "سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة مغمورة إلى قرية نشيطة مشهورة ذات دكاكين،وأسواق، وأوراش للصّناعات التقليدية، كما أصبحت طريقاً تجارياً منذ وصول العرب الأوائل إليها، الذين تعاطوا فى البداية التجارة والمقايضة، وأحدثوا تنظيماً إجتماعياً، وحياة ثقافية، حيث حملوا معهم «ألف ليلة وليلة» وحكاياتها العجيبة وخيالها المجنّح". ويرى بعض النقاد أنّ وصول المهاجرين إلي هذه القرية وإنتشار التجارة فيها قد يكون رمزاً واضحاً لوصول الإسبان إلى العالم الجديد.

 و عليه فإننا بعد قراءة متأنيّة لمائة سنة من العزلة لا عجب إن وجدنا فى هذا العمل الروائي الضخم كلمات عربية كثيرة، منها على سبيل المثال وليس الحصر :المسجد، السّوسن، القطن، العقرب، الضّيعة، الجلباب، الكافور، المخزن، الكحول، الزيت، القطران، المِسك، السّوط، الزّهر، الياسمين، الخزامىَ، السّاقية، البِِركة، اللقّاط، الزّعفران، الزناتي ــ نسبة إلى قبيلة زناته الأمازيغية المغربية، التي كان أهلها مشهورين بالفروسية وركوب الخيل- حيث إستقرّت هذه الكلمة فى الإسبانية بمعنى الفارس خلال الوجود العربي والامازيغي فى شيه الجزيرة الإيببيرية، وسواها الكثير من الكلمات الأخرى.

الفردوس المأمول

أهمّ ما يتبادر إلى ذهن قارئ رواية «مائة عام من العزلة» هو عدم تتابع وتسلسل أحداثها التاريخية، إلاّ أنّ هذه الخاصيّة بدلاً من أن تصبح عنصراً سلبياً يُنقص من قيمة الرواية يجعلها تكتسب بعض المميّزات التي أهّلتهأ لتحتلّ مكانتها المعروفة، ذلك بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، إذ أنّ الرواية بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير فى إتجاه معاكس للتاريخ بهدف الغوْص فى الماضي واكتشافه، الذي أسهمت العزلة فى تنقيته وتجليته بعد أن كاد يكون مجهولاً، إلاّ أن هذا الماضي يظلّ جديداً بالنسبة للقارئ كصحيفة اليوم التي بين يديه، إذ فيه يعثر ماركيز على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما أصدر قصّته «تساقط الأوراق»، فكأنه يلتقي مع رجال يعيشون فى الخيال، وهو نوع من البناء إنطلاقاً من الهدم والقهر والقسوة والمعاناة. رجال وعالم يقفون فى الرّصيف المقابل للمعتقدات والعادات والأعراف الإجتماعية، وأخيراً عالم المخدّرات أو المهلوسات التي قد تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة فى مجتمع مّا، كما هو الحال فى «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، وفى «الساعة النحسة»، فقد كان من المستحيل على الكاتب أن يجمع بين التاريخ والشخصيات. إلاّ أنه أمكنه أن يجد فى قرية «ماكوندو» (أراكاتاكا) رجالاً وطرائقَ عيش تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم، فى الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية. فقرية ماكوندو ــ الفردوس الأرضي المأمول ــ هي الفرصة المناسبة المتاحة للإنسان ليحقق أمانيه. فى هذا الفردوس لا يمكن لخصوم الرجال استغلال الفرص لإفساد السعادة التي ينعمون فيها، ذلك أنّ (ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للوافدين عليها من الأوربييّن منذ 1492 تعزيز مواقعهم ومراكزهم فيها، حيث استقدموا معهم عنصر الاستمتاع بالحياة ، وبالمقابل زرْع بذور الشرّ والكراهية والجشع والتدمير، كلّ ذلك سيترك القرية شبيهة بخلاء متحجّر، وذلك بالضبط ما أوحى للرّوائي المكسيكي «كارلوس فوينتيس» عندما قرأ مائة عام من العزلة بأن يصفها بأنّها : «كتاب أمريكا اللاتينية»، وهو نفس ما كان قد ذهب اليه كذلك الناقد « إمانويل كاربايو» عندما قال عنها إنها بمثـابة «كتاب مقدّس» فى وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي لنا فيها ماركيز تاريخَ شعب مختار فى قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، أي منذ أن وطئ هذه الأرض الغرباءُ الوافدون الذين جعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يلتهم فيها النمل آخرَ وليدٍ من آخر رجال هذه السلالة.

بين ملكيادس ونوسترادامُوس

هذه الرواية تبدو للقارئ كأنها تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ الإكتشاف إلى الوقت الرّاهن. مع إشارات إلى بعض عهودها الغابرة، فضلاً عن تكهّنات واستقراءات تلهب الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة أوعصر الأضواء وهنا يجعلنا مركيز نلتقي بإحدى الشخصيات الغريبة الأطوار، وهي «ملكيادس» العالم الكيماوي فى العصر الوسيط، ويعترف لنا أنه إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ وصاحب الإستقراءات المستقبلية في رباعيّاته الشهيرة الفرنسي «ميشيل دي نوسترداموس» وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان فى القرن الثامن عشر، ربما لذلك نجده يموت مرّتين، ويُحتمل أن يُولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد «ماكوندو» (أي أمريكا اللاتينية) منفذاً أو ملاذاً أومهرباً من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً مركيز فى نهاية الرّواية، إلاّ أنّ هذه النهاية تتصادف بشكل يثير للإنتباه مع البداية، فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرّجال فى المنطقة لإستيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون إليها لأسباب عدّة من الجبال لاستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. كما أنّ «ملكيادس» يمكن له أن يموت، وأن يولد لأنه يقطن فى القارة الأمريكية، حتى وإن كانت تجرى فى شراينه الدماء الأجنبية، وهولا يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت فى هذه المنطقة/أمريكا التي لا يموت شئ فيها موتاً تامّاً أو نهائيّاً، كما أنّه لا يولد أيُّ شئٍ فيها بالتمام أوالكمال.

عوالم ماركيز

لم يكن عمر ماركيز يتجاوز 19 سنة عندما كتب أوّلَ قصة له ونشرها بعد ثماني سنوات وهي «تساقط الأوراق»، صدرت فى بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه»، التي أنهى كتابتها عندما انتقل للعمل كمراسل صحافي من باريس عام 1957. ثم نشر «ساعة النحس»، التي حصل بها على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967 ظهرت «مائة عام من العزلة»، التي تعدّ من أعظم الرّوايات التي عرفتها اللغة الإسبانية فى القرن الفارط. ويشير «كاربايو» أنّ ماركيز قدّم للرواية الإسبانوأمريكية ما قدّمه فوكنر للرّواية الأمريكية، ويغدو الصّمتُ فى بعض أعماله أصواتاً مدويّة مثلما هو الشّأن فى مئة عام من العزلة، التي هي سرد لتاريخ شعب بأكمله. حتى أن «كاربايو» بعد إعادته قراءة ما كان قد كتبه فى نقده الأوّل لهذه الرواية عند صدورها، كان عليه أن يتنبّه إلى أنّ التنبّؤات أو قراءة الغيب فى الأدب يمكن أن ينأى بنا عن الصّواب. فقد توقّع الناقد فى عرضه الأوّل البعيد زماناً ومكاناً أنّ ماركيز مثل رولفو وسواهما من الذين بعد كتابتهم لعملٍ جيّد قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث، فقد إستمرّ فى الكتابة إلى آخر أيام عمره. ويشير كاربايو أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً إذا ما كان ماركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة فى مستوى مائة عام من العزلة، وهو يرى أنّ أعماله التي جاءت بعدها تشكّل نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن استرجاعه. فماركيز الذي جاء بعد عزلة استمرّت (مائة سنة) ظلّ بالفعل صاحب أسلوب قويّ ومميّز. وهناك روايتان فقط بعد مئة سنة من العزلة وهما «يوميّات موت معلن» و«الحبّ فى زمن الكوليرا» يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، وأقلّ منهما «الكولونيل ليس ليه من يكاتبه»، هذه الأعمال فى سيرة أيّ روائي آخرأقلّ موهبة من ماركيز تستحقّ الإهتمام والإعجاب، أمّا عند ماركيز فهي أعمال يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بالمتعة نفسها التي يجدها القارئ عند قراءته لـ «مائة عام من العزلة»، والتي قال عنها الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا .. إنها من أعظم الرّوايات التي كُتبت فى اللغة الإسبانية بعد «دون كيخوته» لسيرفانتيس.

إحدى عشرة سنة مرّت على رحيل الرّوائي الكولومبي ذائع الصّيت غابرييل غارسّيا مركيز، حيث حلت ذكراه في فى السابع عشر من شهر أبريل الفارط، إذ بعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين في نفس هذا التاريخ من عام 2014، غيّب الحِمَام أحدَ أكبر الرّوائيين فى القرن العشرين.

***

د. محمّد محمّد الخطّابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم