قراءات نقدية

بهيج حسن مسعود: قراءة في قصيدة "تضاريس وقتي في مقهى رضا علوان"

للشاعر يحيى السماوي

تشدني رائحة القهوة من ياقة الشعر، نحن في محافظة السويداء جنوب سورية نفتقد المقهى، ونستعيض عنه بالمضافة التي لا يخلو منها بيت تقريباً، ورمز الضيافة فيها القهوة العربية المرّة.

قراءة القصيدة:.

يبدأ الشاعر رحلته قبل الفجر، مدفوعاً بشوقٍ داخليٍّ أشبه بالضرير الباحث عن الضوء، متجهاً إلى مقهى "رضا علوان" في الرصافة البغدادية، الذي يرفعه إلى مرتبة "المعراج" الروحي. المقهى هنا ليس مجرد مكان، بل محطة وجدانية حيث ينبض قلبه بالمتناقضات: الماء والنار، الهدوء والاشتعال. يصل الشاعر مبكراً، فيتحول الانتظار إلى عبء ثقيل، كصخورٍ يُرهق ظهره حملها. الوقت هنا جامد وقاسٍ كالحجر، يصعب المرور فيه، راجياً أن ينتصف النهار بسرعة حيث موعده المنتظر. هذا الانتظار المرير يبحث فيه الشاعر في وجوه الحاضرين عن أمل أو خلاص.

الخلاص المرجو يتجسد في صورة "إينانا" إلهة الحب والجمال السومرية، التي ترمز للمحبوب أو للمصدر الذي ينسج له برداء من بهاء الحياة "قميصاً من زهور الجلنار". حضورها يحوله إلى "أنكيدو" الصديق البريء في ملحمة كلكامش، فيستعيد شبابه ولهوه: مسامرة البدر ليلاً وملاحقة الغزالة نهاراً. لكن الواقع قاسٍ، فالوقت يتحول إلى جمر ملتهب، ويجد الشاعر نفسه كـ "سومري جائع عطشان" رمز للإنسان العراقي- الإنساني المعذب، يفصله عن النهر - مصدر الحياة والخلاص وادٍ قاحل "غير ذي زرع" إشارة قرآنية تعزز معنى اليأس والعطش. في هذا العطش، يتوسل إلى "وردة الكرز الخرافي" رمز للجمال والخيال أن تروي ظمأه بكأسٍ من "زفير الزعفران" شراب صوفي مرغوب لكنه وهمي وصحن ريحان وظلٍّ يقي من حرّ القفار. بحثه عن ملاذ يتجلى في تحديقه بنهر الأنوثة في لوحة زيتية على الجدار، وهو نهرٌ جميل لكنه غير معيش، مجرد صورة معلقة.

مع اقتراب اللقاء، يتحول الوقت إلى "صاب" نبات مرّ المذاق- ، لكن المسافة بينه وبين "الشهد" المحبوب- اللقاء تصبح قصيرة جداً، أقل من مسافة بين خاتمها و"زيق قميصها" - ياقة ثوبها أو بين معصمها الناعم كالسفرجل والسوار. هذه التفاصيل الحميمة تعكس شدة القرب والتوق. مع اشتداد الحر الوقت من شوك- ، يتحول الشاعر داخل المقهى إلى "شيخ طاعن في العشق" رغم تجاوزه السبعين، سجين وجده. يرقب بلهفة "هدهد البشرى" - الرسول المبشر ليأتي بخبر دخوله الفردوس اللقاء- الخلاص كطفلٍ بريء، لكنه محبوس في كهف صبابته المنعزل "لا يزور ولا يُزار".

يتمنى لو تعيد "شهرزاد" حكاءة ألف ليلة وليلة ترتيب الحكايات، فيتحول هو من "سومري" معذب إلى "شهريار" الملك الذي استسلم لحكايات شهرزاد واستعاد إنسانيته- ، أي يتحول من المعذَّب إلى المؤرَّق بالعاطفة والقصص. لكن أمل اللقاء الوردي "الموعد الوردي" عند منتصف النهار يتحطم. يأتي الضحى والموعد يمر دون أن يتحقق. الوقت الذي كان ينتظره كسمك وخبز عند دجلة - رمز للوفرة واللقاء يمر سريعاً كعصفورٍ خائفٍ من نسرٍ فطار. خيبة الأمل قاسية.

في النهاية، يعود الشاعر إلى بيته في السماوة - مدينته- ، شيخاً منهكاً، خطاه خافتة، وحيداً يُناجي ذكرياته في عزلة تامة "لا أزور ولا أزار". المقهى الذي بدأ كـ "معراج" ينتهي ككهف عزلة، واللقاء المنتظر يتبخر، تاركاً الشاعر وحيداً مع عبء السنين وحرقة الصبابة التي لم تطفئها السنون. القصيدة هي سيمفونية من الشوق والانتظار والخيبة، تُصوِّر الزمن العراقي القاسي والوجع الإنساني العميق، من خلال رموز أسطورية ودينية وواقعية، وتجعل من مقهى رضا علوان مسرحاً كونياً للتجربة الوجودية.

***

بهيج حسن مسعود

.....................

للاطلاع على القصيدة 

https://almothaqaf.org/nesos/981961 

 

في المثقف اليوم